اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

القومية والعلمانية


Mohammad Abouzied

Recommended Posts

بعد أن انحسرت موجة الطرح الرومانسي للقومية، وبعد أن تراجعت كافة المذاهب المادية أمام المد الإسلامي، وبعد أن اتضح لكل ذي رشد أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، أدرك كافة المثقفين بالثقافة الغربية، أن القومية ليست بقضية ايديولوجية، ولا بمذهب سياسي، بل انها قضية انتماء محض، فالعربي ليس بحاجة إلى تنظير عروبته، فعروبته قد تحددت واقعًا ومفهومًا بحكم الولادة. لذلك فإن انتماءه إلى أمته هو واقعة اجتماعية ذات جذور تاريخية وليس بفلسفة اعتنقها ولا بمذهب سياسي تبناه ولكن وجوده كفرد فاعل من أمة لا يتحقق إلا في تكامل فاعليته وفاعلية أمته. كما أن الأمة لا تتأكد أمة وفاعلية إلا بالرسالة الحضارية التي تحملها أو تناط بها أو تسهم في إثرائها. فالأمة لا تكون أمة إلا إذا كانت ذات حضارة وتاريخ. وذلك لأن الحضارة هي التي تخرج بالجماعة من الطور البدائي فالطور العشائري، وتصهرها في أمة واحدة وتجعل لهم من خلال تاريخها تاريخًا. وهكذا فإن كل جماعة لا تكون منتظمة في وحدة حضارية ويحيط بها إطار حضاري واضح لن ينطبق عليها مفهوم الأمة، علمًا بأن ذلك الإطار يجب أن يكون منسجمًا غاية الإنسجام والصورة الحضارية للأمة، كي لا تكون الأمة شكلاً كاذبًا من أمة أو تزييفًا للعشائرية في شكل أمة.

ولا خلاف ان الإسلام هو الذي جعل من العرب شعبًا من أمة. فهو إطار حضارتهم وجوهر رسالتهم. ولذلك فإن العروبة إذا تجردت من إسلامها فعندئذ لن تمثل شعبًا من أمة، إذ انه ليس ثمة وجود لأية قيمة حضارية عربية أو انجاز حضاري عربي مستقل عن الإسلام. ولنتأمل مثلاً في الشعار الذي يرفعه البعض ويقول "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" ولنتساءل عما تكونه تلك الرسالة الخالدة؟ إنها بالطبع ليست الاشتراكية ولا أي مذهب سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي آخر. فالاشتراكية وسواها ليس لها صفة الخلود. ولست أنا الذي أقول ذلك، بل ان الجدلية (الديالكتيك) التي تبنوها فلسفة هي التي تقرر ذلك. فهي تعلن أن كل شيء في حال من تغير، أي أنه في صيرورة دائمة، بحيث لا يثبت على شكل أو حال، بينما ان الخالد هو الدائم اللامتغير والمستقل عن الزمان، الأمر الذي يعني انه ليس البتة في حال من صيرورة، وهذا مما ينطبق على الاسلام الرسالة والدين والنظام.

هنا ينبغي أن ندرك الفارق بين الدائم والمتحجر، وكذلك بين اللامتغير والمنغلق.

وان ارتباط رسالة العروبة بالإسلام يحوّل الانتماء العرقي إلى انتماء عقيدي. وبذلك تسقط الصفة العرقية عن القومية ويستعاض عنها بالصفة العقيدية، وذلك استنادًا إلى القانون القائل بأن الحضارة هي الشوط الأول لتجسد الجماعة أمة وتاريخًا. وهكذا يصبح الشعار المتفق ومنطق الحضارة والتاريخ هو الشعار القائل "أمة اسلامية واحدة ذات رسالة خالدة".

وبهذه المناسبة أرغب في الإجابة على سؤال طرحة الدكتور قسطنطين زريق في تعقيبه على محاضرة ألقاها الدكتور أحمد صدقي الدجاني بعنوان "مستقبل العلاقة بين القومية العربية والإسلام" حيث تساءل الدكتور زريق عما إذا كنا ننظر إلى الإسلام كقومية تضم أمة إسلامية واحدة أو ننظر إليه كرابطة تضامن وتكافل بين أمم قومية مترابطة برباط تراث مشترك ومصائر متشابكة؟

انني عن سؤال الدكتور زريق هذا أجيب قائلاً: إن الإسلام يستوجب القومية الواحدة للأمة الواحدة وهو حينما يستوجبها قومية عقيدية لا عرقية، انما يستوجب قيام ولايات اسلامية اتحادية. ولذلك فإن القومية العربية عندما تسعى إلى بلوغ هدفها الأول والوحيد وهو اقامة الولايات المتحدة العربية، فإن المضمون الإسلامي لهذا الهدف، وبفروعه الثلاثة، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، يفرض تجاوز الولايات العربية المتحدة إلى قيام ولايات اسلامية متحدة. أما ما ذكره الدكتور زريق من رابطة تضامن وتكافل بين أمم قومية، فهذا هو مفهوم الأممية الماركسية، وليس بمفهوم الأمة الإسلامية الواحدة، ومن الطريف أن الدكتور زريق المعروف بسعة اطلاعه وثقافته الموسوعية يسأل أيضًا عما إذا كنا نؤمن بإسلام مسيَّس غايته تسلم السلطة بإسم الدين؟ ان الدكتور زريق لا شك يعرف حق المعرفة ان الإسلام ليس بدين فقط، بل انه نظام أيضًا، أي انه السياسة والادارة في كل ميدان من ميادين حياتنا الأرضية. فهو الناظم لعلاقات الفرد بالفرد وعلاقاته بالمجتمع والدولة، وعلاقات الدولة بالأمة، والأمة بالإنسانية كافة. علمًا بأن الشريعة الإسلامية ليست حدودًا فحسب بل انها أيضا أحكام وفقه وحقوق ومعاملات. وهذا ما يجعل الإسلام متميزًا بديناميكية خارقة للطبيعة إذ أنه أبد الدهر يبقى منفتحًا على الحاضر وصانعًا للمستقبل، الأمر الذي يستوجب أن يكون ويبقى انفتاح عقل المسلم حقيقة من حقائق الماضي وواجبًا من واجبات الحاضر وضرورة من ضرورات المستقبل.

بين المسيحية والإسلام:

ان سوء فهم الإسلام ناشىء عند الكثيرين عن عدم ادراك الفارق الجوهري بين المسيحية والاسلام. فبينما يطالب الإسلام الإنسان بأن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا، تطالب المسيحية الإنسان بأن يهمل دنياه، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت اليوم لا غدًا. وبينما يعتبر الإسلام هذا العالم جزءًا من مملكته، نقرأ في الإصحاح الثامن عشر والعدد 26 من انجيل يوحنا المعتمد لدى كافة المسيحيين "ان مملكتي ليست من هذا العالم". ولذلك فإن المسيحي المؤمن وفقًا لمنطوق الأناجيل الأربعة المنسوبة للنصرانية هو المسيحي المغترب عن هذا العالم. وبينما نرى الإسلام يقرر ان علم الدين وعلم الدنيا متكاملان، نقرأ في الإصحاح الثاني والعشرين والعدد الحادي والعشرين من انجيل متى "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وبينما يطالب الإسلام بعمارة الأرض واستصلاحها والاهتمام بشؤون الدنيا والآخرة معًا، نقرأ في الإصحاح الثاني عشر ومن العدد 22 – 24 من انجيل لوقا:

"لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون.. تأملوا الغربان انها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخدع ولا مخزن والله يقيتها..".

وهناك عشرات الأمثلة الواردة في الأناجيل الأربعة بخاصة وفي العهد الجديد بعامة، وجميعها تقول بأن المسيحية لا تهمل فقط، بل تطالب أيضًا بإهمال أمور الدنيا إهمالاً كليًا. فهي تعتبر حياة الإنسان في الدنيا ليست حتى بمرحلة انتقال، بل فترة انتظار غير جديرة بعمل وعناء وقلق. وذلك فإن المسيحية لا تقول بأي نظام دنيوي ولا بأية دولة أرضية، وهي بذلك ليست بحاجة إلى فصل عن نظام أو انفصال عن دولة، فهي بطبيعتها لا تحدد أي نظام وتتعالى فوق كل دولة بينما أن الإسلام يستوجب قيام دولة إسلامية تتكفل بكرامة الإنسان وانسانيته وترعاه من المهد إلى اللحد، وتعتبر القائمين عليها مسؤولين لا عن حياة البشر فقط بل وأيضًا عن كل ما هو موجود في الدولة الإسلامية. ولا شك أننا جميعًا نذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

"والله لو ضاع جديّ في الفرات لخفت أن يسألني الله عنه يوم القيامة".

ولذلك أقول لا عجب إذا جاءت القوميات في الدول "المسيحية" قوميات دنيوية Secular وكان لا بد لهذه القوميات من أن تتطور إلى قوميات علمية Scientific الأمر الذي بدأ بالتحقق قبيل الثورة الفرنسية "عصر التنوير" واكتمل في منتصف القرن التاسع عشر.

بين الدنيوية والعلمانية:

من المعروف ان الدنيوية هي الصيغة المستمدة من الصراع الذي دار بين الكنيسة والدولة.. فبعد أن توطدت أركان المسيحية في الأقطار الأوروبية قامت الكنيسة البابوية (الكاثوليكية) فقسمت الشعب إلى قسمين. وكان القسم الأول يتألف من رجال الاكليروس (الكهنة) أما القسم الثاني فكان يضم البقية من أبناء الشعب الذين اطلقوا عليهم اسم الدنيويين Laymen. ولم يكن من المسموح للدنيويين بالاطلاع على الأناجيل الأربعة، وأسفار العهد الجديد، وكذلك أسفار العهد القديم، فلقد كان لا يسمح للدنيويين بمعرفة أي أمر من أمور دينهم باستثناء ما يطلعهم عليه رجال الاكليروس. وفي منتصف القرن التاسع بدأ الصراع الفعلي بين الكنيسة والدولة. فلقد قام يومذاك البابا نقولا الأول وأعلن انه بوصفه خليفة بطرس كبير حواريي المسيح، فإنه هو القائد الوحيد للمسيحيين وادعى لنفسه الحق في محاكمة الملوك والبت في قضاياهم. وقد استند في ذلك إلى القول المنسوب إلى المسيح والوارد في الإصحاح السادس عشر من انجيل متَّى عدد 18 و19، حيث يقول مخاطبًا بطرس كبير حواريه بما يلي:

"أنت بطرس وعلى هذه الصخرة (أي بطرس) ابن كنيستي.. وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.. واعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه في الأرض يكون مربوطًا في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات".

وقد تطور الصراع بين الكنيسة والدولة تطورًا عنيفًا. ولعل أشد معركة دارت بين الملك هنري الرابع ملك ألمانيا وبين البابا غريغور السابع وذلك في عام 1075م. وقد كسب الجولة الأولى منها البابا حيث جاءه الملك هنري إلى قلعة كانوسا في إيطاليا ذليلاً نادمًا مستغفرًا. ولكن الملك هنري كرّ عليه واستولى على روما في اليوم العشرين من شهر آذار لعام 1084 وعزله من البابوية. أما المعركة الفاصلة بين الكنيسة والدولة فكانت معركة الإصلاح الديني بزعامة المصلح مارتن لوثر Luther الذي وجد الدعم المطلق من كافة أمراء ألمانيا في حربه ضد البابا. فبعد أن انتصرت البروتستانتية بزعامة لوثر بدأ نفوذ الكنيسة بالانحسار. ومن ثم جاءت الثورة الفرنسية بعقلانيتها فوجهت الضربة شبه القاضية للكنيسة، وأخيرًا جاء القرن التاسع عشر بماديته الغشيم فهبط بالدنيوية إلى الانكارية التامة، أي إلى الالحاد الصريح، فخلال ذلك القرن سادت النـزعة التجريبية المتزمتة التي كان من نتائجها ظهور وضعية أوغست كونت والماركسية ولامارك وباستير، فضلاً عن المنهجيين الفرنسيين من أمثال كلود برنار. وقد دفع هؤلاء بالفلسفة المادية إلى المقدمة. وبذلك قام المنهج العلماني التجريبي على إيمان حاسم بأن كل ما هو غير مادي لا يصلح أن يكون موضوعًا للبحث العلمي، بل وأيضًا لا يمكن الاعتراف بوجوده.. وبذلك سددت العلمانية الطعنة الدامية للكنيسة وللمسيحية معًا. وهكذا فإن الدنيوية تختلف عن العلمانية درجة لا نوعًا. فالدنيوية تقول باستقلال الدولة بكل مؤسساتها عن الدين، أما العلمانية فتلحد بكل غيب ولا تعترف إلا بعالم الشهادة.

ولكن تطور العلم وبخاصة القفزة النوعية، التي قفزتها العلوم في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، قد أسقط علمانية القرن التاسع عشر التجريبية، وأثبت فساد الأسس التي نهض عليها القرن التاسع عشر بتجريبيته وماركسيته وداروينيته، وعاد بالإنسان إلى جادة الإيمان.

يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...