.
كما أن هناك إعلام موجّه فإنه لا يجب إغفال أن هناك عقول متلقـّية موجّهة هى الأخرى , و كما أن هناك مصادر إعلاميّة تسعى نحو توجيه العقول فى الإتجاه الذى ترغبه فإن هناك عقول تسعى نحو توجيه إهتمامها الذاتى بالمصادر الإعلاميّة التى تسير فى الإتجاه الذى ترغبه تلك العقول مسبقاً مع إسقاط ما غيرها من أقنية إعلامية من حساباتها بإرادة واعية تدرك ذلك التغافل المتعمّد , و كما ان هناك مصادر إعلامية ترتكز على منظومات فكريّة و معتقدات و أيديولوجيّات خاصة بها فإن هناك الكثير من المتلقـّين الذين يحددون وجهتهم بخصوص مصادرهم الإعلاميّة عطفاً على منظوماتهم الفكريّة ومعتقداتهم وأيديولوجيّاتهم التى تتلقّى ماتحمله اليهم وسائل الإعلام ثم تقوم بتصفيتها وغربلتها حسبما يروق لها.
يجب أن ندرك أننا قد نكون فى حالة إنفتاح فكرى الى أقصى الحدود على الأخبار مثلا (حيث لايكون لنا رأى أو مستبق) بحيث يصبح الخبر ليس الاّ صدى حينما لاتكون لدينا بنية تحتيّة عقليّة أو أيديولوجيّة قادرة على -بل و أحيانا ساعية الى- تفنيد الخبر و التعامل معه بصورة انتقائية تطوّع الخبر بالكيفيّة التى تروق لنا.... ولهذا فانه بالمقابل حينما نمتلك أفكارا ومعتقدات أو أيديولوجيّات صلبة وراسخة فاننا قد نجد أنفسنا نتقبّل جدّا كل الأخبار التى تؤكّد و تصب بالايجاب فى خانة هذه المعتقدات والأفكار والأيديولوجيّات بينما نكون متشكّكين جدّا بالأخبار التى تعاكسها , بل ومكذّبين لها تارة أو متجاهلين لها تماما تارة أخرى.....حتى نكتشف فى لحظة من اللحظات أننا لا نريد إلا متابعة إعلام لا يعبّر إلاّ عن شخوصنا و لا يعكس سوى رغباتنا , و كأننا نطالع صورنا فى المرآة.
المسألة تتعلّق أيضاً بإمكانيّة تشكيل زيادة الاعلام المفرطة (أى الاغراق الاعلامى) لمشكلة قد تؤدّى الى طمس الحقائق وتضليل المتلقّى , و قد يتعجّب الإنسان و لا يستسيغ للوهلة الأولى أن يشكو المتلقّى من الوفرة الزائدة فى المعلومات.... لكننا اذا نظرنا الى هذه الجزئيّة بتعمّق فسنجد أن الاسراف و الإغراق المعلوماتى يخنق كلاّ من الاعلام والمتلقّى للاعلام... لأننا عندما نكون خاضعين لتدفّق طوفانى متواصل من الأخبار والأحداث فاننا لانستطيع أن نأخذ الوقت الكافى للتأمّل فيها اذ سرعان ما يتم طردها وازاحتها واستبدالها بواسطة اخبار وأحداث جديدة... وبالتالى فاننا لانجد الامكانيّة الحقيقيّة لإدراك حدود ومغزى ومعنى تلك الأخبار والأحداث لأننا سنجد انفسنا قد عمينا فى غيمة اعلاميّة كثيفة.. وبالتالى فان الاعلام فى هذه الحالة يغوص بنا فى ما لاشكل له بدلا من أن يعطى للأشياء شكلا , و هو ما يؤدى إلى ضبابية و عدم وضوح لرؤية المتلقى بدلاً من تبصيره و توضيح الصورة له.
الخلاصة هى أن الاعلام ليس إلاّ تمثيلا مسرحيّا للواقع , وأننا لابد أن نبحث عن الحقائق حتّى ولو صدمتنا فى أى مما كنّا نعتقد بأنه هو الصواب المطلق , ومع ذلك فاننا اذا قرّرنا أن نمضى للبحث عن الحقائق وسط لجج الإعلام المليئة بجانب الصدق بالشائعات والأكاذيب والأوهام والأغراض والمغرضات فإننا ليس لدينا وسيلة إختبار مسبقة للتعرّف على الإعلام الجيّد والصادق وتمييزه عن الإعلام السيّئ المضلل أو المغرض (الموجّه) , ولهذا فإن الإستقراء والرؤية والتمييز والإدراك الصحيح أشياء تحتاج مننا إلى تؤدة و أمانة مع النفس وجهداً صعبا وغير اعتيادى من أجل حل ألغاز الإعلام وكشف الغث من السمين فيه (وهو الشيئ الذى لن يتوفّر لنا فى صورة تماثل تلك الآلات البنكيّة التى تكشف الأوراق النقديّة المزيّفة وتميّزها عن تلك الأوراق الحقيقية ).