لوحة القادة
المحتوى صاحب التقييم الأعلى
عرض المحتوى صاحب أعلى تقييم في 03/18/19 في جميع الأقسام
-
قراءة في يوميات مهاجر(3) تلتصق أول زيارة في ذهن المهاجر؛ فهي التي ترسم صورة المستقبل سواء عاد صاحبنا إلى وطنه الأم أمْ استمرتْ مسيرته المستقيمة أو المتعثرة. النجاح والفشل نسبيٌ؛ ويرتبط بالهدف من السفر وبما ينتظره القريبون منه، فمن سافر للمال فقط فلن تعثر في ذاكرته إلا على اللون الأخضر، فالدولارات هي الأوراق المقدسة! ومن سافر لأسباب عاطفية أو عائلية أو هروبا من واقع يُضيـّـق عليه الخناق غير من سافر غاضبا ومتمردًا وثائرًا على أوضاعه في البيت والمدرسة والجامعة والعمل و.. البطالة. ومن سافر ليتحرر من الدين المفروض عليه غير من هاجر ليُحرر نفسَه بخطاب ديني جديد يُجدد فكره به، بعيدا عما وجد عليه آباءَه. الأهم أن أسباب السفر تتغير عدة مرات كلما طالت فترة الإقامة في الخارج إلى أن يصبح الخارجُ هو الداخلَ، وتتبدل صورة الوطن الأم أيضا عدة مرات حتى ترسمها الذكريات من جديد فيظن صاحبها أنها تنتمي إليه، والحقيقة أنه هو الذي زركشها ولوّنها و.. أعاد تشكيلــَها. هناك مثل فرنسي يقول بأنك لو غادرت وطنك الأم لعام أو أكثر، ثم عدت في زيارة؛ فأنت لست نفس الشخص، حتى الروائح والنغم والتقاليد والطعام تتغير ولو ظننتها امتدادًا لقديمك. أتذكر أنني منذ سنوات قد تزيد عن الأربعين كنت في القاهرة المزدحمة أحاول العثور على تاكسي شاغر. فجأة توقف أمامي شاب وجعل يشير إليَّ بالركوب. بدا أنني أعرفه، فوجهه مألوف. جلستُ بجانبه فبادرني بقوله: هل تتذكرني؟ لقد عملنا معاً في جنيف! أسعفتني الذاكرة بعد حين، وسألته عن كيفية التقاطي من بين الزحام وهو يقود سيارته في عاصمة الألف مأذنة! قال لي: لقد لاحظتُ في ثوانٍ خاطفة أنك تقف غير حائر، وتحمل شنطة اليد على كتفك بطريقة أوروبية، ولا تزوُغ عيناك ذات اليمين وذات الشمال، فعرفتُ أنك أنت الذي عملت معه في سويسرا! تلك كانت ملاحظة ذكية لكنها تصف الشخصية القديمة التي أضفت عليها الغُربة ملامح جديدة. أول لقاء لي بالعاصمة البريطانية في يونيو 1972 كان في ساوث كينسجتون، كوينز جيت .. حيث لا أملك في جعبة معارفي الأبعدين غير ورقة صفراء صغيرة كتبها عادل، وهو شقيق صديقي سعيد جورج، إسكندراني جدع موجهة إلى صديقه اللبناني جيمس كاسوف يطلب فيها منه مساعدتي. وفتَح لي جيمس كاسوف قلب لندن بتهذيب ومودة، كالصياد الماهر الذي يفتح قلب السمكة فيُخرج ألذَّ ما فيها ويلقيه في فمك! وقضيت الليلة الأولىَ في شقته الصغيرة جدا، وذهب هو في الصباح إلى العمل ثم عاد بعد قليل حاملا إفطارًا لي مكونـًـا من بيض ولحم الخنزير. وكنتُ جائعـًـا ولم أَقْربه، فاليوم الأول هو تجربة الغــُـربة حتى آخر يوم فيها. بعد دقائق قليلة عاد جيمس كاسوف آسفـًـا فقد تذكّر أنني مسلم ولن أتناول هذا الإفطار. عاد إلى الشقة ومعه إفطار آخر وقدّمه لي معتذرًا، وظل في ذهني هذا المضيف الشهم الطيب المتسامح ولم أنسَ ملامحه الودّية والدافئة طوال 47 عامــًــا! في ظــُهر هذا اليوم بدأتْ حياتي الغربية التي لم تنفصل عن حياتي العربية، فتلتصقان تارة، وتنفصلان تارة أخرى. محمد عبد المجيد طائر الشمال عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين أوسلو في 18 مارس 2019 إلى الحلقة الرابعة بإذن الله1 نقطة
-
هذه اليوميات بطلب كريم من المشرفين على ( محاورات المصريين)! قراءة في يوميات مهاجر(1) السفر حالة حبٍ مع المجهول، وعشق مع أحلام في مستقبل لا تدري كنهَه، وآمالٌ في صباح مشرق جميل حتى لو لم تكن محاطا بظلام دامس! في فيلم ( سكة سفر) للمخرج والسيناريست بشير الديك ، وهو ثاني فيلمين له بعد ( الطوفان )؛ سُئل في حديث صحفي عن الفكرة خلف الفيلم فكان ردُّه: إن كل مصري يستخدم كلمة سفر في أكثر أحاديثه، تقريبا، فهو سيسافر، أو عائد من السفر، أو تلقىَ رسالة من قريب مهاجر، أو رتّب مستقبلـَـه المجهول انطلاقا من حُلم السفر! كل إنسان يحتفظ لنفسه بوطنين: الأول شهد مولــَــده، والثاني يحتفظ بمكان له حتى يأتي مولدُه الثاني! كل إنسان يهرب من حاضره إذا ألمَّ به خَطْبٌ، فيفكر ويحلم وتسجنه أحلامُ اليقظة، ويُلقي بآلامه وأوجاعه في أحضان مكان آخر، قد يكون النصفَ الآخر من الكرة الأرضية، وكلما ضاقت به الدنيا؛ فتحت له أحلام اليقظة كوّة صغيرة يُطل منها على عالم أوسع وأبعد ينتظره انتظار العاشق لحبيب لن يأتي مطلقا، أو قد يأتي بقرار مسبق أو مغامرة أو مقامرة من صاحب الحُلم أو مصادفة في منتصف العمر أو بداياته! كل مكان أو مدينة أو بلد أو جزيرة أو حتى قارة تربطها بصاحب الحُلم رباط مقدس، هشّ أو ضعيف، فيشعر أنه الوطن الثاني حتى لو لم يقُم بزيارته ما بقي له من حُلم. وأنا واحد من ملايين العرب المهاجرين، أو قــُل من عشرة ملايين مصري في الخارج سافرتُ لسبب أو لأسباب، ولم أعُدْ في منتصف الطريق لأسباب أخرى، وظللت في المهجر بعد 46 عاما من مغادرتي الثغر ورزقني الله بأطفال ثم بأحفاد، ووداعي لمكان طفولتي ومقتبل شبابي في قلب العاصمة الثانية حيث تعرفني مياه الميناء الشرقي، وقصر الثقافة بالأنفوشي الذي كان الفنان فاروق حُسني مديره، وحيث كتب بيرم التونسي روائعه، وفي مسجد الزواوي كان الشيخ أسامة يقرأ قرآن الجمعة بصوت كأن حنجرته توأم حنجرة الشيخ محمد رفعت، وحيث كنا نراقب عبد اللطيف أبو هيف يسبح كدلفين يتدرب قبل أن يعبر بحر المانش. كنتُ أحلم بالسفر والهجرة لأسباب متعلقة بالحرية والكتاب والهايدباركيات، وأتخيل نفسي في حديقة أصرخ بأعلى صوتي لعل الكون يسمعني؛ ولو تمزقت حبال حنجرتي بعد دقائق معدودة. محمد عبد المجيد طائر الشمال عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين أوسلو في 16 مارس 20190 نقاط