لوحة القادة
المحتوى صاحب التقييم الأعلى
عرض المحتوى صاحب أعلى تقييم في 05/14/19 في جميع الأقسام
-
حُرمة تحريم الموسيــــقىَ والغناء! لو كنتُ واحداً من الذين وضعوا كتاباً رائعاً قرأه معظمُنا في شبابه وكان تحت عنوان ( اللهُ يتجلّى في عصر العلم )، لوضعت ُالمشاعر والأحاسيسَ وتشابكاتها المعقدة مع الذاكرة والعقل والجَمال والطباع كواحدة من معجزات خالق الكون جلّ شأنه. جهاز استقبال تم صُنعه بعناية ربّانية ويعمل بكفاءة عشرين ضعفا من مليارات الخلايا التي يتركب منها ذلك الجسد المعجزة والذي نفخ الله تعالى فيه من روحه وطلب من الملائكة أن يسجدوا له، ليس شِرْكاً بالله، كما تَصَوّر إبليس لدى رفضه فأبى أن يسجد ( لمن خلقت طينا)، ولكن تقديرا لهذا العمل البديع رغم اصرار كثيرين من نسل آدم أن يكونوا في أسفل السافلين. يجتهد كثيرون من المسلمين في تفريغ كل مَوَاطن الجَمال داخل النفس، بل وإرجاع أسباب هذا الهدم إلى أوامر الله، عز وجل، وتأتي الموسيقى والغناء في مقدمة الأعداء لأعداء الجَمال! تراثٌ للانسانية على مدى مئات السنين، يشترك فيه البشر ولو تخاصموا وتقاتلوا وتذابحوا بينهم فإن الموسيقى والغناء قادرة على التسلل جهرا أو خفية، وهي لا تحمل شِعارا دينيا أو طائفيا أو معاديا، وترحل بدون حدود، وتبقى آمنة وادعةً في أرَقّ مَوَاطن عمق النفس البشرية تحاول أن تستميل الطباع إلى السلام، فتفشل أحيانا وتنجح في أحايين كثيرة. تستدر دمعتين تنزلقان على الوجه فلا تعرف لهما سبباً، ولا تَدُل على ضعف لكن نقاء جهاز عصبي يستطيع أن يتعرف على أعمال جدية ومبدعة تضيف إلى تراث الانسانية ما يزيده ثراءً. المرة الأولى التي استمعتُ فيها إلى المطربة اليونانية فيكي لياندروس كانت في أوائل السبعينيات أو أواخر الستينيات عندما غنت ضد الحكم العسكري الديكتاتوري ( دَعّ شعبي يمر ) فأحسست أنها صرخة في وجه كل طغاة الأرض وأحذية العسكر، وعندما زرتُ أثينا بعدها بأكثر من عشرين عاما بحثت عن تلك الأغنية فلم أجدها، وقال لي رجل يوناني متقدم في العمر بأنَّ تلك الأغنية كانت أحد أسباب الثورة والتمرد ضد الحكم الديكتاتوري. تراثٌ يحتضنك أينما كنتَ، ويعرف طريقه إلى جهاز استقبالك العاطفي، وقد يستأذنك أو يدخل عُنوة حتى لو كان بينك وبين موطنه الأصلي بُعْدُ المشرقين. لازلت أحتفظ بمجموعة من أغنيات تيريزا تنج الصينية ولا أفهم كلمة واحدة منها لكنني تأثرت وقتها بصوتها الرخيم الرائع، وأول أمس أعطاني صديق ألماني مجموعةً من أغاني مطربة فنلندية تغني باللغة السويدية فتقرع جنبات النفس كأنها تغني لمستمعها بصفة شخصية في مكان منعزل لا يعرفه غيرهما. مَنْ يستطيع أن يقول بأن هناك جنسية وجواز سفر وتأشيرة دخول أي مكان في العالم لكونسرتو بيانو الخامس لبيتهوفن أو الفصول الأربعة لفيفالدي أو العالم الجديد لدفورجاك أو بير جينت للنرويجي ادفارد جريج؟ عندما أرهف السمعَ لأغنية ( الاسكندرية ) لجورج موستاكي وهو يحكي عن طفولته في تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي كان ثلثُ سكانها في أوائل القرن الماضي من اليونان وايطاليا وفرنسا أشعر بحنين جارف لمسقط رأسي وأراها لا تختلف عن الاسكندرية بصوت الشيخ إمام أو كلود فرانسوا أو وصفها بقلم إدوارد الخراط أو كاميرا يوسف شاهين. المرة الأولى التي استمعتُ فيها إلى ( حديث الروح ) للشاعر الباكستاني المجدد محمد إقبال كنت في العشرين من عمري ، وغنتها أم كلثوم وحَلّقَ لحنُ السنباطي في السماء قبل أن يهبط علينا بتلك الكلمات الرائعة ( أمسيتُ في الماضي أعيش كأنما .. قطع الزمان طريق أمسي عن غد .. ) . وتستطيع هذه الأغنية أن تفعل مثل الروائح التي تظل حاضرة في الذاكرة، وكلما اقتربت من الأنف رائحةٌ مثلها استدعت كل المكان والزمان والأشخاص والألوان والأحباب وكل ما أحاط بنا في تلك اللحظة التي فتح الوجدان خلالها أوسع أبوابه لذلك النغم. فتحملني الأغنية معها في ( المعَدّية ) من بورسعيد إلى بورفؤاد حينما استمعت إليها أول مرة منذ خمسين عاما أو أقل. والنغم ليس مرتبطا بالضرورة كما يروّج خصومه بفسق وفجور ولهو، لكنه لغة العواطف كما تدخل الثقافة إلى العقل فإن الموسيقى والغناء تلمس الروح دون أن يعرف صاحبها عن كنهها شيئا. تنقلني ( أهل الهوى ) و ( سهران لوحدي ) دون غيرهما لأدق تفاصيل فترة طويلة من طفولتي ومقتبل شبابي، وعندما كنت أطل من منزلنا فتناديني جارتي في البيت المجاور قُبيل الفجر قائلة إن أباها يريدني أن اصطحبه إلى صلاة الفجر. كان والدها الشيخ علي حلمي إمام مسجد البوصيري ( وهو والد الفنان محمد وفيق، رحمهما الله ) رحمهما الله، وكان كفيفاً، فأسير معه، وأستمع إليه، ويُصَحّح لغتي، وأقرأ له بين ألفينة والأخرى. ينتهي من صلاة الفجر، ونعود أدراجنا على مَهَلٍ وهو يتأبط ذراعي، وتهب نسمةٌ رقيقة تحمل معها ملوحة الميناء الشرقي في الأنفوشي فتُنعش الوجهَ وتقاومها رغبةٌ في النوم ساعتين قبل الذهاب إلى المدرسة. كنوز البشرية التي أبدعتها معجزة ذلك السر الرهيب الذي أودعه الخالق الرحمن الرحيم فسميناها مشاعر وعواطف ووجدان وفؤاد وقلب، لكنها تتجمع كلها عند مصب الحب في أنظف وأطهر وأرق مكان داخل النفس الانسانية. من الذي يحاول تفريغ النفس وإفقارها والقاءَ كنوز احتفظتْ بها في عالم النسيان بحجة أنها أوامر إلهية وأن الموسيقى حرام، وأن الصوت عورة، وأن الدين مناهضٌ للابداع الجمالي الذي يمثله النغم؟ هل يقف المسلم يوم لا ينفع مال ولا بنون أمام رب العزة فيسأله العزيز الوهاب عن ذنوبه عندما استمع إلى ( وطني حبيبي الوطن الأكبر ) و( النهر الخالد) و ( زهرة المدائن ) و ( وهمسة حائرة ) و ( كونسرتو بيانو رقم واحد لتشايكوفسكي ) و ( السيمفونية الأربعين لموتسارت) و عزف منفرد على العود لأيوب طارش وأمستردام للبلجيكي جاك بريل وليه يا بنفسج لصالح عبد الحيّ؟ ما هو وجه التعارض والتناقض والتضاد في أن تقرأ آيات من كتاب الله ثم تستمع بعدها إلى عبد الحليم حافظ أو لطفي بوشناق أو ميري ماتيو أو إديت بياف أو عبد الله الرويشيد أو صباح فخري ؟ هل ستُحْسَب عليك في ميزان سيئاتك تلك اللحظات الروحية المؤثرة التي تحمل معها ( حَبْلَ السُرّة ) بعدما ظننت أنه فَصَلَك عن والدتك، فتستمع إلى ( ست الحبايب ) تغنيها فايزة أحمد، وتبتسم لك أمُك ولو كانت على مبعدة ألف ميل أو حتى في قبرها الطاهر( أنام وتسهري، وتباتي تفكري، وتصحي من الآذان وتقومي تشقري)، ثم تكتشف فجأة أن صوت المرأة عورة، وأن الموسيقى حرام، وأن الغناء هو صوت الشيطان! أي خَبَل هذا وهُراء وجفاء ووحشية تلك التي تحاول أن تقنعنا بأنَّ دين الجمال حَرّمَ الجمال، وأنّ دينَ الإبداعِ ناهض الإبداعَ، وأن دينَ الرحمة يحاربها في كل مكان؟ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. فتقرأ كتابك، ولكن مسلمي العصر الحديث من عشاق الفتاوى المهلهلة والفجّة والسادية والقاسية والجافة يؤكدون لك أن من ضمن ذنوبك أن أذنيك بعثتا برسالة رقيقة إلى قلبك يحملها عزف بيانو أو كَمَان أو عود أو ناي أو حتى ماندولين يوناني أو تركي، ويؤكدون لك أن مشاعرك إن أرادت نغما مختوما عليه ( حلال ) فيجب أن يكون الدفّ ويشترطون عدم تزيينه بما يضيف إليه نغمات جديدة ! وتقرأ كتابك يوم الحشر .... فيقسمون لك أن نشيد ( الله أكبر فوق كيد المعتدي ) المصاحب بموسيقى هو صرخات الشيطان، وأن حنينك لأغنية تُذَكِرك بوالدك صديقك أو حتى زميلتك في الجامعة سيُحْسَب عليك يوم القيامة، وأن عُلماء القرون الأولى أفتوا لمسلمي القرون الأخيرة وحددوا مقياس الحلال والحرام فيما تستقبل آذانهم بعد ألف عام أو أكثر. يرفعون المصاحف فوق السيوف، ويستخرجون عنوة من الأحاديث ما يؤكدون فيه أن نبي الرحمة أرسله رب العزة ليُحَرّم علينا النغم والموسيقى، ويضع للأمة طوال تاريخها المستقبلي ولمليارات من المسلمين ما ينبغي أن يستحسنوه، أيا كانت لغاتهم وجنسياتهم وألوانهم وثقافاتهم، فهو دفٌ شرعي تسمعه أذُن المسلم الاندونيسي والصيني والسويدي والاثيوبي والبوتسواني والبرازيلي والعربي والتركي والمجري والروسي والمكسيكي فتطرب له، ولتذهب ثقافات الشعوب وتراثها وموسيقاها ونغماتها ومارشاتها وأوبراتها وفولكلورها الشعبي إلى الجحيم، فهناك عالِمٌ منذ مئات الأعوام قرر في مجلسه البعيد عن الدنيا زمنا ومكانا أن الموسيقى صوت الشيطان! آه أيها الشيطان الرجيم كم كنتَ مخطئاً عندما ذهب بك التكَبّر والغطرسة والغرور وطننتَ أنك بمفردك ستوسوس للانسان، وستكذب عليه، فتفَوّق عليك بأكاذيبه، ونافَسَك في القسوة، وأقام حروبا ومذابح وسَفَكَ الدماء وأغرق الأرض بجرائمه. هل صحيح أن ( نهج البردة)و( يا ليلة العيد آنستينا) لأم كلثوم و( لحن الوفاء ) لعبد الحليم و ( عايز جواباتك ) لنجاح سلام و ( باحبك يا لبنان ) لفيروز و و( إلــَــه الكون سامحني ) لرياض السنباطي و ( الربيع ) لفريد الأطرش هي نغمات الشيطان وسيحاسبنا عليها في ميزان سيئاتنا رب العرش العظيم؟ لماذا وصل مسلمون إلى تلك النتيجة المأساوية والكارثية باعتدائهم على أخص خصوصيات المنطقة المحرمة عليهم في النفس الانسانية، أي المشاعر والعواطف والوجدانات والأحاسيس، فتلك بين إصبعين من أصابع الرحمن؟ أظن أن السببَ الوحيدَ، وِفقا لقناعاتي، أن مسلمين كثيرين لم يفهموا، ولم يستوعبوا بَعْد المعنى المتضمن لأصل الايمان المتمثل في ( الله أكبر ). لو أن المسلم تعمّقَ في فهم المعاني اللانهائية لــ ( الله أكبر ) لقام هذا الفهم ُبتحصينه ضد صغائر الأمور، وحَماه من مصادرة الدين لحساب أباطرة الفتوى الذين يعتمدون في عرض بضاعتهم على إيمان غير مقصود من جماهير المسلمين أن الله أصغر ( معاذ الله )، وأنه، جل شأنه، ينتظر عشرات المليارات من المسلمين يوم الحساب ليقرأوا أمامه ذنوبهم، وسيكون منها الاستماع للموسيقى، وكشف المرأة المنقبة وجهها أمام ابن عمها، وحديث المرأة بصوت كله عورة حتى لو رَدّتْ السلام على زميلها أو طالبَت بحقوقها أو مارست حقَ المواطنة. كارثتنا ومصيبتنا وضَعفُنا وهَوَانُنَا أمام تُجّار صكوك الغفران بدأت من هنا .. من تَصَوّر غير صحي للذات الإلهية، ومِنْ خيال لم يستوعب أنَّ اللهَ أكبر، ومن عقل آمن وترسّخَ هذا يقيناً في وجدانه أن ربَّ الكون العظيم أصغر من كل الكائنات، وأنه سيُحاسب المسلمَ الذي انتشى بنغم، وتفاعل مع كلمات راقية وشِعْر بديع زَيّنته موسيقى ساحرة وعَبّرَ عنه صوتٌ ملائكي في حنجرة مطرب أو مطربة. ويتلذذ المسلمُ في نُعاس العقل لتصغير الذات الإلهية التي خَلقت الأرض والسماوات والكون كله، فينشغل بجعل العليّ القدير مناسبا لأصغر العقول شأنا، ويتصوره نازلاً من سمائه العُليا للسماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل ( مع فارق التوقيت أو باستثناء شمس منتصف الليل في النرويج ) باحثا عن الذين يريدون التوبة، أو أنه سيبعث ثعبانا اسمه الثعبان الأقرع يدسّ نابَه السامَ في جسد الميت ( حتى لو كان في بطن سمك القرش )، ويعذبه إلى يوم القيامة رغم أن القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يؤكد أن كل إنسان ألزمناه طائرَه في عنقه ونخرج له يوم القيامه كتاباً يلقاه منشورا .. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. وليس قبل ذلك أو في القبر أو حتى بصحبة كل ثعابين الهند والسند. حلٌّ سحري ناجع وعبقري وسهل ويجعلك أكبرَ من كل أباطرة الفتوى وتُجّار الاجابات الفجّة على الأسئلة الحمقاء وهو التأمل في معجزة المعجزات وهي ( الله أكبر ) لتعرف كَمْ ابتعد المسلمون عنها، وكيف تم تزييفُ الدين وتزوير تعاليمه لخدمة الغباء والتخلف الذهني وتصغير نور السماوات والأرض لتَقْبَل العقولُ طاعةَ عصا كل من قام بتفسير الدين ليصب في خدمة أباطرة الفتوى. أعود للموسيقى والغناء ومعي خط الدفاع الأول عن قناعاتي ، أي ( الله أكبر )، مؤكدا لنفسي قبل الآخرين أنَّ المشاعر والأحاسيس والوجدان والفؤاد والقلب والذاكرة تحتاج كلها إلى عملية تنظيف وتطهير بانسياب روائع النغم، موسيقى وأغنيات، لتجري حول الروح كما تجري الدماء في الشرايين. تحريم الموسيقى والغناء حرام، واعتداء على خصوصية الانسان، وتفريغ مركز الذاكرة في العقل من تلك الوشائج الجميلة التي تربط الماضي بالحاضر وتُمَهّد لمستقبل تلعب فيه استدعاءات تلك الأشياء دورا هاما في استقرار العواطف وشحن الذاكرة بالوجوه والأماكن والأحباب والحوادث ومئات الآلاف من الأشياء الصغيرة التي تقابلنا فتحتفظ بها الأنغام والموسيقى ليسهل استرجاعها في أي وقت. أيها المسلمون: لا تصدقوا من يقول لكم بأن خاتم الأنبياء، كان خصماً للموسيقى والأنغام والصوت الجميل، ولا تُصَدّقوا من يقول لكم بأنَّ ربَّ الكون العظيم، اللهَ الأكبرَ، سيحاسبكم على رقة عواطفكم، وعلى رهافة أحاسيسكم، وحرام أن تُحَرّموا على أنفسكم الطيبات من رزق الروح، فالله أكبر. محمد عبد المجيد طائر الشمال عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين أوسلو النرويج1 نقطة