حكايتي مع سفير مصري!
لأكثر من ربع قرن لم أسمع أخبارَه، ولم أعرف أحوالـــَــه إلى أنْ وقعت مصادفةً علىَ خبرٍ قديمٍ في (الأهرام) بتاريخ 19 ديسمبر 2004 وفيه نعي السفير أحمد فؤاد حسني سفير مصر في النرويج في أوائل الثمانينيات!
عندما تقرأ في الحاضرِ خبرًا قديمــًـا عن عزيزٍ لديكَ تبدأ الذكرياتُ تتزاحم كأنها في سباقٍ متلاحقٍ لتحظىَ باهتمامك فيتضاعف الحُزنُ علىَ المشهدِ الزمني الذي يُطــِل منه الراحلُ بأثر رجعي.
في مايو عام 1982 أقمتُ معرض الكتاب العربي بمدينة الطلاب كرينجشو في أوسلو، وافتتح السفيرُ، رحمه الله، المعرضَ وسط حضور لا بأس به من قارئي العربية.
همستُ في أذنه قائلا: سعادة السفير، السفير الليبي ينتظر في أحد الفنادق حتى تغادر ويعيد هو افتتاحَ المعرض لأن العلاقات سيئة بين القاهرة وطرابلس الغرب.
ابتسم السفير وقال: أتفهم تماما أننا لا نتقابل ، لكن السياسة هكذا. وجاء بعد مغادرته السفير الليبي يفتتح معرضَ الكتاب العربي ويقوم بتهنئتي.
اتصلتُ به في إحدى المرات مُعاتبــًـا؛ فدعاني فورا لنشرب فنجان قهوة معا في مكتبه بالسفارة.
بسطتُ أمامه أسبابَ العتاب وهو لقاء صحفي له مع صحيفة نرويجية صهيونية الهوىَ بدون معرفة مسبقة منه وتم وضع الحديث والصورة على يسار حديث وصورة للسفير الإسرائيلي، وظهر واضحــًـا أنَّ المُحرر أرادَ إبراز الجانب الإسرائيلي على حساب الجانب المصري، وأنا في الحقيقة وطوال عُمري تصيبني أرتكاريا الغضب بمجرد ذِكْر كلمة اسرائيل أمامي لدرجة أنني أول مرة أمُرّ أمام شركة طيران العال في لندن( يونيو 1972) وقفت أرتعش على الرصيف غير مُصدّق أن للاحتلال مكتب سفريات في قلب عاصمة الضباب.
لم يغضب، ولم يقل لي بأنه سفير وأنا مواطن لا ينبغي أن أتدخل في شؤون دبلوماسية؛ لكنه، رحمه الله، قال لي بتواضع جمّ: أنتم هنا عيون مصر، وأنا عابرٌ لمدة أربع سنوات، وإذا لم تــُــبيّنوا لنا أخطاءَنا في مجتمع تعيشون بين أهله فأنتم المخطئون!
اعتذر بشدة وقرر بعدها أن يستشير المصريين المقيمين هنا في النرويج إذا تعلق الأمرُ بأشياء محلية لا يعرفها الدبلوماسيون.
في عام 1983 طلبت منه إقامة حفل غداء لأطفال الحضانة التي بها ابنتي سونيا( وكانت في الرابعة من عُمرها)، واقترحت توزيع هدايا وبعض الصور عن مصر، وأن يكون الغداءُ على مائدة كبيرة وفاخرة ويُبلغ كل طفل أهله أنه أكل في بيت مصر.
وحقق لي رغبتي وكانت مصر وصورها والهدايا الطفولية حديثَ الحضانة طوال العام.
في 16 أكتوبر عام 1983 افتتحت أول مكتبة عالمية في تغطية صحفية وتلفزيونية نرويجية، وافتتح المكتبة السفير أحمد فؤاد حسني ومعه سفير تركيا في النرويج والمكتبة تحتوي على كتب ب12 لغة وفي مقدمتها العربية والنرويجية ( أفلست المكتبة في منتصف يونيو 1987 ).
فترة خصبة وغنية بوجود هذا السفير الفاضل والممثل بشرف لمصر ومع القنصل العام عبد الحليم السجاعي والسكرتير الأول محيي يوسف، وكان الثلاثة إشراقةً مصرية نفتخر بها، خاصة أن العيد الوطني في السفارة كان يحضره أصدقاؤنا العرب فهو أيضا عيدهم.
عندما قرأت خبر وفاة السفير أحمد فؤاد حسني بعد رحيله بخمس عشرة سنة سقطت دمعتان على وجهي مُحمّلتان بذكرياتي مع الفرسان الدبلوماسيين وكانوا خلال 42 عاما هي عُمر إقامتي في أوسلو؛ لكن قليلــَـهم من كانوا فرسانا لا تصهل خيولهم ولا تبرق سيوفهم ولا تتمصر عقولهم!
أسكن اللهُ السفير أحمد فؤاد حسني جنة الخُلد مع الصدّيقين والشهداء.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج