أتفق مع حُزنك، العزيز عادل أبو زيد، على لغتنا الجميلة؛ وكنتُ قد كتبت في يوم العربية 18 ديسمبر المقال التالي:
واللغة العربية كائن حيّ، إذا أحببتها بادَلـتك حبــاً بحُبٍّ، وإذا تــَــغـَـزلتَ فيها غــَـزَلـَتْ لك حروفــَـها كأنها لآلــيءُ حول الاثنين معاً: عنقك و.. لسانك!إنها لا تطلب منك أن تكون لها وحدها، فهي تــَـقــْـبـَـلك عاشقا لها ومــُـحـِـبــّاً لغيرها، ولا تعتبر وجودك في أحضان لغة أخرى خيانة، فقد تكتب بالفرنسية أو الانجليزية أو الإسبانية أو الأمهرية أو الكردية أو الأردية، فلا تشعر هــي بالغيرة لأن من يحب تلك الضادَ يعود إليها ولو اعوجّ لسانه بعدة لغات.
والعربية تخفي في أحشائها موسيقى، وفي شــِـعـْـرِها أنغاماً، وفي قواعدها سُلــَّـماً موسيقياً إذا دَرَسته، ضاعفتْ اللغةُ لك قدرتــَـك علىَ استدعاء الكلمات.
إنها لا تطلب منك أكثر من إشراك الكتاب معك في حبــّــِك إياها، فإذا قرأت كل يوم بها فقد أنعـَمَت عليك بثرائها، وأغدقتْ علىَ أسلوبك كلمات يعجز عن الإتيان بها المُعجم أو .. قواميس الأسلاف مجتمعة.
وجمالها في أنها تتركك تصنع من حروفها ما يروق لك شريطة أنْ لا تصدم الذوق اللساني أو السمعي بـجــَـرسٍ يمزق الأوتارَ قبل العــَـزْف، ويخدش الحبال الصوتية بعد تركيب أيّ جملة.
لغتنا الساحرة تقاوم الاستعمار الثقافي واللساني والفكري، وإذا كان عدوها قويا، وخصمها عنيداً، اختبأتْ لردح من الزمن ثم تعود مرة أخرى، وتعيد الروحَ لصاحبها.
فيها من كلمات السماء ما يملأ الأرض، فإذا كان القرآن الكريم يمثل بها معجزة، فترجمة الكتاب المقدس من أي لغة من لغات الأرض إلى العربية يجد الروح في انتظاره على أحرّ من جمر، فتقرأ للمسيح، عليه السلام، كلمات سامية في التسامح والمحبــة ولا تصَدِّق أنها كانت بالآرامية أو العبرية أو الكنعانية أو اليونانية فعبقرية لغتنا أنها لا تصبح ترجمة بعد اللغة، أو لغة بعد الترجمة ،إنما تتحول إلى كائن حــيّ، إذا تنفسْت أمامها فقد وقعت في غرامها، وإذا تنفسـَـت هي أمامك فقد خلقتك من جديد.
أغار عليها من ألسن عجاف إذا تحدثت بها جرحتها، وإذا كتبت بها اغتالتها، وإذا مرَّت علىَ نحوها أنحته، وإذا لمستْ قواعدَها أقعدتها، وإذا مســَّـتْ صرفــَـها صرفته!
لو كان الأمر بيدي لجعلت كل يوم هو يوم عيد للغتنا، وكل عيد نـُـعيــد تنظيف ما علـَـق بها من تعبيرات الغوغاء الذين يمرمطون بها الأثير، ويلوثون الفضائيات وهم يتشاتمون بها، ويتقاتلون ببيانها، ويمتدحون الطغاة بتركيباتها فيسعد القصر، ويبكي الكوخ.
لغتنا البديعة هي الأسرع في الوصول إلى السماء، وإذا دعوت بها فقد غنـَّـيـّـت أو تـَـلوت أو جوّدت أو.. صليـّـت.
ومن سحرها أنها لم تفرّق بين الرب والله، بين "آمين" المسجدية و"آمين" الكنسية، وكانت قادرة على الولادة لمئات الأعوام ، فإذا عاد المتنبي أو البحتري أو امرؤ القيس واستضافته فضائية ثقافية غيرُ ذات عوج، فلا يدري المرءُ إنْ كان الضيفُ أبا تمام أم الأخطل الصغير!
لــغتنا الجميلة،
قضيت في أوروبا مهاجرًا لستة وأربعين عاما وما زلت أراكِ أجمل الجميلات؛
فهل تسمحين لي بطبع قــُــبلة على وجهك لعلَّ لساني يتطهر من أي نشوز حــَـرْفيٍّ مرَّ عليه و.. لم يغادره؟
كل الأعياد تمر وننساها، أما عيد اللغة العربية فلا نستطيع أن ننساه لأنه متعلق بالروح .. أعني بالحياة .. أقصد بجمال الوجود.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج