محمد عبده العباسي بتاريخ: 17 أبريل 2010 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 17 أبريل 2010 الرجل من عند المتوسط قصة قصيرة ضبب زجاج نظارتيه ببخر من فمه ، مسح عليهما بمنديله الأبيض في رفق ، وترك أصابعه تحك مؤخرة رأسه في أناة ، ثم مضى يغذ الخطي نحو ميناء الصيد .. كان قد أدى صلاة الفجر حاضرة في مسجد السلام المطل بمآذنه العالية علي ساحة الميدان الفسيح ، واستعذب صوته بكلمات تسبيح وحمد وتكبير.. ثمة دمعة خائنة فرت من عينه وهو يتذكر وداعه لولده الذي سافر إلي خليج النفط : ـ سأغترب زمناً ، عسي الله أن يعوضنا عما راح.. ـ العوض من عند صاحب العوض .. ـ ونحقق الحلم الذي طالما راودنا ، فنمتلك مركباً غير التي راحت في الحرب.. ـ ربك عالم بالحال.. نثار من موج اصطخب وخبط في مقدمة " الفلوكة1" فأوحي بقرب هبوب " نوة المُكنسة 2" التي يعلم موعدها ويعمل علي تفاديها بقدر الإمكان .. حزم مجدافا فلوكته في مكانهما جيداً وربطهما في " الجالى 3" ثم شمر عن ساعديه فبان نحولهما ،وبإيماءة من رأسه أشار لعسكرى السواحل محيياً وهو خلف مكتبه في " كشك السعدية4" يسجل موعد قدوم مراكب الصيد أو وقت المغادرة .. رأي الشمس بازغة قليلاً فابتسم وانهمك فى مراجعة ماسبق وأن مزقته أسماك في شباك الصيد منتظراً وصول رفيقيه حليم وهنوس .. رأهما وقد أقبلا علي مهل وكانا يتبادلان الحديث ، وكأنهما يتسامران .. صكت كلمات آذانهم كالرعد ، لكنهما تبسما معتذرين وهو يكيل لهما اللوم : ـ " الناموسية كحلي 5" ، لماذا تركتما الفراش الدافئ والنوم الهانئ ، رجال آخر زمن .. واستمر في سخريته منهما حتي أغرقاه بمزيد من الإعتذارات : ـ عذر أقبح من ذنب ، الرزق في البكور.. لم يغضبا : ـ سرقنا النوم يامولانا.. وتبادلوا الضحكات وقبّل كل منهما رأسه : ـ معذرة يا شيخ العرب.. وأمسك كل واحد منهما بمجدافه وشرعا يضربان به وجه الماء ومقدمة الفلوكة تشقه في رشاقة وهم يغادرون إلي عرض البحر ليجتازوا " القلعة 6" ثم مالوا بإتجاه الشرق جهة شاطئ بورفؤاد.. البحر أورث البدوي عناداً ، وعلمه الصبر ، وبدأ العمل فألقوا الشباك في الماء ، عامت كرات الفلين علي السطح كعقد جمان يزين جيد امرأة حسناء بينما غاص الرصاص إلي الأعماق وراحت الفلوكة تسير الهوينى دون تجديف متهادية مثل عروس ترفل في فستان زفافها .. اضطجع البدوي علي ذراعه وسبح بعينيه في زرقة الفضاء الفسيح ، بعد قليل هب فزعاً بعد أن في منامه حوتاً ضخماً يهجم على الفلوكة ليبتلعها ومج ناراً كثيفة في وجهه .. ثفل البدوى في عبه ومسح علي وجهه بكفيه وردد : ـ يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف.. وثب حليم مثل نورس يستطلع الأمر فلم يجد إجابة ، مالت الفلوكة قليلاً جهة اليمين فكاد هنوس أن يسقط في الماء ، وراح البدوي يرشف بعض الماء من " القلة " المعلقة من عنقها ، سالت قطرات ماء من عند طرفي شدقه ، وعاد حليم ليسأل: ـ خير ياعم البدوي ، مابك .. قال وهو يمسح الماء بمنديله : ـ لا شئ ، لا شئ ، الحمد لله .. السماء صحو بوجه عام والبحر وجه قديس ورع في هدوئه ، استسلم لضربات المجدافين والنوارس فى حلقة تدور حول الفلوكة تحط وتعلو في لعبة المغازلة ، وعلي مقربة كانت السفن العملاقة قد خرجت لتوها من تفريعة القناة في طريقها إلي عرض البحر المتوسط ، فبدت كالمدن الصغيرة العائمة .. مرت سفينة رفعت علم دولة " بنما " ، فأهاجت مشاعر البدوي الذي ارتد سريعاً إلي الوراء لأكثر من ربع قرن مضى .. سافرالبدوي إلي أوربا بعد أن أغلقت القناة بسبب الحرب وترك صغاره في رعاية أمه وزوجته .. نظرت الزوجة في انكسار ، وقالت أمه العجوز : ـ إياك ونساء الفرنجة ياولدي .. ضاحكها: ـ سأعود بواحدة منهن.. اغتاظت منه وهي تضم حليمة إلي صدرها وهمست لنفسها : ـ من خَلَفَ لم يمت ، في إشارة لأبيه الذي عشق امرأة من نابولي ، نازعتها حبه.. وقتها عاد حمدان من سفره ومعه كلوديا متأبطة ذراعه ، ضربت صدرها وقالت للجميع وصدرها مشتعل مثل أتون : ـ أنا أجمل منها ألف مرة.. أيقظها البدوي من سفرها البعيد قائلاً : ـ أين أنت يا أم البدوي ؟ ضحكت مؤكدة علي أن حليمة هي نجفة البيت التي يشع نورها في سقفه وقالت : ـ لقد تذكرت أبيك ، لا تنس محمد ورءوف ومني .. رحل البدوي من ميناء لميناء وعبر من البحر إلي المحيط ، ومن المضيق إلى الخليج ، عشقته نساء الموانئ بعد أن سحرهن بلون عينيه وبقوامه السمهري وحضوره الطاغي وابتسامته العريضة ، وحين نادي المنادي للجهاد عاد البدوي ليشارك في انتصارات حرب أكتوبر المجيدة.. نصف قرن من الزمان أو يزيد والبدوي لم ينقطع عن البحر فهو يملأ عينيه من زرقته حتي وهو في مخدعه ، وحين سدوا عليه السبيل بالبنايات الجديدة لم يحزن لأن طغيان الأموال أعمى عيون الأثرياء الجدد الذين طفوا علي السطح ، راح كمن يتلصص علي البحر من بين فرجة صغيرة في النافذة يطمئن عليه .. تناول البدوى طرف الجوزة التي أعدها هنوس وسحب منها أنفاساً متتابعة فتأجج لظي الفحم تحت لفح الهواء ثم لفظ الدخان في الفضاء الرحيب وأشار : ـ هيا لنسحب الشباك.. اشتركوا جميعاً في سحبها ، وكرات الفلين تعلو الشباك وتغطس والفلوكة في سعيها تشق الماء الهادئ، شجع البدوى هنوس وحليم : ـ عاشا ، بهمة يارجال.. وراح ثلاثتهم يبتسمون ويحمدون الله علي ماأرسله لهم من رزق ، وساروا بالفلوكة جهة " سمية القلس7" وراحوا يتقاسمون رغفان الخبز يغمسونها بالجبن الأبيض والعسل الأسود ، ثم رشفوا اكواب الشاي وعادت دوائر الدخان تتحلق فوق رؤوسهم ثم تتلاشي في الهواء .. تمدد كل واحد منهم ليرتاح قليلاً قبل العودة مرة أخري إلى العمل .. أصاخ البدوي السمع لصوت الشيخغبد العظيم زاهر يؤذن لصلاة الظهر ، أدوا الصلاة وتأهبوا لإلقاء الشباك وبعد وقت قليل عادوا يجرونها من بين أمواج البحر التي تلاطمت عالياً واقتربوا من حصيلة الأسماك عند " الكيس 8" الكبير .. فجأة توقف حليم عن العمل وكان البدوي يراقب وهنوس يسأله : ـ ماذا حدث؟ كانت الشباك مثقلة بإطارات سيارات فارغة ، صار حديثهم أشبه بالصراخ ، البدوي بخبرة فهم ، رفع كفه يظلل فوق عينيه من أشعة الشمس ، في الوقت الذي نزع حليم كل ملابسه عدا مايستر العورة وألقي بنفسه في ماء البحر مثل سهم خرج من كنانته ليغوص علي عمق ثلاثين " قامة8" ليعرف الأمر ، غاب طويلاً تحت الماء ، اعتري القلق وجه البدوي فعض علي إصبع الندامة : ـ ليتني غصت بدلا ً منه .. قال هنوس : ـ لا تقلق ، هل نسيت أن " حليم " كان بطلاً في الغطس وحصل على شهادة من القوات البحرية ؟ ـ لكنه لم يتزوج منذ وفاة امرأته نظلة.. فرك هنوس إبهامه في سبابته وقال: ـ لضيق ذات اليد.. زاد خوف البدوي وتذكر الحوت الضخم ، بعد قليل طفا حليم فوق سطح الماء ، فسأله البدوي : ـ ماذا أيضاً ؟ كان حليم يعوم بذراع واحدة وقد رفع الأخري عالياً : ـ مخدرات ، هناك وادٍ منها في القاع !! تملاها البدوي وفحصها بعين خبير وصدر حليم يعلو ويهبط : ـ هناك جبل كبير ، انظر إنه يلمع من تحت الماء كالذهب ، أراه بعيني يتراقص في العمق ، وداعاً للفقر.. وصفق بيديه مثل طفل يلهو ، بينما زجره البدوي : ـ حد الله بيننا وبينها.. ـ إنها بلا صاحب ، رزق ساقه الله لنا .. اتحدت كلمات حليم ، بيتنا هب البدوي فزعاً من جلسته كمن لدغته أفعى ورمي بطول ذراعه بقطعة الحشيش ، طفت علي السطح قليلاً ثم بدأت يغطس شيئاً فشيئاً والبدوي راح يعنفهما : ـ هذا فراق بينى وبينكما ، كل إنسان يبحث عما ينقصه ، تلك هي سنة الحياة ، دعوني الآن.. جعلا يتقربان إليه : ـ لنستفد ولو بجزء فليل يعيننا على الحياة .. رفض وبكل إصرار قال: ـ ولو... كان هنوس ينظر بحسرة لقطعة الحشيش وهي تختفي وقد ألقت شمس النهار مكانها شعاعاً يكاد يحرقها تماماً .. جلس حليم يلتقط أنفاسه ويهز رأسه عجباً من تصرف البدوى ، تخيل قطعة الحشيش تتلظي فوق رأس الجوزة كإمراة لعوب في مخدعها فانتعش فؤاده ، وقال لهنوس : ـ ربما يلفظها البحر ثانية ، لا تحزن .. وغمز بعينه لصاحبه إلا أن صوت البدوي قطع بحر الأمنيات: ـ الآن ، نعود للميناء قبل أن تحرقنا الشمس .. سري الخبر في المدينة سريان النار في الهشيم واجتمع الناس من كل حدب عند رصيف الموردة ليستطلعوا الأمر: ـ البدوى فقد صوابه ، سيدل الحكومة علي مكان الثروة ، إنه يركل الرزق بقدميه .. كانت قوات السواحل قد احتشدت علي القور وشقت البحر لتأتي بالغنيمة .. صباح اليوم التالى صدرت الصحف وقد زينت صفحاتها الأولى بصورة البدوى يصافحه ضابط كبير وهو يمنحه مكافأة مالية وشهادة تقدير .. ظلت الصحيفة معلقة داخل إطار من الخشب الماهوجني فى مواجهة الداخل لبيتنا القديم الذي تصدعت أركانه أمام زلزال العبث الذى لحق بالمدينة .. انشرخ زجاج الإطار ، فأصلحته وضممته إلي صدري ، وسألنى ولدى الصغير : ـ ماهذا؟ وعرف أنها قصة أبي الذي يرقد في قبره قريباً من شاطئ البحر الأبيض المتوسط .. ــــــــــــــــــــــــــــــ محمد عبده العباسي بورسعيد ___________ 1ـ الفلوكة : اسم يطلق علي القارب الصغير. 2ـ نوة المكنسة : نوة بحرية تهب علي سواحل البحر المتوسط . 3ـ الجالى : وتد من الخشب يثبت في منتصف الفارب ليربط به المجداف. 4ـ كشك السعدية: مكان قيد مواعيد القدوم والمغادرة لمراكب الصيد . 5ـ الناموسية كحلي : تعبير مجازي يطلق على من يتأخر عن الإستيقاظ مبكراً . 6ـ القلعة: موقع يحدد الإتجاه إلى شاطئ بورفؤاد. 7ـ سمية القلس : مكان شرقى شاطئ بورفؤاد. 8ـ القامة : هي مقياس بطول ذراعي الرجل . رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
هشام الجنيدى بتاريخ: 24 أبريل 2010 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 24 أبريل 2010 حلوووووووووووة قوى يا استاذ محمد ..... انا هشام من دمياط يا بورسعيدى ......:rolleyes:) ولاد بحر واحد ...... سعدت جدا بقراءة القصة .... ربنا يزيدك ويوفقك وينفع بيك الناس ..... انما الامم الاخلاق ما بقيت .............. فان همو ذهبت اخلاقهم ذهبوا ...................................................................! وعلمتنى الحياه اضحك لأحبابى واضحك كمان للعدو علشان يشوف نابى واخده كمان بالحضن لو خبط على بابى فيحس انى قوى وميشفش يوم ضعفى....... قناتى ع اليوتيوب .... صفحتى ع الفيس بوك ..... رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
new style بتاريخ: 25 أبريل 2010 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 25 أبريل 2010 يا مزاجج العالى فعلا بجد حلوه اوى :blush2: :unsure: :roseop: :blink: ;) ;) ;) ;) وتسلم بورسعيد اجمل مكان فى الارض رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
محمد عبده العباسي بتاريخ: 28 أبريل 2010 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 28 أبريل 2010 الصديق الدمياطى الجميل هشام الجنيدي و إلي " نيو ستايل" تحية لكما علي المشاركة بالقراءة وتحية لكل دمياط أرض الشعراء والفنانين والبشر الأكثر روعة .. شكراً .. رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان