اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

فرز ثانى


عادل أبوزيد

Recommended Posts

«فرز ثانى»

بقلم سمير مرقس ٦/ ٧/ ٢٠١٠«فرز ثانى»، تعبير يطلق على المنُتج الذى به عيوب صناعية.. ولكنها عيوب غير ظاهرة أو ظاهرة يمكن التعايش معها.. وفى الحالتين لا يمكن وضع هذا المنُتج «المعَيب» مع المنُتج «المتُقن» والذى صنع بحسب معايير الجودة المتعارف عليها ولا تشوبه شائبة واحدة، فى نفس المستوى.. لذا يتم التمييز بين المنتجين من حيث مكان العرض والقيمة.. خاصة إذا تم الاتفاق على طرح المنُتج «المعيب» للبيع وعدم إهلاكه والتخلص منه.. شريطة إعلان ذلك على الجمهور وتأكيد وصفه بأنه «فرز ثانى» ويترك الأمر للمستهلكين فى نهاية الأمر..

(١)

واقع الحال لم أجد أفضل من هذه الكلمة لتصف حالة- أخشى أن تكون عامة- بتنا نعتمدها فى كثير من الممارسات الحياتية.. بداية من السياسة مرورا بالفن والثقافة والنشاطات الاجتماعية والمهنية إلى الدين.. حالة ثقافية يمكن تسميتها «بالفرز الثانى».. أستطيع أن ألمحها فى قبولنا «للصنايعى» أن ينجز لنا عملا بغير إتقان حيث يترك ذيولا لما قام به من إصلاحات أو تراكيب بطريقة الفرز الثانى.. أو للموظف فى إحدى الجهات الحكومية الذى يمسك بقلم جاف دون غطاء مربوط «بأستك» غير نظيف فى يد المكتب وتبدو عليه آثار «عضعضة».. حيث يبدأ فى ملء الأوراق المطلوبة بخط سيئ وبسرعة تجعله يسقط أسماء أو معلومات أو أرقاماً مهمة تسبب مشاكل كبرى لاحقا.. إنها حالة من إنجاز العمل بطريقة «الفرز الثانى»..

ولا أنسى أيضا كيف أنه فى إحدى حفلات الموسيقى العربية التى حضرتها مؤخرا كان المطرب يغنى لمحمد رشدى بطريقة لا تمت بصلة له.. وأعضاء الفرقة فى حالة تنافر موسيقى فى أوقات غير قليلة من فقرات الحفل، ويبدو أنهم لم يتدربوا معا الوقت الكافى الذى يؤهلهم للخروج بشكل مناسب للجمهور.. هذا عدا أن كل فرد من أفراد الفرقة كان يرتدى «زيا» مختلفا تماما عن زميله.. إنها حالة أخرى من حالات «الفرز الثانى».. إنتاج ولكنه لا يرقى للجودة المتعارف عليها وللتقاليد التى تعرفها هكذا حفلات.. ولا أنسى أن أذكر أنه من على الجانب الآخر كان الحاضرون فى حالة «نصف سعادة» بما يقدم من منطق «أهى ونسة» بسعر زهيد..

(٢)

■ لا تقف حالة «الفرز الثانى» على ما سبق من مشاهد ولقطات.. وإنما نجدها فى كافة المجالات من سياسة وتعليم وصحة وبحث علمى وإعلام ونشاطات تنموية متعددة.. الخ.. حتى فى الشخصيات التى تقود العمل فى مختلف المجالات.. حيث المنتج النهائى لا يرقى إلى الجودة المطلوبة.. والمعيار المهم الذى يمكن أن نقيس به هذه المقولة هو عدم وجود نقلات نوعية حقيقية فى واقعنا.. «فاللى بنبات فيه بنصبح فيه».. ولكننا نقبل بالمنتج المعيب فى نهاية الأمر وهنا تكمن المشكلة.. لماذا؟

(٣)

■ إن خطورة الحالة الثقافية التى أطلقنا عليها «الفرز الثانى»، أنها باتت تحظى بقبول جميع الأطراف.. سواء بوعى أو بغير وعى.. بإرادتهم أو دون إرادتهم.. الكل فيما يبدو يقبل بهذه الحالة لسبب أو لآخر.. قد تسمع بعض التذمر من هذا أو ذاك.. بيد أن الكل يذعن للأمر الواقع.. فهذه هى البضاعة الموجودة.. ومن ثم لا بأس من التعايش معها.. والأمر الذى يترتب على قبولنا إنتاج نوعية «فرز ثانى»، فى المحصلة هو أننا:

■ مع مرور الوقت بتنا نتعايش مع هذه النوعية الإنتاجية «المعيبة».. فنتجاوز عن العيوب لأن «الكمال لله وحده».. ونقبل بالأدنى دون أى طموح لبلوغ «الأفضل».. وأى منتج مقبول ما دام يؤدى الغرض حتى لو كانت كفاءته أقل من منطلق «يا سيدى كله كويس» و«ما تدُقش»..

وظنى أنها نتيجة طبيعية ومنطقية لمن تعود على البضاعة «فرز ثانى»- لوقت طويل- فلا يستطيع أن يقف على ما تحتويه من عيوب سواء ظاهرة أو غير ظاهرة، ولا يملك القدرة المطلوبة التى تمكنه من الكشف عن العيوب..

وبالتالى لا يمكن طلب البضاعة الأفضل وفق الجودة والمعايير التى بلغها التقدم الإنسانى..

بضاعة «فرز أول»..

مواطنين لا متفرجين


رابط هذا التعليق
شارك

وقد يكون مرجع رضاء الناس بالسيء فكرة "نقص الإمكانيات" وهي الشماعة التي يعلق عليها كثيرون فشلهم الذريع في تقديم أي شيء يزيد مستواه عن الفرز الثاني أو الثالث.. هذه الشماعة ليست فقط على مستوى القطاع العام أو الحكومي بل تتعداه أيضاً إلى مستوى القطاع الخاص الهادف للربح..

خلص الكلام

Sherief El Ghandour<br /><br />a furious Egyptian

رابط هذا التعليق
شارك

تعبير "الفرز الثاني" الذي استخدمه الكاتب هو تعبير مهذب يماثل استخدام عبارة "الدول النامية" لوصف الدول المتخلفة ... للأسف هذه الفئة التي باتت تسيطر على واقعنا هي سبب معظم مشاكلنا بأداءها المثير للسخط والمنتج للركاكة

ذكرني هذا المقال بآخر قرأته منذ سنوات للدكتور حازم الببلاوي بعنوان (هل هذا هو عصر الرجل "العادي") ... هذا نصه:

دكتور حازم الببلاوي

الحديث عن الكم والكيف حديث قديم ومُعاد. فهُناك ظاهرة تكاد لا تُستثنى بلداً أو مجتمعاً، وهي أن مزيداً من التقدم قد يحقق زيادة في الرفاهية لأعداد أكبر من الأفراد، إلا أنه قد يؤدي قد نفس الوقت إلى تدهور أو تراجع في النوعية. فهناك علاقة شبه جدلية بين الكم والكيف، حيث أن التوسع في الكم قد يكون على حساب النوع. وإذا نظرنا إلى المجتمعات القديمة نجد أنها كانت – بشكل عام – مجتمعات أقلية تتحكم فيها أقليات : في السياسة والإقتصاد والثقافة والفنون، وكانت الأغلبية تكاد تكون محرومة تماماً من المشاركة في هذه الأمور. وبذلك كان هناك شبه إنفصال بين أقلية ذات "كيف" متميز بالثراء والسلطة والذوق الفني الرفيع وأحياناً أيضاً بالعلم والمعرفة، في مواجهة "كم" من جموع غفيرة تعيش في الفقر والعوز وإنعدام الذوق وإنتشار الجهالة وتبلد الشعور. ولذلك ففي مثل هذه الأحوال فإن التقدم يؤدي عادة إلى تراجع "الكيف" لهذه الأقلية المحظوظة، في حين يُحقق تحسناً كبيراً في أوضاع ذلك "الكم" التعيس، وبحيث يؤدي هذا التغييير إلى الإرتفاع في المستوى العام إقتصادياً وسياسياً وثقافياً. وهذا التحسن في المستوى العام يؤدي إلى التقارب في المستويات وزوال الفروق الشاسعة بين الأفراد والطبقات. وتظل المجتمعات القديمة وهي مجتمعات الفوارق بين الأفراد والطبقات، وتدنى المستوى العام، تظل قادرة على إظهار أفراد متميزين هنا وهناك بشكل مختلف تماماً عن ذلك المستوى العام. فعندما غابت الأغلبية من الساحة ولم يكن لها دور إلا بإعتبارها موضوعاً وليس مشاركاً. فقد فتح المجال لظهور الفرد العظيم والعبقرية الفردية فأمثال هؤلاء الأفراد هم الذين يكسرون الجمود ويدفعون البشرية إلى التقدم فهذا هو الوقت الذي كان يمكن أن يظهر فيه نيوتن أو ديكارت وقبلهما كوبرفكس وجاليلو وسبقهما إبن سينا والخوارزمي وغيرهم من أساطين العلم والفلسفة والأدب. وجاء العصر الحديث بآلافه المؤلفة من المتعلمين ولا نجد مقابلاً لنيوتن رغم أن مئات من علماء الفيزياء الآن يتصدون لأمور لم تخطر على بال نيوتن، ورغم ما يُقال بأن طالب متوسط من طلاب كليات العلوم تُقارب معارفه الآن علم نيوتن في ذلك الوقت. وقل مثل ذلك عن الأدب والفلسفة، فلم نسمع عن أديب أو مفكر إستطاع أن يحتل مكان شكسبير أو فيلسوف جاوز أرسطو أو كانت أوهيجل. وذلك رغم أن هناك عشرات الألوف من كتابات الأدباء والفلاسفة والمفكرين اللذين لا يقل علم أو معرفة كلٍ منهم عن معارف أو علوم الأسبقين. وما يُقال عن العلم والأدب والفكر يصلح للحديث عن السياسة، فأين رجال السياسة اليوم من أسماء جفرسون أو تاليران أو بسمارك أو حتى كليمانصو أو ديجول أو تشرشل. لقد إنتقلنا من عصر "الفرد العظيم" إلى عصر "المؤسسات". إذا لم يكن العالم قادر على إنتاج نيوتن أو أنشتاين، فإن ما تخرجه مراكز ومعامل الأبحاث في الجامعات ومراكز الصناعة يجاوز عشرات المرات ما يمكن أن يفرزه عقل فرد حتى لو كان عقل نيوتن أو أنشتاين. وإذا كان رجالات السياسة على الساحة العالمية ليسوا من طراز الإسكندر الأكبر أو في حجم بسمارك أو جيفرسون، فإن وراء كل منهم العديد من الأجهزة والمؤسسات التي تجمع البيانات وتحللها وتضع السيناريوهات. وإتخاذ القرار ليس نزوة شخصية لحاكم أو مسئول وإنما هناك إجراءات ومساءلة وشفافية. هناك سلطات متعددة، وهناك قيود مالية، وهناك مساءلة سياسية من البرلمان، وهناك قضاء يتدخل عند الحاجة، وهناك إعلام متعطش لتصيُّد الأخطاء، وهناك رأي عام مؤثر، وهناك إنتخابات، وهناك مصالح متعارضة، وكل هذه الإجراءات والمؤسسات تضمن أن تكون القرارات على أفضل وجه. وهكذا فإن إختفاء "الفرد العظيم" وظهور "الفرد العادي" على المسرح قد صاحبه ظهور منظومة كاملة من المؤسسات. حقاً لقد إختفت العبقرية "الفردية، ولكن "العبقرية المؤسسية" قد حلت محلها، وجاوزتها قدرة وكفاءة. لقد أصبح "الرجل العادي" هو أساس المجتمعات الحديثة، في حين توارى "الرجل العظيم" أو "العبقري" ليجد مكانه على رفوف قاعات المتاحف أو في صفحات الموسوعات... ولكن هذا "الرجل العادي" الذي قد يجلس في البيت الأبيض أو في الأليزيه أو على رأس أكبر الشركات الصناعية أو المؤسسات العلمية فإنه ليس مجرد فرد منعزل بقدر ما هو صناعة مؤسسية. هو واجهة للعديد من المؤسسات العلمية والصناعية والمالية والسياسة وهو نتيجة لسياسات وبرامج طويلة الأمد. المؤسسات هي الأساس، والفرد مجرد رمز أو تعبير خارجي. إنتاج العالِم أو المفكر ليس وليد الصدفة كما أنه ليس إبن الطبيعة، وإنما هو إنتاج منظم من خلال الجامعات ومراكز البحوث وإدارات التخطيط في الحكومات والشركات، وبالتالي يمكن إنتاج العديد منهم بالأعداد المطلوبة وبالمواصفات اللازمة بناءً على برامج مُعدة سلفاً. عندما أعلن كنيدي أن الولايات المتحدة سوف تُنزل رائد فضاء أمريكي على القمر بعد نجاح الإتحاد السوفييتي في إطلاق سبوتنك، حين كانت الولايات المتحدة الأمريكية متخلفة في أبحاث الفضاء عن الإتحاد السوفييتي. فإن الأمر لم يحتاج إلى إنتظار نيوتن جديد وإنما كان يكفي تخصيص الإعتمادات اللازمة ووضع برنامج للأبحاث المناسبة. وقد كان أن نزِل أول أمريكي على القمر قبل مهلة العشر سنوات التي حددها كنيدي لهذه المهمة. وعندما مات روزفلت قبل نهاية الحرب العالمية الثانية - وكان ينظر إليه بإعتباره من أعظم الرؤساء الأمريكيين – فقد ثارت المخاوف لأن خلفه ترومان كان رجلاً عادياً لم يعرف عنه أية مواهب خاصة. فإذا به – ترومان – يكمل المشوار ويتخذ أخطر القرارات في التاريخ المعاصر. وذلك لأن ترومان – الرجل العادي – كانت وراءه مؤسسات قوية. ليس صحيحاً أن الماضي كان عصر العظماء والحاضر هو عصر الرجال العاديين، بل الصحيح أننا نعيش عصر المؤسسات. كما أنه ليس صحيحاً أن العصر الحديث قد دفع بالرجل العادي ليحتل مكان "الرجال العظماء"، وإنما الصحيح هو أن المؤسسات قد حلت محل العظماء.

وإذا كان هذا الإتجاه قد غلب على العالم الحديث، فقد جاء إنطباقه على العالم الثالث – كما هو الحال عادة – مشوهاً ومختلاً. فقد قفز إلى المقدمة من القيادة والريادة "رجال عاديون"، في الوقت الذي ما زالت فيه المؤسسات ضعيفة ومهلهلة. فالمؤسسات ظلت على حالها – إن لم تكن قد تدهورت – في حين أن نوعية هؤلاء المسؤولين قد تدنت. وإذا نظرنا إلى مؤسساتنا السياسية من برلمانات أو أحزاب سياسية أو صحافة فلا نجد تقدماً ملحوظاً بل ربما تدنت نوعيتها، وأما عن مؤسساتنا العلمية والثقافية فحدِّث ولاحرج، فقد زادت كماً وتراجعت كيفاً. وقلَّ مثل ذلك عن العديد من المؤسسات الحكومية والأهلية. وهكذا وجدنا أنفسنا إزاء ظاهرة جديدة، وهي تدهور نوعية المسؤولين مع أستمرار ضعف المؤسسات.

ومنذ حوالي خمسة عشر سنة أرسلت رسالة للمرحوم الاستاذ أحمد بهاء حول هذا الموضوع نشرها في يومياته في الأهرام في 17 مايو 1987. ولا بأس من إقتباس بعض ما جاء في هذه الرسالة. فهي تصلح لليوم كما كانت صالحة بالأمس، "يبدو لي أن هناك حزباً آخراً قد نجح في إجتياح مختلف نواحي الحياة العامة. ولم يحدث ذلك بالامس فقط ولكن منذ فترة ليست بالقصيرة. وهذا الحزب هو ما يمكن أن يطلق عليه إسم حزب المتوسط الإحصائي.

في كل جانب من جوانب الحياة العامة: في السياسة في الإقتصاد، في الثقافة، في الفن، في الإعمال.. هناك دائماً قلة من الصفوة المتميزة وجمهرة من العامة تفصل بينهما مجموعة من أوساط الناس ومنهم خرج أهم الأحزاب وأخطرها. وهذا الحزب أقرب إلى المتوسط الإحصائي لأهل المهنة والحرفة. فهم دون أهل الصفوة تميزاً وكفاءة. وإن كانوا قطعاً يجاوزون مستوى العوام إدراكاً وفهماً من مجالات إهتماماتهم. فهم أقرب إلى العينة العشوائية أو المتوسط الإحصائي.

وقد إستطاع هذا الحزب من أوساط الناس أن يتقدم الصفوف ويُسيطر على مختلف نواحي الحياة العامة. فهم في المقدمة في كل مكان: في مراكز المسؤولية في الجامعات. في الفن، في النقابات، في المجالس الشعبية .. إلخ. وقوة هذا الحزب تنبع من أن أعضائه يمثلون المجتمع تمثيلاً صادقاً. ومشكلة هذا الحزب أو بالأحرى مشكلتنا معه، هو أنه – مع تمثيله للمتوسط العام – فإن أفراده بالقطع ليسوا أفضل العناصر المتاحة. وعظمة الأمم ليست فقط بإرتفاع المستوى العام، وأنما أيضاً بحجم الصفوة ودورها". إنتهى الإقتباس.

وهكذا تبدو المشكلة عندنا في أن إختفاء "الرجل العظيم" وتقدُّم "أوساط الناس" لتحمل مختلف المسؤوليات لم يُصاحبه – في معظم الأحوال – تحسُّن في الأوضاع المؤسسية في السياسة أو الإقتصاد أو الثقافة. ولم يلبث أن إنعكس ذلك على طبيعة هؤلاء الرجال العاديين، حتى أصبح إختيار تعبير "أوساط الناس" أو "المتوسط الإحصائي" لوصفهم غير مناسب لإعطاء المعنى المقصود تماماً. ولعل اللفظ الأجنبي Mediocre هو الأقرب إلى المعنى المقصود وهو لفظ يصعب ترجمته. فهو ليس بالضبط ضعيفاً، أو متوسطاً، ولكنه أقرب إلى الركاكة. فالركاكة في الأداء لا تعني عدم القدرة على الإنجاز أصلاً، بل إنها تُشير إلى القدرة على تنفيذ العمل المطلوب ولكن بلا إبداع، بلا روح. هناك شئ ما ناقص وإن كان لا يمكن التعبير عنه. ومع ذلك فلا يمكن الشكوى منه لأن ما ينقص في الأداء أمر غير مُحدد. وفي نفس الوقت فلا يمكن الشعور بالرضا لأن ما أُنجز غير كاف وغير مقنع؛ تنقصه اللمحة، الومضة، إسلوب الأداء، الإبداع، الروح، إنه الأداء عند الحد الأدنى. وهكذا نجد أنفسنا في مشكلة إزاء هذا الأداء الركيك. لا يمكن أن نسعد بما يقدمه، لأنه ينقصه شئ ما، ولا نملك أن نعترض أو ننتقد ما يقدمه لأن ما ينقصه غير محسوس. أداء لا يُبرر الغضب أو الإحتجاج، ولكنه أيضاً لا يبعث على الرضا والإنشراح. فهو أداء محايد بالمعنى السلبي.

وإذا كان الفرد العظيم قد تخلى عن مواقعه في الدول المتقدمة، وتقدم الرجل العادي ليحتل هذه المواقع مسنوداً بالمؤسسات، فقد تدهور الأمر عندنا عندما غلبت الركاكة على الأفراد والمؤسسات. وهذه الركاكة ليست مجموعة من الأفراد بل أنها حزب بل وحزب ناجح. وعندما نقول إنها حزب، ذلك أنه رغم أن أعضائه قد لا يعرفون بعضهم البعض، إلا أن هناك إنجذاب طبيعي بينهم. يلتقطون بعضهم البعض بحاسة غريزية أقرب إلى غريزة الشم. ويمثلون كتلة متماسكة ذات مصالح مشتركة. ولأنهم متشابهون كقطع الغيار فإن إستبدال واحد بآخر لا يُقدم ولا يؤخر. يُجيدون الحديث ولكن بلا عمق ولا رؤية. يؤثرون السلامة. وهم رجال كل العصور. يفضلون الركود والإستقرار، لأن ما نعرفه أحسن مما لا نعرفه، ولكن لابأس من التغيير – القليل – إذا كان هناك خطر فوات القطار. وهذا الحزب هو دعامة الإستمرار وتأبيد الحاضر. والحاضر معهم لا يتقدم كثيراً كما لا يتأخر إلا قليلاً. لا يتقدم كثيراً لأن التطوير والتغيير يتطلب خيالاً ومغامرة، وهي ليست من صفات أعضاء هذا الحزب. ولا يتأخر إلا قليلاً لأنهم ليسوا أغبياء فلا يرتكبون أخطاء كبيرة لأن الحرص أهم صفاتهم. أنهم لا يثيرون إعجاباً شديداً كما لا يتعرضون لمعارضة قاسية. إنهم غير قادرين على بعث مشاعر جياشة تجاههم تأييداً أو معارضة، فقط الملل واللامبالاة. إنهم أقوى الأحزاب وأقدرها على الصمود.

إن إنتهاء عصر الأفراد العظماء في العالم المعاصر قد فتح الباب في دول العالم الثالث ليس لظهور "الرجل العادي" المستند إلى المؤسسات القوية وإنما لغلبة الركاكة في الإداء. والله أعلم.

copied.gif

إن فشلنا في الوصول للحكم ولتغيير البلد .. لا تقلقوا .. نحن فكرة .. الفكرة لا تموت ... تستمر لا تتوقف

البرادعي 15/10/2011

رابط هذا التعليق
شارك

قرأت موضوعًا جميلاً له صلة وثيقة بما يمكن تسميته "الفرز الثاني" في الحياة الثقافية . الموضوع بعنوان "المفكرون الجدد وثقافة القطيع" للدكتور/ أحمد أبو زيد - أستاذ الانثروبولوجيافي آداب الاسكندرية. هاكم الموضوع ...

المفكرون الجدد وثقافة القطيع

هل تراجع تأثير المفكرين في أوضاع مجتمعاتهم أم أنهم ماتوا نهائياً ولم تعد لآرائهم أي قيمة؟

يسود الآن بعض الأوساط الثقافية في الخارج جو من التشاؤم، حول وضع المفكرين في المجتمع المعاصر، ودورهم في تشكيل الحياة الاجتماعية والسياسية، من خلال مناقشة وفحص ونقد الأوضاع العامة التي تواجه مجتمعاتهم وتشغل بال الجماهير العريضة، وتؤثر في مستقبل المجتمع الإنساني ومدى مشاركتهم في تنوير الرأي العام سواء على المستوى الوطني أو المستوى العالمي، كما كان عليه الوضع في القرن الماضي، حين كان كبار رجال الفكر ينقدون من خلال كتاباتهم ومحاضراتهم ولقاءاتهم العامة، بل والمشاركة في المسيرات الجماهيرية وإصدار النداءات والنشرات والبيانات والاحتجاجات، ما كانوا يعتبرونه خروجا من الأجهزة الرسمية على القيم والمبادئ والحقوق المشروعة لشعوبهم. وكثيرا ماكانت هذه المواقف تدفع الحكومات وأصحاب القرار إلى تغيير سياساتهم الخاطئة، والخضوع لقوة الرأي العام. وقد نجد شيئا من هذا التشاؤم في مجتمعاتنا العربية، التي تشكو من خلو الساحة من المفكرين ذوي التأثير الواضح القوي الذي كان يتمتع به مفكرو القرنين الماضيين، الذين لعبوا دورا أساسيا في النهضة العربية في كل المجالات، وأسهموا في تشكيل العقل العربي المعاصر. فمشكلة تراجع دور المفكرين الذي يصفه البعض في الخارج بأنه (موت المفكرين)، مشكلة عالمية تعاني منها معظم - إن لم يكن كل - دول العالم، مع وجود تفاوت في مدى وعمق الشعور بهذه المعاناة ووسائل مواجهتها. وهي مشكلة سوف تتفاقم في الأغلب خلال العقود القادمة من القرن الحادي والعشرين. وقد يكون هناك شيء من المبالغة في دعوى موت المفكرين. فكل عصر ينجب مفكريه الذين يعبرون بآرائهم وإبداعاتهم وانتقاداتهم عن الأوضاع السائدة في ذلك العصر، وإن كان هذا لاينفي تراجع التأثير، وبخاصة حين نقارن انكماش عدد رجال الفكر ذوي الرأي المستقل في الوقت الحالي ونوعيتهم ورتابة اهتماماتهم وضعف تأثيرهم في صياغة الرأي العام، وإحداث التغييرات الجوهرية في مجتمعاتهم وعدم انتباه الجماهير العريضة، فضلا عن خاصة المثقفين, إلى إنجازاتهم بما كان يحدث في الماضي، بل إن هناك شعورًا عاما يعبر عنه صراحة بعض الكتاب في الخارج بأن المفكرين لم يعودوا يحظون بالاحترام والتقدير اللذين كان مفكرو القرن الماضي يتمتعون بهما، وهذه كلها أمور تواجه المجتمع العربي، وأقيمت حولها مؤتمرات وندوات. وقد ظهر في الخارج في السنوات الأخيرة عدد كبير من المؤلفات التي تسترعي الانتباه وتدل على استفحال المشكلة أو على الأقل إدراك خطورتها الآن وتفاقمها في المستقبل. ويكفي أن نشير هنا إلى بعض هذه الكتابات الحديثة، حتى نتبين وضع المفكرين في بداية الألفية الجديدة وما سيكون عليه الحال في المستقبل ومدى عمق الشعور بالقلق إزاء هذه الأوضاع الجديدة. فقد صدر منذ سنوات قليلة لأحد المفكرين الجامعيين في بريطانيا وهو «ستيفان كوليني» Stefan Collini كتاب طريف بعنوان «العقول الغائبة: المفكرون في بريطانيا» يذكر فيه أن غياب المفكرين من الساحة وعدم إبداءالاهتمام الواجب نحوهم في بريطانيا ظاهرة خطيرة، تشير إلى التطورات المستجدة التي تهدد الثقافة العليا أو الراقية، والتي سوف تؤدي بالضرورة إلى تراجع دور رجال الفكر في توجيه الأمور في المجتمع البريطاني بالقوة والفاعلية نفسها التي كانت عليها الأوضاع تحت تأثير مفكرين من حجم ووزن برتراند راسل أو جورج برنارد شو. وهذه النظرة المتشائمة نفسها حول المستقبل نجدها في كتاب الأستاذ الأمريكي «راسل جاكوبي» Russell Jacoby عن «آخر المفكرين» أو في كتاب الأستاذ الأمريكي الآخر «ريتشارد بوزنر» عن: Public Intellectuals A Study in Decline وكلها عناوين كاشفة وذات دلالة.

الدفاع عن الفشل

وتجمع هذه الأعمال المهمة وغيرها كثير على أن تأثير المفكرين ذوي الرؤية العامة الشاملة أصبح ضعيفا للغاية في المجتمع المعاصر، وأن ذلك الضعف سوف يزداد وضوحا وخطورة بمرور الزمن، وأن دور هؤلاء المفكرين - في حالة وجودهم، وهو أمر مشكوك فيه - يتوارى بسرعة رهيبة وتقل فاعليته في الحياة الاجتماعية والسياسية، وأن الأجيال الجديدة من المفكرين يشغلون أنفسهم بأمور سطحية، ويدافعون عن قضايا ثبت فشلها وعدم جدواها، وأن كثيرا من الأفكار التي يتطوعون بتقديمها حول المسائل والمشكلات الحيوية غالبا ما تكون أفكارا ساذجة لا تصدر عن فهم دقيق وعميق لطبيعة هذه المشكلات أو حقيقة متطلبات العصر، وأن هذا هو الطابع العام الذي يطبع تفكير من يطلق عليهم بعض الكتاب اسم «المفكرين الجدد»، تمييزا لهم عن كبار مفكري القرن الماضي الذين ارتبطوا ارتباطا عضويا بمشكلات الإنسان والمجتمع، وسيطرت أعمالهم وكتاباتهم وآراؤهم على أذهان معاصريهم وتجاوز تأثيرهم في كثير من الأحيان حدود مجتمعاتهم إلى النطاق الدولي وأفلحوا في وضع بصماتهم القوية الواضحة على مختلف جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية في الفترة التي عاصروها. وليس ثمة مايدعو إلى الخوض هنا في تفاصيل التعريفات العديدة المختلفة لكلمة Intellectuals التي نفضل ترجمتها بكلمة (المفكرين)، ويكفي أن نذكر أن المفكر شخص يتميز باتساع الأفق وتنوع الثقافات والاهتمامات، والإحاطة بما يجري حوله من أحداث لها انعكاساتها على المجتمع الذي ينتمي إليه بل وقد يشارك في صنعها ويفرض على نفسه مسئولية توصيل أفكاره عن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المهمة إلى الجماهير المثقفة غير المتخصصة وإثارة اهتمامهم بهذه القضايا والمشاركة في مناقشتها بقدر الإمكان. ومن التعبيرات الساخرة التي يتعرض لها المفكرون على هذا الأساس وصفهم بأنهم (صائغو كلمات وألفاظ)، وذلك في إشارة واضحة لما يقوم به الأدباء والروائيون والشعراء والفلاسفة والأساتذة الجامعيون، الذين يشاركون في مناقشة الموضوعات والمشكلات العامة التي تقع خارج نطاق تخصصاتهم الدقيقة. وتمييزا لهم عن العلماء الذين يوصفون بأنهم (صائغو أعداد وأرقام) وعلى الرغم من السخرية الخفية أو المستترة وراء تعبير «صائغي الكلمات» فإن هؤلاء المفكرين - في رأي بعض الكتاب على الأقل - ينظرون إلى أنفسهم على أنهم هم صفوة المجتمع، بل وأهم عنصر في تكوينه، وأن الحياة السليمة لاتستقيم دونهم، وهو مايعتبره الكثيرون قمة الغرور والادعاء.

وبصرف النظر عن مدى صدق وجدية هذه العبارات والأوصاف، فالمفكر في آخر الأمر يعرف كيف يستثمر ذكاء ذهنه في التفكير والتأمل والدراسة والنقد وإثارة التساؤلات، واقتراح إجابات شافية لهذه التساؤلات المتعلقة بشئون الحياة والمجتمع والوضع الإنساني على مستوى العالم، مع تكريس جهوده للدفاع عن القضايا والحقائق الصعبة العسيرة التي تتقاطع مع الخطوط السياسية والأيديولوجية السائدة في المجتمع أو حتى في العالم كله، والتي يعتقد أنها خليقة بالمراجعة والفحص والنقد والدحض أو التأييد، بما يحقق مزيدا من الخير ويرفع الظلم والقهر ويحقق العدالة الاجتماعية ويتفق مع المبادئ الإنسانية الرفيعة. فهو يحاول إذن أن يستوعب بنظرته الشاملة الإنسانية ككل، أو كوحدة عضوية متكاملة حتى في الحالات التي يعالج فيها مشكلة جزئية أو محلية خاصة، وذلك على الرغم من كل ما قد يواجهه من اعتراض ورفض وأذى واضطهاد. فهو صاحب رسالة يؤمن بها قبل كل شئ ويعمل على الترويج لها ونشرها من خلال المناقشة والإقناع. بل إن رسالة المفكر تفرض عليه العمل على كشف جوانب النقص في القرارات التي تتخذها السلطات الحاكمة، والأسس التي ترتكز عليها هذه القرارات والأسباب الحقيقية التي تدفع إلى اتخاذها، على الرغم مما يعتورها من عيوب، والتي كثيرا ماتكون خافية على الشخص العادي.

الإنسان عديم الصفات

ويبدو أن هذا الدور التقليدي -أو المثالي - للمفكرين بدأ ينحسر ويتراجع في العقود الأخيرة، وأنهم يفقدون مكانتهم وفاعليتهم بالتدريج ولكن بانتظام واطراد، وأن الكثيرين ممن يوصفون الآن بأنهم مفكرون لايحملون الرسالة نفسها، التي حملتها الأجيال السابقة على الأقل بالقوة والالتزام، كما يبدو أن هذا التراجع سوف يزداد حدة ووضوحا في العقود التالية من هذا القرن، نتيجة للتغيرات العميقة التي يمر بها العالم المعاصر، وما ترتب على هذه التغيرات من ظهور مايطلق عليه في بعض الكتابات في الخارج تعبير (الإنسان عديم الصفات والخصائص the man without (qualities، الذي يتقبل كل شيء في الحياة السياسية بالذات بغير تفكير أو مناقشة أو إبداء رأي، بل على العكس من ذلك تماما يحاول تبرير ما يلقى إليه وما يصدر عن أصحاب النفوذ من قرارات. ولذا فلن يكون من الغريب أن يصبح المفكرون - بالمعنى (التقليدي) للكلمة، في المستقبل غير البعيد - إحدى الظواهر التاريخية التي ذهبت مع الريح، والتي يمكن أن نقرأ عنها فقط في كتب التاريخ وأن يحل محلهم فئة أخرى من «المفكرين الجدد»، الذين سيكونون بالضرورة نتاج عصرهم بكل خصائصه ومقوماته، والقوى والعوامل التي تتدخل في صياغته وتشكيله.

من أهم مظاهر العصر الحديث المسئولة بشكل مباشر عن ضمور القيم التقليدية لرجال الفكر ومثلهم العليا، مما مهد الطريق لظهور المفكرين الجدد، الإيمان الشديد والمتنامي بالتخصص الذي يؤدي في آخر الأمر إلى التعمق في فهم مجال معين بالذات من مجالات المعرفة وإغفال المجالات الأخرى بكل مايترتب على ذلك من ضيق الأفق الثقافي والانسحاب من الحياة الواسعة العريضة الزاخرة بالأحداث والمشكلات والقضايا الفكرية والإنسانية الشديدة التنوع والتعقيد، والانصراف بالتالي عن الاهتمام بالشأن الإنساني الذي يعطي المفكر أسباب ومبررات وجوده. فعدد كبير من مفكري الأجيال السابقة في كثير من بلاد العالم، بما في ذلك العالم العربي كانوا من الأكاديميين وأساتذة الجامعات المتخصصين في ميادين ومجالات أكاديمية مختلفة لاتتصل في كثير من الأحيان بالدراسات الإنسانية والاجتماعية، دون أن يمنعهم تخصصهم الدقيق من الاهتمام بمشكلات العصر وانعكاساتها على الوضع الإنساني العام، بل إنهم سخروا تلك المعارف المتنوعة لخدمة مجتمعاتهم وشعوبهم، بل وشعوب العالم أجمع، وهو ما لا نكاد نجد له مثيلا بين الأكاديميين الحاليين إلا فيما ندر، وفي حدود ضيقة للغاية. فعصر المفكرين الأكاديميين الذين يجمعون بين الاهتمام والعناية بفروع تخصصاتهم والالتزام الفكري والثقافي العام إزاء المجتمع قد انحسر أو هو في طريقه إلى الزوال والاختفاء بكل ماكان يحمله من فكر جاد مستنير وأفكار تقدمية وآراء رائدة وتحديات للأوضاع القائمة وتحريض على فحصها ونقدها والتمرد عليها من أجل تحقيق واقع أفضل. وقد أصبح الأكاديميون أشد اهتماما والتصاقا بحياتهم الأكاديمية المحدودة، وانسحب الكثيرون منهم من مجال العمل الفكري العام، وبذلك خلت الساحة أمام فئة المفكرين الجدد الذين ينتمون في الأغلب إلى مجالات الإعلام المختلفة التي لاتتوخى بل وقد لاتتطلب بالضرورة، التعمق في المعالجة بالدراسة والتحليل ولا تهتم في العادة بالقضايا الإنسانية الحيوية أو المشكلات الفكرية الكبرى بينما تحرص على مخاطبة الجماهير العريضة عن أمور ومشكلات حياتية عامة، بل وعارضة أحيانا بأسلوب بسيط، يحمل بين طياته بذور تسطيح الفكر وتكريس ما يمكن تسميته بثقافة القطيع، بعد أن كان مفكرو الأجيال السابقة يعملون على نشر الثقافة الرفيعة بكل أبعادها.

المفكرون وغريزة القطيع

والواقع أن صفة (القطيع) تصدق هنا على المفكرين الجدد أنفسهم، بقدر ما تصدق على الجماهير التي يوجهون إليها خطابهم الفكري والثقافي. وثمة شكوى عامة من اختفاء الأصالة والتفرد في الإبداع لدى الأجيال الجديدة من المفكرين الذين يقنعون بمعالجة الموضوعات الطارئة والعابرة بدرجة عالية من التسرع والسطحية التي قد تكون من مقتضيات الكتابة الصحفية والبث الإذاعي والتلفزيوني وغيرها من وسائل الإعلام الحديثة. ولقد جاء استخدام لفظ القطيع في سياق الحديث عن المفكرين الجدد في مقال بعنوان Earth to Intellectuals نشره Bowen Harris في جريدة Dallas Morning News بتاريخ 18 ديسمبر 2005 ذكر فيه أن المفكرين الجدد نوعان: مفكرون عاجزون عن فهم ومواجهة القضايا الكبرى، ولذا يتناولونها في الأغلب بطريقة فجة وخاطئة. ومفكرون يبهرون بالأفكار الجديدة فيقعون أسرى أو عبيدا لها, ويتقبلونها دون دراسة أو فهم أو تحليل، ويرددونها في أحاديثهم وكتاباتهم لأنها (موضة) جديدة ينبغي اتباعها والخضوع لأحكامها ومفرداتها، للتدليل على أنهم يسايرون ثقافة وتفكير العصر. فهم في عمومهم (قطيع) من العقول التي تبدو مستقلة أحدها عن الآخر، ولكنها في حقيقتها تسير كلها في المسار الفكري السائد نفسه، على الرغم من كل ماقد يبدو بينها من تفاوت ظاهري. ويتمثل تفكير القطيع بشكل واضح في العبارات الطنانة، والشعارات التي يرددها هؤلاء المفكرون الجدد بكثرة لامبرر لها مثل الهيمنة الغربية، وعالم بغير حدود، وصحوة المارد الآسيوي، والكوارث الإيكولوجية، والعالم بعد الحداثي، وتجفيف منابع الإرهاب، وغيرها كثير، دون أن يضيف أي منهم شيئا جديدا إلى ما ذكره كل الآخرين.

فالمأخذ الأساسي الذي يؤخذ على وسائل الإعلام في هذا الصدد، هو أنها أصبحت إلى حد كبير أداة تسطيح للفكر ونشر الآراء والأفكار البسيطة، أو حتى الساذجة على نطاق واسع، مما حرم المفكرين الجادين من وسيلة قوية وفعالة، كان يمكن استخدامها بكفاءة في تنوير الرأي العام بحقيقة الأوضاع في العالم، وتحقيق التغيرات الاجتماعية والسياسية المطلوبة. وثمة الآن مخاوف حقيقية حول مستقبل الفكر الرصين والمفكرين الجادين من التأثيرات السلبية التي قد تنجم عن سيطرة المفكرين الجدد على وسائل الإعلام وتسخيرها لنشر آرائهم التي كثيرا ما تعوزها الأصالة والعمق والجدية والإحاطة، والقدرة على النقد والتقييم والحكم، كما هو شأن أعمال مفكري الأجيال السابقة التي كانت تترك آثارا راسخة وعميقة في نفوس وعقول المتابعين لها.

وداعاً للثقافة الرفيعة

ولا تخلو هذه الأحكام التي تملأ بعض الكتابات في الخارج والتي تتردد أحيانا على ألسنة بعض كبار المثقفين والمهمومين بمستقبل الفكر والثقافة الرفيعة، ودور المفكرين في توجيه السياسات العامة في العالم العربي من القسوة والتحيز للأجيال السابقة من المفكرين، فميادين البحث والدراسة والتحليل ومصادر المعلومات ومجالات المعرفة أكثر رحابة وتنوعا الآن أمام الفئات الجديدة من المفكرين، عما كان عليه الحال في القرن الماضي مثلا، وذلك بفضل الكمبيوتر والإنترنت، وما أتاحته وسائل الاتصال الإلكتروني من تدفق المعلومات وإمكان الحصول عليها ونشرها، وتبادل الأفكار على نطاق واسع يتعدى كل الحدود الجغرافية والسياسية. والمفروض أن هذا يسهم في توسيع آفاق المفكرين الجدد الفكرية وتنويع اهتماماتهم وإثارة أخيلتهم نحو ارتياد ميادين جديدة للإبداع والابتكار، كما يضعهم أمام تحديات جديدة ينبغي مواجهتها بقوة ووضوح، حتى يتسنى لهم المشاركة في تغيير الأوضاع التي تتنافى مع مبادئ العدالة الاجتماعية والقيم الإنسانية.

ولكن هذا لايمنع - في رأي الكثيرين - من أن عهد المفكر الفرد المؤثر في أبناء جيله والأجيال التالية قد انتهى، أو أنه في سبيله إلى ذلك، وأن عصر الثقافة الراقية الرفيعة العميقة في طريقه هو أيضا إلى الاضمحلال والانكماش أمام غزو «الثقافات الدنيا» - حسب التعبير الأنثروبولوجي - والدعاوى العارضة السطحية التي تستحوذ على اهتمام المفكرين الجدد والتي لاتحتاج إلى جهد أو عناء في العرض والتقبل دون فحص أو اختبار. والخطورة هنا تكمن في أن هذا الاهتمام بتلك القضايا والدعاوى غالبا مايكون اهتماما وقتيا، وأن الحديث فيها قلما يترك أثرا باقيا في الأذهان أو في حياة المجتمع، أو يؤدي إلى تغيير حقيقي في مجالات الحياة. وهو ما يحدث بالنسبة لكثير من الكتابات الصحفية والأحاديث الإذاعية واللقاءات التلفزيونية التي يزول أثرها فور الانتهاء من قراءتها أو الاستماع إليها أو مشاهدتها، مع وجود استثناءات من ذلك بطبيعة الحال. إنها ثقافة القطيع، التي يحمل عبء توصيلها ونشرها المفكرون الجدد، عن طريق وسائل الإعلام الحديثة. لقد انتهى عصر المفكر الفرد لكي يبدأ عصرالمفكر الجماهيري - إن صح التعبير.

والملاحظ أيضا أن عددا كبيرا من المفكرين الجدد يشغلون وظائف حكومية تفرض عليهم الالتزام بسياسة الدولة، بل والدفاع عنها وتبريرها، بعد أن كان مفكرو الأجيال السابقة يقفون من تلك السياسات موقف الناقد، الذي كثيرا ماكان يتحول إلى موقف الرافض المتمرد الذي تصدر آراؤه وأحكامه عن مبادئ ذهنية واجتماعية وأخلاقية واضحة وراسخة، وكان هؤلاء المفكرون يدافعون بإصرار عن مواقفهم ومبادئهم على الرغم من كل ماكان يصادفهم من عنت ومتاعب، وعلى الرغم مما كانوا يتهمون به من سلبية وعدم فهم للواقع والإغراق في الخيال، بل والعمالة والخيانة في بعض الأحيان. وتلقي الوظيفة الحكومية ظلالا كثيفة من الشك حول مصداقية هؤلاء المفكرين الجدد الموظفين، الذين وصفهم لينين - ظلما - بالأغبياء النافعين useful fools والذين استبدلوا سياسة الدفاع والتبرير بمبادئ المكاشفة والنقد والتوجيه، وهو وضع يثير قلق البقايا الباقية من المفكرين (التقليديين) المهمومين بقضية استرجاع المصداقية المفقودة.

ولكن ما السبيل إلى ذلك؟

كل لحظة إبطاء في نيل المعتدين جزاءهم ... خطوة نحو كفر المجتمع بالعدالة، ودرجة على سلم إيمانه بشريعة الغاب

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
  • الموضوعات المشابهه

    • 0
      فرحة وفوز وفخر مصرى عربى خالص كتبت بحروف من ذهب جيلا عملاقا يستحق الثناء وأن تكتب أسماء لاعبيه بحروف من ذهعرض المقال كاملاً
    • 0
      لا يزال أمامى مشوار _ أتمنى أن أحسبه بالأيام _ قبل أن أصل إلى شاطئ التعافى الكامل منذ أن اقتحمنى هذا اللعين عرض المقال كاملاً
    • 4
      حكمت جنايات المنيا بإعدام 39 والمؤبد لـ 490 من الجماعة الإرهابية ومؤيديها وبتحويل أوراق 683 إلى المفتى من بينهم "محمد بديع" وبذلك يكون بديع هو ثانى مرشد يواجه هذا الحكم بعد حسن الهضيبى وكان جمال عبد الناصر قد خفف الحكم على الهضيبى إلى المؤبد وأفرج عنه السادات بعد ذلك ليصدر كتابا بعنوان "دعاة لا قضاة" فيه تراجع وإنكار لبعض الأفكار التكفيرية الأساسية للجماعة التى تبلورت - بشكل خاص - فى كتابىّ سيد قطب "المعالم" و "الظلال" وهناك أقوال تؤكد أن الهضيبى لم يكتب ذلك الكتاب بل إن أمن الدولة جع
    • 162
      للأسف فى خبر صادم منقول على الفضائيات و بعض الصحف يفيد بقيام حوالى 150 فرد مسلحين باسلحة نارية و يحاصرون قسم ثان بالعريش و يقول أحد شهود العيان ان بعضهم يحمل رايات مكتوب عليها لا إلة إلا الله قتل نقيب جيش و قتل أثنين من المدنيين و أصابة 7 جنود غير المدنيين و مازال القسم محاصر حتى الأن هذا نقلاً عن الأخبار و لا أعلم مدى صحة التفاصيل المذكورة أعلاه اللهم أحمى مصر و أحمى شعبها
    • 7
      بدء إنتاج ثانى سيارة سورية العام المقبل يبدأ فى سوريا العام القادم انتاج سيارة جديدة تعد ثانى موديل سيارات ينتج فى سوريا بعد طرح موديل شام الذى يتم انتاجه بالتعاون مع إيران . ويبدأ المصنع السورى بتجميع السيارات كخطوة أولى على أن يتم التصنيع الكامل لجميع أجزاء السيارة فى عام 2008 . ويذكر أن المصنع السورى الذى اطلق عليه اسم شام هو مشروع مشترك سورى إيرانى تمثل فيه شركة سيجكو الجانب الايرانى وتمثل فيه الجانب السورى شركة حمشو وتسهم بـ 20% هى قيمة المشروع الذى تكلفت مرحلتة الاولى 60 مليون دولار وق
×
×
  • أضف...