الهجانة

[Cleo]

الهجانة

قال البعض أن السبب هو نصف فدان القطن الذى اقتلعت شجراته فى الليل من أرض البرنس..

وقال أخرون: انه النقب الذى حصل فى اصطبل الأبعادية المجاورة.

ورد بعض ثالث وكاد يقسم أن السبب هو الحريق الذى اجتح الساقيتين القبليتين فى وقت واحد..

يختلف الناس دائما على السبب، ولكنهم يذكرون تماما عصر الجمعة الذى جاءوا فيه، وتمشت مع مجيئهم الهمهمات تزحف فى القرية وتقول:

- الهجانة وصلوا..

كان الرجال يزومون بها، ثم تتشعب أصواتهم مملوءة بالخوف والتشاؤم تارة.. وتارة تحفل بغبطة ساهمة، فإن جديدا سيحدث فى القرية وما أقل أن يحدث فى القرية من جديد.

وكان الصغار ييتلقون الكلمة من أفواه آبائهم وترتعش أجسادهم بالخوف من الغرباء الذين لم يسمعوا عنهم أو يروهم، ثم تنبسط وجوههم بالفرح لأنهم سيرونهم.

وأصبح لا حديث للنساء إلا عن العبيد الطوال السمر ذوى الأرجل الرفيعة الجافة، والكرابيج المسقية بالزيت..

ولم يرهم أحد حين دخلوا القرية ولا حين تسربوا إلى دوار العمدة وكأنهم وصلوه من جوف الأرض.. ولكنهم ما أن استقروا فى الدوار حتى حفل الشارع الذى بجواره بأناس يتبصبصون على القادمين ويتسمعون ما يجد من الأخبار، وحينئذ تميل الرؤوس على الرؤوس، والإشاعات رائحة غادية مخترقة البلدة من أقصاها إلى أقصاها.

[Cleo]

ومن غير أن يلف مناد أو ينبه غفير سرت الأوامر تحملها آذان لى أفواه، وأفواه إلى آذان.

وعرف الناس فى غمضة عين أن الويل لمن يخطى عتبة داره بعد المغرب، وعليهم إرجاع المواشى قبل حجة الشمس، وعليهم بعد هذا ألا يوقدوا نارا أو يشعلوا مصابيح ثم ليتعشوا ويصلوا ويناموا فى الظلام، والويل لمن لا يعجبه الحال.

وكما يعم الصمت ساعة الإفطار فلا رمضان سكتت الألسن فجأة فى الحلوق على أثر هذه الأنباء، واهتزت هذه الرؤوس تجتر الأوامر السريعة المتلاحقة على مهل وفى وجوم.

وشعر كل واحد أن الأمر أكثر من أن يفكر فيه وحده، فتقارب الجيران مذهولين فى حلقات، وامتلأت القهوة الوحيدة بالتاس وقد أصبحت مصدر التخمينات.

وعلى قدر ما أذهلهم ما سمعوه فقد استنكروه وأبوا تصديقه.

[Cleo]

ولم يستطع مخبول أن يتصور أن القرية كلها قد نامت من المغرب، والليل انقضى دون أن يسمع للعشاء أو للفجر أذان. ولم يتصور مخبول حدوث هذا.. ولم ينتظر واحد منهم أن ينصت له آخر فراحوا كلهم يتكلمون فى انفعال واضح وقد علت الأصوات واهتزت الأيدى، وكلما ارتفع الجدال وازدحمت القهوة، كثرت آذن النساء والنات الملتصقة بالنوافذ تلتقط ما استطاعت التقاطه، ثم تطير بها إلى المتحفظات القاعدات أمام الأبواب يتبادلن الآهات والحسرات.

وكان من المستحيل أن تستمر الحال على هذا المنوال، فشيئا فشيئا كلت الأصوات وهدأت المحاورات ولف الحاضرون أيديهم حول كوبيات الشاى والقرفة، فقد كان هذا أخر عهدهم بالقهوة التى ستغلق أبوابها بعد اليوم، ويبحث محمد أبو حسين صاحبها لنفسه عن عمل ثان.. هكذا قالت الأوامر..

وسرعان ما بددت الجماعة الوجوم الى أدى إليه النقاش، واستطاع جمعة أن يرفع صوته الأخنف حتى يسمع الموجودين ما كان يود قوله من زمن:

- والنبى لماشى فى نص الليل.. واللى يقابلنى حتف فى وشه

ورد عليه حامد الصعيدى الذى يعمل الطعمية أيام السوق بصوته اللزج قائلا:

- يا شيخ اتلهى.. دانت لو دقت كرباج..

وضحك الجمع، واستمروا يضحكون وشعبان مقاول الأنفار يدق بيده على صدره ويقول:

- بذمة محمد أنا آكل عشرة من الكتربنت السود دول..

وساهاه عبد الفتاح الخفير وهو فى حموة كلامه ودلق بعض الماء فى قفاه، وانتفض شعبان ملسوعا خائفا ولعلعت الضحكات.

وقال الخفير بعد أن شبع ضحكا:

- انتو عارفين يا ولاد؟... دول بنادقهم هندى من أم حداشر طلقة، مش زى الممغوصة بنادقنا الأرمنتوه..

[Cleo]

وأخذ يشرح لهم فى لهجة العالم الفرق بين الهندى والأرمنتوه، وعدد قليل يسمع بينما الباقى قد تفرق يتهامس فى شئون العيش.

وساعتها كان نفر قليل من الأعيان جالسين يستنشقون الهواء فى الخلاء على مقعد محطة القطار ومعهم العمدة. وتلقفوا الأنباء باهتمام قليل، وأنصتوا لإلى العمدة وأشداقه تضخم الكلمات ثم تفرطها على دفعات،وهو يقول إن البلد تلفت والخلق باظت والذمم خربت، والناس تخاف ولا تخجل ولا يصلحها إل االكرابيج الغريبة..وكان الأعيان يموءون وهم يوافقونه على كل ما يقول، بل تمنى واحد منهم لو كان الود وده ليبقى الهجانة تسوق الناس أمامهم كالنعاج أعواما وأعواما.

وأصفر العصر..

وكانت البلدة أفرغت ما لديها من كلام وعرفت كل الأخبار والشائعات، ورويت من السخرية من نفسها ومن إخافة بعضها بعضا.

وحين رأى الناس خيالاتهم تطول وتمتد، تذكرو المغرب وما ينتظرهم فيه. وتحرك المصدقون و المكذبون والمتفكهون فى كل اتجاه حتى أصبحت القرية كعش النمل.. وأسرعت النسوة إلى الغيطان يستعجلن الأزواج ويروين ما حدث.

وازدحمت الأطباق والأذرع الملحة أمام الدكاكين وتصاعدت أدخنة كثيرة من المواقد واأفران وقد تكهرت تنجز الطعام والخبز.

وفى النهاية قطعت الأرجل من شوارع وتجمع الناس فى استغراب وسخرية حول الطبالى يحاولون ابتلاع العشاء، والشمس مازالت طالعة.

وراح الأباء والأمهات يعدون الأولاد ويرون من الغائبن ويوضونهم ويخيفونهم من الشياطين السود ومن مغادرة الدور.

[Cleo]

واختفت الشمس وراء نخيل الحوشة وحدها ودون أن يراها أحد، فقبل المغرب كانت الأبواب قد أغلقت والناس رابضين فى الدور وفوق السطوح.

ولم ينم الناس وكيف ينامون؟ وانطلقوا يتحدثون داخل المنادر والقاعات غير مقتنعين بالذى حدث ولا مقيمين له اعتبار..

جاء قطار الثامنة يتهادى وسمع الناس صفيره، فانقطعت الأحاديث واستعدت الآذن كلها لسماع ما يجرى للعائدين من البندر فى القطار.. الذين بلا شك لم يعلموا بما جد ولم يهيئوا أنفسهم له.

وارتجت قلوب كثيرة وبكت نساء و نهنهت عجائز، والآذان تشرخها الصرخات التى عميت القريت، وتلسعها أصوات الاستجارة والهرولة والركض.

وأعقب الضجة سكون أغرق الليل والظلمة والناس، ما كان يقطعه إلا دبيب الأحذية الميرة الثقيلة وهى تحف الأرض بين الحين والحين، والصوت الرفيع ذو اللكنة البربرية الغريبة يقول وكأنه مطواة تقطع:

-مللى هناك؟..

ولا يرد عليه أحد ، وقد ينبح كلب بعيد.. ثم يعود الصمت الغامق. وبات الناس ليلة طويلة أكثرها خوف ويقظة، والقرية قد لفها جو خطير وأدرك الناس فى حسرة حينئذ أن المسألة جد لا هزل فيهان وأن الذى يقع ستزهف روحه وتسلخ الكرابيج جتته.

[Cleo]

وطلع الصبح.

وتفتحت الأبواب وانطلق الخلق كالدجاج الذى ضايقته زحمة القفص. وكانوا يتبادلون تحية الصباح ويقولونها بقلوب متورمة وأرواح خجلة. كانوا كالذى فقد شيئا ولكنه لا يدرى كنه ما فقد.

وتناقل الناس وهم يتفرقون وراء رغيف الخبز ما حدث للعائدين من البندر.. وكانوا يتناقلونه فى فتور خافت, وحين علموا أنهم ربطوا بحبل وقضوا الليلة فى لدوار بعد علقها نصفها الموت كانوا يهزون رءوسهم ولا يقولون شيئا، أو ينطق الواحد بكلمة لا معنى لها ثم يسكت.

وبدأ اليوم طويل كغيره من الأيام.. ومضى النهار فى تلكؤ يخنق الأنفاس، وحين عاد الرجال فى الظهر وما بعد الظهر منهكين مشتتين التقت الجماعات فوق المصاطب وأمام الدور وقد أغلقت القهوة. وكان كلامهم كثيرا لا روح فيه ولا فائدة كثرثرة النساء، وكل منهم يغرق فى رواية تفاصيل ما يمعه من دبيب أثناء الليل ويقص نفس الحكاية عما حدث بعد قطار الثامنة.

وحين مج الناس الكلام والعودة إليه تحول الحديث الدائر على مصطبة المعلم عمر إلى ناحية أخرى.. لما عن لعبد الغنى الجمل أن يطيل لسانه. وعبد الغنى هو المنقذ دائما من الحديث الممجوج فهو لا يعدم نكتة يرنها على الحاضرين فينسوا كل شىء وتستغرقهم نكات عبد الغنى. وكان هو نفسة فكاهة بقامته القصيرة التى تطاولها قامات الصغار، ورأسه الذى مثل حبة البطاطس، وطاقيته الصوف المنطبقة بحذايفرها على جبهته والتى حولها المنديل المحلاوى القديم ملفوفا ومبروطا بعقدة خبير حتى لا يبين شعره. ومتى كان له شعر فتحت طاقيته كانت قرعته حمراء راشحة. وكان الناس إذا لم تسعف النكتة عبد الغنى يجدون ى رأسه المتنفس، ويجذب الجرىء منهم طاقيته فتفج الحمرة من رأسه وتنهال عليه البصقات.

[Cleo]

غير أن ما حدث وجد فيه عبد الغنى ثروة ما بعدها ثروة، فراح يقلد الأسطى عبد الخالق الحلاق السمين الطويل ذى الشوارب، وهوممسك بحقيبته الخشبية التى فيها العدة ورافعا باليد الأخرى ذيله، والكرابيج تنهال عليه ولا يتطيع الجرى أو حتى التحرك.. وإنما يقول فى تهتهة عاتية مختنقة بالبكاء:

- مايصحش يا فندى.. يا فندى مايصحش..

وينفلت عبد الغنى فى براعة إلى عمك دعدور بائع السردين الذى نظره شيش بيش، والذى يصر دائما على التحدث بالمنطق والحجج والقانون، وعلى فلسفة كل ما يدور فى البلد من حادثات. وعبد الغنى كان حين يغمز دعدور لا يخلو فؤاده من بعض الحقد.. فقد كان الناس يضحكون فلسفة دعدور الساذجة أكثر من ضحكهم على نكات عبد الغنى المفتعلة التى يدافع بها عن نور رأسهز

وعلى غرة وجم الجالسون ولواقفون وكفوا عما هم فيه، حين همس الشحات فى صوت آمر:

- هس يا جدع.. أهم جم..

وما انتهى حتى كان الثلاثة يمرون أمامهم.

[Cleo]

.. وكانت هذه أول مرة تقع عليهم الأبصار فى وضح النهار, وسن كل واحد عينيه محاولا أن يلتهمهم بنظراته.. كان فيهم واحد طويل رفيع ملفوف كعامود التليفون، يبدو أبو عوف الجمال طفلا إذا وقف بجواره، وكان الثانى أقصر منه إنما له شلاضيم أعوذ بالله منها يبرز بينها ضب من الأسنان اللامعة البياض، وكأنها أصابع المذراة، وكان ثلثهم مبططا وعيناه يقدح منهما الشرر.. وكانت وجوههم فى سواد الهباب وحلكة ليالى أخر الشهر ويقطع سوادها تشريطات, وعلى كتف كل منهم بندقية وفى يده كرباج طويل تلتف حوله أسلاك نحاسية صفراء تنتهى بعقد غليظة، العقدة منها تطلع بقطعة لحم.

ومروا بلا سلام أو كلا وكأنهم فائتون على جبانة، وما كاد دعدور يفتح فمه يعلق على الموقف بعدما ابتعدوا حتى أقفله ثانية و أحكم الإقفال.. فقد عاد الثلاثة وفى عيونهم شر مستطير. ودون سابق إنذار ارتفعت الكرابيج مرة واحدة ثم دوت، بينما لكنتهم تقول فى حقد:

- على بيتك... يا بنت الكلب..

وكان الشاطر هو الذى أخذ ثوبه فى أسنانه وقال أخلوا لى الطريق. وفى غمضة عين لم يكن فى الشارع كله أنس واحد.. وجرى الثلاثة وراء الناس كالنحل الفائع وكانت وقعة الذى يقابلهم أسود من شعر رأسه.

ويومها نامت البلدة من العصر.

[Cleo]

ومر يومان وثلاثة و خمسة، ولا حديث للناس خلال الساعات التى يستطيعون فيها الحديث إلا عن الهجانة وما فعلوه. فالليلة دخلوا على الحاج مصطفى وهو يتعشى قلبوا الطبلية وضربوه ثم تسلقوا السطح وراء الحاجة فألهبوها وهى تجأر بالصراخ.

وفى الغد تتناقل الألسن ما حدث لعبد الحميد وامرأته حين أشرفت على الوضع وخرج غصبا عنه يحضر أم مخيمر الداية. وكيف ظلوا يضربونه حتى قال : إنى مرة..

وليلتها بات فى الدوار ووضعت امرأته وحدها واستمرت تنزف إلى أن جاءتها الإسعاف فى الصباح.

وإلا يوم قابلوا شيخ البلد وجف ريقه ووقف لسانه وهو يردد:

- أنا الشيخ.. أنا الشيخ.. أنا الشيخ..

يقولها ويرددها حتى والكرابيج تنهال عليه والهجانة تقول:

- شيكة إيه يا هرامية.. خش بيتك

وكل حديث من الأحاديث كان يزيد انكماش الواحد فى جلده فأصح لا هم لكل إنسان إلا أن ينهى ما فى يده ولزم داره. أما الذين كانوا يعملون فى البندر ويجيئون فى القطار فقد استغنى أكثرهم عن عمله وداروا فى القرية بلا عمل، والباقى فضل ألف مرة أن يبيت على أى وجه فى البندر ولو على الرصيف.

[Cleo]

وفى يوم السوق كانت تحكى قصة ويعقبها استنكار كثير، فقد ضربوا ليلتها مرسى أبو اسماعين. وصحيح أن مرسى لم يكن يملك قيراطا واحدا وليس فى حوزته فدان إيجار إنما كان ولد ولا كل الأولاد، كان ابن ليل.. قتل وسرق ونهب، وفى صدره العريض الراسخ ترقد قصص تشيب لها الولدان.. ومع هذا ففى البلد كان يعيش في حاله، وأدبه فى معاملة الناس مضرب الأمثال، كان يود المريض ويعزى فى الميت ويساعد الضعيف وينتقم للمظلوم ويقف لكل صغير و كبير، وكانت البلدة تفخر به إذا جاء مجال الفخر بين أبطال البلاد، ويروون عنه كيف لوى سيخ الحديد وكر المسمار ورفع كيس القطن وحده على الجمل. وعلى حسه كان الناس يتركون محاريثهم ومواشيهم فى الحقول.. وبعد كل هذا تضربه الهجانة؟ وتطلق النار عليه إرهابا حين حاول المقاومة؟ ثم تدك صدره بعد ذلك بدبشك البنادق وكعوب الأحذية؟

واضطر الناس فى النهاية أن يصدقوا حين كانوا يقاربون السوق ويمرون بالمركز، ويشاهدون أبة اسماعين قابضا على حديد النافذة كالأسد الجريح, وعادوا يومها من السوق وكل يقول لنفسه: ابعد عن الشر و غنيله.

[Cleo]

و كما تتهادى مياة الترعة لا يقلقها إلا موجات حانعة لا تكاد تشب حتى تموت، عاش التاس وقد رضوا بما كان وسلموا بما حدث، وما قد بقى فى استنكاف زال وانمحى ولم يعد إلا تسليم ذليل. حتى العمدة الذى كان كل بادرة تصل إليه فيسمعها ويجعل أذنا من طين وأخرى من عجين، قابلوه ذات ليلة فقال لهم إنه العمدة فردوا عليه:

- ولو.. خش بيتك.

ودخل بيته وأغلق الباب بالضبة و المفتاح دون أن يقول ثلث الثلاثة كام. وبلغت الحكاية الناس، وضحكوا فى سرهم على العمدة وتشفوا فيه وعرفوا أنه غلبان مثلهم ولا حول ولا قوة، وأنه لم يعد الحاكم الناهى فى البلد..

وتطلع الناس إل الحكام السود الجدد و بدءوا يتعرفون على أسماءهم و يخلطون بين حسن الطويل و جاسر القصير و سلطان الذى له عيون الذئب، ومضوا يتحسسون أخبارهم و يعدون عليهم كل ياكنة وواردة، ويعرفون يوما بيوم عند من سيأكلون ومن أى بيت من بيوت الأعيان سيحكل لهم عبد الفتاح الخفير الصينية الحافلة فوق رأسه..

وكان الصغار سباقين إلى تتبع ما يدور فى غرفة الهجانة، فكانوا يدسون أنظارهم خلال نوافذها ثم يزهقون من التطلع فيجرون وراء بعضهم وهم يقلدون أصوات العساكر و مشيتهم، ويستعيضون عن الاستغماية أثناء الليل بالجرى بالأطواق أثناء النهار، و يلحلفون على أباءهم حتى يشتروا لهم كرابيج مثل التى مع الهجانة. وحين لا يجدون فى إلحاحهم أملا يصنعونها من ذيول البهائم التى يذبحها أبو أحمد الجزار، وكذلم من أجزاء أخرى. وبدلا من الزجر الذى كانوا يلقونه من الأباء فى أول الأمر تساهل الأباء، بل تعدى الأمر حدود التساهل وتدخلت سيرة الكرابيج فيما كان يدور بين الرجال من أحاديث. كانت المجادلات لا تنتهى حول صنعها وحول البلاد التى تصنعها وهل هى مصر أم السودان.

وكان الطلبة والتلامذة الذين يقضون أجازتهم بالبلدة يسمعون الأحاديث ويسخرون من الجهل الذى يسودها ويتفضل واحد منهم ويصلح ما أفسده الجهل.

[Cleo]

ويتطرق الكلام إلى الهجانة أنفسهم، ويصغى الناس فى شىء من الإكبار إلى الأفندية وهم يسخرون بالحكام السود ويتفكهون عليهم ثم ينقلبون بجرأتهم على البلدة الجبانة التى تتمسح فى أحذية عساكر ثلاثة لا يساوى الواحد منهم مليلم أحمر.وكان الناس يعرفون سر سخط التلاميذ.. فقد منعت الأوامر الجديدة طوابيرهم التى كانت جوب البلاد غادية رائحة، وكذلك سهراتهم إلى نصف الليل على الميزانية الحجر، وجريهم وراء بعضهم فى دروب البلدة النائمة وتربصهم بالبنات.

وكان الناس يسمعون الكلام ويسكتون، فالمتاعب لا تنقصهم.. ولكن كان بعضهم لا يسكت، فالبدراوى محترف كتابة العرائض ولابلاغات مضى عليه أسبوع وله كل يوم عريضة وكل صبح بلاغ يفند فيه ما صنعه العساكر بالبلد. ولكنه حين عرف أن الهجانة قد عرفت بأمره نفض يده من الكتابة واندفع يتقرب إلبهم ويتلطف معهم ويرجع نسبه إلى دنقلة حيث جاءوا ويتطوع بإبلاغهم سرا ما يحدث وراء ظهورهم. ولم ينفعه كل هذا حين قابلته الهجانة التى لا تعرف عربى ذات ليلة وقد اطمأن إليى صداقتهم فجعلوه يعض الأرض وهو يستعرض تربة أجدادهم.

[Cleo]

وكانت البلدة حين يسلمها يوم كئيب إلى أخر أشد منه كآبه يزداد شعورها بأنها كانت فى نعمة وزالت، وأن الخراب قد حل, ويكاد محمود أبو حسين صاحب القهوة يخبط رأسه فى الحائط على رزقه المقطوع، وتجار الكيف معه ساخطون، والخفارء يصرون على أسنانهم ويكتمون فى أعماقهم وهم يتمنونمصيبة عاجلة تطيح بالهجانة.. وقد أصبحوا هم وشيخهم و عمدتهم دلاديل، وصار لزاما عليهم أن يقضوا الليل بطوله ساهرين. والدكاكين وقفت حالها، والعاملون البندر لا يجدون الخبز، ولا صلاة ولا عبادة ولا سهر، وإنما ضرب و إهانة ومسخرة.. وكأنما البلدة بأناسها عزبة أبيهم. و الحكايات تترى عن ركنتهم فى زقاق مبروكة، ومبروك تاجرة البيض العازبة، كانت الركنة فى زقاقها حدثا تتلاعب له الحواجب و تغمز العيون.

والناس فى صبرهم كالجمال تشهد وتسمع وتقاسى حين تحين اللحظة.

وقد حانت.

[Cleo]

كان مرسى أبو إسماعين قد مضت أيام على خروجه من الحجز، ولكنه لم يمكث فى البلدة إلا يوما واحدا ثم غادرها إلى حيث لا يعرف أحد. ويومها كان الناس يتدبرون فى ملل ماذا يطبخون ليلة النصف من شعبان. وفوجئ الذين خلفهم النهار فى البيوت بالهجانة وهم يجرون هنا وهناك هالعين. وما أثار جريانهم الخوف بقدر ما أثار الاستغراب.. فما كانوا يرتدون بدلهم أو أحذيتهم الثقيلة وليس فى أيديهم كرابيج، وإنما حفاة عراة وقد نكشت شعورهم السوداء الغامقة.

حسب الناس أن شيئا خطيرا قد حدث أو أن حريقا قد شب فلم يتملكوا أنفسهم وجرى البعض وراءهم. غير أن الخبر عرف فى النهاية، واتضح أن عبد السلام النجار هو الذى وقف لهم على رأس الشارع.. والوردانى هو الذى أحضر السلمين وربطهما معا ثم صنع منهما قنطرة وصلت حائط الدوار بحائط بين أبو حسن.. وبقية الرجال كانوا على السطح وكان مع عبد المجيد سكينة طويلة بحدين ومع الورادنى بلطة، ومع صالح ميزر، وكان مع أبو أحمد شمروخه الذى ما رفعه مرة إلا وكسر به رأسا.

[Cleo]

والمهم أن مرسى أبو اسماعين الشارب من لبن امه ، هو الذى تسلل وحده إلى الغرفة التى ينام فيها الهجانة فى النهار، وخرج حاملا بنادقهم.

وقص الرواة وشهود العيان ما جرى بعد ذلك. وكيف تذلل الطغاة إلى العمدة وكادوا يقبلون مداسه، وكيف بكى جاسر وهو يستعطف الرجل ويرجوه أن يعثر لهم على البنادق حتى لا يروحوا فى ألف داهية. واختلفت الروايات فى رد العمدة، ولكنها تافقت على أن الرجل استعبط عليهم، وأفهمهم أن الأمر قد خرج من يده، مع أنه يعرف وكل الناس يعرفون من هم أولاد الحلال الذين فعلوها.

ويسكت الرواة، فالبقية شاهدها كل الناس حين انقلب المركز والنيابة، وجاء ضباط من المديرية وارتبكت الدنيا، لم يتوقف التليفون عن الرنين

وانتى اليوم وقد سيق الهجانة محروسين.

[Cleo]

وحين أقبل الليل كان عشرة من أهل البلد قد غيبهم المركز. و المباحث تقص الثر وراء أبو اسماعين، والقهوة لا تزال مغلقة. والناس تتساءل فى قلق عما يحدث غدا، وهل يجىء هجانة أخرون أم يكتفى الحكام بالذى مضى؟

ورغم هذا فقد أوقد الناس المصابيح، ورأوا النور فى الليل ةقد اشتاقوا إلى النور، وأذن المغرب والعشاء وامتلأ الجامع بالمصلين، وانطلقت الضحكات لأتفه الأسباب وبلا أسباب، ولعب الطلبة الكرة فى ضوء القمر، وانتشرت مواكب الصغار تجوب القرية مهللة فرحانة وأحدهم يهتف بأغنية خارجة عن الهجانة والباقون يرددون، حتى الصبايا لم يخجلن فرحن يرددنها هن الاخريات، وتتوقف المواكب عند السامر الذى أحياه عبد الغنى وقد تحزم بمنديله وكشف رأسه عن عمد فبانت حمرته وهو يرقص، وعمك دعدور يطبل له على طشت النحاسن والشارع قد ازدحم بالضاحكين المصفقين وهم يرددون على عبد الغنى ويقولون

أهى ليلة يا جميل..

أهى ليلة والسلام..

- تمت -