اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

رجال حول الرسول


sha3ooor

Recommended Posts

خالد بن الوليد - لا ينام ولا يترك أحدا ينام

ان أمره لعجيب..!!

هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!

ألا فلنأت على قصته من البداية..

ولكن أية بداية..؟؟

انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..

ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ماسبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..

فلنبدأ معه اذنمن حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، وكلتا يديه يمي، فنفجّرت شوقا الى دينه، والى رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..

لقد خلا يوما الى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال:

" والله لقد استقام المنسم....

وان الرجل لرسول..

فحتى متى..؟؟

أذهب والله، فأسلم"..

ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:

".. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة، وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص، فقال مرحبا يا قوم،

قلنا: وبك..

قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.

فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..

فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..

وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..

فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان قبله..

قلت: يا رسول الله على ذلك..

فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..

وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله"...

أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟

ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..

وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..

أما الآن، فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..

مع خالد اذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجبا..!!!!

أتذكرون أنباء الثلاثة شهداؤ أبطال معركة مؤتة..؟؟

لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة..

لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..

وتذطرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:

" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.

ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا..

ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".

كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..

هذه البقيّة هي:

" ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".

فمن كان هذا البطل..؟

لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد، وجعفر وعبدالله ابن رواحة، والذين اساشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..

وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع الى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا بعثر الفوضى صفوفه..

ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد، قائلا له:

" خذ اللواء يا أبا سليمان"...

ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..

أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها اهل وبها جدير!!

هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:

" لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..

وأجابه ثابت:" خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته الا لك".

ثم نادى في المسلمين: اترضون امرة خالد..؟

قالوا: نعم..

واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا..

في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...

ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون، وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..

ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا..

وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الاسلام، والخروج ببقيته سالما، أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.

بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..

ولكن، اذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد، ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!

هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه، والقتال دائر، الى مجموعات، ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!

وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..

وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..

وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا..

ويدخل خالد مكة، واحدا من قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..

وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة..

ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..

وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..

مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا، يعودون اليه على صهوات جسادهم الصاهلة، وتحت رايات الاسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا، وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد...!!

كيف تمّت المعجزة..؟

أي تفسير لهذا الذي حدث؟

لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:

(وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!!

ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:

أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!

ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا، واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الاسلام..

ويظل خالد الى جانب رسول الله، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه، ونذر له كل حياته.

وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. ألي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!

وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل، وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..

عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه الا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان، وبين جيوش الضلال والردة، والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..

ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..

لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة، سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!

ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..

ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..

ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..

واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر..!!

عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..

ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..

ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..

وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:

" الى أين يا خليفة رسول الله..؟؟

اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:

لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."

وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..

وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..

ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:

" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..

ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة، ومن نصر الى مصر حتى كانت المعركة الفاصلة..

فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردو قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب.

وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا..

وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..

ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا..

والتقى الجيشان:

وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ، سير تلك المعركة الهائلة، تأخذك رهبة مضنية، اذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها زجبروتها معارك حروبنا الحديثة، وان تلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..

ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!

وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!

وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة..

ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..

رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا الى أقصاه.. فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة، ثم صاح بصوته المنتصر:

" امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ".

وامتازوا جميعا..

مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".

وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت عزما وروعة..

وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا، فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها..

وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!

لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..

وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة..

وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال، وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..

وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر، اذ منحهم هذا النصر، وهذا البطل..

وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..

امبرطوريتان خرعتان، تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب، بل وتسخرهم، وأكثرهم عرب، لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة، يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله، ويجتثون عفنه وفساده..!

هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..

ويمضي البطل الى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، اذن لرأينا من أمرها عجبا.

لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..

" بسم الله الرحمن الرحيم

من خالد بن الوليد.. الى مرازبة فارس..

يلام على من اتبع الهدى

أما بعد، فالحمد لله الذي فضّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم

من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا

اذا جاءكم كتابي فابعثوا اليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة

والا، فوالذي لا اله غيره لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!

وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّخوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق، فلم يضيّع وقته، وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.

في الأبلّة، الى السّدير، فالنّجف، الى الحيرة، فالأنبار، فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون.

أجل، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم، ويسومونهم سوء العذاب..

وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:

" لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء، دعوهم في شغلهم آمنين، الا أن يخرج بعضهم لقتالكم، فآنئذ قاتلوا المقاتلين".

وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..

وهناك دوّت أصوات المؤذنين، وتكبيرات الفاتحين.

ترى هل سمع الروم في الشام..؟

وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم، وعالمهم..؟

أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!

كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..

فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ثم معاوية بن أبي سفيان..

وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..

بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:

" والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..

وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل، وأ{بعين ألفا.

وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:

" والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!

وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك، تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام، ليكون أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته اليها..

وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع، فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز، وبين يدي المعركة واللقاء، وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:

" ان هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاور الامارة، فيكون أحدنا اليوم أميرا، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلكم"...

هذا يوم من أيام الله..

ما أروعها من بداية..!!

لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!

ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغممن أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..

اليوم أمير، ودغا أمي رثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..

كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..

لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..

ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!

ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:

" خالد لها".!!

وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".

فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!

عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..

ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما أخطأ التقدير والحساب..!!

كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..

كا انسحاب تنبأ به فعلوه..

وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالاسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..

وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد، هو الثبات..

وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...

من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..

وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:

" من يولّي هاربا فاقتلنه"..

وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!

وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..

وبرز اليه خالد، حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..

وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"

" قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..

فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون الى بلادكم، وفي العام القادم أبعث اليكم بمثلها".!!

وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..

وقرر أن يردذ عليه بجواب مناسب، فقال له:

" انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم، فجئنا لذلك"..!!

ولوة البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..

" الله أكبر"

" هبّي رياح الجنة"..

كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.

ودار قتال ليس لضراوته نظير..

وأقبل الروم في فيالق كالجبال..

وبجا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..

ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..

فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:

" اني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟

فيجيب أبو عبيدة:

" نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".

ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!

وهذا عكرمة بن أبي جهل..

أجل ابن أبي جهل..

ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:

" لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام، افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟

ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..

فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم،

فيستشهدون..!!

وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء الى أولهم، أشار الى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الامء، اشار بدوره لجاره. فلا انتقل اليه أشار بدوره لجاره..

وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!

أجل..

لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.

ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه:

" والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.

واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".

مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!

ولكن أي عجب؟؟

أليس مالء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير..؟؟

وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟

وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهدى ونبلا؟

وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟

وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر، والصفلف، والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟

أليس ذلك، كذلك..؟

اذن، هبي رياح النصر...

هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة...

لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.

وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:

" يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..

هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه، فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟

قال خالد: لا..

قال الرجل:

فبم سميّت يبف الله"؟

قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب.ز وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه..

فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت.. سيف الله".

قال القائد الرومي: والام تدعون..؟

قال خالد:

الى توحيد الله، والى الاسلام.

قال:

هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكممن المثوبة والأجر؟

قال خالد: نعم وأفضل..

قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟

قال خالد:

لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..

أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر اا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.

وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده الى ناحية خالد، ووقف بجواره:

علمني الاسلام يا خالد"".!!!

وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستيتا في طلب لبشهادة حتى نالها وظفر بها..!!

وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..

قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..

ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.

استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..

ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..

وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في السحبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..

وثمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..

وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..

ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف...

فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..

ان الامارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..

وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!

ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..

أبو بكر وعمر..

اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان..

وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة، لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..

ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ من الورع، ومن الاستقامة، ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..

لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..

ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال:

" ان في سيف خالد رهقا"

أي خفة وحدّة وتسرّع..

فأجابه الصدّيق قائلا:

" ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".

لم يقل عمر ان في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه، وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب، بل وعن تقديره لخالد أيضا..

وخالد رجل حرب من المهد الى اللحد..

فبيئته، ونشأته، وتربيته وحياه كلها، قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس، مخاطر، داهية..

ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ، جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..

وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له:

" يا رسول الله..

استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".

وعلى الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله، فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..

والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير منوهج بحرارة التطهر والتعويض، ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات، فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة، وحدّته الخاطفة..

وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.

فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:

" اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".

غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا الى الله بقوله:

" اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".

ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.

وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:

ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..

كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..

ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.

لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.

فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:

" يا عزّى كفرانك، لا سبحانك

اني رأيت الله قد أهانك"..!!

ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!

كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..

ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه..

والا.." كفرانك لا سبحانك..

اني رأيت الله قد أهانك"..!!

على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر، لوخلا سيف خالد من هذا الرهق، فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:

" عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!

لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.

نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..

أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟

أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:

" الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟

أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام..

ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..

وأنه ليقول:

" ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..

من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه...

هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى فتحها للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...

أميرا يحملشظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..

كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!

هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه:

" لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أ، رمية سهم..

ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"..!

كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل، شرع يملي وصيّته..

أتجرون الى من أوصى..؟

الى عمر بن الخطاب ذاته..!!

أتدرون ما تركته..؟

فرسه وسلاحه..!!

ثم ماذا؟؟

لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!!

ذلك أنه لم يكن يستحزذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.

وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..

شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..

سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:

" ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها، وأستنصر".

وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:

أنت خير من ألف ألف من القو م اذا ما كبت وجوه الرجال

أشجاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال

أجواد..؟ فأنت أجود من سي ل غامر يسيل بين الجبال

وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:

" صدقت..

والله ان كان لكذلك".

وثوى البطل في مرقده..

ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة، صامتة..

لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..

واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...

وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!

ثم مقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من آقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!

لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..

ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟

وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟

ايه يا بطل كل نصر..

ويا فجر كل ليلة..

لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:

" عند الصباح يحمد القوم السرى"..

حتى ذهبت عنك مثلا..

وهأنتذا، قد أتممت مسراك..

فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!

ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!!

ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:

" رحم الله أبا سليمان

ما عند الله خير مما كان فيه

ولقد عاش حميدا

ومات سعيدا

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

قيس بن سعد بن عبادة - أدهى العرب، لولا الاسلام

كان الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم..

وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا"..

ذلك أنه كان أجرد، ولم يكن ينقصه من صفات الزعامة في عرف قومه سوى اللحية التي كان الرجال يتوّجون بها وجوههم.

فمن هذا الفتى الذي ودّ قومه لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية تكسو وجهه، وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية، وزعامته المتفوقة..؟؟

انه قيس بن سعد بن عبادة.

من أجود بيوت لعرب وأعرقها.. البيت الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام:

" ان الجود شيمة أهل هذا البيت"..

وانه الداهية الذي يتفجر حيلة، ومهارة، وذكاء، والذي قال عن نفسه وهو صادق:

" لولا الاسلام، لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"..!!

ذلك أنه حادّ الذكاء، واسع الحيلة، متوقّد الذهن.

ولقد كان مكانه يوم صفين مع علي ضدّ معاوية.. وكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يمكن أن يؤدي بمعاوية وبمن معه في يوم أو ببعض يوم، بيد أنه يتفحص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكر السيء الخطر، ثم يذكر قول الله سبحانه:

( ولا يحيق المكر السوء الا بأهله)..

فيهبّ من فوره مستنكرا، ومستغفرا، ولسان حاله يقول:

" والله لئن قدّر لمعاوية أن يغلبنا، فلن يغلبنا بذكائه، بل بورعنا وتقوانا"..!!

ان هذا الأنصاري الخزرجي من بيت زعامة عظيم، ورث المكارم كابرا عن كابر.. فهو ابن سعد بن عبادة، زعيم الخزرج الذي سيكون لنا معه فيما بعد لقاء..

وحين أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس وقدّمه الى الرسول قائلا:

" هذا خادمك يا رسول الله"..

ورأى لرسول في قيس كل سمات التفوّق وأمائر الصلاح..

فأدناه منه وقرّبه اليه وظل قيس صاحب هذه المكانة دائما..

يقول أنس صاحب رسول الله:

" كان قيس بن سعد من النبي، بمكان صاحب الشرطة من الأمير"..

وحين كان قيس، قبل الاسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن، ولم يكن في المدينة وما حولها الا من يحسب لدهائه ألف حساب.. فلما أسلم، علّمه الاسلام أن يعامل الناس باخلاصه، لا بدهائه، ولقد كان ابنا بارّا للاسلام، ومن ثمّ نحّى دهاءه جانبا، ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية.. وصار كلما واجه موقعا صعبا، يأخذه الحنين الى دهائه المقيد، فيقول عبارته المأثورة:

" لولا الاسلام، لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"...!!

**

ولم يكن بين خصاله ما يفوق ذكائه سوى جوده.. ولم يكن الجود خلقا طارئا على قيس، فهو من بيت عريق في الجود والسخاء، كان لأسرة قيس، على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ، مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان الى طعامهم نهارا... أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا.. وكان الناس يومئذ يقولون:" من أحبّ الشحم، واللحم، فليأت أطم دليم بن حارثة"...

ودليم بن حارثة، هو الجد الثاني لقيس..

ففي هذا البيت العريق أرضع قيس الجود والسماح..

تحّث يوما أبا بكر وعمر حول جود قيس وسخائه وقالا:

" لو تركنا هذا الفتى لسخائه، لأهلك مال أبيه"..

وعلم سعد بن عبادة بمقالتهما عن ابنه قيس، فصاح قائلا:

" من يعذرني من أبي قحافة، وابن الخطّاب.. يبخلان عليّ ابني"..!!

وأقرض أحد اخوانه المعسرين يوما قرضا كبيرا..

وفي الموعد المضروب للوفاء ذهب الرجل يردّ الى قيس قرضه فأبى أن يقبله وقال:

" انا لا نعود في شيء أعطيناه"..!!

**

وللفطرة الانسانية نهج لا يتخلف، وسنّة لا تتبدّل.. فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة..

أجل ان الجود الحقيقي والشجاعة الحقيقية توأمان، لا يتخلف أحدهما عن الاخر أبدا.. واذا وجدت جودا ولم تجد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس جودا.. وانما هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر الزهو الأدّعاء... واذا وجدت شجاعة لا يصاحبها جود، فاعلم أنها ليست شجاعة، انما هي نزوة من نزوات التهوّر والطيش...

ولما كان قيس بن سعد يمسك أعنة الجود بيمينه فقد كان يمسك بذات اليمين أعنّة الشجاعة والاقدام..

لكأنه المعنيّ بقول الشاعر:

اذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

تألقت شجاعته في جميع المشاهد التي صاحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حيّ..

وواصلت تألقها، في المشاهد التي خاضها بعد أن ذهب الرسول الى الرفيق الأعلى..

والشجاعة التي تعتمد على الصدق بدل الدهاء.. وتتوسل بالوضوح والماوجهة، لا بالمناورة والمراوغة، تحمّل صاحبها من المصاعب والمشاق من يؤوده ويضنيه..

ومنذ ألقى قيس وراء ظهره، قدرته الخارقة على الدهاء والمناورة، وحمل هذا الطراز من الشجاعة المسفرة الواضحة، وهو قرير العين بما تسببه له من متاعب وما تجلبه من تبعات...

ان الشجاعة الحقة تنقذف من اقتناع صاحبها وحده..

هذا الاقتناع الذي لا تكوّنه شهوة أو نزوة، انما يكوّنه الصدق مع النفس، والاخلاص للحق...

وهكذا حين نشب الخلاف بين عليّ ومعاوية، نرى قيسا يخلوبنفسه، ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه، حتى اذا ما رآه مع عليّ ينهض الى جواره شامخا، قويا مستبسلا..

وفي معارك صفّين، والجمل، ونهروان، كان قيس أحد أبطالها المستبسلين..

كان يحمل لواء الأنصار وهو يصيح:

هذا اللواء الذي كنا نخفّ به

مع النبي وجبريل لنا مدد

ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته

ألا يكون له من غيرهم أحد

ولقد ولاه الامام عليّ حكم مصر..

وكانت عين معاوية على مصر دائما... كان ينظر اليها كأثمن درّة في تاجه المنتظر...

من أجل ذلك لم يكد يرى قيسا يتولى امارتها حتى جنّ جنونه وخشي أن يحول قيس بينه وبين مصر الى الأبد، حتى لو انتصر هو على الامام عليّ انتصارا حاسما..

وهكذا راح بكل وسائله الماكرة، وحيله التي لا تحجم عن أمر، يدسّ عند علي ضدّ قيس، حتى استدعاه الامام منمصر..

وهنا وجد قيس فرصة سعيدة ليستكمل ذكاءه استعمالا مشروعا، فلقد أدرك بفطنته أن معاوية لعب ضدّه هذه اللعبة بعد أن فشل في استمالته الى جانبه، لكي يوغر صدره ضدّ الامام علي، ولكي يضائل من ولائه له.. واذن فخير رد على دهاء معاوية هو المزيد من الولاء لعليّ وللحق الذي يمثله عليّ، والذي هو في نفس الوقت مناط الاقتناع الرشيد والأكيد لقيس بن سعد بن عبادة..

وهكذا لم يحس لحظة أن عليّا عزله عن مصر.. فما الولاية، وما الامارة، وما المناصب كلها عند قيس الا أدوات يخدم بها عقيدته ودينه.. ولئن كانت امارته على مصر وسيلة لخدمة الحق، فان موقفه بجوار عليّ فوق أرض المعركة وسيلة أخرى لا تقل أهميّة ولا روعة..

**

وتبلغ شجاعة قيس ذروة صدقها ونهاها، بعد استشهاد عليّ وبيعة الحسن..

لقد اقتنع قيس بأن الحسن رضي الله عنه، هو الوارث الشرعي للامامة فبايعه ووقف الى جانبه غير ملق الى الأخطار وبالا..

وحين يضطرّهم معاوية لامشاق السيوف، ينهض قيس فيقود خمسة آلاف من الذين حلقوا رؤوسهم حدادا على الامام علي..

ويؤثر الحسن أن يضمّد جراح المسلمين التي طال شحوبها، ويضع حدّا للقتال المفني المبيد فيفاوض معاوية ثم يبايعه..

هنا يدير قيس خواطره على المسألة من جديد، فيرى أنه مهما يكن في موقف الحسن من الصواب، فان لجنود قيس في ذمّته حق الشورى في اختيار المصير، وهكذا يجمعهم ويخطب فيهم قائلا:

" ان شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا، وان شئتم أخذت لكم أمانا:..

واختار جنوده الأمر الثاني، فأخذ لهم الامام من معاوية الذي ملأ الحبور نفسه حين رأى مقاديره تريحه من أقوى خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة...

وفي المدينة المنوّرة، عام تسع وخمسين، مات الداهية الذي روّض الاسلام دهاءه..

مات الرجل الذي كان يقول:

لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ب\يقول:

" المكر والخديعة في النار، لكنت من أمكر هذه الأمة"..

أجل.. ومات تاركا وراءه عبير رجل أمين على كل ما للاسلام عنده من ذمّة، وعهد وميثاق...

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

عمير بن وهب - شيطان الجاهلية، وحواريّ الاسلام

في يوم بدر، كان واحدا من قادة قريش الذين حملوا سيوفهم ليجهزوا على الاسلام.

وكان حديد البصر، محكم التقدير، ومن ثم ندبه قومه ليستطلع لهم عدد المسلمين الذين خرجوا مع الرسول للقائهم، ولينظر ان كان لهم من وزرائهم كمين أو مدد..

وانطلق عمير بن وهب الجمحيّ وصال بفرسه حول معسكر المسلمين، ثم رجع يقول لقومه:" انهم ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلا أ، ينقصون" وكان حدسه صحيحا.

وسألوه: هل وراءهم امتداد لهم؟؟ فأجابهم قائلا:

" لم أجد وراءهم شيءا.. ولكن يا معشر قريش، رأيت المطايا تحمل الموت الناقع.. قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ الا سيوفهم..

" والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فاذا أصابوا منكم مثل عددهم، فما خير العيش بعد ذلك..؟؟

" فانظروا رأيكم"..

وتأثر بقوله ورأيه نفر من زعماء قريش، وكادوا يجمعون رجالهم ويعودون الى مكة بغير قتال، لولا أبي جهل الذي أفسد عليهم رأيهم، وأضرم في النفوس نار الحقد، ونار الحربو التي كان هو أول قتلاها..

**

كان أهل مكة يلقبونه بـ شيطان قريش..

ولقد أبلى شيطان قريش يوم بدر بلاء لم يغن قومه شيئا، فعادت قوات قريش الى مكة مهزومة مدحورة، وخلّف عمير بن وهب في المدينة بضعة منه.. اذ وقع ابنه في أيدي المسلمين أسيرا..

وذات يوم ضمّه مجلس ابن عمّه صفوان بن أميّة.. وكان صفوان يمضغ أحقاده في مرارة قاتلة، فان أباه أميّة بن خلف قد لقي مصرعه في بدر وسكنت عظامه القليب.

جلس صفوان وعمير يجترّان أحقادهما..

ولندع عروة بن الزبير ينقل الينا حديثهما الطويل:

" قال صفوان، وهو يذكر قتلى بدر: والله ما في العيش بعدهم من خير..!

وقال له عمير: صدقت، ووالله لولا دين محمد عليّ لا أملك قضاءه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت الى محمد حتى أقتله، فان لي عنده علة أعتلّ بها عليه: أٌقول قدمت من أجل ابني هذا الأسير.

فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك.. أنا أقضيه عنك.. وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا..

فقال له عمير:اذن فاكتم شأني وشأنك..."

ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة.

وبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، اذ نظر عمر فرأى عمير بن وهب، قد أناخ راحلته على باب المسجد، متوشحا سيفه، فقال:

هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء الا لشرّ..

فهو الذي حرّش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر..

ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فال:

يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه..

قال صلى الله عليه وسلم:

أدخله عليّ.." فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار، ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فانه غير مأمون."

ودخل به عمر على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بحمّالة سيفه في عنقه فلما رآه الرسول قال: دعه يا عمر..

اذن يا عمير..

فدنا عمير وقال: انعموا صباحا، وهي تحيّة الجاهلية،

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام.. تحية أهل الجنة.

فقال عمير: أما والله يا محمد ان كنت بها لحديث عهد.

قال لرسول: فما جاء بك يا عمير..؟؟

قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم.

قال النبي: فما بال السيف في عنقك..؟؟

قال عمير: قبّحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا..؟!

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أصدقني يا عمير، ما الذي جئت له..؟

قال: ما جئت الا لذلك.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أميّة في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت، لولا دين عليّ، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك..!!!

وعندئذ صاح عمير: أشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أنك رسول الله.. هذا أمر لم يحضره الا أنا وصفوان، فوالله ما أنبأك به الا الله، فالحمد لله الذي هداني للاسلام..

فقال الرسول لأصحابه: فقّهوا أخاكم في الدين وأقرئه القرآن، وأطلقوا أسيره....!!

**

خكذا أسلم عمير بن وهب..

هكذا أسلم شيطان قريش، وغشيه من نور الرسول والاسلام ما غشيه فاذا هو في لحظة يتقلب الى حواريّ الاسلام..!!

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

" والذي نفسي بيده، ل**** كان أحبّ اليّ من عمير حين طلع علينا..

ولهو اليوم أحبّ اليّ من بعض ولدي"..!!

**

جلس عمير يفكّر بعمق في سماحة هذا الدين، وفي عظمة هذا الرسول:

ثم تذكر بلاءه يوم بدر وقتاله.

وتذكر أيامه الخوالي في مكة وهو يكيد للاسلام ويحاربه قبل هجرة الرسول وصحبه الى المدينة.

ثم هاهو ذا يجيء اليوم متوشحا سيفه ليقتل به الرسول.

كل ذلك يمحوه في لحظة من الزمان قوله:" لا اله الا الله، محمد رسول الله"..!!

أيّة سماحة، وأي صفاء، وأية ثقة بالنفس يحملها هذا الدين العظيم..!!

أهكذا في لحظة يمحو الاسلام كل خطاياه السالفة، وينسى المسلمون كل جرائره وعداواته السابقة، ويفتحون له قلوبهم، ويأخذونه بالأحضان..؟!

أهكذا والسيف الذي جاء معقودا على شرّ طوية وشرّ جريمة، لا يزال يلمع أمام أبصارهم، ينسي ذلك كله، ولا يذكر الآن الا أن عميرا باسلامه، قد أصبح احدا من المسلمين ومن أصحاب الرسول، له ما لهم.. وعليه ما عليهم..؟!!!

أهكذا وهو الذي ودّ عمر بن الخطاب منذ لحظتين أن يقتله، يصبح أحب الى عمر من ولده وبنيه..؟؟؟!!!

اذا كانت لحظة واحدة من الصدق، تلك التي أعلن فيها عمر اسلامه، تحظى من الاسلام بكل هذا التقدير والتكريم والمثوبة والاجلال، فان الاسلام اذن لهو دين عظيم..!!

**

وفي لحظات عرف عمير واجبه تجاه هذا الدين.. أن يخدمه بقدر ما حاربه، وان يدعو اليه، بقدر ما دعا ضدّه.. وأن يري الله ورسوله ما يحب الله ورسوله من صدق، وجهاد وطاعة.. وهكذا أقبل على رسول الله ذات يوم، قائلا:

" يا رسول الله: انب كنت جاهدا على اطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، واني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة، فأدعوهم الى الله تعالى، والى رسوله، والى الاسلام، لعلّ الله يهيدهم، والا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم"..

في تلك الأيام، ومنذ فارق عمير مكة متوجها الى المدينة كان صفوان بن أمية الذي اغرى عميرا بالخروج لقتل الرسول، يمشي في شوارع مكة مختالا، ويغشي مجالسها وندواتها فرحا محبورا..!

وكلما سأله قومه واخوته عن شسر فرحته ونشوته، وعظام أبيه لا تزال ساخنة في حظائر بدر، يفرك كفّيه في غرور يقول للناس:" أبشروا بوقعة يأتيكم نبأها بعد أيام تنسيكم وقعة بدر"..!

وكان يخرج الى مسارف مكة كل صباح يسأل القوافل والركبان:" ألم يحدث بالمدينةأمر".

وكانوا يجيبونه بما لا يحب ويرضى، فما منهم من أحد سمع أو رأى في المدينة حدثا ذا بال.

ولم ييأس صفوان.. بل ظلّ مثابرا على مساءلة الركبان، حتى لقي بعضهم يوما فسأله:" ألم يحدث بالمدينةأمر"..؟؟

فأجابه المسافر: بلى حدث أمر عظيم..!!

وتهللت أسارير صفوان وفاضت نفسه بكل ما في الدنيا من بهجة وفرح..

وعاد يسأل الرجل في عجلة المشتاق:" ماذا حدث اقصص عليّ".. وأجابه الرجل: لقد أسلم عمير بن وهب، وهو هناك يتفقه في الدين، ويتعلم القرآن"..!!

ودرات الأرض بصفوان.. والوقعة التي كان يبشر بها قومه، والتي كان ينتظهرا لتنسيه وقعة بدر جاءته اليوم في هذا النبأ الصاعق لتجعله حطاما..!!

**

وذات يوم بلغ المسافر داره.. وعاد عمير الى مكة شاهرا سيفه، متحفزا للقتال، ولقيه أول ما لقيه صفوان بن أمية..

وما كاد يراه حتى هم بمهاجمته، ولكن السيف المتحفز في يد عمير ردّه الى صوابه، فاكتفى بأن ألقى على سمع عمير بعض شتائمه ثم مضى لسبيله..

دخل عمير بن وهب مكة مسلما، وهو الذي فارقها من أيام مشركا، دخلها وفي روعة صورة عمر بن الخطاب يوم أسلم، ثم صاح فور اسلامه قائلا:

" والله لا أدع مكانا جلست فيه بالكفر، الا جلست فيه بالايمان".

ولكأنما اتخذ عمير من هذه الكلمات شعارا، ومن ذلك الموقف قدوة، فقد صمم على نذر حياته للدين الذي طالما حاربه.. ولقد كان في موقف يسمح له بأن ينزل الأذى بمن يريد له الأذى..

وهكذا راح يعوّض ما فاته.. ويسابق الزمن الى غايته، فيبشر بالاسلام ليلا ونهارا.. علانية واجهارا..

في قلبه ايمانه يفيض عليه أمنا، وهدى ونورا..

وعلى لسانه كلمات حق، يدعو بها الى العدل والاحسان والمعروف والخير..

وفي يمينه سيف يرهب به قطاع الطق الذين يصدّون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجا.

وفي بضعة أسابيع كان الذين هدوا الى الاسلام على يد عمير يفوق عددهم كل تقدير يمكن أن يخطر ببال.

وخرج عمير بهم الى المدينة في موكب طويل مشرق.

وكانت الصحراء التي يجتازونها في سفرهم لا تكتم دهشتها وعجبها من هذا الرجل الذي مرّ من قريب حاملا سيفه، حاثّا خطاه الى المدينة ليقتل الرسول، ثم عبرها مرّة أخرى راجعا من المدينة بغير الوجه الذي ذهب به يرتل القرآن من فوق ظهر ناقته المحبورة.. ثم ها هو ذا يجتازها مرة ثالثة على رأس موكب كبير من المؤمنين يملؤون رحابها تهليلا وتكبيرا..

**

أجل لنه لنبأ عظيم.. نبأ شيطان قريش الذي أحالته هداية الله الى حواريّ باسل من حوارييّ الاسلام، والذي ظلّ زاقفا الى جوار رسول الله في الغزوات والمشاهد، وظلّ ولاؤه لدين الله راسخا بعد رحيل الرسول عن الدنيا.

وفي يوم فتح مكة لم ينس عمير صاحبه وقريبه صفوان بن أمية فراح اليه يناشده الاسلام ويدعوه اليه بعد أن لم يبق شك في صدق الرسول، وصدق الرسالة..

بيد أن صفوان كان قد شدّ رحاله صوب جدّة ليبحر منها الى اليمن..

واشتدّ اشفاق عمير على صفوان، وصمم على أن يستردّه من يد الشيطان بكل وسيلة.

وذهب مسرعا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:

" يا نبيّ الله ان صفوان بن أميّة سيّد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فأمّنه صلى الله عليك،

فقال النبي: هو آمن.

قال رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة"..

ولندع عروة بن الزبير يكمل لنا الحديث:

" فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي.. الله الله في نفسك أن تهلكها.. هذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به..

قال له صفوان: ويحك، اغرب عني فلا تكلمني. قال: أي صفوان..فداك أبي وأمي، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس، وأبرّ الناس ، وأحلم الناس، وخير الانس.. عزّه عزّك، وشرفه شرفك..

قال: اني أخاف على نفسي..

قال: هوأحلم من ذاك وأكرم..

فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم..

فقال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم: ان هذا يزعم أنك أمّنتني..

قال السول صلى الله عليه وسلم: صدق..

قال صفوان: فاجعلني فيه بالخيار شهرين..

قال صلى الله عليه وسلم: أنت بالخيار أربعة أشهر".

وفيما بعد أسلم صفوان.

وسعد عمير باسلامه أيّما سعادة..

وواصل ابن وهب مسيرته المباركة الى الله، متبعا أثر الرسول العظيم الذي هدى الله به الناس من الضلالة وأخرجهم من الظلمات الى النور.

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

أبوالدرداء - أيّ حكيم كان

بينما كانت جيوش الاسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:

" ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند باريكم، وأنماها في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوّكم، فترضبوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير".؟؟

وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:

" أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟

ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الايمان والحكمة:

" ذكر الله...

ولذكر الله أكبر"..

**

لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية، ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...

أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل، وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، حتى جاء نصر الله والفتح..

بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ، كلما خلا الى التأمل، وأوى الى محراب الحكمة، ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟

ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء بها..

واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا، فقد آمن كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم، هو طريقه الأمثل والأوحد الى الحقيقة..

وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى نفسه، وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم، ورشد، وعظمة..

ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آته..

( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).

أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه، ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني، الذي جعل حياته، كل حياته لله رب العالمين..!!

**

والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟

ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟

انه ضياء الحكمة، وعبير الايمان..

ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا، أيّ سعيد..!!

سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:

" التفكر والاعتبار".

أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:

(فاعتبروا يا أولي الأبصار)...

وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:

" تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..

لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..

ويوم اقتنع بالاسلام دينا، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم، كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين، وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم، بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..

بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..

ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:

" أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..

وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..

فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.

وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..

ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..

ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!

أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها، وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟

انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟

يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤول، ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده، ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..

لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..

لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى، ويشارف به الحق في جلاله، والحقيقة في مشرقها، ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى، ومحظورات تترك، لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...

فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...

ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام، ويكفوا بها حاجات المسلمين..

ولكن منهج هؤلاء الأصحاب، لا يغمز منهج أبو الدرداء، كما أن منهجه لا يغمز منهجهم، فكل ميسّر لما خلق له..

وأبو الدرداء يحسّ احساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..

التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه، ورسوله والاسلام..

سمّوه ان شئتم تصوّفا..

ولكنه تصوّف رجل توفّر له فطنة المؤمن، وقدرة الفيلسوف، وتجربة المحارب، وفقه الصحابي، ما جعل تصوّفه حركة حيّة في ل\بناء الروح، لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!

أجل..

ذلك هو أبو الدرداء، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..

وذلكم هو أبو الدرداء، الحكيم، القدّيس..

ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه، وزادها بصدره..

رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها، وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة، والصواب، والخير، ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..

سعداء، أولئك الذين يقبلون عليه، ويصغون اليه..

ألا تعالوا نف\قترب من حكمته يا أولي الألباب..

ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..

انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:

( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله اخلده)...

ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:

" ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى"..

ويقول عليه السلام:

" تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فانه من كانت الدنيا أكبر همّه، فرّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله، وجعل غناه في قلبه، وكان الله اليه بكل خير أسرع".

من أجل ذلك، كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:

" اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب"..

سئل:

وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟

فأجاب:

أن يكون لي في كل واد مال"..!!

وهو يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء، فذلك شر ألوان العبودية والرّق.

هنالك يقول:

" من لم يكن غنيا عن الدنيا، فلا دنيا له"..

والمال عنده وسيلة للعيش القنوع تامعتدل ليس غير.

ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال، وأن يكسبوه في رفق واعتدال، لا في جشع وتهالك.

فهو يقول:

" لا تأكل الا طيّبا..

ولا تكسب الا طيّبا..

ولا تدخل بيتك الا طيّبا".

ويكتب لصاحب له فيقول:

".. أما بعد، فلست في شيء من عرض الدنيا، والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا، فأنت انما تجمع لواحد من اثنين:

اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله، فيسعد بما شقيت به..

واما ولد عاص، يعمل فيه بمعصية الله، فتشقى بما جمعت له،

فثق لهم بما عند الله من رزق، وانج بنفسك"..!

كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..

عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه، وتولى توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":

قال له:

" يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟

فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:

ويحك يا جبير..

ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..

بينما هي أمة، ظاهرة، قاهرة، لها الملك، تركت أمر الله، فصارت الى ما ترى"..!

أجل..

وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة، افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها، ودين صحيح يصلها بالله..

ومن هنا أيضا، كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان، وتضعف روابطهم بالله، وبالحق، وبالصلاح، فتنتقل العارية من أيديهم، بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!

**

وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه، كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..

دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوه نائما على فراش من جلد..

فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."

فأجابهم وهو يشير بسبّابته، وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:

" ان دارنا هناك..

لها نجمع.. واليها نرجع..

نظعن اليها. ونعمل لها"..!!

وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..

خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه، ولم يقبل خطبته، ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم، فزوّجها أبو الدرداء منه.

وعجب الناس لهذا التصرّف، فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:

" ما ظنّكم بالدرداء، اذا قام على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور..

أين دينها منها يومئذ"..؟!

هذا حكيم قويم النفس، ذكي الفؤاد..

وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها، ويولّه القلب بها..

وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..

فالسعادة الحقة عتده هي أن تمتلك الدنيا، لا أن تمتلكك أنت الدنيا..

وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود، كلما صنعوا هذا، كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..

وانه ليقول:

" ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..

وفي خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..

وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا، وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته، وزهده، وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..

وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..

وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..

فجمعهم أبو الدرداء، وقام فيهم خطيبا:

" يا أهل الشام..

أنتم الاخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء..

ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟

تجمعون ما لا تأكلون..

وتبنون ما لا تسكنون..

وترجون ما لا تبلّغون..

وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون، فيوعون..

ويؤمّلون، فيطيلون..

ويبنون، فيوثقون..

فأصبح جمعهم بورا..

وأماهم غرورا..

وبيوتهم قبورا..

أولئك قوم عاد، ملؤا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".

ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة، ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل، وصاح في سخرية لا فحة:

" من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!

رجل باهر، رائع، مضيء، حكمته مؤمنة، ومشاعره ورعة، ومنطقه سديد ورشيد..!!

العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير، وتعرّض لرحمة الله، وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:

انه يقول:

التمسوا الخير دهركم كله..

وتعرّضوا لنفجات رحمة الله، فان للله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..

" وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم"...

كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة، يحذّر منه الناس.

هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم، فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..

فلنستمع له ما يقول:

" مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين، أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة النغترّين"..

ويقول أيضا:

"لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..

ولا تحاسبوهم دون ربهم

عليكم أنفسكم، فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!

انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.

عليه أن يحمد الله على توفيقه، وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.

هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟

يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:

" مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا، والناس يسبّونه، فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟

قالوا بلى..

قال: فلا تسبّوه اذن، وحمدوا الله الذي عافاكم.

قالوا: أنبغضه..؟

قال: انما أبغضوا عمله، فاذا تركه فهو أخي"..!!

**

واذاكان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء، فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..

ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم، ويقدّسه كعابد فيقول:

" لا يكون أحدكم تقيا جتى يكون عالما..

ولن يكون بالعلم جميلا، حتى يكون به عاملا".

أجل..

فالعلم عنده فهم، وسلوك.. معرفة، ومنهج.. فكرة حياة..

ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم، نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل، والمكانة، والمثوبة..

ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..

ها هو ذا يقول:

" مالي أرى العلماء كم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..

ويقول أيضا:

" الناس ثلاثة..

عالم..

ومتعلم..

والثالث همج لا خير فيه".

وكما رأينا من قبل، لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.

يقول:

" ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر، هل علمت؟؟

فأقول نعم..

فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟

وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا، بل كان يدعو ربّه ويقول:

" اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."

قيل له:

وكيف تلعنك قلوبهم؟

قال رضي الله عنه:

" تكرهني"..!

أرأيتم؟؟

انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..

وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالاخاء خيرا، وتبنى علاقة الانسان بالانسان على أساس من واقع الطبيعة الانسانية ذاتها فيقول:

" معاتبة الأخ خير لك من فقده، ومن لك بأخيك كله..؟

أعط أخاك ولن له..

ولا تطع فيه حاسدا، فتكون مثله.

غدا يأتيك الموت، فيكفيك فقده..

وكيف تبكيه بعد الموت، وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟

ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..

يقول رضي الله عنه وأرضاه:

" اني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر، أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ الكبير"..!!

يل لعظمة نفسك، واشراق روحك يا أبا الدرداء..!!

انه يحذّر الناس من خداع الوهك، حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم، ومن بأسهم..!

ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون الى الله عز وجل بعجزهم، ويطرحون بين يديه قضيتهم، وهو أنهم على الناس..!!

هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!

هذا هو أبو الدرداء الزاهد، العابد، الأوّاب..

هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه، وسألوه الدعاء، أجابهم في تواضع وثيق قائلا:

" لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!

**

كل هذا، ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟؟

ولكن أي عجب، وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الاسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر، وبقيّة الرجال..!؟

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

أبو عبيدة بن الجرّاح - أمين هذه الأمة

من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه:

" ان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟

من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا اعمرو بن العاص، وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟

من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟

من هذا الطويل القامة النحيف الجسم، المعروق الوجه، الخفيف اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين..؟؟

أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه:

" لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت: استخافت أمين الله، وأمين رسوله"..؟؟

انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح..

أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للاسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم، وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر، وأحد، وبقيّة المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة.

**

عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن ينفق حياته في سبيل الله، كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث، في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية..

ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله، وهو لا يرى في نفسه، وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته، فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة..

ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب، رأى الرسول في مسلك ضميره، ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه،وأهداه اليه، فقال عليه الصلاة والسلام:

" أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجرّاح".

**

ان أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته، لهي أبرز خصاله.. فففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين، لا على احراز النصر في الحرب، بل قبل ذلك ودون ذلك، على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..

ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله..

وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل، ترقبانه في حرص وقلق..

وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!!

وفي احدى جولاته تلك، وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين، وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله، وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي، وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف، حتى فرّقهم عنه، وطار صواب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول:

" كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعهم الى ربهم"..؟

ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي، فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيّة، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيّة الثانية..

وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصدسق يصف لنا هذا المشهد بكلماته:

" لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر، أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم..

فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه..

ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم."!!

وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت، كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته..

فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة، والسفر بعيد، استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة، وراح هو وجنوده يقطعون الأرض، وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا، حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي، يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط، أي ورق الشجر بقسيّهم، فيسحقونه ويشربون عليه الامء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط..

لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان، ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!!

**

لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا...

ويوم جاء وفد نجلاان من اليمن مسلمين، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام، قال لهم رسول الله:

" لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين.. حق أمين"..!!

وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

" ما أحببت الامارة قط، حبّي اياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت الى الظهر مهجّرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني..

فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: أخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!

ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره..

انما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية، وهذا التقدير الكريم..

ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة، وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها..

وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا، عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا..

ولقد سار تحت راية الاسلام أنذى سارت، جنديّا، كأنه بفضله وباقدامه الأمير.. وأميرا، كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة المقاتلين..

وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد..

لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر، وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد، فطن، أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..

وآنئذ، تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!!

ويسأله خالد:

" يرحمك الله يا أبا عبيدة.ز ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟

فيجيبه أمين الأمة:

" اني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله اخوة".!!!

**

ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا..

فما كنت تحسبه حين تراه الا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..

وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..

فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، وأ/انته..

" يا أيها الناس..

اني مسلم من قريش..

وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه"..ّّ

حيّاك الله يا أبا عبيدة..

وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك..

مسلم من قريش، لا أقل ولا أكثر.

الدين: الاسلام..

والقبيلة: قريش.

هذه لا غير هويته..

أما هو كأمير الأمراء، وقائد لأكثر جيوش الاسلام عددا، وأشدّها بأسا، وأعظمها فوزا..

أما هو كحاكم لبلاد الشام،أمره مطاع ومشيئته نافذة..

كل ذلك ومثله معه، لا ينال من انتباهه لفتة، وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!!

**

ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام، ويسأل مستقبليه:

أين أخي..؟

فيقولون من..؟

فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح.

ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه الى داره، فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد الا سيفه، وترسه ورحله..

ويسأله عمر وهو يبتسم:

" ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟

فيجيبه أبو عبيدة:

" يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل"..!!

**

وذات يوم، وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤن عالمه المسلم الواسع، جاءه الناعي، أن قد مات أبو عبيدة..

وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع..

وغاض الدمع، ففتح عينيه في استسلام..

ورحّم على صاحبه، واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..

وأعاد مقالته عنه:

" لو كنت متمنيّا، ما تمنيّت الا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..

**

ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان..

زهناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل، كان مستقرا لروح خير، ونفس مطمئنة..

وسواء عليه، وعليك، أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف..

فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة الى من يقودك اليه..

ذلك أن عبير رفاته، سيدلك عليه..!!

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

خباب بن الأرت - أستاذ فنّ الفداء

خرج نفر من القرشيين، يغدّون الخطى، ميممين شطر دار خبّاب ليتسلموا منه سيوفهم التي تعاقدوا معه على صنعها..

وقد كان خباب سيّافا، يصنع السيوف ويبيعها لأهل مكة، ويرسل بها الى الأسواق..

وعلى غير عادة خبّاب الذي لا يكاد يفارق بيته وعمله، لم يجده ذلك النفر من قريش فجلسوا ينتظرونه..

وبعد حين طويل جاء خباب على وجهه علامة استفهام مضيئة، وفي عينيه دموع مغتبطة.. وحيّا ضيوفه وجلس..

وسألوه عجلين: هل أتممت صنع السيوف يا خباب؟؟

وجفت دموع خباب، وحل مكانها في عينيه سرور متألق، وقال وكأنه يناجي نفسه: ان أمره لعجب..

وعاد القوم يسألونه: أي أمر يا رجل..؟؟ نسألك عن سيوفنا، هل أتممت صنعها..؟؟

ويستوعبهم خبّاب بنظراته الشاردة الحالمة ويقول:

هل رأيتموه..؟ هل سمعتم كلامه..؟

وينظر بعضهم لبعض في دهشة وعجب..

ويعود أحدهم فيسأله في خبث:

هل رأيته أنت يا خبّاب..؟؟

ويسخر خبّاب من مكر صاحبه، فيردّ عليه السؤال قائلا:

من تعني..؟

ويجيب الرجل في غيظ: أعني الذي تعنيه..؟

ويجيب خبّاب بعد اذ أراهم أنه أبعد منالا من أن يستدرج، وأنه اعترف بايمانه الآن أمامهم، فليس لأنهم خدعوه عن نفسه، واستدرجوا لسانه، بل لأنه رأى الحق وعانقه، وقرر أن يصدع به ويجهر..

يجيبهم قائلا، وهو هائم في نشوته وغبطة روحه:

أجل... رأيته، وسمعته.. رأيت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتلألأ بين ثناياه..!!

وبدأ عملاؤه القرشيون يفهمون، فصاح به أحدهم:

من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أمّ أنمار..؟؟

وأجاب خبّاب في هدء القديسين:

ومن سواه، يا أخا العرب.. من سواه في قومك، من يتفجر من جوانبه الحق، ويخرج النور بين ثناياه..؟!

وصاح آخر وهبّ مذعورا:

أراك تعني محمدا..

وهز خبّاب رأسه المفعم بالغبطة، وقال:

نعم انه هو رسول الله الينا، ليخرجنا من الظلمات الى االنور..

ولا يدري خبّاب ماذا قال بعد هذه الكلمات، ولا ماذا قيل له..

كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة ليرى زوّاره قد انفضوا.. وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما، ودمه النازف يضمّخ ثوبه وجسده..!!

وحدّقت عيناه الواسعتان فيما حوله.. وكان المكان أضيق من أن يتسع لنظراتهما النافذة، فتحمّل على آلامه، ونهض شطر الفضاء وأمام باب داره وقف متوكئا على جدارها، وانطلقت عيناه الذكيتان في رحلة طويلة تحدّقان في الأفق، وتدوران ذات اليمين وذات الشمال..انهما لا تقفان عند الأبعاد المألوفة للناس.. انهما تبحثان عن البعد المفقود...أجل تبحثان عن البعد المفقود في حياته، وفي حياة الناس الذين معه في مكة، والناس في كل مكان وزمان..

ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من محمد عليه الصلاة والسلام اليوم، هو النور الذي يهدي الى ذلك البعد المفقود في حياة البشر كافة..؟؟

واستغرق خبّاب في تأمّلات سامية، وتفكير عميق.. ثم عاد الى داخل داره.. عاد يضمّد جراح جسده، ويهيءه لاستقبال تعذيب جديد،

وآلام جديدة..!!

ومن ذلك اليوم أخذ خبّاب مكانه العالي بين المعذبين والمضطهدين..

أخذ مكانه العالي بين الذين وقفوا برغم فقرهم، وضعفهم يواجهون كبرياء قريش وعنفها وجنونها..

أخذ مكانه العالي بين الذين غرسوا في قلوبهم سارية الراية التي أخذت تخفق في الأفق الرحيب ناعية عصر الوثنية، والقيصرية.. مبشرة بأيام المستضعفين والكادحين، الذين سيقفون تحت ظل هذه الراية سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل، وأذاقوهم الحرمان والعذاب..

وفي استبسال عظيم، حمل خبّاب تبعاته كرائد..

يقول الشعبي:

" لقد صبر خبّاب، ولم تلن له أيدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه"..!!

أجل كان حظ خبّاب من العذاب كبيرا، ولكن مقاومته وصبره كانا أكبر من العذاب..

لقد حوّل كفار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل خبّاب والذي كان يصنع منه السيوف.. حولوه كله الى قيود وسلاسل، كان يحمى عليها في النار حتى تستعر وتتوهج، ثم يطوّق بها جسده ويداه وقدماه..

ولقد ذهب يوما مع بعض رفاقه المضطهدين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا جوعين من التضحية، بل راجين العافية، فقالوا:" يا رسول الله.. ألا تستنصر لنا..؟؟" أي تسأل الله لنا النصر والعافية...

ولندع خبّابا يروي لنا النبأ بكلماته:

" شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرد له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا..؟؟

فجلس صلى الله عليه وسلم، وقد احمرّ وجهه وقال:

قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل، فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار، فيجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه..!!

وليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الله الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون"..!!

سمع خبّاب ورفاقه هذه الكلمات، فازداد ايمانهم واصرارهم وقرروا أن يري كل منهم ربّه ورسوله ما يحبّان من تصميم وصبر، وتضحية.

وخاض خبّاب معركة الهول صابرا، صامدا، محتسبا.. واستنجد القرشيون أم أنمار سيدة خبّاب التي كان عبدا لها قبل أن تعتقه، فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه..

وكانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب، وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخبّاب يتلوى من الألم، لكنه يكظم أنفاسه، حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاديه..!!

ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، والحديد المحمّى فوق رأسه يلهبه ويشويه، فطار قلبه حنانا وأسى، ولكن ماذا يملك عليه الصلاة والسلام يومها لخبّاب..؟؟

لا شيء الا أن يثبته ويدعو له..

هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء، وقال:

" اللهم أنصر خبّابا"..

ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل، كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين، ذلك أنها أصيبت بسعار عصيب وغريب جعلها كما يقول المؤرخون تعوي مثل الكلاب..!!

وقيل لها يومئذ لا علاج سوى أن يكوى رأسها بالنار..!!

وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحمّى يصبّحه ويمسّيه..!!

**

كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب.. وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية.. وكان خبّاب واحدا من أولئك الذين اصطفتهم المقادير لتجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء..

ومضى خبّاب ينفق وقته وحياته في خدمة الدين الذي خفقت أعلامه..

ولم يكتف رضي الله عنه في أيام الدعوة الأولى بالعبادة والصلاة، بل استثمر قدرته على التعليم، فكان يغشى بيوت بعض اخوانه من المؤمنين الذين يكتمون اسلامهم خوفا من بطش قريش، فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم اياه..

ولقد نبغ في دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية.. وسورة، سورة حتى ان عبدالله بن مسعود، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أراد أن يقرأ القرآن غصّا كما أنزل، فليقراه بقراءة ابن أم عبد"..

نقول:

حتى عبد الله بن مسعود كان يعتبر خبّابا مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة..

وهو الذي كان يدرّس القرآن لـ فاكمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد عندام فاجأهم عمر بن الخطاب متقلدا سيفه الذي خرج به ليصفي حسابه مع الاسلام ورسوله، لكنه لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة التي كان يعلّم منها خبّاب، حتى صاح صيحته المباركة:

" دلوني على محمد"...!!

وسمع خبّاب كلمات عمر هذه، فخرج من مخبئه الذي كان قد توارى فيه وصاح:

" يا عمر..

والله اني لأرجوا أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فاني سمعته بالأمس يقول: اللهم أعز الاسلام بأحبّ الرجلين اليك.. أبي الحكم بن هشام، وعمربن الخطاب"..

وسأله عمر من فوره: وأين أجد الرسول الآن يا خبّاب:

" عند الصفا، في دار الأرقم بن أبي الأرقم"..

ومضى عمر الى حظوظه الوافية، ومصيره العظيم..!!

**

شهد خبّاب بن الأرت جميع المشهد والغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش عمره كله حفيظا على ايمانه ويقينه....

وعندما فاض بيت مال لمسلمين بالمال أيام عمر وعثمان، رضي الله عنهما، كان خبّاب صاحب راتب كبير بوصفه من المهاجرين لسابقين الى الاسلام..

وقد أتاح هذا الدخل الوفير لخبّاب أن يبتني له دارا بالكوفة، وكان يضع أمواله في مكان ما من الدار يعرفه أصحابه وروّاده.. وكل من وقعت عليه حاجة، يذهب فيأخذ من المال حاجته..

ومع هذا فقد كان خبّاب لا يرقأ له جفن، ولا تجف له دمعة كلما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين بذلوا حياهم للله، ثم ظفروا بلقائه قبل أن تفتح الدنيا على المسلمين، وتكثر في أيديهم الأموال.

اسمعوه وهو يتحدث االى عوّاده الذين ذهبوا يعودونه وهو رضي الله عنه في مرض موته.

قالوا له:

أبشر يا أبا عبدالله، فانك ملاق اخواتك غدا..

فأجابهم وهو يبكي:

" أما انه ليس بي جزع .. ولكنكم ذكّرتموني أقواما، واخوانا، مضوا بأجورهم كلها ام ينالوا من الدنيا شيئا..

وانّا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا الا التراب"..

وأشار الى داره المتواضعة التي بناها.

ثم أشار مرة أخرى الى المكان الذي فيه أمواله وقال:

" والله ما شددت عليها من خيط، ولا منعتها من سائل"..!

ثم التفت الى كنفه الذي كان قد أعدّ له، وكان يراه ترفا واسرافا وقال ودموعه تسيل:

" أنظروا هذا كفني..

لكنّ حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجد له كفن يوم استشهد الا بردة ملحاء.... اذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، واذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه"..!!

**

ومات خبّاب في السنة السابعة والثلاثين للهجرة..

مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية..

وأستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام..!!

مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم، ويحييهم، عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، وللفراء من أمثال :خبّاب، وصهيب، وبلال يوما آخر.

فاذا القرآن العظيم يختص رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم، وتهل آياته قائلة للرسول الكريم:

( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟! أليس الله بأعلم بالشاكرين واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة)..

وهكذا، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراهم بعد نزول الآيات حتى يبالغ في اكرامهم فيفرش لهم رداءه، ويربّت على أكتافهم، ويقول لهم:

" أهلا بمن أوصاني بهم ربي"..

أجل.. مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي، وجيل التضحية...

ولعل خير ما نودّعه به، كلمات الامام علي كرّم الله وجهه حين كان عائدا من معركة صفين، فوقعت عيناه على قبر غضّ رطيب، فسأل: قبر من هذا..؟

فأجابوه: انه قبر خبّاب..

فتملاه خاشعا آسيا، وقال:

رحم الله خبّابا..

لقد أسلم راغبا.

وهاجر طاءعا..

وعاش مجاهدا..

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

نجوم زاهرة ..اللهم اجمعنا بهم فى جنات الخلد

جزى الله الكاتب و الناقل خيرا

اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته اللهم أنت تكشف المغرم والماثم، اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك.

0_bigone.gif

رابط هذا التعليق
شارك

خبيب بن عديّ - بطل.. فوق الصليب..!!

والآن..

افسحوا الطريق لهذا البطل يا رجال..

وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان..

تعالوا، خفاقا وثقالا..

تعاولوا مسرعين، وخاشعين..

وأقبلوا، لتلقنوا في الفداء درسا ليس له نظير..!!

تقولون: أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل لم تكن دروسا في الفداء ليس لها نظير..؟؟

أجل كانت دروسا..

وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل وعن النظير..

ولكنكم الآن أمام أستاذ جديد في فن التضحية..

أستاذ لوفاتكم مشهده، فقد فاتكم خير كثير، جدّ كثير..

الينا يا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد..

الينا يا عشاق السموّ من كل عصر وأمد..

وأنتم أيضا يا من أثقلكم الغرور، وظننتم بالأديان والايمان ظنّ السّوء..

تعالوا بغروركم..!

تعالوا وانظروا أية عزة، وأية منعة، وأي ثبات، وأيّ مضاء.. وأي فداء، وأي ولاء..

وبكلمة واحدة، أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها الايمان بالحق على ذويه المخلصين..!!

أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟

انه موضوع درسنا اليوم، يا كلّ بني الانسان...!

هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو الموضوع، وهو الدرس، وهو الاستاذ..

اسمه خبيب بن عديّ.

احفظوا هذا الاسم الجليل جيّدا.

واحفظوه وانشدوه، فانه شرف لكل انسان.. من كل دين، ومن كل مذهب، ومن كل جنس، وفي كل زمان..!!

**

انه من أوس المدينة وأنصارها.

تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر اليههم، وآمن بالله رب العالمين.

كان عذب الروح، شفاف النفس، وثيق الايمان، ريّان الضمير.

كان كما وصفه حسّان بن ثابت:

صقرا توسّط في الأنصار منصبه

سمح الشجيّة محضا غير مؤتشب

ولما رفعت غزوة بدر أعلامها، كان هناك جنديا باسلا، ومقاتلا مقداما.

وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه ابّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل.

وبعد انتهاء المعركة، وعودة البقايا المهزومة من قريش الى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم، وحفظوا جيدا اسم المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!!

**

وعاد المسلمون من بدر الى المدينة، يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد..

وكان خبيب عابدا، وناسكا، يحمل بين جبينه طبيعة الناسكين، وشوق العابدين..

هناك أقبل على العبادة بروح عاشق.. يقوم الليل، ويصوم الناهر، ويقدّس لله رب العالمين..

**

وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يبلو سرائر قريش، ويتبيّن ما ترامى اليه من تحرّكاتها، واستعدادها لغزو جديد.. فاهتار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت.

وانطلق الركب الى غايته حتى اذا بلغوا مكانا بين عسفان ومكة، نمي خبرهم الى حيّ من هذيل يقال لهم بنو حيّان فسارعوا اليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم، وراحوا يتعقبونهم، ويقتفون آثارهم..

وكادوا يزيغون عنهم، لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة، ثم صاح في الذين معه:

" انه نوى يثرب، فلنتبعه حتى يدلنا عليهم"..

وساروا مع النوى المبثوث على الأرض، حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون..

وأحس عاصم أمير العشرة أنهم يطاردون، فدعا أصحابه الى صعود قمة عالية على رأس جبل..

واقترب الرماة المائة، وأحاطوا بهم عند سفح الجبلو وأحكموا حولهم الحصار..

ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء.

والتفت العشرة الى أميرهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.

وانتظروا بما يأمر..

فاذا هو يقول:" أما أنا، فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك..

اللهم أخبر عنا نبيك"..

وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب أميرهم عاصم واستشهد، وأصيب معه سبعة واستشهدوا..

ونادوا الباقين، أنّ لهم العهد والميثاق اذا هم نزلوا.

فنزل الثلاثة: خباب بن عديّ وصاحباه..

واقترب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم، وبرطوهما بها..

ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر، فقرر أن يموت حيث مات عاصم واخوانه..

واستشهد حيث أراد..

وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين ايمانا، وأبرّهم عهدا، وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!!

وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من وثاقهما، ولكنه كان شديد الاحكام.

وقادهما الرماة البغاة الى مكة، حيث باعوهما لمشركيها..

ودوّى في الآذان اسم خبيب..

وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل بدر، تذكّروا ذلك الاسم جيّدا، وحرّك في صدورهم الأحقاد.

وسارعوا الى شرائه. ونافسهم على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم.

وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا يعدّون لمصير يشفي أحقادهم، ليس منه وحده، بل ومن جميع المسلمين..!!

وضع قوم أخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا..

**

أسلم خبيب قلبه، وأمره،ومصيره لله رب العالمين.

وأقبل على نسكه ثابت النفس، رابط الجأش، معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر، ويلاشي الهول.

كان الله معه.. وكان هو مع الله..

كانت يد الله عليه، يكاد يجد برد أناملها في صدره..!

دخلت عليه يوما احدى بنات الحارث الذي كان أسيرا في داره، فغادرت مكانه مسرعة الى الناس تناديهم لكييبصروا عجبا..

" والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من عنب يأكل منه..

وانه لموثق في الحديد.. وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة..

ما أظنه الا رزقا رزقه الله خبيبا"..!!

أجل آتاه الله عبده الصالح، كما آتى من قبل مريم بنت عمران، يوم كانت:

( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا..

قال يا مريم أنّى لك هذا

قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب)..

**

وحمل المشركون الى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي الله عنه.

ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه، ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه، وأنزل عليه سكينته ورحمته.

وراحوا يساومونه على ايمانه، ويلوحون له بالنجاة اذا ما هو كفر لمحمد، ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!!

أجل، كان ايما خبيب كالشمس قوة، وبعدا، ونارا ونورا..

كان يضيء كل من التمس منه الضوء، ويدفئ كل من التمس منه الدفء، أم الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه ويسحقه..

واذا يئسوا مما يرجون، قادوا البطل الى مصيره، وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه..

وما ان بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين، وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه واعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه..

وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام واخبات...

وتدفقت في روحه حلاوة الايمان، فودّ لو يظل يصلي، ويصلي ويصلي..

ولكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم:

" والله لاتحسبوا أن بي جزعا من الموت، لازددت صلاة"..!!

ثم شهر ذراعه نحو السماء وقال:

" اللهم احصهم عددا.. واقتلهم بددا"..

ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:

ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الاله وان يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع

ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب..

ولقد أعدّوا من جذوع النخل صليبا كبيرا أثبتوافوقه خبيبا.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم.

وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود امام البطل المصلوب..!!

لم يغمض عينيه، ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه.

وبدأت الرماح تنوشه، والسيوف تنهش لحمه.

وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش وقال له:

" أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك"..؟؟

وهنا لا غير انتفض خبيب كالاعصار وصاح، في قاتليه:

" والله ما أحبّ أني في اهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة"..

نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب اليوم.. مما جعل أبا سفيان، وكان لم يسلم بعد، يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!!

**

كانت كلمات خبيب هذه ايذانا للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها، فتناوشه في جنون ووحشية..

وقريبا من المشهد كانت تحومطيور وصقور. كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان وجبة شهيّة..

ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت، وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى.

وفجأة طارت تشق الفضاء، وتمضي بعيدا.. بعيدا..

لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب، فخدلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!!

مضت جماعة الطير الى رحاب الفضاء متعففة منصفة.

وعادت جماعة المشركين الى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية..

وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسويف..!!

كان خبيب عندما رفعوه الى جذوع النخل التي صنعوا منها صليبا، قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل الى ربه العظيم قائلا:

" اللهم انا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا"..

واستجاب الله دعاءه..

فبينما الرسول في المدينة اذ غمره احساس وثيق بأن أصحابه في محنة..

وتراءى له جثمان أحدهم معلقا..

ومن فوره دعا المقداد بن عمرو، والزبير بن العوّام..

فركبا فرسيهما، ومضيا يقطعان الأرض وثبا.

وجمعهما الله بالمكان المنشود، وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب، حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت ثراها الرطيب.

ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب.

ولعل ذلك أحرى به وأجدر، حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ، وفي ضمير الحياة، بطلا.. فوق الصليب..!!!

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

عمران بن حصين - شبيه الملائكة

عام خيبر، أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا..

ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول أصبحت يده اليمنى موضع تكريم كبير، فآلى على نفسه ألا يستخدمها الا في كل عمل طيّب، وكريم..

هذه الظاهرة تنبئ عما يتمتع به صاحبها من حسّ دقيق.

وعمران بن حصين رضي الله عنه صورة رضيّة من صور الصدق، والزهد، والورع، والتفاني وحب الله وطاعته...

وان معه من توفيق الله ونعمة الهدى لشيئا كثيرا، ومع ذلك فهو لا يفتأ يبكي، ويبكي، ويقول:

" يا ليتني كنت رمادا، تذروه الرياح"..!!

ذلك أن هؤلاء الرجال لم يكونوا يخافون الله بسبب ما يدركون من ذنب، فقلما كانت لهم بعد اسلامهم ذنوب..

انما كانوا يخافونه ويخشونه بقدر ادراكهم لعظمته وجلاله،وبقدر ادراكهم لحقيقة عجزهم عن شكره وعبادته، فمهما يضرعوا، ويركعوا، ومهما يسجدوا، ويعبدوا..

ولقد سأل أصحاب الرسول يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

" يا رسول الله، مالنا اذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا دنيانا، وكأننا نرى الآخرة رأي العين.. حتى اذا خرجنا من عندك، ولقينا أهلنا، وأولادنا، ودنيانا، أنكرنا أنفسنا..؟؟"

فأجابهم عليه السلام:

" والذي نفسي بيده، لو تدومون على حالكم عندي، لصافحتكم الملائكة عيانا، ولكن ساعة.. وساعة.

وسمع عمران بن حصين هذا الحديث. فاشتعلت أشواقه.. وكأنما آلى على نفسه ألا يقعد دون تلك الغاية الجليلة ولو كلفته حياته، وكأنما لم تقنع همّته بأن يحيا حياته ساعة.. وساعة.. فأراد أن تكون كلها ساعة واحدة موصولة النجوى والتبتل لله رب العالمين..!!

**

وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أرسله الخليفة الى البصرة ليفقه أهلها ويعلمهم.. وفي البصرة حطّ رحاله، وأقبل عليه أهلها مذ عرفوه يتبركون به، ويستضيؤن بتقواه.

قال الحسن البصري، وابن سيرين:

" ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بفضل عمران بن حصين"

كان عمران يرفض أن يشغله عن الله وعبادته شاغل، استغرق في العبادة، واستوعبته العبادة حتى صار كأنه لا ينتمي الى عالم الدنيا التي يعيش فوق أرضها وبين ناسها..

أجل..

صار كأنه ملك يحيا بين الملائكة، يحادثونه ويحادثهم.. ويصافحونه ويصافحهم..

**

ولما وقع النزاع الكبير بين المسلمين، بين فريق علي وفريق معاوية، لم يقف عمران موقف الحيدة وحسب، بل راح يرفع صوته بين الناس داعيا ايّاهم أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب، حاضنا قضية الاسلام خير محتضن.. وراح يقول للناس:

" لأن أرعى أعنزا حضنيات في رأس جبل حتى يدركني الموت، أحبّ اليّ من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم، أخطأ أم أصاب"..

وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلا:

" الزم مسجدك..

فان دخل عليك، فالزم بيتك..

فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله"..

**

وحقق ايمان عمران بن حصين أعظم نجاح، حين أصابه مرض موجع لبث معه ثلاثين عاما، ما ضجر منه ولا قال: أفّ..

بل كان مثابرا على عبادته قائما، وقاعدا وراقدا..

وكان اذا هوّن عليه اخوانه وعوّاده أمر علته بكلمات مشجعة، ابتسم لها وقال:

" ان أحبّ الأشياء الى نفسي، أحبها الى الله"..!!

وكانت وصيته لأهله واخوانه حين أدركه الموت:

" اذا رجعتم من دفني، فانحروا وأطعموا"..

أجل لينحروا ويطعموا، فموت مؤمن مثل عمران بن حصين ليس موتا، انما هو حف زفاف عظيم، ومجيد، تزف فيه روح عالية راضية الى جنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين...

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

أبو جابر عبدالله بن عمرو بن حرام - ظليل الملائكة

عندما كان الأنصار السبعون يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، كان عبدالله بن عمرو بن حرام، أبو جابر بن عبدالله أحد هؤلاء الأنصار..

ولما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم منهم نقباء، كان عبدالله بن عمرو أحد هؤلاء النقباء.. جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا على قومه من بني سلمة..

ولما عاد الى المدينة وضع نفسه، وماله، وأهله في خدمة الاسلام..

وبعد هجرة الرسول الى المدينة، كان أبو جابر قد وجد كل حظوظه السعيدة في مصاحبة النبي عليه السلام ليله ونهاره..

**

وفي غزوة بدر خرج مجاهدا، وقاتل قتال الأبطال..

وفي غزوة أحد تراءى له مصرعه قبل أن يخرج المسلمون للغزو..

وغمره احساس صادق بأنه لن يعود، فكاد قلبه يطير من الفرح!!

ودعا اليه ولد جابر بن عبدالله الصحابي الجليل، وقال له:

" اني لا أراي الا مقتولا في هذه الغزوة..

بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين..

واني والله، لا أدع أحدا بعدي أحبّ اليّ منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وان عليّ دبنا، فاقض عني ديني، واستوص باخوتك خيرا"..

**

وفي صبيحة اليوم التالي، خرج المسلمون للقاء قريش..

قريش التي جاءت في جيش لجب تغزو مدينتهم الآمنة..

ودارت معركة رهيبة، أدرك المسلمون في بدايتها نصرا سريعا، كان يمكن أن يكون نصرا حاسما، لولا أن الرماة الذين امرهم الرسول عليه السلام بالبقاء في مواقعهم وعدم مغادرتها أبدا أغراهم هذا النصر الخاطف على القرشيين، فتركوا مواقعهم فوق الجبل، وشغلوا بجمع غنائم الجيش المنهزم..

هذا الجيش الذي جمع فلوله شريعا حين رأى ظهر المسلمين قد انكشف تماما، ثم فاجأهم بهجوم خاطف من وراء، فتحوّل نصر المسلمين الى هزيمة..

**

في هذا القتال المرير، قاتل عبدالله بن عمرو قتال مودّع شهيد..

ولما ذهب المسلمون بعد نهاية القتال ينظرون شهدائهم.. ذهب جابر ابن عبداله يبحث عن أبيه، حتى ألفاه بين الشهداء، وقد مثّل به المشركون، كما مثلوا يغيره من الأبطال..

ووقف جابر وبعض أهله يبكون شهيد الاسلام عبدالله بن عمرو بم جرام، ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكونه، فقال:

" ابكوه..

أ،لا تبكوه..

فان الملائكة لتظلله بأجنحتها"..!!

**

كان ايمان أبو جابر متألقا ووثيقا..

وكان حبّه بالموت في سبيل الله منتهى أطماحه وأمانيه..

ولقد أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فيما بعد نبأ عظيم، يصوّر شغفه بالشهادة..

قال عليه السلام لولده جابر يوما:

" يا جابر..

ما كلم الله أحدا قط الا من وراء حجاب..

ولقد كلّم كفاحا _أي مواجهة_

فقالفقال له: يا عبدي، سلني أعطك..

فقال: يا رب، أسألك أن تردّني الى الدنيا، لأقتل في سبيلك ثانية..

قال له الله:

انه قد سبق القول مني: أنهم اليها لا يرجعون.

قال: يا رب فأبلغ من ورائي بما أعطيتنا من نعمة..

فأنزل الله تعالى:

(ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما أتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)".

**

وعندما كان المسلمون يتعرفون على شهدائهم الأبرار، بعد فراغ القتال في أحد..

وعندما تعرف أهل عبدالله بن عمرو على جثمانه، حملته زوجته على ناقتها وحملت معه أخاها الذي استشهد أيضا، وهمّت بهما راجعة الى المدينة لتدفنهما هناك، وكذلك فعل بعض المسلمين بشهدائهم..

بيد أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لحق بهم وناداهم بأمر رسول الله أن:

" أن ادفنوا القتلى في مصارعهم"..

فعاد كل منهم بشهيده..

ووقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يشرف على دفن أصحابه الشهداء، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبذلوا أرواحهم الغالية قربانا متواضعا لله ولرسوله.

ولما جاء دور عبدالله بن حرام ليدفن، نادى رسول الله صلى اله عليه وسلم:

" ادفنوا عبدالله بن عمرو، وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فانهما كانا في الدنيا متحابين، متصافين"..

**

والآن..

في خلال اللحظات التي يعدّ فيها القبر السعيد لاستقبال الشهيدين الكريمين، تعالوا نلقي نظرة محبّة على الشهيد الثاني عمرو بن الجموح...

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

عمرو بن الجموح - أريد أن أخطر بعرجتي في الجنة

انه صهر عبدالله بن حرام، اذ كان زوجا لأخته هند بن عمرو..

وكان ابن الجموح واحدا من زعماء المدينة، وسيدا من سادات بني سلمة..

سبقه الى الاسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار السبعين، أصحاب البيعة الثانية..

وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان للاسلام بين أهل المدينة في حماسة الشباب المؤمن الجريء..

وكان من عادة الناس هناك أن بتخذ الأشراف من بيوتهم أصناما رمزية غير تلك الأصنام الكبيرة المنصوبة في محافلها، والتي تؤمّها جموع الناس..

وعمرو بن الجموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من صنم عمرو بن جموح سخرية ولعبا..

فكانا يدلجان عليه ليلا، ثم يحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيه فضلاتهم..

ويصيح عمرو فلا يجد منافا في مكانه، ويبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة.. فيثور ويقول:

ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة..!؟

ثم يغسله ويطهره ويطيّبه..

فاذا جاء ليل جديد، صنع المعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعلان به كل ليلة.

حتى اذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه في عنق مناف وقال له: ان كان فيك خير فدافع عن نفسك..!!

فلما اصبح فلم يجده مكانه.. بل وجده في الحفرة ذاتها طريحا، بيد أن هذه المرة لم يكن في حفرته وحيدا، بل كان مشدودا مع كلب ميت في حبل وثيق.

واذا هو في غضبه، وأسفه ودهشه، اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين كانوا قد سبقوا الى الاسلام.. وراحوا، وهم يشيرون بأصابعهم الى الصنم المنكّس المقرون بكلب ميت، يخاطبون في عمرو بن الجموح عقله وقلبه ورشده، محدثينه عن الاله الحق، العلي الأعلى، الذي ليس كمثله شيء.

وعن محمد الصادق الأمين، الذي جاء الحياة ليعطي لا ليأخذ.. ليهدي، لا ليضل..

وعن الاسلام، الذي جاء يحرر البشر من الأعلال، جميع الأغلل، وجاء يحيى فيهم روح الله وينشر في قلوبهم نوره.

وفي لحظات وجد عمرو نفسه ومصيره..

وفي لحظات ذهب فطهر ثوبه، وبدنه.. ثم تطيّب وتأنق، وتألق، وذهب عالي الجبهة مشرق النفس، ليبايع خاتم المرسلين، وليأخذ مكانه مع المؤمنين.

**

قد يسأل سائل نفسه، كيف كان رجال من أمثال عمرو بن الجموح.. وهم زعماء قومهم وأشراف.. كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا الايمان..؟

وكيف لم تعصمهم عقولهم عن مثل هذا الهراء.. وكيف نعدّهم اليوم، حتى مع اسلامهم وتضحياتهم، من عظماء الرجال..؟

ومثل هذا السؤال يبدو ايراده سهلا في أيامنا هذه حيث لا نجد طفلا يسيغ عقله أن ينصب في بيته خشبة ثم يعبدها..

لكن في أيام خلت، كانت عواطف البشر تتسع لمثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم ونبوغهم حيلة تجاه تلك التقاليد..!!

وحسبنا لهذا مثلا أثينا..

أثينا في عصر باركليز وفيتاغورس وسقراط..

أثينا التي كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر الأباب، كان أهلها جميعا: فلاسفة، وحكاما، وجماهير يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي في البلاهة والسخرية!!

ذلك أن الوجدان الديني في تلك العصور البعيدة، لم يكن يسير في خط مواز للتفوق العقلي...

**

أسلم عمرو بن الجموح قلبه، وحياته لله رب العالمين، وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على الجود والسخاء، فان الاسلام زاد جوده مضاء، فوضع كل ماله في خدمة دينه واخوانه..

سأل الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال:

من سيّدكم يا بني سلمة..؟

قالوا: الجدّ بن قيس، على بخل فيه..

فقال عليه الصلاة والسلام:

وأي داء أدوى من البخل!!

بل سيّدكم الجعد الأبيض، عمرو بن الجموح..

فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريما لابن الجموح، أي تكريم..!

وفي هذا قال شاعر الأنصار:

فسوّد عمرو بن الجموح لجوده

وحق لعمرو بالنّدى أن يسوّدا

اذا جاءه السؤال أذهب ماله

وقال: خذوه، انه عائد غدا

وبمثل ما كان عمرو بن الجموح يجود بماله في سبيل الله، أراد أن يجود بروحه وبحياته..

ولكن كيف السبيل؟؟

ان في ساقه عرجا يجعله غير صالح للاشتراك في قتال.

وانه له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم رجال كالأسود، كانوا يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، ويثابرون على فريضة الجهاد..

ولقد حاول عمرو أن يخرج في غزوة بدر فتوسّل أبناؤه الى النبي صلى الله عليه وسلم كي يقنعه بعدم الخروج، أ، يأمره به اذا هو لم يقتنع..

وفعلا، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الاسلام يعفيه من الجهاد كفريضة، وذلك لعجزه الماثل في عرجه الشديد..

بيد أنه راح يلحّ ويرجو.. فأمره الرسول بالبقاء في المدينة.

**

وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو الى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل اليه أن يأذن له وقال له:

" يا رسول الله انّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد..

ووالله اني لأرجو أن، أخطر، بعرجتي هذه في الجنة"..

وأمام اصراره العظيم أذن له النبي عليه السلام بالخروج، فأخذ سلاحه، وانطلق يخطر في حبور وغبطة، ودعا ربه بصوت ضارع:

" اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني الى أهلي".

والتقى الجمعان يوم أحد..

وانطلق عمرو بن الجموح وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم جيوش الشرك والظلام..

كان عمرو بن الجموح يخطر وسط المعمعة الصاحبة، ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس الوثنية..

كان يضرب الضربة بيمينه، ثم يلتفت حواليه في الأفق الأعلى، كأنه يتعجل قدوم الملاك الذي سيقبض روحه، ثم يصحبها الى الجنة..

أجل.. فلقد سأل ربه الشهادة، وهو واثق أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له..

وهو مغرم بأن يخطر بساقه العرجاء في الجنة ليعلم أهلها أن محمدا رسول اله صلى الله عليه وسلم، يعرف كيف يختار الأصحاب، وكيف يربّي الرجال..!!

**

وجاء ما كان ينتظر.

ضربةسيف أومضت، معلنة ساعة الزفاف..

زفاف شهيد مجيد الى جنات الخلد، وفردوس الرحمن..!!

**

واذ كان المسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصلاة والسلام أمره الذي سمعناه من قبل:

" انظروا، فاجعلوا عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فانهما كانا في الدنيا متحابين متصافيين"..!!

**

ودفن الحبيبان الشهيدان الصديقان في قبر واحد، تحت ثرى الأرض التي تلقت جثمانيهما الطاهرين، بعد أن شهدت بطولتهما الخارقة.

وبعد مضي ست وأربعين سنة على دفنهما، نزل سيل شديد غطّى أرض القبور، بسبب عين من الماء أجراها هناك معاوية، فسارع المسلمون الى نقل رفات الشهداء، فاذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم:

" ليّنة أجسادهم..

تتثنى أطرافهم"..!

وكان جابر بن عبدالله لا يزال حيا، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبدالله بن عمرو بن حرام، ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح..

فوجدهما في قبرهما، كأنهما نائمان.. لم تأكل الأرض منهما شيئا، ولم تفارق شفاههما بسمة الرضا والغبطة التي كانت يوم دعيا للقاء الله..

أتعجبون..؟

كلا، لا تعجبوا..

فان الأرواح الكبيرة، التقية، النقية، التي سيطرت على مصيرها.. تترك في الأجساد التي كانت موئلا لها، قدرا من المناعة يدرأ عنها عوامل التحلل، وسطوة التراب..

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

أبو هريرة - ذاكرة عصر الوحي

صحيح أن ذكاء المرء محسوب عليه..

وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يتلقوا فيه الجزاء والشكران..!!

والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء..

فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها..

كان رضي الله عنه يجيد فنّ الاصغاء، وكانت ذاكرته تجيد فن الحفظ والاختزان..

يسمع فيعي، فيحفظ، ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر، وتعاقبت الأيام..!!

من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا لأحاديثه، وبالتالي أكثرهم رواية لها.

فلما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتخذوا أبا هريرة غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤول. لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذور حياتهم وكرّسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه.

هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام عن طريقه، وأن يحمّلوه وزرها وأذاها..!!

**

والآن.. عندما نسمع واعظا، أو محاضرا، أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة:" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..".

أقول: عندما تسمع هذا الاسم على هذه الصورة، أ، عندما تلقاه كثيرا، وكثيرا جدّا في كتب الحديث، والسيرة والفقه والدين بصفة عامة، فاعلم أنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة اغراء بالصحبة والاصغاء..

ذلك أن ثروته من الأحاديث الرائعة، والتوجيهات الحكيمة التي حفظها عن النبي عليه السلام، قلّ أن يوجد لها نظير..

وانه رضي الله عنه بما يملك من هذه الموهبة، وهذه الثروة، لمن أكثر الأصحاب مقدرة على نقلك الى تلك الأيام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والى التحليق بك، اذا كنت وثيق الايمان مرهف النفس، في تاك الآفاق التي شهدت روائع محمد وأصحابه، تعطي الحياة معناها، وتهدي اليها رشدها ونهاها.

واذا كانت هذه السطور قد حرّكت أشواقك لأن تتعرّف لأبي هريرة وتسمع من أنبائه نبأ، فدونك الآن وما تريد..

انه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة الاسلام بكل ما أحدثته من تغيرات هائلة.

فمن أجير الى سيّد..

ومن تائه في الزحام، الى علم وامام..!!

ومن ساجد أمام حجارة مركومة، الى مؤمن بالله الواحد القهار..

وهاهو ذا يتحدّث ويقول:

" نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا.. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني..!!

كنت أخدمهم اذا نزلوا، وأحدو لهم اذا ركبوا..

وهأنذا وقد زوّجنيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة اماما"..!

قدم على النبي عليه الصلاة والسلام سنة سبع وهو بخيبر، فأسلم راغبا مشتاقا..

ومنذ رأى النبي عليه الصلاة والسلام وبايعه لم يكد يفارقه قط الا في ساعات النوم..

وهكذا كانت السنوات الأربع التي عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم الى أن ذهب النبي الى الرفيق الأعلى.

نقول: كانت تلك السنوات الأربع عمرا وحدها.. كانت طويلة عريضة، ممتلئة بكل صالح من القول، والعمل، والاصغاء.

**

أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبير الذي يستطيع أن يخدم به دين الله.

ان أبطال الحرب في الصحابة كثيرون..

والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون.

ولكن البيئة والجماعة تفتقد الكتابة والكتّاب.

ففي تلك العصور، وكانت الجماعة الانسانية كلها، لا العرب وحدهم، لا يهتمون بالكتابة، ولم تكن الكتابة من علامات التقدم في مجتمع ما..

بل انّ أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غير بعيد.

وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارلمان أميّين لا يقرءون ولا يكتبون، مع أنهم في نفس الوقت كانوا على حظ كبير من الذكاء والمقدرة..

**

نعود الى حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام الى من يحفظن تراثه وتعاليمه، كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم قليلون، ثم ان بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكّنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث.

لم يكن أبا هريرة كاتبا، ولكنه كان حافظا، وكان يملك هذا الفراغ، أو هذا الفراغ المنشود، فليس له أرض يزرعها ولا تجارة يتبعها!!

وهو اذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا، عزم على أن يعوّض ما فاته، وذلك بأن يواظب على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مجالسته..

ثم انه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه، وهي ذاكرته الرحبة القوية، والتي زادت مضاء ورحابة وقوة، بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها أن يبارك الله له فيها..

فلماذا اذن لا يكون واحدا من الذين يأخذون على عاتقهم حفظ هذا التراث ونقله لللأجيال..؟؟

أجل.. هذا دوره الذي تهيئه للقيام به مواهبه، وعليه أن يقوم به في غير توان..

**

ولم يكن أبو هريرة ممن يكتبون، ولكنه كان كما ذكرنا سريع الحفظ قوي الذاكرة..

ولم تكن له أرض يزرعها، ولا تجارة تشغله، ومن ثمّ لم يكن يفارق الرسول في سفر ولا في حضر..

وهكذا راح يكرّس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته..

فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، راح أبو هريرة يحدث، مما جعل بعض أصحابه يعجبون: أنّى له كل هذه الحاديث، ومتى سمعها ووعاها..

ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة، وكانه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال:

" انكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم..

وتقولون: ان المهاجرين الذين سبقوه الى الاسلام لا يحدثون هذه الأحاديث..؟؟

ألا ان أصحابي من المهاجرين، كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق، وان أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم..

واني كنت أميرا مسكينا، أكثر مجالسة رسول الله، فأحضر اذا غابوا، وأحفظ اذا نسوا..

وان النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني..! فبسطت ثزبي فحدثني ثم ضممته اليّ فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه..

وأيم والله، لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا، وهي:

( ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)..".

هكذا يفسر أبو هريرة سر تفرّده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

فهو أولا كان متفرغا لصحبة النبي أكثر من غيره..

وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية، باركها الرسول فزادت قوة..

وهو ثالثا لا يحدّث رغبة في أن يحدّث، بل لأن افشاء هذه الأحاديث مسؤولية دينه وحياته، والا كان كاتما للخير والحق، وكان مفرطا ينتظره جزاء المفرّطين..

من أجل هذا راح يحدّث ويحدّث، لا يصدّه عن الحديث صادّ، ولا يعتاقه عائق.. حتى قال له عمر يوما وهو أمير المؤمنين:

" لتتركنّ الحديث عن رسول الله،أو لألحقنك بأرض دوس"..

أي أرض قومه وأهله..

على أن هذا النهي من أمير المؤمنين لا يشكل اتهاما لأبي هريرة، بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها ويؤكدها، تلك هي: أن على المسلمين في تلك الفترة بالذات ألا يقرؤوا، وألا يحفظوا شيئا سوى القرآن حتى يقرّ وثبت في الأفئدة والعقول..

فالقرآن كتاب الله، ودستور الاسلام، وقاموس الدين، وكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما في تلك التي أعقبت وفاته عليه الصلاة والسلام، والتي يجمع القرآن خلالها قد تسبب بلبلة لا داعي لها ولا جدوى منها..

من أجل هذا كان عمر يقول:

" اشتغلوا بالقرآن، فان القرآن كلام الله"..

ويقول:

" أقلوا الرواية عن رسول الله الا فيما يعمل به"..

وحين أرسل أبو موسى الأشعري الى العراق قال له:

" انك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ القرآن كدويّ النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالحديث، وأنا شريكك في ذلك"..

كان القرآن قد جمع بطريقة مضمونة دون أن يتسرب اليه ما ليس منه..

اما الأحاديث فليس يضمن عمر أن تحرّف أو تزوّر، أو تخذ سبيل للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنيل من الاسلام..

وكان أبو هريرة يقدّر وجهة نظر عمر، ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن أمانته، وكان لا يريد أن يكتم من الحديث والعلم ما يعتقد أن كتمانه اثم وبوار.

وهكذا.. لم يكن يجد فرصة لافراغ ما في صدره من حديث سنعه ووعاه الا حدّث وقال..

**

على أن هناك سببا هامّا، كان له دور في اثارة المتاعب حول أبي هريرة لكثرة تحدثه وحديثه.

ذلك أنه كان هناك يومئذ محدّث آخر يحدّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويكثر ويسرف، ولم يكن المسلمون الأصحاب يطمئنون كثيرا لأحاديثه ذلكم هو كعب الأحبار الذي كان يهوديا وأسلم.

**

أراد مروان بن الحكم يوما أن يبلو مقدرة أبي هريرة على الحفظ، فدعاه اليه وأجلسه معه، وطلب منه أن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حين أجلس كاتبه وراء حجاب، وأمره أن يكتب كل ما يقول أبو هريرة..

وبعد مرور عام، دعاه مروان بن الحكم مرة أخرى، أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي كان كاتبه قد سطرها، فما نسي أبو هريرة كلمة منها!!

وكان يقول عن نفسه:

" ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني، الا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص، فانه كان يكتب، ولا أكتب"..

وقال عنه الامام الشافعي أيضا:

" أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره".

وقال البخاري رضي الله عنه:

" روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود..

وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوّابين، يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله.. فيقوم هو ثلثه، وتقوم زوجته ثلثه، وتقوم ابنته ثلثله. وهكذا لا تمر من الليل ساعة الا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة!!

وفي سبيل أن يتفرّغ لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من قسوة الجوع ما لم يعاني مثله أحد..

وانه ليحدثنا: كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشدّ على بطمه حجرا ويعتصر كبده بيديه، ويسقط في المسجد وهو يتلوى حتى يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو بمصروع..!

ولما أسلم لم يكن يئوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة لم يكن رقأ له بسببها جفن..

كانت هذه المشكلة أمه: فانها يومئذ رفضت أن تسلم..

ليس ذلك وحسب، بل كلنت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء..

وذات يوم أسمعت أبا هريرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره، فانفضّ عنها باكيا محزونا، وذهب الى مسجد الرسول..

ولنصغ اليه وهو يروي لنا بقيّة النبأ:

".. فجئت الى رسول الله وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، كنت أدعو أم أبي هريرة الى الاسلام فتأبى علي، واني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبا هريرةالى الاسلام..

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة..

فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله، فلما أتيت الباب اذا هو مجاف، أي مغلق، وسمعت خضخضة ماء، ونادتني يا أبا هريرة مكانك..

ثم لبست درعها، وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول: أشهد أن لا اله الا الله، وأِهد أن محمدا عبده ورسوله..

فجئت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن، وقلت: أبشر يا رسول الله، فقد أجاب الله دعوتك..

قد هدى أم أبي هريرة الى الاسلام..

ثم قلت يا رسول الله: ادع الله أن يحبّبني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات..

فقال: اللهم حبّب عبيدك هذا وأمه الى كل مؤمن ومؤمنة"..

**

وعاش أبو هريرة عابدا، ومجاهدا.. لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة.

وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه امارة البحرين.

وعمر كما نعلم شديد المحاسبة لولاته.

اذا ولّى أحدهم وهو يملك ثوبين، فيجب أن يترك الولاية وهو لا يملك من دنياه سوى ثوبيه.. ويكون من الأفضل أن يتركها وله ثوب واحد..!!!

أما اذا خرج من الولاية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء، فآنئذ لا يفلت من حساب عمر، مهما يكن مصدر ثرائه حلالا مشروعا!

دنيا أخرى.. ملاءها همر روعة واعجازا..!!

وحين وليّ أبو هريرة البحرين ادّخر مالا، من مصادره الحلال، وعلم عمر فدعاه الى المدينة..

ولندع أبو هريرة يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع:

" قال لي عمر:

يا عدو الله وعدو كتابه، أسرقت مال الله..؟؟

قلت:

ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه،.. لكني عدو من عاداهما..

ولا أنا من يسرق مال الله..!

قال:

فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف..؟؟

قلت:

خيل لي تناسلت، وعطايا تلاحقت..

قال عمر: فادفعها الى بيت مال المسلمين"..!!

ودفع أبو هريرة المال الى عمر ثم رفع يديه الى السماء وقال:

اللهم اغفر لأمير المؤمنين"..

وبعد حين دعا عمر أبا هريرة، وعرض عليه الولاية من حديد، فأباها واعتذر عنها..

قال له عمر: ولماذا؟

قال أبو هريرة:

حتى لا يشتم عرضي، ويؤخذ مالي، ويضرب ظهري..

ثم قال:

وأخاف أن أقضي بغير علم

وأقول بغير حلم..

**

وذات يوم اشتد شوقه الى لقاء الله..

وبينما كان عوّاده يدعون له بالشفاء من مرضه، كان هو يلحّ على الله قائلا:

" اللهم اني أحب لقاءك، فأحب لقائي"..

وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة.

ولبن ساكني البقيع الأبرار ب\تبوأ جثمانه الوديع مكانا مباركا..

وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته، كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم.

ولعل واحدا من المسلمين الجدد كان يميل على صاحبه ويسأله:

لماذا كنّى شيخنا الراحل بأبي هريرة..؟؟

فيجيبه صاحبه وهو الخبير بالأمر:

لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، ولما أسلك سمّاه الرسول عبدالرحمن.. ولقد كان عطوفا على الحيوان، واكنت له هرة، يطعمها، ويحملها، وينظفها، ويؤويها.. وكانت تلازمه كظله..

وهكذا دعي: أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه..

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

أبيّ بن كعب - ليهنك العلم، أبا المنذر

سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:

" يا أبا المنذر..؟

أي آية من كتاب الله أعظم..؟؟

فأجاب قائلا:

الله ورسوله أعلم..

وأعاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سؤاله:

أبا المنذر..؟؟

أيّ أية من كتاب الله أعظم..؟؟

وأجاب أبيّ:

الله لا اله الا هو الحيّ القيّوم..

فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره بيده، وقال له والغبطة تتألق على محيّاه:

ليهنك العلم أبا المنذر"...

**

ان أبا المنذر الذي هنأه الرسول الكريم بما أنعم الله عليه من علم وفهم هو أبيّ بن كعب الصحابي الجليل..

هو أنصاري من الخزرج، شهد العقبة، وبدرا، وبقية المشاهد..

وبلغ من المسلمين الأوائل منزلة رفيعة، ومكانا عاليا، حتى لقد قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما:

" أبيّ سيّد المسلمين"..

وكان أبيّ بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي، ويكتبون الرسائل..

وكان في حفظه القرآن الكريم، وترتيله اياه، وفهمه آياته،من المتفوقين..

قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما:

" يا أبيّ بن كعب..

اني أمرت أن أعرض عليك القرآن"..

وأبيّ يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما يتلقى أوامره من الوحي..

هنالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشوة غامرة:

" يا رسول الله بأبي أنت وأمي.. وهل ذكرت لك بأسمي"..؟؟

فأجاب الرسزل:

" نعم..

باسمك، ونسبك، في الملأ الأعلى"..!!

وان مسلما يبلغ من قلب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة لهو مسلم عظيم جد عظيم..

وطوال سنوات الصحبة، وأبيّ بن كعب قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهل من معينه العذب المعطاء..

وبعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، ظلّ أبيّ على عهده الوثيق.. في عبادته، وفي قوة دينه، وخلقه..

وكان دائما نذيرا في قومه..

يذكرهم بأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماكانوا عليه من عهد، وسلوك وزهد..

ومن كلماته الباهرة التي كان يهتف بها في أصحابه:

" لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوهنا واحدة..

فلما فارقنا، اختلفت جوهنا يمينا وشمالا"..

**

ولقد ظل مستمسكا بالتقوى، معتصما بالزهد، فلم تستطع الدنيا أن تفتنه أو تخدعه..

ذلك أنه كان يرى حقيقتها في نهايتها..

فمهما يعيش المرء، ومهما يتقلب في المناعم والطيبات، فانه ملاق يوما يتحول فيه كل ذلك الى هباء، ولا يجد بين يديه الا ما عمل من خير، أو ما عمل من سوء..

وعن عمل الدنيا يتحدّث أبيّ فيقول:

" ان طعام ني آدم، قد ضرب للدنيا مثلا..

فان ملّحه، وقذحه، فانظر الى ماذا يصير"..؟؟

**

وكان أبيّ اذا تحدّث للناس استشرفته الأعناق والأسماع في شوق واصغاء..

ذلك أنه من الذين لم يخافوا في الله أحدا.. ولم يطلبوا من الدنيا غرضا..

وحين اتسعت بلاد الاسلام، ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم في غير حق، وقف يرسل كلماته المنذرة:

" هلكوا ورب الكعبة..

هلكوا وأهلكوا..

أما اني لا آسى عليهم، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين".

**

وكان على كثرة ورعه وتقاه، يبكي كلما ذكر الله واليوم الآخر.

وكانت آيات القرآن الكريم وهو يرتلها، أ، يسنعها، تهه وتهز كل كيانه..

وعلىأن آية من تلك الآيات الكريمة، كان اذا سمعها أو تلاها تغشاه من الأسى ما لا يوصف..

تلك هي:

( قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعا.. ويذيق بعضكم بأس بعض)..

كان أكثر ما يخشاه أبيّ على الأمة المسلمو أن يأتي عليها اليوم الذي يصير بأس أبنائها بينهم شديدا..

وكان يسأل الله العافية دوما.. ولقد أدركها بفضل من الله ونعمة..

ولقي ربه مؤمنا، وآمنا ومثابا..

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

عباد بن بشر - معه من الله نور

عندما نزل مصعب بن عمير المدينة موفدا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعلم الأنصار الذين بايعوا الرسول على الاسلام، وليقيم بهم الصلاة، كان عباد بن بشر رضي الله عنه واحدا من الأبرار الذين فتح الله قلوبهم للخير، فأقبل على مجلس مصعب وأصغى اليه ثم بسط يمينه يبايعه على الاسلام، ومن يومئذ أخذ مكانه بين الأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه..

وانتقل النبي الى المدينة مهاجرا، بعد أن سبقه اليها المؤمنون بمكة.

وبدأت الغزوات التي اصطدمت فيها قوى الخير والنور مع قوى الظلام والشر.

وفي تلك المغازي كان عباد بن بشر في الصفوف الأولى يجاهد في سبيل الله متفانيا بشكل يبهر الألباب.

**

ولعل هذه الواقعة التي نرويها الآن تكشف عن شيء من بطولة هذا المؤمن العظيم..

بعد أن فرغ رسول الله والمسلمين من غزوة ذات الرقاع نزلوا مكانا يبيتون فيه، واختار الرسول للحراسة نفرا من الصحابة يتناوبونها وكان منهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر في نوبة واحدة.

ورأى عباد صاحبه عمار مجهدا، فطلب منه أن ينام أول الليل على أن يقوم هو بالحراسة حتى يأخذ صاحبه من الراحة حظا يمكنه من استئناف الحراسة بعد أن يصحو.

ورأى عباد أن المكان من حوله آمن، فلم لا يملأ وقته اذن بالصلاة، فيذهب بمثوبتها مع مثوبة الحراسة..؟!

وقام يصلي..

واذ هو قائم يقرأ بعد فاتحة الكتاب سور من القرآن، احترم عضده سهم فنزعه واستمر في صلاته..!

ثم رماه المهاجم في ظلام الليل بسهم ثان نزعه وأنهى تلاوته..

ثم ركع، وسجد.. وكانت قواه قد بددها الاعياء والألم، فمدّ يمينه وهو ساجد الى صاحبه النائم جواره، وظل يهزه حتى استيقظ..

ثم قام من سجوده وتلا التشهد.. وأتم صلاته.

وصحا عمار على كلماته المتهدجة المتعبة تقول له:

" قم للحراسة مكاني فقد أصبت".

ووثب عمار محدثا ضجة وهرولة أخافت المتسللين، ففرّوا ثم التفت الى عباد وقال له:

" سبحان الله..

هلا أيقظتني أوّل ما رميت"؟؟

فأجابه عباد:

" كنت أتلو في صلاتي آيات من القرآن ملأت نفسي روعة فلم أحب أن أقطعها.

ووالله، لولا أن أضيع ثغرا أمرني الرسول بحفظه، لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها"..!!

**

كان عباد شديد الولاء والحب لله، ولرسوله ولدينه..

وكان هذا الولاء يستغرق حياته كلها وحسه كله.

ومنذ سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطبا الأنصار الذين هو منهم:

" يا معشر الأنصار..

أنتم الشعار، والناس الدثار..

فلا أوتيّن من قبلكم".

نقول منذ سمع عباد هذه الكلمات من رسوله، ومعلمه، وهاديه الى الله، وهو يبذل روحه وماله وحياته في سبيل الله وفي سبيل رسوله..

في مواطن التضحية والموت، يجيء دوما أولا..

وفي مواطن الغنيمة والأخذ، يبحث عنه أصحابه في جهد ومشقة حتى يجدوه..!

وهو دائما: عابد، تستغرقه العبادة..

بطل، تستغرقه البطولة..

جواد، يستغرقه الجود..

مؤمن قوي نذر حياته لقضية الايمان..!!

وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

" ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد:

" سعد بن معاذ..

وأسيد بن خضير..

وعبّاد بن بشر...

**

وعرف المسلمون الأوائل عبادا بأنه الرجل الذي معه نور من الله..

فقد كانت بصيرته المجلوّة المضاءة تهتدي الى مواطن الخير واليقين في غير بحث أو عناء..

بل ذهب ايمان اخوانه بنوره الى الحد الذي أسبغوا عليه في صورة الحس والمادة، فأجمعوا على ان عبادا كان اذا مشى في الظلام انبعثت منه أطياف نور وضوء، تضيء له الطريق..

**

وفي حروب الردة، بعد وفاة الرسول عليه السلام، حمل عباد مسؤولياته في استبسال منقطع النظير..

وفي موقعة اليمامة التي واجه المسلمون فيها جيشا من أقسى وأمهر الجيوش تحت قيادة مسيلمة الكذاب أحسّ عبّاد بالخطر الذي يتهدد الاسلام..

وكانت تضحيته وعنفوانه يتشكلان وفق المهام التي يلقيها عليه ايمانه، ويرتفعان الى مستوى احساسه بالخطر ارتفاعا يجعل منه فدائيا لا يحرص على غير الموت والشهادة..

**

وقبل أن تبدأ معركة اليمامة بيوم، رأى في منامه رؤيا لم تلبث أن فسرت مع شمس النهار، وفوق أرض المعركة الهائلة الضارية التي خاضها المسلمون..

ولندع صحابيا جليلا هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقص علينا الرؤيا التي رآها عبّاد وتفسيره لها، ثم موقفه الباهر في القتال الذي انتهى باستشهاده..

يقول أبو سعيد:

" قال لي عباد بن بشر يا أبا سعيد رأيت الليلة، كأن السماء قد فرجت لي، ثم أطبقت عليّ..

واني لأراها ان شاء الله الشهادة..!!

فقلت له: خيرا والله رأيت..

واني لأنظر اليه يوم اليمامة، وانه ليصيح بالأنصار:

احطموا جفون السيوف، وتميزوا من الناس..

فسارع اليه أربعمائة رجل، كلهم من الأنصار، حتى انتهوا الى باب الحديقة، فقاتلوا أشد القتال..

واستشهد عباد بن بشر رحمه الله..

ورأيت في وجهه ضربا كثيرا، وما عرفته الا بعلامة كانت في جسده..

**

هكذا ارتفع عباد الى مستوى واجباته كؤمن من الأنصار، بايع رسول الله على الحياة لله، والموت في سبيله..

وعندما رأى المعركة الضارية تتجه في بدايتها لصالح الأعداء، تذكر كلمات رسول الله لقومه الأنصار:

" أنتم الشعار..

فلا أوتيّن من قبلكم"..

وملأ الصوت روعه وضميره..

حتى لكأن الرسول عليه الصلاة والسلام قائم الآن يردده كلماته هذه..

وأحس عباد أن مسؤولية المعركة كلها انما تقع على كاهل الأنصار وحدهم.. أو على كاهلهم قبل سواهم..

هنالك اعتلى ربوة وراح يصيح:

" يا معشر الأنصار..

احطموا جفون السيوف..

وتميزوا من الناس..

وحين لبّى نداءه أربعمائة منهم قادهم هو وأبو دجانة والبراء ابن مالك الى حديقة الموت حيث كان جيش مسيلمة يتحصّن.. وقاتل البطل القتال اللائق به كرجل.. وكمؤمن.. وكأنصاري..

**

وفي ذلك اليوم المجيد استشهد عباد..

لقد صدقت رؤياه التي رآها في منامه بالأمس..

ألم يكن قد رأى السماء تفتح، حتى اذا دخل من تلك الفرجة المفتوحة، عادت السماء فطويت عليه، وأغلقت؟؟

وفسرّها هو بأن روحه ستصعد في المعركة المنتظرة الى بارئها وخالقها..؟؟

لقد صدقت الرؤيا، وصدق تعبيره لها.

ولقد تفتحت أبواب السماء لتستقبل في حبور، روح عبّاد بن بشر..

الرجل الذي كان معه من الله نور..!!

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

الاخ الفاضل

يا ترى هل يوجد ما نشرته بهذا الموضوع باى موقع على الانترنت؟ عدا موقع المحاورات حيث انى اواجه بعض المشكلات فى الدخول اليه فى بعض الاوقات وكنت اود ان اقرا الموضوع من اى موقع آخر .. وممكن حتى بعد ان تنتهى تماما من كتابة الموضوع تضع لينك لمكان وجوده على اى موقع على النت كى يكون السبق لموقع المحاورات ان احببت .. وشكرا لك ..

"أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونٌَ"

صدق الله العظيم

-----------------------------------

قال الصمت:

الحقائق الأكيده لا تحتاج إلى البلاغه

الحصان العائد بعد مصرع فارسه

يقول لنا كل شئ

دون أن يقول أى شئ

tiptoe.gif

مريد البرغوثى

رابط هذا التعليق
شارك

الاخت الفاضلة

بأذن الله بعد الانتهاء من الموضوع سأقوم بوضع الرابط الخاص بالموضوع .

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

شكرا جزيلا :rolleyes:

"أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونٌَ"

صدق الله العظيم

-----------------------------------

قال الصمت:

الحقائق الأكيده لا تحتاج إلى البلاغه

الحصان العائد بعد مصرع فارسه

يقول لنا كل شئ

دون أن يقول أى شئ

tiptoe.gif

مريد البرغوثى

رابط هذا التعليق
شارك

الزبير بن العوّام - حواريّ رسول الله

لا يجيء ذكر طلحة الا ويذكر الزبير معه..

ولا يجيء ذكر الزبير الا ويذكر طلحة معه..

فحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يؤاخي بين أصحابه في مكة قبل الهجرة، آخى بين طلحة والزبير.

وطالما كان عليه السلام يتحدث عنهما معا.. مثل قوله:

" طلحة والزبير جاراي في الجنة".

وكلاهما يجتمع مع الرسول في القرابة والنسب.

أما طلحة، فيجتمع في نسبه مع الرسول في مرة بن كعب.

وأما الزبير، فيلتقي في نسبه مع الرسول في قصّي بن كلاّب كما أن أمه صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم..

وكل منهما طلحة والزبير كان أكثر الناس شبها بالآخر في مقادير الحياة..

فالتماثل بينهما كبير، في النشأة، في الثراء، في السخاء، في قوة الدين، في روعة الشجاعة، وكلاهما من المسلمين المبكرين باسلامهم...

ومن العشرة الذين بشّرهم الرسول بالجتة. ومن أصحاب الشورى الستة الذين وكّل اليهم عمر اختيار الخليفة من بعده.

وحتى مصيرهما كان كامل التماثل.. بل كان مصيرا واحدا.

**

ولقد أسلم الزبير، اسلاما مبكرا، اذ كان واحدا من السبعة الأوائل الذين سارعوا الى الاسلام، وأسهموا في طليعته المباركة في دار الأرقم..

وكان عمره يومئذ خمس عشر سنة.. وهكذا رزق الهدى والنور والخير صبيا..

ولقد كان فارسا ومقداما منذ صباه. حتى ان المؤرخين ليذكرون أن أول سيف شهر في الاسلام كان سيف الزبير.

ففي الأيام الأولى للاسلام، والمسلمون يومئذ قلة يستخفون في دار الأرقم.. سرت اشاعة ذات يوم أن الرسول قتل.. فما كان من الزبير الا أن استلّ سيفه وامتشقه، وسار في شوارع مكة، على حداثة سنه كالاعصار..!

ذهب أولا يتبيّن الخبر، معتزما ان ما ألفاه صحيحا أن يعمل سيفه في رقاب قريش كلها حتى يظفربهم أو يظفروا به..

وفي أعلى مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله ماذا به....؟ فأنهى اليه الزبير النبأ.. فصلى عليه الرسول، ودعا له بالخير، ولسيفه بالغلب.

وعلى الرغم من شرف الزبير في قومه فقد حمل حظه من اضطهاد قريش وعذابها.

وكان الذي تولى تعذيبع عمه.. كان يلفه في حصير، ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه، ويناديه وهو تحت وطأة العذاب:" أكفر برب محمد، أدرأ عنك العذاب".

فيجيبه الزبير الذي لم يكن يوم ذاك أكثر من فتى ناشئ، غضّ العظام.. يجيب عمه في تحدّ رهب:

" لا..

والله لا أعود لكفر أبدا"...

ويهاجر الزبير الى الحبشة، الهجرتين الأولى والثانية، ثم يعود ليشهد المشاهد كلها مع رسول الله. لا تفتقده غزوة ولا معركة.

وما أكثر الطعنات التي تلقاها جسده واحتفظ بها بعد اندمال جراحاتها، أوسمة تحكي بطولة الزبير وأمجاده..!!

ولنصغ لواحد من الصحابة رأى تلك الأوسمة التي تزدحم على جسده، يحدثنا عنها فيقول:

" صحبت الزبير بن العوّام في بعض أسفاره ورأيت جسده، فرأيته مجذّعا بالسيوف، وان في صدره لأمثال العيون الغائرة من الطعن والرمي.

فقلت له: والله لقد شهدت بجسمك ما لم أره بأحد قط.

فقال لي: أم والله ما منها جراحة الا مع رسول الله وفي سبيل الله"..

وفي غزوة أحد بعد أن انقلب جيش قريش راجعا الى مكةو ندبه الرسول هو وأبو بكر لتعقب جيش قريش ومطاردته حتى يروا أن المسلمين قوة فلا يفكروا في الرجوع الى المدينة واستئناف القتال..

وقاد أبو بكر والزبير سبعين من المسلمين، وعلى الرغم من أنهم كانوا يتعقبون جيشا منتصرا فان اللباقة الحربية التي استخدمها الصديق والزبير، جعلت قريشا تظن أنها أساءت تقدير خسائر المسلمين، وجعلتها تحسب أن هذه الطليعة القوية التي أجاد الزبير مع الصديق ابراز قوتها، وما هي الا مقدمة لجيش الرسول الذي يبدو أنه قادم ليشن مطاردة رهيبة فأغذّت قريش سيرها، وأسرعت خطاها الى مكة..!!

ويوم اليرموك كان الزبير جيشا وحده.. فحين رأى أكثر المقاتلين الذين كان على رأسهم يتقهقرون أمام جبال الروم الزاحفة، صاح هو" الله أكبر".. واخترق تلك الجبال الزاحفة وحده، ضاربا بسيفه.. ثم قفل راجعا وسط الصفوف الرهيبة ذاتها، وسيف يتوهج في يمينه لا يكبو، ولا يحبو..!!

وكان رضي الله عنه شديد الولع بالشهادة، عظيم الغرام بالموت في سبيل الله.

وكان يقول:

" ان طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء، وقد علم ألا نبي بعد محمد...

واني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون".!

وهكذا سمى ولده، عبدالله بن الزبير تيمنا بالصحابي الشهيد عبدالله بن جحش.

وسمى ولده المنذر، تيمنا بالشهيد المنذر بن عمرو.

وسمى عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو.

وسمى حمزة تيمنا بالشهيد الجليل عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب.

وسمّى جعفر، تيمنا بالشهيد الكبير جعفر بن أبي طالب.

وسمى مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمير.

وسمى خالد تيمنا بالصحابي الشهيد خالد بن سعيد..

وهكذا راح يختار لأبنائه أسماء الشهداء. راجيا أن يكونوا يوم تأتيهم آجالهم شهداء.

ولقد قيل في تاريخه:

" انه ما ولي امارة فط، ولا جباية، ولا خراجا ولا شيئا الا الغزو في سبيل الله".

وكانت ميزته كمقاتل، تتمثل في في اعتماده التام على نفسه، وفي ثقته التامة بها.

فلو كان يشاركه في القتال مائة ألف، لرأيته يقاتل وحده في لمعركة.. وكأن مسؤولية القتال والنصر تقع على كاهله وحده.

وكان فضيلته كمقاتل، تتمثل في الثبات، وقوة الأعصاب..

رأى مشهد خاله حمزة يوم أحد وقد كثّل المشركون بجثمانه القتيل في قسوة، فوقف أمامه كالطود ضاغطا على أسنانه، وضاغطا على قبضة سيفه، لا يفكر الا في ثأر رهيب سرعان ما جاء الوحي ينهى الرسول والمسلمين عن مجرّد التفكير فيه..!!

وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع علي ابن أبي طالب، فوقف أمام الحصن المنيع يردد مع علي قوله:

" والله لنذوقنّ ما ذاق حمزة، أو لنفتحنّ عليهم حصنهم"..

ثم ألقيا بنفسيهما وحيدين داخل الحصن..

وبقوة أعصاب مذهلة، أحكما انزال الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا أبوابه للمسلمين..!!

ويوم حنين أبصر مالك بن عوف زعيم هوزان وقائد جيش الشرك في تلك الغزوة.. أبصره بعد هزيمتهم في حنين واقفا وسط فيلق من أصحابه، وبقايا جيشه المنهزم، فاقتحم حشدهم وحده، وشتت شملهم وحده، وأزاحهم عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض زعماء المسلمين، العائدين من المعركة..!!

**

ولقد كان حظه من حب الرسول وتقديره عظيما..

وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يباهي به ويقول:

" ان لكل نبي حواريا وحواريي الزبير ن العوّام"..

ذلك أنه لم يكن ابن عمته وحسب، ولا زوج أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، بل كان ذلك الوفي القوي، والشجاع الأبيّ، والجوّاد السخيّ، والبائع نفسه وماله لله رب العالمين:

ولقد أجاد حسان بن ثابت وصفه حين قال:

أقام على عهد النبي وهديه

حواريّه والقول بالفعل يعدل

أقام على منهاجه وطريقه

يوالي وليّ الحق، والحق أعدل

هو الفارس المشهور والبطل الذي

يصول، اذا ما كان يوم محجّل

له من رسول الله قربى قريبة

ومن نصرة الاسلام مجد موثّل

فكم كربة ذبّ الزبير بسيفه

عن المصطفى، والله يعطي ويجزل

**

وكان رفيع الخصال، عظيم الشمائل.. وكانت شجاعته وسخاؤه كفرسي رهان..!!

فلقد كان يدير تجارة رابحة ناجحة، وكان ثراؤه عريضا، ولكنه أنفقه في الاسلام حتى مات مدينا..!!

وكان توكله على الله منطلق جوده، ومنطلق شجاعته وفدائيته..

حتى وهو يجود بروحه، ويوصي ولده عبدالله بقضاء ديونه قال له:

" اذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي"..

وسال عبدالله: أي مولى تعني..؟

فأجابه: الله، نعم المولى ونعم النصير"..

يقول عبدالله فيما بعد:

" فوالله ما وقعت في كربة من دينه الا قلت: يا مولى الزبير اقضي دينه، فيقضيه".

وفي يوم الجمل، على النحو الذي ذكرنا في حديثنا السالف عن حياة سيدنا طلحة كانت نهاية سيدنا الزبير ومصيره..

فبعد أن رأى الحق نفض يديه من القتال، وتبعه نفر من الذين كانوا يريدون للفتنة دوام الاشتعال، وطعنه القاتل الغادر وهو بين يدي ربه يصلي..

وذهب القاتل الى الامام علي يظن أنه يحمل اليه بشرى حين يسمعه نبأ عدوانه على الزبير، وحين يضع بين يديه سءفه الذي استلبه أنه، بعد اقتراف ہريمته..

ءكن عليّا صاح حيہ علم أن بالباب آاتل الزبير يستأہن، صاح آمرا بطرأه قائلا:


وحين أدخلوا علءه سيف الزبير، قہّله الامام وأمعہ بالبكاء وهو يقآل:

&quot سيف طالما واللء جلا به صاحبه اءكرب عن رسول اللء"..!

أهناك تحيّة نآجهها للزبير في آتام حديثنا عنه،أجمل وأجزل من كءمات الامام..؟؟

سلام على ألزبير في مماته ہعد محياه..

سلام، ثم سلامپ على حواري رسولالله...

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

أبو موسى الأشعري - الاخلاص.. وليكن ما يكون

عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة، ليكون أميرها وواليها، جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:

" ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم، أعلمكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"..!!

وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم، فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير، أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم، فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..

فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:

" ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟

**

انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري..

غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة، ويأمر بمكارم الأخلاق..

وفي مكة، جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..

ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..

وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده، بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام، وأخوان شقيقان له، هم، أبو رهم، وأبو بردة..

وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..

ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..

وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه، فيقول فيهم وعنهم:

" ان الأشغريين اذا أرملوا في غزو، أو قلّ في أيديهم الطعام، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بالسويّة.

" فهم مني.. وانا منهم"..!!

ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين، الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته، وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها..

**

أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..

فهو مقاتل جسور، ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..

وهو مسالم طيب، وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!

وهو فقيه، حصيف، ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور، ويتألق في الافتاء والقضاء، حتى قيل:

" قضاة هذه الأمة أربعة:

" عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!

ثم هو مع هذا، صاحب فطرة بريئة، من خدعه في الله، انخدع له..!!

وهو عظيم الولاء والمسؤولية..

وكبير الثقة بالناس..

لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا، لكانت هذه العبارة:

" الاخلاص وليكن ما يكون"..

في مواطن الجهاد، كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلمي يقول عنه:

" سيّد الفوارس، أبو موسى"..!!

وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:

" خرجنا مع رسول الله في غزاة، نقبت فيها أقدامنا، ونقّبت قدماي، وتساقطت أظفاري، حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!

وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..

فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل، ويحسمها في عزم أكيد..

ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..

بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة..

ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة، وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!

**

وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس، كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..

وفي موقعة تستر بالذات، حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها، وجمع فيها جيوشا هائلة، كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..

ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين، على رأسهم عمار بن ياسر، والبراء بن مالك، وأنس بن مالك، ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..

واتقى الجيشان..

جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..

وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة..

وحاصرها المسلمون أياما طويلة، حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..

وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي، أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة، أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.

ولم تكد الأبواب تفتح، وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.

واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس، حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..

**

على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد، لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب، بكّاء وديع كالعصفور...

يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:

" لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!

كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:

" شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى"..

كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة، جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..

أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم، فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.

ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية، وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.

ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة، وهو موقفه من التحكيم بين الامام علي ومعاوية.

هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أبي موسى في الطيبة الى حد يسهل خداعه.

بيد أن الموقف كما سنراه، وبرغم ما عسى أن يكون فيه تسرّع أو خطأ، انما يكشف عن عطمة هذا الصحابي الجليل، عظمة نفسه، وعظمة ايمانه بالحق، وبالناس، ان راي أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا، كل فريق يتعصب لامام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.

نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ، كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.

ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم، فليتنازل الامام علي عن الخلافة مؤقتا، وليتنازل عنها معاوية، على أن يرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.

هكذا ناقش أبو موسى القضية، وهكذا كان حله.

صحيح أن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.

وصحيح أن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي أن يمكّن من غرضه في اسقاط الحق المشروع. بيد أن الأمور في النزاع بين الامام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام، في رأي أبي موسى، قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية، لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..

بل ان ذلك كله تطوّر الى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.

فازاحة أسباب النزاع والحرب، وتنحية أطرافه، مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..

ولقد كان من رأي الامام علي حينما قبل مبدأ التحكيم، أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس، أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.

وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية، بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..

ولم يكن في دين أبي موسى، ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب الامام.. لكنه كان يدرك موايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة، ويحب أن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الامام علي أن ينخدع أبو موسى للآخرين، ويتحول التحكيم الى مناورة من جانب واحد، تزيد الأمور سوءا...

**

بدأ التحيكم بين الفريقين..

أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الامام علي..

وعمرو بن العاص، يمثل جانب معاوية.

والحق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.

ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين، الأشعري، وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو أن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى اعلانه خليفة للمسلمين، وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من اجماع رائع على حبه وتوقيره واجلاله.

ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..

ان مغزى اقتراح أبي موسى، أنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الامام علي..

ومعناه أيضا أنه مستعد لاسناد الخلافة الى آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقترح عبدالله بن عم..

وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح الى غايته، فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.

ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فانه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام الى وجهة أسلم، فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا، وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم، فيجب أن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..

وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجليا لصالح معاوية..

ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:

أبو موسى: يا عمرو، هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟

عمرو: وما هو..؟

أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر، فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.

عمرو: وأين أنت من معاوية..؟

أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.

عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلموا..؟

أبو موسى: بلى..

عمرو: فان معاوية وليّ دم عثمان، وبيته في قريش ما قد علمت. فان قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا. تقول: اني وجدته ولي عثمان، والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا، اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أصحابه..

أبو موسى: اتق الله يا عمرو..

أمّا ما ذكرت من شرف معاوية، فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟

وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان، فأولى منه عمرو بن عثمان..

ولكن ان طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره، بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..

عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟

أبو موسى: ان ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا، فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..

عمرو: يا أبا موسى، انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر..!!

أبو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد أسندوا الينا الأمر بعد أن تقارعوا السيوف، وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة.

عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى أن نخلع الرجلين، عليّا ومعاوية، ثم نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من يحبوا..

عمرو: رضيت بهذا الرأي فان صلاح النفوس فيه..

ان هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا أن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..

ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..

بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..

فعندما أراد عمرو أن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش، وولايته لدم عثمان، جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..

اذا كانت الخلافة بالشرف، فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..

واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه، فابن عثمان رضي الله عنه، اولى بهذه الولاية من معاوية..

**

لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده..

فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة، تقول كلمتها وتخنار خليفتها..

ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..

ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة، سيلجأ الى المناورة، هما يكن اقتناعه بمعاوية..

ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..

حذره من مناورات عمرو وقال له:

" أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك، فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم أنت بعده"..!

لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو، ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..

واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي، وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..

ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:

" ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!

وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.

وقال:

" أيها الناس.. انا قد نظنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة، ويصلح أمرها، فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية، وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..

واني قد خلعت عليا ومعاوية..

فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...

وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية، كما خلع أبو موسى عليا، تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس...

وصعد عمرو المنبر، وقال:

" أيها الناس، ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه،

ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.."!!

ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة، فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..

وعاد من جديد الى عزلته، وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام، يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..

كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه، وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم...

ففيحياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..

وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم..

وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..

وولاه الخليفة عثمان الكوفة..

**

وكان من أهل القرآن، حفظا، وفقها، وعملا..

ومن كلماته المضيئة عن القرآن:

" اتبعوا القرآن..

ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!!

وكان من اهل العبادة المثابرين..

وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس، كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:

" لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..

**

وذات يوم رطيب جاءه أجله..

وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز

والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة، راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.ز

تلك هي:

" اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

أبو أيوب الأنصاري - انفروا خفافا وثقالا

كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة، ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..

وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة، ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..

وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف، فاعترضوا طريق الناقة قائلين:

" يا رسول الله، أقم عندنا، فلدينا العدد والعدة والمنعة"..

ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:

" خلوا سبيلها فانها مأمورة".

ويبلغ الموكب دور بني بياضة، فحيّ بني ساعدة، فحي بني الحارث بن الخزرج، فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة، وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:

" خلوا سبيلها فانها مأمورة..

لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه الى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. والى جواره ستقوم حجرة أو حدرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف، أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم، ورسول جاء لينفخ الحياة في روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم للله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسجون.

أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..

من اجل هذا، ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله، فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه الى الله بقلبه، وابتهل اليه بلسانه:

" اللهم خر لي، واختر لي"..

وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان، ثم عادت الى مبركها الأول، وألأقت جرانها. واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن والبركة..

أتدرون من كان هذا السعيدالموعود الذي بركت الناقة أمام داره، وصار الرسول ضيفه، ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟

انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، حفيد مالك بن النجار..

لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله..

فمن قبل، وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـ بيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين، مناصرين.

والآن رسول الله يشرف المدينة، ويتخذها عاصكة لدين الله، فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم، والرسول الكريم.

ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد الى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة، ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما، وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!!

وراح يلح على النبي ويرجوه ان ينتقل الى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..

ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد، وبناء حجرة له بجواره..

ومنذ بدأت قريش تتنمّر للاسلام وتشن اغاراتها على دار الهجرة بالمدينة، وتؤلب القبائل، وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله..

منذ تلك البداية، واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.

ففي بدر، وأحد والخندق، وفي كل المشاهد والمغازي، كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله ربو العالمين..

وبعد وفاة الرسول، لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها، مهما يكن بعد الشقة، وفداحة المشقة..!

وكان شعاره الذي يردده دائما، في ليله ونهاره.. في جهره واسراره.. قول الله تعالى:

( انفروا خفافا وثقالا)..

مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين، ولم يقتنع أبو أ]وب بامارته.

مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه، ويقول:

" ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟

ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!

كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الاسلام، يقاتل تحت رايته، ويذود عن حرمته..

ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية، وقف مع علي في غير تردد، لأنه الامام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة خعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة، الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يضل له مكان فوق أرض الوغى، وبين صفوف المجاهدين..

وهكذا، لم يكد يبصر جيش الاسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه، وحمل سيفه، وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ اليه واشتاق..!!

وفي هذه المعركة أصيب.

وذهب قائد جيشه ليعوده، وكانت أنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله..

فسأله القائد، وكان يزيد بن معاوية:

" ما حاجتك أبا أيوب"؟

ترى، هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟

كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر، وكل تخيّل لبني الانسان..!!

لقد طلب من يزيد، اذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه، ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو، وهنالك يدفنه، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق، حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره، فيدرك آنئذ ـنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!

أتحسبون هذا شعرا..؟

لا.. ولا هو بخيال، بل واقع، وحق شهدته الدنيا ذات يوم، ووقفت تحدق بعينيها، وبأذنيها، لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!!

ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب..

وفي قلب القسطنطينية، وهي اليوم استامبول، ثوى جثمان رجل عظيم، جدّ عظيم..!!

وحتى قبل أن يغمر الاسلام تلك البقاع، كان أهل القسطنطينية من الروم، ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قدّيس...

وانك لتعجب اذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:

" وكان الروم يتعاهدون قبره، ويزورونه.. ويستسقون به اذا قحطوا"..!!

وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيول، والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح، على الرغم من ذلك، فان حياته كانت هادئة، نديّة كنسيم الفجر..

ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه:

" واذا صليت فصل صلاة مودّع..

ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه..

والزم اليأس مما في أيدي الناس"...

وهكذا لم يخض في لسانه فتنة..

ولم تهف نفسه الى مطمع..

وقضى حياته في أشواق عابد، وعزوف مودّع..

فلما جاء أجله، لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها:

" اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...

كان يؤمن بالنصر، وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع، وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام، ودخلت مجال نوره وضيائه..

ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك، في عاصمة تلك البلاد، حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة، وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب، أن يتابع جيوش الاسلام في زحفها، فيسمع خفق أعلامها، وصهيل خيلها، ووقع أقدامها، وصصلة سيوفها..!!

وانه اليوم لثاو هناك..

لا يسمع صلصلة السيوف، ولا صهيل الخيول..

قد قضي الأمر، واستوت على الجوديّ من أمد بعيد..

لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى مسائه، روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..

أن:

الله أكبر..

الله أكبر..

وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها، وسنا مجدها:

هذا ما وعدنا الله ورسوله

وصدق الله ورسوله....

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...