اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

قصه الثوره بقلم د.نبيل فاروق


ozoozo

Recommended Posts

هذه قصه تحكي احداث تسلسل الثوره باسلوب نبيل فاروق الشيق

نشرت تلك الحلقات مسلسله علي موقع بص وطل

1-فيس بوك

اندفعت والدة خالد نحو الهاتف، الذي ارتفع رنينه، وهي تهتف بابنها:

- أنا سأجيب.

لم يتحرّك خالد من أمام الكمبيوتر، وهي تلتقط السماعة، لتسمع صوت والدة سامي تقول:

- كل عام وأنتِ بخير.

علت شفتاها ابتسامة فرحة، وهي تقول:

- وأنتِ بخير.. كيف حالك؟!

لم تكن بينهما أية معرفة قديمة، ولكن المحنة التي خاضتاها معاً، ومع أسر باقي المجموعة، إبان اعتقالهم، جمعت بين معظمهم بروابط جديدة، لم يتصوّروا أنها ما زالت موجودة في المجتمع..

روابط أعادت إلى حياتهم التزاور والألفة وتبادل التهنئة والسؤال في المناسبات، وعلى نحو دوري..

ولقد بدت والدة سامي شديدة الارتياح، وهي تقول:

- عام جديد سعيد.. أتعشّم أن يحمل لنا الكثير من الخير.

أجابتها والدة خالد في أمل:

- يا رب.

ثم خفضت صوتها، واختلست نظرة إلى ابنها، هامسة:

- كيف الحال عندك؟! خالد لم يعد يفارق المنزل كثيراً.. إنه يقضي معظم وقته أمام الكمبيوتر.

أجابتها والدة سامي:

- هداه الله سبحانه وتعالى.. سامي أيضا كذلك.. وأم نهى تقول إنها تقضي معظم وقتها في التطلّع إلى الشاشة، وصوت أصابعها وهي تنقر مفاتيح لوحة الحروف لا يتوقف تقريباً.

حمل صوت والدة خالد حماسها، على الرغم من انخفاضه، وهي تقول:

- أم علياء تقول الشيء نفسه، وكذلك أم فتحي.. ربما عاد الأولاد إلى صوابهم، وقررّوا الانصراف عن السياسة ومشكلاتها.

غمغمت والدة سامي:

- كم أتعشم هذا.

ثم عادت تسألها في اهتمام:

- أين قضيت ليلة رأس السنة؟!

ضحكت والدة خالد، وعاد صوتها يرتفع، وهي تجيب:

- في المنزل.. "بطانية بارتي" كما نسميها.

بلغت الكلمات مسامع خالد، ولكنه لم يبالِ بها كثيرا، مع انشغاله بصفحات فيس بوك، التي تنظم تظاهرات الخامس والعشرين من يناير..

كان شديد الاهتمام بالأمر، يمتلئ ثقة في أنه سيصنع علامة فارقة في تاريخ هذا البلد..

على الأقل من الناحية الإعلامية العالمية؛ لأن الإعلام المصري، الذي ما زال يحيا بفكر الستينيات العقيم، سيتجاهل هذا تماماً، إن لم يسع لتسفيهه والتقليص من حجمه..

والرمز هنا شديد الوضوح والتعبير..

سيخرج الشباب للشرطة في عيدها، يعلن رفضه لأساليبها القمعية، وفي مظاهرة سلمية تماماً..

مظاهرها لا تمنحهم تبريراً واحداً لاتخاذ أية إجراءات تعسفية ضدهم..

وهنا تكمن روعة الأمر.. تظاهرة سلمية، شاملة، عالمية المشهد، واضحة الهدف، حضارية الأسلوب والمنهج..

شيء لم يعتده الأمن في مصر.. أبداً..

في نفس اللحظات التي دار فيها هذا في خلده، كان صفوت يعقد حاجبيه في غضب، وهو يهتف بزوجته نيفين، التي جلست في اهتمام شديد، تعمل على اللاب توب الخاص بها:

- ماذا تفعلين بالضبط؟!

أجابته، دون حتى أن تلتفت إليه:

- فيس بوك.

بدا أكثر غضباً، وهو يتجه نحوها، قائلاً:

- ألن تتوقفي أبداً عن هذا العبث الطفولي؟!

قالت، مواصلة إصرارها على عدم الالتفات إليه:

- هذا العبث وسيلة تواصل اجتماعية معروفة، وتعد أغلى مواقع شبكة الإنترنت، وأكثرها قيمة.

أغلق شاشة الجهاز في حدة، وهو يقول في غضب شديد:

- وماذا عن التواصل الاجتماعي مع زوجك؟!

كظمت غيظها، وضمت شفتيها لحظات في غضب، قبل أن تلتفت إليه، قائلة في برود واضح:

- ماذا تريد بالضبط؟!

أجابها في حدة:

- ما يريده كل زوج، عندما يعود إلى منزله، بعد ست وثلاثين ساعة خارجه.

نهضت قائلة:

- سأعدّ لك الطعام.

أمسك ذراعها، وهو يقول في عصبية:

- لم أعنِ الطعام فقط.

التفتت إليه في حدة، وأزاحت يده في حركة عصبية، قائلة:

- وأنا عنيت الطعام فقط.

احتقن وجهه، وامتلأ بالغضب، وهو يقول، محاولاً استعراض قوته:

- يقولون: إنني سأحصل على ترقية، في عيد الشرطة القادم.

ابتسمت ابتسامة ساخرة، وهي تغمغم:

- وهل تعتقد أنه سيكون هناك عيد شرطة هذا العام؟!

أجابها في عصبية:

- ولماذا لا يكون؟! إنه عيد سنوي!

بدأت في نقل الأطباق إلى المائدة، وهي تقول:

- هذا لأنك لا تتابع فيس بوك.

احتقن وجهه مرة أخرى، وقال في حدة:

- لو أنك تعنين هؤلاء العيال، الذين يدعون لمظاهرة يوم عيد الشرطة، فأمرهم لا يعنينا.

قالت في سخرية:

- حقاً؟!!

تصاعدت حدّته مع سخريتها، وهو يقول:

- إنهم لا يساوون شيئاً.. لقد رصدنا ما يدعون إليه، وحددنا هوياتهم، وسيدفعون الثمن غالياً.

تطلّعت إليه لحظة، حاولت فيها كتمان مقتها، قبل أن تقول:

- وما داموا لا يساوون شيئاً، فأي ثمن تريدونهم أن يدفعوه.

هتف بها في حدة:

- ثمن غبائهم.

رمقته بنظرة ازدراء، وعادت تنقل الأطباق إلى المائدة، ولكنه لم يتوقف عن الحديث حاد اللهجة، وهو يكمل:

- كيف يتصوّر شباب "السيس" هؤلاء أن موقعاً على الإنترنت يمكن أن يصنع شيئاً؟!

غمغمت، وهي تضع آخر الأطباق على المائدة:

- عددهم تجاوز ثلاثمائة ألف شخص.

صرخ:

- حتى ولو بلغوا مليوناً.

رمقته بنظرة أخرى، وتركته متجهة نحو اللاب توب، فقال في حدة:

- عددنا يربو على مليوني ضابط وجندي.

التفتت إليه في حدة، قائلة:

- تتحدّث كما لو أن الشرطة في حرب مع الشعب.

أجاب في عصبية غاضبة:

- إنها كذلك.

ارتفع حاجباها في دهشة بالغة، وعادا ينعقدان وهي تقول في حنق:

- المفترض أن الشرطة في خدمة الشعب.

أطلق ضحكة عصبية، قائلاً:

- كان هذا فيما مضى.

ثم مال بجسده نحوها، مضيفا في تحدّ عصبي:

- نحن أسياد هذا الشعب، فكيف يخدم السيد عبده؟!

عاد حاجباها يرتفعان، في دهشة مستنكرة هذه المرة، ثم عادا يلتقيان في مقت، أطل من عينيها، قبل أن تشيح بوجهها عنه، وتلتقط اللاب توب مرة أخرى، فزمجر قائلاً في شراسة:

- ألن تتناولي الطعام معي؟!

أجابته، وهي تفتح اللاب توب، وتعمل على الاتصال بشبكة الإنترنت:

- لست جائعة.

أطلّت من عينيه نظرة غضب حانقة، قبل أن يقول في صرامة:

- اجلسي معي فحسب.

هزّت كتفيها، وهي تتمتم، دون أن تلتفت إليه:

- ولماذا؟!

صرخ في هستيريا:

- لأنني زوجك، وآمرك بهذا.

هتفت مستنكرة:

- تأمرني؟!

ثم تراجعت، مضيفة في سخرية:

- من الواضح أنكم تستحقونها.

سألها في عصبية:

- ما هذه؟!

أجابته في حزم:

- الثورة..

واحتقن وجهه أكثر..

وبشدة؟

يُتبَع

تم تعديل بواسطة ozoozo

رابط هذا التعليق
شارك

2-السبب

شدّ نشأت باشا قامته، وعدّل من هندامه، وهو يقف أمام مكتب وزير الداخلية، في انتظار السماح له بالدخول، وأمسك ذلك الملفّ الكبير بين يديه في إحكام، وكأنه يخشى أن ينتزعه أحد منه، وهو يعيد حفظ كل العبارات في رأسه، استعداداً لمقابلة الوزير..

لم يكن يدري لماذا تم استدعاؤه بالضبط، ولكنه علم من مدير مكتب الوزير أنه هناك حالة طوارئ مزمع إعلانها، في غضون الأيام القادمة؛ تحسباً لقيام تظاهرات محدودة، في قلب القاهرة..

ولهذا، فقد راجع خططه كلها، وهو يقف أمام مكتب الوزير..

كان قد اشترك مع عدد من قيادات الداخلية، في وضع ما أسموه بخطة تأمين الانتقال، وهي تلك الخطة، التي استعدت بها وزارة الداخلية؛ لتأمين انتقال السلطة إلى الابن، عندما يرفض الشعب فكرة التوريث، ويخرج في مظاهرات غاضبة..

ولقد راجع الخطوات كلها في سرعة..

انسحاب الأمن..

إطلاق المساجين من السجون...

حرق أقسام الشرطة..

نشر البلطجية في كل مكان؛ لترويع الآمنين، وإحداث حالة من الانفلات الأمني، تدفع الشعب إلى قبول فكرة التوريث، واستبدال الحرية والديمقراطية بشعور الأمن والأمان..

خطة شيطانية محكمة، تم إعدادها بمنتهى الدقة؛ لضمان اعتلاء الابن عرش الأب..

وربما يستدعيه الوزير؛ لتطوير هذه الخطة على نحو ما..

ربما..

دعاه مدير المكتب إلى الدخول، فتأكّد مرة أخرى من حسن هندامه، ودخل إلى مكتب الوزير، الذي استقبله بلهجة جافة، قائلاً:

- أهلاً يا نشأت..

أدى نشأت تحية عسكرية مفرطة في الاحترام، وهو يقول:

- في خدمة جنابك.

رمقه الوزير بنظرة سريعة، قبل أن يسأله في صرامة:

- هل استعددت للمظاهرات القادمة؟!

رفع نشأت الملف الضخم، وهو يقول:

- لقد راجعت خطة تأمين الانتقال مرتين قبل أن...

قاطعه الوزير، فيما يشبه الزمجرة:

- لم أقصد تلك الخطة.

ثم حمل صوته رنة غضب، وهو يضيف:

- ألم تقرأ التقارير التي وصلتني من إدارتك، حول المظاهرات المزمع انطلاقها يوم عيد الشرطة؟!

شعر نشأت بالدهشة لحظات، ثم قال:

- لا تقلق نفسك بهذا يا سيادة الباشا الوزير.. إنهم جماعة من شباب الفيس بوك، يسعون لدسّ أنفسهم في المشهد السياسي، ويمكننا السيطرة على الأمر تماماً.

سأله الوزير في غضب:

- أيعني هذا أنكم لم تسيطروا عليه بعد؟!

بدت دهشة واضحة، على وجه نشأت، وهو يغمغم:

- إنه لم يبدأ بعد.

قال الوزير، في صرامة غاضبة:

- ولكن من يدعون إليه معروفون، والقسم الفني حدّد هوياتهم وأماكن تواجدهم، فماذا ينقصكم.

صمت نشأت لحظة، ثم تمتم:

- اعتقالهم.

رفع الوزير عينيه إليه، تحملان مزيجاً من الغضب والصرامة والقسوة، وهو يقول:

- ماذا تفعل هنا إذن؟!

استوعب نشأت ما يعنيه هذا على الفور، فأدى التحية العسكرية في قوة، وهو يقول:

- أوامر جنابك.

بدأ عقله في وضع خطة سريعة، قبل حتى أن يغادر مبنى الوزارة، ولم يكد يضع نفسه في السيارة، حتى طلب رقم صفوت، وقال في صرامة، كانت مختفية تماماً عندما كان يرتجف أمام الوزير:

- صفوت.. لقد أرسلوا إليك قائمة بأسماء الأولاد، الذين يدعون لتظاهرات عيد الشرطة.. أليس كذلك؟!

صمت لحظات؛ ليسمع جواب صفوت، ثم قال في صرامة أكثر:

- اعتقلهم جميعاً.

لم ينتظر حتى يسمع جوابه هذه المرة، وإنما أنهى المحادثة مباشرة، وهو يتصوّر أنه بهذا قد أغلق الملف..

تماماً..

في نفس اللحظة، كانت هناك سيارة تتوقّف، في منطقة نائية، في أطراف القاهرة، ويميل أحد ركّابها على الدكتور عبد الله، الذي يجلس محتقن الوجه داخلها، يجترّ آلام تعذيب وحشيّ، دام لأسابيع، وقال في صرامة:

- لو تحدّثت بكلمة واحدة عما حدث، سنعيدك إلينا، وفي هذه المرة سنتركك في الطريق عارياً تماماً، وستملأ صورك كل الصحف، وصفحات الإنترنت... هل تفهم؟!

لم يُجبْه الدكتور عبد الله بحرف واحد، ففتح صاحب اللّهجة الصارمة باب السيّارة، وهو يواصل، ربما في صرامة أكثر:

- فلتحمد الله أنّك ستحتفظ بملابسك هذه المرة.

واصل الدكتور عبد الله صمته، وهو يغادر السيارة، ووقف متوتراً، وهو يشاهدها تبتعد، قبل أن يغمغم في مقت:

- الله العليّ القدير، الذي تريد مني أن أحمده، لا تدري أنت ونظامك الفاسد شيئاً عنه، فهو مع رحمته الواسعة، المعزّ المذلّ، الواحد القهّار، المنتقم الجبار.

غمغم بها، ثم تحسّس جيوبه، وهو يلقي نظرة على الطريق أمامه..

لقد تركوه في منطقة منعزلة تماماً، تبدو منها منازل على مسافة بعيدة، وسط طريق زراعية، بعيدة عن العمران، ولم يتركوا له قرشاً واحداً في جيوبه..

وكان هذا يعني أنّ عليه أن يسير..

وأن يحتمل..

ولكن مهما كان ما سيحتمله، فإنّه لن يقارَن بالعذاب الذي أذاقوه إيّاه هناك، في خبرة وحشية، تضمن القدر الأكبر من الألم، والقدر النادر من آثاره..

ومع نفس عميق، ملأ به صدره بهواء الحرية، بدأ سيره..

لم يخبره أحد أبداً لماذا ألقوا القبض عليه، ولكن كل أسئلتهم كانت تدور حول تنظيم الإخوان المسلمين..

سألوه عن قياداتهم، وخططهم المستقبلية، ومصادر تمويلهم، و... و...

وعبثاً حاول أن يقنعهم بأنه لا ينتمي إلى هذا التنظيم، ولكنّ أحداً لم يستمع إليه، وإنما رأوا فقط لحيته، ومن وجهة نظرهم كان وجود اللّحية يعني أنه حتماً عضو في تنظيم الإخوان المسلمين..

عقول قديمة متحجّرة، وحشيّة، تمتزج بقلوب خلت من الرحمة، ومن الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وحسابه العسير يوم القيامة..

ولم يكن أمامه، والحال هكذا، سوى أن يصبر.. ويحتمل..

ولقد فعل..

أسابيع وهو يتعّرض لتعذيب، لم يتخيّل حتى وجوده، حتى انهار تماماً، وأيقن معذبوه أنه ليس لديه بالفعل ما يمكن انتزاعه منه..

وهنا.. هنا فقط توّقفوا..

ولأنهم اعتقلوه على نحو غير قانوني، كان لا بد وأن يفلتوه على نحو غير قانوني أيضا.. وهذا ما فعلوه..

استمر في سيره لساعتين كاملتين، دون أن يبلغ تلك المنازل، وإن كانت قد اقتربت كثيراً، وعجزت ساقاه عن المواصلة، مع الضعف الذي يشعر به، بعد أسابيع من التعذيب، فلم يجد ما يجلس عليه سوى الأرض، ففعل، و...

" دكتور عبد الله؟!"..

سمع تلك الصيحة المندهشة، فرفع عينيه إلى صاحبها، الذي بدا وجهه مألوفاً إلى حد ما، والذي اندفع نحوه، هاتفاً في انزعاج:

- لماذا تجلس على الأرض هنا؟!

سأله الدكتور عبد الله في دهشة، دون أن يجيب سؤاله:

- من أنت؟! ومن أين أتيت؟!

أشار القادم إلى فيلا صغيرة، أخفتها أعشاب عشوائية قريبة، وهو يقول بنفس الانزعاج:

- هذه فيلا والدي، ولقد لمحتك من الشرفة، وراعني أنك كنت تسير مترنحاً، فهبطت لأجدك تجلس أرضاً.

مد يده يساعده على النهوض، وهو يكمل:

- دعني أستضيفك قليلاً.. تبدو مرهقاً.

التقط الدكتور عبد الله يده، ونهض في صعوبة، وهو يغمغم:

- إنك لم تجب سؤالي الأول.

حاول الرجل أن يبتسم، وهو يجيب:

- اسمي أيمن، وأنا أحد تلامذتك القدامى بعض الشيء، فقد تخرجت منذ عشرة أعوام.

تحامل الدكتور عبد الله على نفسه، وهو يسير معه، مغمغماً:

- تلميذي؟! أيمكن أن تبلغ المصادفة هذا الحد؟!

ابتسم أيمن، وهو يقول:

- لا توجد مصادفات في الحياة يا دكتور.. كل شيء يحدث لسبب ما.. صدقني.. لكل شيء سبب.

غمغم الدكتور عبد الله:

- بالتأكَّيد..

ولكن عقله كان يتساءل: ترى ما هو السبب هذه المرة؟!

ما هو؟!

رابط هذا التعليق
شارك

3-الاخوان

ابتسامة ثقة كبيرة ارتسمت على شفتي الوريث، وهو يقف مزهوًّا كالطاووس في بهو المقر الرئيسي للحزب الوطني، والكل يصطفّ أمامه لتقديم فروض الولاء والطاعة؛ باعتباره من سيرث العرش بعد رحيل والده الذي جثم على أنفاس شعبه لثلاثة عقود طويلة، بدت لشدة ظلامها أشبه بثلاثة قرون..

وطوال الوقت راحت مصابيح التصوير تسطع في المكان، والعدسات كلها مركَّزة على الوريث الذي صار في نظر العديدين هو الحاكم الفعلي للدولة، ومن خلفه أمُه التي تسعى في استماتة خلف نظرية توريث الحكم، حتى تضمن استمرار مكانتها وقدرتها على بسط سطوتها ونفوذها على المجتمع كله..

كان الأسد العجوز قد فقد سيطرته الفعلية على البلاد، وصار الشبل هو حاكمها الفعلي من خلال لجنة سياساته التي صارت أقوى من أية حكومة ظاهرية، ومن خلف الستار كانت اللبؤة تقود الشبل وتُنمّي فيه روح التمَّرد والرغبة في اعتلاء العرش، يعاونها في هذا مجموعة من المنتفعين والمرائين والمنافقين والفاسدين، الذين رأوا في توريث العرش الضمانة الوحيدة لعدم انكشاف أمرهم، واستمرار فسادهم، وانعدام فرصة محاسبتهم..

ووسط مصابيح التصوير التي تألقت في المكان؛ اقترب صحافي شاب من الوريث وألقى عليه مجموعة من الأسئلة التقليدية، أجاب عنها في تعالٍ موروث.. حتى سأله الصحافي في اهتمام:

- وما تعليقك على تلك الدعوة لمظاهرة عيد الشرطة، والتي يتم الحشد لها عبر موقع فيس بوك؟

ارتسمت على شفتي الوريث ابتسامة ساخرة، والتفت إلى شخص خلفه قائلاً في استخفاف:

- أجبه أنتَ يا حسين..

ولم يجب حسين..

ولم يجب الوريث..

وبقي الأمر بلا جواب منهما..

حتى هذه اللحظة..

"لستُ أدري في الواقع شيئًا عن تلك التظاهرة"..

غمغم الدكتور عبد الله بالعبارة في حذر؛ فابتسم أيمن وقال في هدوء:

- سأشرح لك الأمر كله بعد ان تنتهي من رواية قصتك.

تردَّد الدكتور عبد الله لحظة أخرى ثم قال:

- الفترة التي تلت ذلك كانت تسير على منوال واحد.. استجواب وتعذيب، ثم استجواب، وهكذا.. لم أكن أصدق نفسي أن هؤلاء بشرٌ تجري في عروقهم دماء كدمائنا، ولهم مشاعر كسائر بني آدم.

تمتم أيمن دون أن يفقد ابتسامته:

- ربما لأنها تجربتك الأولى.

هتف الدكتور عبد الله في توتر:

- والأخيرة.

اتسعت ابتسامة أيمن وهو يقول بنفس الهدوء:

- أتعشَّم هذا.

أسند الدكتور عبد الله ظهره إلى مسند مقعده، وأطلق زفرة طويلة وهو يقول:

- سأتحاشى تكرارها بكل وسيلة ممكنة.. سأتجنب السياسة تمامًا حتى في المقاهي.

مال أيمن نحوه وقال هادئًا:

- إنك لم تكن تمارسها، ولكنهم فعلوا بك هذا.

هتف الدكتور عبد الله:

- تصوَّروا بسبب لحيتي أنني عضو في تنظيم الإخوان المسلمين، وسخروا مني عندما أقسمت لهم أنني لا أنتمي إليه، وكان دليلهم الوحيد على هذا هو أنني أحرص على أداء صلاة الفجر في المسجد يوميًا!

قال أيمن في هدوء:

- هكذا هم.

همَّ الدكتور عبد الله بقول شيءٍ ما، ولكن زوجة أيمن دخلت في هذه اللحظة ووجهها يحمل ابتسامة هادئة تشبه ابتسامة هذا الأخير كثيرًا، ووضعت صينية تحمل كوبين من الشاي أمامهما قبل أن تنصرف ويغمغم هو خلفها في حرج:

- الواقع أنك وزوجتك قد فعلتما الكثير من أجلي.. الغذاء والرعاية والآن أكواب الشاي برائحة النعناع المنعشة.. لست أدري في الواقع كيف أرد لكما هذا الجميل؟!

ربَّت أيمن على كفه قائلاً:

- ليس من الضروري أن ترده لنا.. رده لأي شخص يحتاج إلى معاونتك فحسب.

أجابه في حماس:

- ثق بأنني سأفعل.

وارتشف رشفة من كوب الشاي أغلق عينيه بعدها في استمتاع، ثم فتحهما ليقول في حزم مباغت:

- المهم أنني لست بالفعل من الإخوان المسلمين.

ابتسم أيمن ابتسامة واسعة وقال:

- أنا منهم.

اتسعت عينا الدكتور عبد الله وحدَّق فيه في دهشة قبل أن يقول مرتبكًا:

- ولكن زوجتك..

لم يستطع إكمال العبارة فأكملها أيمن في هدوء:

- ليست منقبة.. أليس كذلك؟!

أومأ الدكتور عبد الله برأسه إيجابًا في حذر؛ فاتسعت ابتسامة أيمن وهو يقول:

- لك كل العذر في هذا، فقد حرص النظام عن عمد على أن تختلط صورة الإخوان بالجماعات السلفية طوال ثلاثة عقود من الزمان، على الرغم من أنهما جهتان منفصلتان تمامًا وربما متعارضتان أيضًا في كثير من النقاط.

سأله في اهتمام:

- مثل ماذا؟!

أجابه في هدوء:

- يكمن الاختلاف الرئيسي في أن جماعة الإخوان المسلمين تواكب العصر دومًا، مع التزامها بتعاليم الدين الحنيف؛ فتتطوَّر مع تطوَّر الحياة من حولها وتندمج معها في هدوء دون الإخلال بأسس الدين. أما الجماعات السلفية فهي ترفض وبإصرار الخروج من فكر الأسلاف.. ومن هنا كان اسمها، وهي ترفض الانخراط في الحياة العادية، وتصر دومًا على أن الفكر قد توَّقف عند أربع عشرة قرن هجرية مضت، وتحارب أحيانًا أي تطور علمي باعتباره مُروقًا عن سيرة السلف الصالح، على الرغم من أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بأن نعد لهم ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل؛ فكيف نفعل دون أن نفيد بكل علم وكل جديد ونواكب تطورات العصر؟!

بدت دهشة الدكتور عبد الله واضحة في صوته وهو يغمغم:

- لم أفكَّر في هذا من قبل أبداُ.

هـزَّ أيمن كتفيه وقال:

- كثيرون لم يفعلوا.

بدا الأسف على وجه الدكتور عبد الله، فتابع أيمن بنفس هدوئه:

- زوجتي محجبة وليست منقبة -كما ترى- والأمور عندنا ليست مغلقة كما تُصوِّرُنا وسائل إعلام النظام.

غمغم الدكتور عبد الله:

- يطلقون عليكم اسم "المحظورة".

أطلق أيمن ضحكة مرحة قصيرة قبل أن يقول:

- هذا يتناسب مع فكرهم الستينيّاتي الديناصوري، الذي يعجزون عن تطويره ليواكب العصر.. وإعلامُهم خادم مطيع لهم، ويتعامل أيضًا من منظور ديناصوري، متصوِّرًا أنه ما زال يحتل المشهد بنفاقه الزائد عن الحد، وكأنه لا يوجد إعلام حر، ولا توجد سماوات مفتوحة.

غمغم الدكتور عبد الله:

- صدقت!

ثم اعتدل مبتسمًا وهو يضيف:

- إذن فأنت تعني أنهم قد أطلقوا سراحي من تهمة زائفة بأنني أنتمي لجماعة الإخوان المسلمين؛ فاستضافني عضو إخواني في منزله.

ابتسم أيمن قائلاً:

- بالضبط.

أطلق الدكتور عبد الله ضحكة قصيرة وقال:

- هذا يعنى أنهم لو كانوا يراقبوننى فسيتيقنون الآن من صحة ذلك الاتهام.

كرَّر أيمن وابتسامته تتسع:

- بالضبط.

ثم استدرك في اهتمام وهو يشير بسبَّابته:

- ولكن كما أخبرتك؛ لا شيء في الوجود عبثيٌّ.. كل مصادفة لها سببٌ ما قد لا ندركه في حينه، ولكننا سندركه عندما يحين أوانه، وعندئذ سندرك حكمة الخالق عـزَّ وجـلَّ فيما يقودنا إليه.

تمتم الدكتور عبد الله في خشوع:

- ونِعْمَ بالله!

ثم سأل في اهتمام:

- ولكن ما الحكمة من هذه المصادفة في رأيك؟!

تراجع أيمن وبدت ابتسامته غامضة وهو يقول:

- من يدري ؟!

وكان على حق تمامًا..

فمن يدري؟!..

من؟!.

يُتبَع

رابط هذا التعليق
شارك

4-الغضب

امتلأت ملامح صفوت بالغضب على نحو يصعب إخفاؤه وهو يجلس أمام نشأت في ذلك المساء، فالتقي حاجبا هذا الأخير وهو يقول:

- ضابط أمن الدولة الناجح لا يكشف انفعالاته على سطح وجهه هكذا.

قال صفوت عاجزاً عن كتمان مشاعره:

- أي نجاح هذا يا باشا؟! لقد بذلت جهداً خرافيّاً طيلة العام الماضي، وانتظرت الترقية التي وعدْتَني بها، وتوقعتُ سماعها بعد خطاب سيادة الرئيس في عيد الشرطة، ثم فوجئت بأن حازم هو من حصل عليها.

قال نشأت في صرامة:

- كان المفترض أن تحصل عليها أنت.

وصمت لحظة ثم مال نحوه مضيفاً:

- ولكن كانت هناك شكاوى عديدة ضدك، بعضها عجزتُ عن تفسيره.

قال صفوت غاضباً:

- المفترض ألا يمنع هذا الترقية.

اعتدل نشأت وهو يقول في صرامة:

- ولكنه فعلها.

انقلبت سحنة صفوت مع انعقاد حاجبيه ومطّ شفتيه؛ فقال رئيسه في صرامة أكثر:

- لسنا في روضة أطفال حتى تتصرَّف على هذا النحو.

قال في عصبية:

- سأتقدَّم باستقالتي.

أجابه نشأت وسط زمجرة غاضبة:

- كفى عبثاً طفولياً، وعُدْ إلى مكتبك!

هتف صفوت مستنكراً:

- ولكن..

قاطعه نشأت بزمجرة أكثر قسوة:

- هذا أمر.

رفع صفوت إليه عينين غاضبتين؛ ولكنه قال في انكسار:

- أمرك يا باشا.

في نفس اللحظة التي غادر فيها الحجرة، كان خالد يقول للمجموعة وهم يقفون عند كورنيش النيل على مقربة من مبنى التليفزيون:

- غداً موعدنا.. الرئيس ألقى خطابه اليوم مشيداً بالشرطة التي عذّبتنا وأهانتنا وأهدرت كرامتنا، ولكننا سنخرج غداً لنخبر العالم كله -بأسلوب سلميٍّ تماماً- أننا نرفض ذلك الأسلوب الذي تتعامل به الشرطة معنا.

التقط علاء نَفَساً عميقاً وقال:

- كم انتظرتُ هذا اليوم في شوق!

تساءلت علياء:

- هل تتصوَّرون أن الشرطة ستسمح باستمرار التظاهرة.

غمغم سامي:

- أظن هذا.. ما دامت سلمية.

قال فتحي في قلق:

- وماذا لو اندسّ فيها بعض المخرّبين؟!

بقي سؤاله بلا جواب وهم يتبادلون نظرة متوترة، قبل أن يقول أحمد:

- سمعتُ أن الشرطة تستعين ببعض البلطجية؛ لكي يهاجموا المواطنين أو يشتبكوا معهم، دون أن يوجد دليل واحد على تبعيّتهم لها.

أجابه تامر في حزم:

- هذا صحيح.. لقد فعلوها في تظاهرات سابقة وفي انتخاباتهم الأخيرة المستفزة.

بدت نهى جادة للغاية وهي تقول:

- هل تعرفون أن لديّ نظرية خاصة في هذا الشأن؟!

سألها خالد:

- وما مضمونها؟!

أجابته في حماس:

- إنها أشبه بنظرية حلة البخار.

ضحك علاء وهو يقول:

- نظرية أنثوية إذن!

قالت في جدية:

- بل نظرية فيزيائية يمكنها أن تنطبق تماماً على الأحوال السياسية في الآونة الأخيرة.

غمغمت علياء في اهتمام، وهي تحتضن كف خالد:

- دعينا نسمعها.

أشارت نهي بسبَّابتها في جدية شديدة وهي تقول:

- حلة البخار هي حلة مغلقة بإحكام، توضع على الموقد، فتتجمع داخلها أبخرة حارة تساعد على سرعة الطهو، وفي أعلاها توجد فتحة رفيعة مهمتها أن تفلت قدراً من البخار الزائد كلما ارتفع ضغطه داخل الحلة تجنّباً لانفجارها.. ولقد كانت صحف المعارضة والقنوات الفضائية غير الحكومية أشبه بتلك الفتحة التأمينية؛ حيث يتزايد بخار الغضب في النفوس بسبب كل ما يحدث من تجاوزات وطغيان وفساد، ثم تأتي صحف المعارضة والقنوات غير الحكومية لتنفث شيئاً من هذا البخار عبر كشفها لبعض بؤر الفساد.

قال فتحي وقد استوعب الأمر:

- ثم جاء النظام وأغلق تلك الفتحة.

أكمل تامر:

- أغلق صحف المعارضة، وأرسل إنذارات للقنوات الفضائية غير الحكومية، وتهديداً ووعيداً وإرهاباً لكل من يحاول التعبير عن رأيه في وضوح.

غمغم أحمد:

- باختصار أغلق الفتحة التأمينية.

هتفت نهى في حماس:

- وهكذا نتّجه إلى النتيجة الحتمية.

هتفت علياء وهي تباعد ذراعيها في انفعال:

- الانفجار.

غمغم خالد في حزم:

- والثورة.

" هذا يقلقني يا خالد .."..

نطقت بها أم خالد في توتر واضح؛ فابتسم محاولاً تهدئتها وهو يربت على كتفها قائلاً في حنان:

إنها العاشرة والنصف فحسب، والشوارع ليست خالية كما تتصوَّرين.

ترقرقت عيناها بالدموع وهي تقول في مرارة:

- ولكنني أقضي الوقت في انتظارك والقلق يكاد يلتهم أعصابي بعد تلك التجربة البغيضة السابقة.

ربت عليها مرة أخرى قائلاً في حنان أكثر:

- عندما جاءوا أتوا مع الفجر وليس في المساء؛ لأنهم مثل الخفافيش لا يرتاحون للعمل في الضوء، ويخشون أن يراهم الناس؛ ففي أعماقهم يدرك كل منهم أنه يقوم بعمل غير مشروع، ويتجاوز كل مواثيق الحقوق والحريات، ولا يمكن فعله على نحو واضح ومباشر.

غمغمت مرتجفة:

- هذا يزيدني خوفاً.

شد قامته وقال في حسم:

- اتركي الأمور لله سبحانه وتعالى، وآمني بقدره مُسبقاً يطمئن قلبك بالإيمان.

غمغمت ودموعها تسيل على وجنتيها:

- ونِعْمَ بالله!

ربت عليها مرة ثالثة ومنحها أكثر ابتسامات الأرض حناناً؛ فمسحت دموعها وحاولت أن تبتسم وهي تقول:

- لا تنسَ أنك ولدي الوحيد، والأمل المتبقي في عمري.

قبّل جبينها مغمغماً:

- منحك اللهُ -عـزًّ وجـلَّ- طولَ البقاء.

غمغمت مبتسمة في شحوب:

- مع الصحة والستر.

ضحك ضحكة قصيرة متمتماً:

- يا رب.

ربت عليها مرة أخيرة، ثم اتجه إلى حجرته، وجلس أمام شاشة الكمبيوتر، وانتقل إلى موقع فيس بوك عبر شبكة الإنترنت، وراح يعمل..

الجميع كانوا هناك..

علياء وسامي و فتحي وعلاء ونهى وتامر وأحمد..

الجميع تشاركوا الصفحة نفسها..

والفكر نفسه..

وجميعهم اتفقوا على الانطلاق غداً (الخامس والعشرين من يناير عام ألفين وأحد عشر) في تظاهرة سلمية تستهدف مطالب ثلاثة..

حرية.. ديمقراطية.. عدالة اجتماعية..

مطالب عادلة شعبية سلمية، طالت لهفة الشعب إليها..

وفي أعماقه وُلد حماس قوي..

حماس للفكرة..

وحماس للأمل..

ومرة أخرى التقط نسخة الدستور، وراح يقرؤها وهو يصرخ في أعمق أعماقِه دون أدنى صوت:

- غداً موعد الحرية.. غداً تصبح حقيقة!

وفي ارتياح غامر ضم إليه نسخة الدستور..

والأمل.

يُتبَع

رابط هذا التعليق
شارك

5- الساعات الاخيره

fawda.jpg

ارتسمت دهشة حقيقية على وجه نوال زوجة الدكتور عبد الله، عندما شاهدته يجلس أمام شاشة الكمبيوتر، في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وتساءلت في حيرة:

- ما سرّ هذا الاهتمام المفاجئ بالكمبيوتر والإنترنت؟!

أجابها دون أن يلتفت إليها، على خلاف ما اعتاد:

- أتابع استعدادات تظاهرة الرفض.

جلست إلى جواره، وحدّقت في شاشة الكمبيوتر، الذي لا تفهم عنه الكثير، وهي تسأله:

- رفض ماذا؟!

أجاب في اهتمام:

- الشباب قرّروا القيام بتظاهرة كبرى، في يوم عيد الشرطة، يطالبون فيها بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

غمغمت مستنكرة:

- واختاروا عيد الشرطة؟!

ابتسم، مغمغماً:

- هذا هو الهدف.

واصلت التحديق في شاشة الكمبيوتر لحظات، ثم هّزت كتفيها، قائلة:

- الشباب في مصر لا يبالون بمثل هذه الأمور.. إنهم شباب كافيهات.

هزّ رأسه نفياً، وهو يقول:

- هذا ما كنت أتصوّره أيضا، ولكنني أعترف بأنني كنت مخطئاً.

قالت في ثقة، لم يدرِ من أين أتت بها:

- إنه تخطيط إخواني.. سيستغلون الفرصة، ويدفعون الشباب للتظاهر، حتى يقيموا ذلك الحكم الإسلامي، الذي ينادون به.

ابتسم على نحو مشفق، وهو يقول:

- أنت ترددين ما لقنتك إياه وسائل الإعلام الحكومية، لأكثر من ثلاثة عقود، ولكن هذا حتماً غير صحيح.

سألته متحدّية:

- ومن أدراك؟!

أجابها في ثقة:

- الشباب يطالبون بتداول سلطة، وبسقف واضح ومحدود لتولي منصب رئاسة الجمهورية، وبحرية التعبير.

هّزت كتفيها، قائلة:

- وما التعارض في هذا؟!

التفت إليها لأوّل مرة، قائلاً:

- وكيف يمكن لحكم إسلامي أن يتداول السلطة؟! أتظنينه سيسمح بنقل السلطة إلى من يعتبرهم من وجهة نظره كفاراً؟! لو انتقلنا إلى حكم إسلامي فيمكنك نسيان فكرة تداول السلطة والديمقراطية إلى الأبد.

سألته مندهشة:

- وما شأن الديمقراطية؟!

أجابها وكأنه يلقي محاضرة على بعض تلامذته:

- أوّلاً.. هناك عديدون يرفضون فكرة الديمقراطية؛ فقط لأن المصطلح لاتيني قديم، وليس لأنهم يعرفون شيئاً عنها، وثانياً، وهو الأهم، عندما أخالف نظاماً مدنياً، فأنا مصنّف باعتباري معارضاً، ولكن عندما أخالف حكماً إسلامياً، فتصنيفي "كافر".. هل علمت ما الفارق، وما شأن الديمقراطية؟

بدت مبهوتة، وهي تغمغم في خوف:

- إلى هذا الحد؟!

نظر إليها لحظة، ثم التفت إلى الكمبيوتر مرة أخرى، وهو يغمغم:

- ساعات قليلة، ونعرف كل الأجوبة.. بإذن الله.

"هذا ملف جديد"

نطقها وزير الداخلية، في اللحظة نفسها تقريباً، وهو يضع ملفاً صغيراً، على مكتب الوريث، الذي التقطه بابتسامة كبيرة، وهو يسأل:

- مَن هذه المرة؟!

ابتسم وزير الداخلية بدوره، مجيباً:

- أحد رؤساء البعثات الأجنبية.

تصفّح الوريث الملف في سرعة، ثم أغلقه، وهو يقول:

- عظيم.. يتم نقله إلى حجرة الجحيم..

لم يكن المصطلح هزلياً أو مجازياً، وإنما كان بالفعل اسماً لحجرة سرية مصفحة، موجودة أسفل المقر الرئيسي للحزب الوطني، على كورنيش النيل، لا يملك مفاتيح الدخول إليها سوى الوريث، وأمين الحزب الوطني، صاحب التاريخ الطويل في عالم المخابرات ودنيا الفضائح..

وتلك الحجرة تضم آلاف الملفات، والتسجيلات الصوتية والمرئية، لكل مسئول سابق أو حالي في الدولة تقريباً، وكلها تمّت بوسائل غير قانونية على الإطلاق، ولكنها تستهدف وضع كل هؤلاء تحت حالة ابتزاز دائم، تجبرهم إما على إطاعة الأوامر، مهما بلغت من تجاوز، أو على الصمت على الفساد، على أسوأ تقدير..

وتلك الحجرة التي أطلقوا عليها اسم الجحيم كانت تضمّ أيضا تسجيلات وملفات، تدين بعض رؤساء وأفراد البعثات الأجنبية في مصر، ومن لا يتوّرط منهم فيما يمكن أن يشينه كان يتم دفعه إلى ارتكاب هذا، من قبل جهاز خاص جنّد بعض العاهرات والمبتذلات فيما أسماه بالسلاح السري الفعاّل؛ لتوريط كبار الشخصيات، وتسجيل تورّطهم، واستخدامه لكسرهم أو قمعهم، إذا ما دعت الظروف إلى هذا..

والوزير كان يعلم بوجود تلك الحجرة، ولكنه لا يملك مفاتيحها..

كل ما كان يربطه بها، هو المهمة التي أوكلت إليه، لملء تلك الحجرة بالوثائق والأسرار، والمستندات الفاضحة، على نحو شبه دائم..

"أظن أن الوقت قد حان لتصعد إلى السلطة"

قالها وزير الداخلية، وهو يرسم على وجهه ابتسامة منافقة، فابتسم الوريث وانتعظ، وفرد ذراعيه عن آخرهما، مستنداً إلى حافة مكتبه، ومتراجعاً في مقعده، وهو يقول في ثقة:

- أظن هذا.. الوالد صحته تتدهور باستمرار، مع ذلك الورم الخبيث، الذي يلتهم أحشاءه، والكل ينتظر وضع اسمي كمرشح للرئاسة، وبديل عنه في الانتخابات القادمة.

قال الوزير في اهتمام:

- ستحظى بتأييد الجميع في الحزب والحكومة.

سأله في قلق:

- هل تعتقد هذا؟!

أومأ الوزير برأسه إيجاباً، وقال:

- وجودك كاستمرار للحكم هو الضمانة الوحيدة لاستمرارهم هم فيما ينهبونه.

بدا الاستنكار على وجه الوريث مع الكلمة الأخيرة، فاستدرك الوزير في سرعة:

- أعني ما تمنّ به عليهم، من خيرات البلد.

عاد الوريث يبتسم وغمز بعينه وهو يقول:

- وحتى لا ينكشف فسادهم.

ضحك الوزير ضحكة قصيرة، وأضاف:

- عندما تنفتح حجرة الجحيم.

مال الوريث نحوه، متسائلاً:

- الكبار يمكن قمعهم، ولكن ماذا عن الشعب؟!

حملت ابتسامة الوزير كل ثقته، وهو يقول:

- اطمئنّ.

ولكن الوريث عاد يقول، في قلق واضح:

- المحللون يقولون: إن هذا قد يؤدي إلى ثورة شعبية.

مطّ الوزير شفتيه، وهزّ كتفيه في لامبالاة، وهو يقول:

- الجميع أكّدوا أن الشعب المصري لا يثور، وليس من عادته أن يثور.. الدكتور مصطفى نفسه أكّد هذا أكثر من مرة.. ربما يخرج بعضهم في تظاهرات كبيرة، ولكننا قادرون على قمع هذا.. ألم نثبت قدرتنا أكثر من مرة.

سأله الوريث، دون أن يفارقه قلقه:

- وماذا لو تفاقم الأمر؟!

اتسعت ابتسامة الوزير، وهو يقول في ثقة أكبر:

- لدينا خطة مضمونة، في هذه الحالة.

سأله في لهفة:

- وما هي؟!

أشار الوزير بذراعيه، وهو يجيب في حماس واثق:

- فوضى أمنية شاملة.

تراجع الوريث في دهشة كبيرة، وهو يردّد مستنكراً:

- فوضى أمنية شاملة؟!

أومأ الوزير برأسه إيجاباً، وهو يبتسم ابتسامة واثقة، فعاد الوريث يميل نحوه، متسائلاً في توتر:

- وكيف يمكن أن يفيد هذا؟!

التقط الوزير نفساً عميقاً، واعتدل قائلاً:

- إذا ما تفاقم الأمر، وبلغت التظاهرات حداً يصعب التعامل معه سنلجأ إلى عدة خطوات أولية، كتفريق المتظاهرين بقنابل الغاز المسيّل للدموع، ومدافع المياه، ثم الانتقال بعدها إلى الرصاص المطاطي، الذي يحدث إصابات فعلية، وآلاما رهيبة.

لم يبدُ الارتياح على وجه الوريث، وهو يسأله:

- وماذا لو افترضنا أن كل هذا قد فشل؟!

انعقد حاجبا الوزير في صرامة، وهو يجيب:

- سنطلق عليهم الرصاص الحي.

لم يبدُ القلق أو الارتياع على وجه الوريث، وهو يسأل في شغف:

- وما علاقة هذا بالفوضى الأمنية الشاملة، التي تحدثت عنها؟!

عاد الوزير يشير بذراعيه، مجيباً:

- إنها خط الدفاع الأخير، فلو بدا من الواضح أن الشرطة ستعجز عن قمع ما يحدث، ستنسحب كلها من الساحة في وقت واحد، في كل مدن الجمهورية، وسيتم حرق الأقسام، وإطلاق البلطجية منها، وفتح السجون، وإخراج كل المسجونين، مما سيؤدي إلى انفلات أمني رهيب، وستبدأ عمليات سلب ونهب، ليس لها من مثيل، وسيصاب المصريون برعب ما بعده رعب، حتى أنهم سيقبلون بأي شخص في السلطة، مقابل أمنهم، الذي ذاقوا نتائج ضياعه.

صمت الوريث لحظات، ثم ابتسم مغمغماً:

- خطة شيطانية.

أومأ الوزير برأسه إيجاباً، مع ابتسامة كبيرة، فمال الوريث نحوه مرة أخرى، متسائلاً، وقد تراجع قلقه كثيراً:

- وماذا عن التظاهرة التي ينتوون عملها بعد ساعات.

اتسعت ابتسامة الوزير، وحملت شيئاً من الاستهتار والثقة، وهو يقول:

- اطمئن.

واطمأن الوريث..

كثيراً.

رابط هذا التعليق
شارك

6-النيران

انزعاج مذعور ارتسم على وجوه كل قيادات النظام تقريباً، بعد أن أثبتت الأحداث أنهم جميعاً كانوا على خطأ، في أن الشعب المصري لا يثور..

انزعاج جعل الوريث يهتف، على نحو هستيري:

- مستحيل! ما يحدث مستحيل! لقد أخبرتمونا أنها ستكون تظاهرة عادية، يمكن السيطرة عليها، ولكن ما أراه الآن يفوق كل تصوّر..

أجابه أمين الحزب، وهو يحاول التظاهر بالتماسك:

- ما زال الأمر تحت السيطرة.. وزير الداخلية هذا.. لقد أصدر أوامره بقمع ما يحدث، أياً كان الثمن.

صاح به الوريث في غضب شديد:

- يقمعها أين؟! وكيف؟! لقد شاهدت على شاشات التليفزيون تظاهرات في كل مدن الجمهورية تقريباً.. القمع أدى إلى نتيجة عكسية، وأثار الشعب أكثر.

بدأ أمين الحزب يفقد أعصابه، وهو يقول:

- ليس الشعب.. إنهم الإخوان المسلمون، و....

قاطعه الوريث في شراسة:

- هذا قول تخدعون به والدي، أنت وعزمي وحبيب؛ لأنه لا يتابع ما يحدث، إلا من خلال تقاريركم، ولكنني على عكسه، أتابع ما يحدث، على شاشات كل القنوات الفضائية.. لقد بدأ الأمر بالإطاحة بإمبراطور الحديد، وهذه خسارة لنا جميعاً، ولست أدري بمن سيضمّون تالياً؛ في محاولة لتهدئة الشارع، الذي لم أشاهده على هذا النحو من قبل قط.

ظهر رئيس الديوان في هذه اللحظة، وهو ممتقع الوجه، يقول في اضطراب:

- فخامة الرئيس أصدر أمراً جديداً.

التفت إليه الاثنان في انزعاج، فتابع، وصوته يضطرب أكثر:

- لقد تم قبول استقالتكما من الحزب.

اتسعت عينا أمين الحزب في ذهول مستنكر، في حين هتف الوريث في غضب وحشي:

- ماذا؟! استقالتي أنا أيضا؟!

أومأ رئيس الديوان برأسه إيجاباً، ووجهه ممتقع، فصرخ الوريث:

- لقد جنّ بالتأكيد.

كان وجه أمين الحزب المعزول محتقناً بشدة، ولكنه غمغم، محاولاً الحفاظ على تماسكه، الذي بدأ ينهار تدريجياً:

- لا تنس أنه والدك، و...

قاطعه الوريث في غضب هادر:

- لسنا هنا في لحظة المشاعر الإنسانية.

ثم انعقد حاجباه في شدة، وهو يضيف في شراسة، منتزعاً هاتفه:

- هذا أمر لا يمكن السكوت عليه.. لا بد وأن يفعل وزير الداخلية شيئاً... أي شيء.

غمغم أمين الحزب المخلوع:

- لديه خطة.

لم يكمل حديثه؛ لأن الوريث بدأ يتحدث مع وزير الداخلية، وهو يصرخ فيه في غضب:

- الأمور تفلت يا وزير.

بدا صوت الوزير شديد التوتر، وهو يقول:

- سنبدأ على الفور تنفيذ خطة الطوارئ، التي كنا ندّخرها لغضبة التوريث.. لقد استدعيت القناصة، وأصدرت أوامري بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين.

صرخ فيه الوريث، قبل أن ينهي المحادثة في عنف:

- استخدم قاذفات اللهب لو استدعى الأمر.. أحرِقهم جميعاً عن بكرة أبيهم، قبل أن يحرقونا هم.

غمغم أمين الحزب السابق في توتر بالغ، فور انتهاء المحادثة:

- بمناسبة الحديث عن اللهب، هناك أمر شديد الأهمية ينبغي تنفيذه على وجه السرعة.

التفت إليه الوريث، متسائلاً بنظرة عصبية، فأضاف في اضطراب:

- كل مقارّ الحزب الوطني تحوي وثائق شديدة الخطورة، لو وقعت في يد المتظاهرين سنحاكم بسببها محاكمة عسيرة.

سأله رئيس الديوان في قلق:

- وماذا تقترح؟!

أجاب في حزم اختلط باضطرابه:

- الفوضى أمر يرتبط بكل التظاهرات العنيفة، ولو اشتعلت النيران في مقار الحزب الوطني، سينسب هذا إلى المتظاهرين بالتأكيد.

بدا رئيس الديوان مبهوتاً، في حين تساءل الوريث في عصبية:

- هل تقترح أن نُشعل النار في مقار الحزب الوطني؟!

أشار الأمين المخلوع بسبّابته، مجيباً:

- وأن نبدأ بالمقر الرئيسي.

ثم مال على أذن الوريث، مغمغماً:

- الذي يحوي حجرة الجحيم.

انعقد حاجبا الوريث في شدة، في حين امتقع وجه رئيس الديوان، وهو يغمغم:

- الناس تطالب الآن بالتغيير، ولو نفّذنا ما تريدانه في ظل هذه الظروف قد يتحوّل الأمر إلى ثورة.

تراجع الأمين المخلوع، وهو يقول:

- هذا أدعى لسرعة التنفيذ.

زاد انعقاد حاجبي الوريث لحظات، قبل أن يقول في صرامة، حملت كل شراسته وعصبيته وانفعاله:

- نفّذ.

"الشعب يريد إسقاط النظام"..

تعالت الهتافات في ميدان التحرير في تلك اللحظات، وقد تضاعف إصرار الشعب على رحيل النظام، بعد ما شاهده من عنف الشرطة، وتجاوزات لعبة البلطجة، وتشارَك الكل في هتاف واحد، وعلاء يهتف:

- الدكتور عبد الله هنا.. لقد لمحته وسط المتظاهرين.

هتف به خالد:

- الشعب كله هنا يا علاء.. لقد حدث ما تمنّيناه ولم يتوقّعوه.

أمسكت علياء يد خالد اليسرى، وهي ترفع لافتة كبيرة بيمناها، هاتفة:

- نحن فعلناها.. نحن فعلناها.

ثم أضافت، ودموع السعادة تسيل على وجنتيها:

- تصوّروا أن فيحاء أيضا قد خرجت للتظاهر، وأنا التي كنت أتصوّر أنها لا تهتم بمثل هذه الأمور.

هتفت نهى:

- وأمي أيضا.. تصوّروا.

قال سامي، وهو يتعاون مع فتحي، في رفع لافتة، تطالب الرئيس بالرحيل:

- ما فعلته الشرطة استفزّ الناس أكثر، وبيّن لهم كم أن النظام يعتمد على القمع في سياسته.

هتف فتحي:

- آن الأوان لتغيير هذه السياسة.

أضاف أحمد في حماس شديد:

- وإلى الأبد.

نقل تامر بصره بينهم في حماس، ثم ارتفع صوته بالهتاف:

- الشعب يريد إسقاط النظام..

انتفض قلب نيفين بالحماس، وهي تتابع كل هذا على شاشات القنوات الفضائية، ووجدت نفسها تهتف، وهي تجلس داخل منزلها:

- نعم.. الشعب يريد إسقاط النظام.

فتح صفوت الباب في هذه اللحظة، وبدا مشتعلاً بالغضب، وهو يهتف بها:

- أية حماقة تردّدينها؟! لقد بلغ صوتك مدخل البناية.

التفتت إليه، هاتفة في فرح:

- الثورة اندلعت في مصر.

صرخ فيها، وهو يخلع سترته، ويلقيها جانباً:

- أيفرحك هذا؟!

استعادت روح التحدي، وهي تقول:

- بالتأكيد.

ثم سألته قبل أن ينفجر في وجهها:

- ولكن كيف عدتَ إلى المنزل في مثل هذه الظروف؟! تصوّرت أنكم في ظروف طارئة للغاية!

أجابها في حدة عصبية:

- إننا كذلك يا هانم، ولكنك لا تدركين.

وخلع سرواله، وهو يكمل، وعصبيته تتضاعف:

- الدنيا كلها في ميدان التحرير!! لست أدري من أين يتوافدون، ولا كيف يتفقون، بعد أن أوقفنا شبكات الإنترنت والاتصالات؟! كيف؟!

أجابته في تحدّ:

- الثورات تشتعل منذ الأزل بدون إنترنت ولا اتصالات.

صاح بها في لهجة آمرة:

- اسمعي.. لست مستعداً لمناقشة فلسفاتك العبيطة هذه الآن.. أعدّي لي وجبة سريعة، حتى أعود إلى العمل، بعد أن أستبدل ملابسي.

دسّت قدميها في حذاء مطاطي، وهي تقول في تحدّ:

- ليس لديّ وقت لهذا، فأنا ذاهبة.

بدا كوحش شرس، وهو يسألها:

- إلى أين؟!

أجابته، وهي تتجه إلى الباب:

- ميدان التحرير.

ارتفع حاجباه في ذهول مستنكر، وصرخ فيها، وهي تفتح الباب:

- فليكن في معلومك أنك لو عبرت هذا الباب، فأنت طالق.

التفتت إليه بنظرة ساخرة، وقالت في هدوء مستفزّ:

- أشكرك.

وعبرت الباب، وأغلقته خلفها في عنف، تاركة إياه خلفها، وقد احتقن وجهه..

بمنتهى الشدة.

يُتبَع

رابط هذا التعليق
شارك

7-النهايه (النصر)

تلفّت الدكتور عبد الله حوله، غير مصدق لما تراه عيناه، في ذلك الميدان الشهير في قلب العاصمة..

الشعب كله خرج بالفعل، ينادي برحيل النظام..

شباب من مختلف الفئات والأعمار..

شيوخ.. ونساء.. وحتى أطفال..

مثقفون.. وحرفيون.. وموظّفون.. وعمال..

الكل اتّفق على هتاف واحد، ينادي بالرحيل..

حتى هو، لم يصدّق يوماً أنه يمكن أن يخرج في مشهد كهذا، وهو الذي تحاشى السياسة طيلة عمره، وها هو ذا الآن وسط تظاهرة كبرى، ضمّت كل الشعب تقريباً..

حتى زوجته نوال خرجت، والحاج فؤاد وزوجته، وأبناء جيرانه، وزملاء الجامعة، ورجال الأزهر...

صحيح أن الرئيس قد أعلن عدم ترشيح نفسه للرئاسة في الانتخابات القادمة، ولكن هذا لم يُثلج قلب الشعب كما تصوّر، وإنما زاده غضباً واشتعالاً ومطالبة بالرحيل..

من بعيد لمح مجموعة خالد، وهي تهتف وسط المتظاهرين، فتهللت أساريره، وحاول أن يشقّ طريقه إليهم، و...

وفجأة، حدث أمر يفوق كل خيال..

جمال وخيول وحمير اخترقت الميدان براكبيها، واندفعت وسط المتظاهرين، وكأننا في مشهد من القرن التاسع عشر، أو في مشهد من فيلم رديء من أفلام الدرجة الثالثة وما تحتها..

وبلا رحمة، وفي اندفاع أعمى، راح من يقودون تلك الحيوانات يصطدمون بالمتظاهرين، ويدوسونهم تحت حوافر وخفاف، وساد هرج ومرج بلا حدود..

ومن أسطح البنايات، سقطت زجاجات مشتعلة، وانطلقت رصاصات حية..

وسقط شهداء..

شباب في عمر الزهور سقطوا..

دماء طاهرة أريقت في الميدان..

ثورة عارمة حلّت في المكان..

"لا تتراجعوا"

هتف خالد بالعبارة وهو يحمي علياء بجسده، ويشير إلى رفاقه، وصرخ فتحي يؤيده في حماس:

- نحن أكثر عدداً.. لا تسمحوا لهم بتفريقكم.

كانت صرخاته تضيع وسط صرخات الآخرين، ولكن سامي اندفع نحو أحد الخيول، وانضم إليه علاء، في حين خلع أحمد حزامه، وألقاه ممسكاً بطرفه، ليلتف حول قائم أحد الجمال، وساعده تامر في جذب الطرف الثاني للحزام..

واختل توازن الجمل، وسقط مع راكبه وسط المتظاهرين..

وبدأ قتال من نوع عجيب..

شباب المتظاهرين انقضّ على ركاب الخيول والجمال والحمير، وامتلأ قلبه ببسالة تشفّ عن معدنه، وبدأت الصورة تنقلب رأساً على عقب، واستعاد المتظاهرون السيطرة على الموقف..

وكانت مفاجأة للمعتدين..

لم يتصوّروا أبداً أن يكون شباب مصر بهذه البسالة..

لم يتصوّروا..

ولم يتوقعوا..

ومن أعلى أسطح البنايات، المطلة على ميدان التحرير، بدأ مجموعة من قناصة الأمن عملهم القذر، وانطلقت من بنادقهم رصاصات حية..

رصاصات أصابت الكثير من الأهداف..

الحية أيضا..

وتساقط الشهداء..

تساقطوا، وامتزجت دماء بعضهم ببعض، وتحوّل الميدان إلى ساحة حرب غير عادلة، فيها طرف يقتل بلا رحمة، وآخر يفتح صدره للنيران، ويواصل هتافه المطالب برحيل النظام، مضافاً إليه هتاف آخر، بمحاسبة من يفعل هذا..

وفي ديوان رئاسة الجمهورية، بدا الرئيس عصبياً، وهو يتساءل:

- ماذا يحدث في مصر بالضبط؟!

ناوله رئيس الديوان المذكرة الرسمية، المرسلة من وزارة الداخلية، والتي تؤكّد -رسمياً- أن الأمر كله يقتصر على ألف وخمسمائة متظاهر في مدينة السويس، وضِعفهم في ميدان التحرير، ونسبتهم جميعاً إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأكّدت القدرة على السيطرة عليهم، في غضون ساعات..

قرأ الرئيس التقرير في سرعة، ثم رفع عينيه إلى رئيس الديوان، يسأله:

- أهذا صحيح؟!

كانت مشكلة الرئيس الأساسية، هي أنه قد عزل نفسه عن شعبه تماماً، منذ أمد بعيد، بعد أن أقام الأمن حوله أسواراً عالية، بحجة حمايته من شعبه، وارتضى هو بتلك الأسوار، مولياً ثقته لأمن لا يوليه ثقته، ولا يفترض أنه هناك في شعبه من يضمر له خيراً..

ولقد أقام هو بدوره مزيداً من الأسوار حول نفسه، عندما عزف عن مطالعة الصحف، أو مشاهدة البرامج التليفزيونية العالمية، مكتفياً بالتقارير المختصرة، التي يقدّمها له رئيس الديوان، والذي حرص على إيصال صورة زائفة له طوال الوقت، كجزء من ضمان لعبة السيطرة عليه..

وحتى عندما كان الرئيس يلتقي بالصحافة والإعلام، كان رئيس الديوان ومعاونوه يطالبون رجال الإعلام بعدم ترديد ما يزعج الرئيس..

لقد كان معزولاً ومغيّباً بالفعل..

وبكامل إرادته..

وداخل قصر الرئاسة، وعلى الرغم من إدراك الجميع لما يحدث، لم يحاول شخص واحد، أو يجرؤ، على إخباره بالحقيقة..

بل على العكس تماماً، كانوا يخبرونه طوال الوقت بأن الأمور محدودة، وأنها مجرّد عاصفة مؤقتة، سرعان ما تمضي في سلام..

ولقد اكتفى الرئيس برد رئيس الديوان، وغمغم في تهالك، يتناسب مع سنوات عمره، التي اقتربت من الثمانين:

- ماذا يريدون إذن؟!

تبادل الموجودون نظرة صامتة، دون أن يجيب أحدهم بحرف واحد، فواصل وصوته يزداد تهالكاً:

- لقد أخبرتهم أنني لن أتقدّم للترشيح في الانتخابات القادمة، وقبلت استقالة ابني من الحزب، وهذا يعني إنهاء فكرة التوريث، التي كانت تغضبهم، فماذا يريدون؟!

تجرأ أحدهم، وغمغم:

- يريدون إسقاط النظام كله.

تساءل الرئيس، وقد انكشف قناع الثبات الزائف عنه، وبدا على حقيقته، كشيخ عجوز:

- ولماذا يريدون إسقاط النظام؟! لقد وعدتهم بإصلاح كل الأمور، في الشهور المتبقية.. سأقوم بتعديل الدستور، وحذف المواد التي يرفضونها، وسأطلق الحريات، و.....

غمغم ذلك الشخص، دون أن ينتبه إلى ما في هذا من مجافاة للرسميات:

- يبدو أن القرار قد جاء متأخراً للغاية يا سيادة الرئيس.

التفت إليه الرئيس بنظرة غاضبة، فأمسك رئيس الديوان بيد الرجل، وقال في صرامة:

- انصرف فوراً.

لم يكتفِ بالقول، وإنما جذبه من يده إلى الخارج، وهو يهمس في صرامة:

- ما كان ينبغي أن تقول هذا في مثل هذه الظروف.

أجابه الرجل في عصبية:

- بل هذا ما كان ينبغي أن تقوله أنت في مثل هذه الظروف.. البلد في حالة ثورة، ولا توجد سوى طريقة واحدة لتهدئتها.

سأله رئيس الديوان في غضب:

- وما هي؟!

توقّف الرجل فجأة، والتفت إليه، مجيباً في حزم:

- تنحّي الرئيس.

ولم يعترض رئيس الديوان..

بل لم ينبس بحرف واحد..

"لقد هزمناهم"..

هتف بها خالد في حماس، بعد إتمام السيطرة على ركاب الخيول والجمال، وهتفت معه علياء، في حماس أكثر:

- لن نتراجع حتى يرحل الرئيس.

بدأ الفريق كله يردّد الهتافات بسقوط الرئيس، واحتضنت علياء كفّ خالد، وكأنها تجد فيه الدفء والأمان، وهي تهتف بكل الحماس، هتاف شاركها فيه الشعب كله..

ومن سطح بناية عالية لمح أحد القناصة من خلال عدسة منظار بندقيته الغادرة، أيديهما المتشابكة، فصوّب بندقيته إلى رأس خالد، مدفوعاً برغبة وحشية في هدم تلك العاطفة الشريفة..

وبلا تردّد.. ضغط الزناد..

وانطلقت رصاصته..

وفي نفس اللحظة كان الدكتور عبد الله قد اقترب من المجموعة، ولمح ذلك الوميض أعلى البناية، فصرخ وهو يندفع نحوهم:

- احترسوا.

حمى خالد بجسده، دون أن يدري حتى أنه الهدف المنشود..

ولكن الرصاصة واصلت طريقها.. وأصابت هدفاً..

أصابت جسد الدكتور عبد الله.. مباشرة..

واتسعت عينا الأستاذ الجامعي، وهو يسقط بين أيدي تلامذته، فهتف خالد، وهو يلتقطه بذراعيه مذعوراً:

- دكتور عبد الله!!

رفع الرجل عينيه إليه، متسائلاً في وهن:

- أأنتم بخير؟!

هتف سامي:

- أنت مصاب يا دكتور.

أشار الدكتور عبد الله بيده في ضعف، قائلاً بابتسامة تُحتضر:

- المهم أنكم بخير.. أنتم المستقبل.

كانت آخر عبارة خرجت من بين شفتيه، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين أيديهم..

وفي ذهول ملتاع حدّق أفراد المجموعة كلهم في جسده الطاهر، وفي دماء الشهادة، التي سالت منه؛ لتروي أرض ميدان التحرير، ثم تبادلوا نظرة قوية، حلّ الإصرار فيها محلّ الذهول والألم، قبل أن ترتفع رؤوسهم عالية..

كانت الرصاصات الغادرة ما زالت تنطلق، والدماء ما زالت تراق من أجل الحرية، ولكنهم، وبلا كلمة واحدة، اتخذوا قراراً واحداً حاسماً..

لقد فتحوا صدورهم للنيران، وأطلقوا صرخة رجل واحد..

وانقضّوا..

واشتعلت الثورة كاملة..

حتى النصر.

تمت بحمد الله

رابط هذا التعليق
شارك

جزاكم الله خيرا

هوا انا ليه بكيت و انا بقراها؟؟

رغم اني من زمان كنت زهقت من أسلوب نبيل فاروق و مثالية قصصه الزايدة عن اللزوم

كتابات نبيل فاروق زرعت فينا صورة شديدة الرومانسية للاجهزة الامنية المصرية

ثم خرجنا للواقع و كانت الصدمة الرهيييييييبة

تفتكروا ده كان من أسباب ثورة جيلنا و الجيل الأصغر؟

رابط هذا التعليق
شارك

مع انى مقريتهاش

بس الله ينور يا أز أز

ولى عودة

﴿ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان الى الرحمن


24556918.jpg

nX0pp2.png
رابط هذا التعليق
شارك

الله يعطيك العافية حبيبي اوزاوز ... اعدت لنا ذكريات اسلوب الدكتور نبيل فاروق المثالي على قولة ام زيد

لكني اتمنى ان اعرف منك شخصيا او من اي احد له خلفية عن الموضوع

هل موقف الدكتور نبيل فاروق ثابت تجاه مبارك وحكمه من قبل الثورة ام هي نغمة جديدة منه بعد الثورة

لأني لم اكن اقرا في رواياته الا التمجيد لاجهزة المخابرات وتصويرها بارقى وانظف الاشكال

والله اعلم !!

،، مع اجمــل تحيـــاتي

الســــاري

782283329.png

رابط هذا التعليق
شارك

الله يعطيك العافية حبيبي اوزاوز ... اعدت لنا ذكريات اسلوب الدكتور نبيل فاروق المثالي على قولة ام زيد

لكني اتمنى ان اعرف منك شخصيا او من اي احد له خلفية عن الموضوع

هل موقف الدكتور نبيل فاروق ثابت تجاه مبارك وحكمه من قبل الثورة ام هي نغمة جديدة منه بعد الثورة

لأني لم اكن اقرا في رواياته الا التمجيد لاجهزة المخابرات وتصويرها بارقى وانظف الاشكال

والله اعلم !!

اولا :للاسف انا اري القصه ضعيفه فنيا ولكن متعه قراءتها هو تصويره التخيلي لاشخاص كنا نتمني فعلا معرفه ردود فعلهم في تللك الحظات كالواد وابوه

ثانيا : اشم نغمه انه ماكانش يعرف والناس اللي حواليه هم الوحشين

ثالثا تمجيده كان للمخابرات والجيش وليس للشرطه مما زرع فينا منذ الطفوله حب المؤسسه العسكريه

اما موقفه عموما فهو موقف عروبي قومي في المقام الاول وكانت له مقالات بالدستور تهاجم الحزب والحكومه ولكن بعيدا عن الراس الكبيره حسب ماكان متعارف عليه وقتها

لكن اجمالا هو من المؤيدين وليس من المتلونيين

تم تعديل بواسطة ozoozo

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
  • الموضوعات المشابهه

    • 0
      فى مطلع الأربعينيات غنى المونولوجست الشهير محمود شكوكو من تلحين الموسيقار محمد عبدالوهاب ياجارحة القلب بقزازةعرض المقال كاملاً
    • 0
      درس الهندسة والقانون وعشق الفن بكافة أنواعه عاش وعاصر أزمنة مختلفة اجتماعيا وفنيا وسياسيا واقتصاديافقدعرض الصفحة
    • 0
      أحمد حلمي الحقيقي  في حتة كدا  كبيرة جنب رمسيس اسمها ميدان احمد حلمي.. مين بقي احمد حلمي ... اللي يسموا ميدان مشهور قوي كدا ع اسمه ..   أحمد حلمي صحفى مصري اتولد في حى الحسين بالقاهرة سنة 1875،  واشتغل مع مصطفى كامل في جريدة اللواء،  وكتب مقاله الشهير "يا دافع البلاء" عن حادثة دنشواي... وشاط بقى في الكل .. كان دكر..  حلو..  حلمي كمان اتُهم بالعيب في الذات الملكية عشان عارض الخديوي عباس حلمي الثاني، واتسجن كمان.. وهو اول صحفي اتسجن بالتهمة دي ..  وبعدها أصدر صحيفة اسمها "القطر ال
    • 0
      مساهمة مصر فى علاج التغير المناخى عن طريق بحيراتها: تتجه البحوث الحالية الى خفض انبعاث ثانى اكسيد الكربون من الوقود الاحفورى وأيضا إنتاج الطاقة الكهربائية من مصادر متجددة مثل الشمس او الرياح أو من المفاعلات النووية التى لاتنتج ثانى اكسيد الكربون. ولكن البحث الذى أجريته مع مجموعة من معهد المحيطات والمزارع السمكية فى المركز القومى للبحوث يتجه الى زيادة امتصاص ثانى أكسيد الكربون من الجو بتنمية الفيتوبلانكتون فى البحار والبحيرات المصرية. وقد أثبتنا انه يمكن التخلص من ٧٠ مليون طن من ثانى أوكسيد الكرب
    • 0
      دع سمائى فسمائى محرقة.. دع قناتى فمياهى مغرقة.. واحذر الأرض فأرضى صاعقة.. هذه أرضى أنا وأبى ضحى هنا.. وعرض المقال كاملاً
×
×
  • أضف...