اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

الكتب الأحباب..ما قرأت بعينيك


أثر الطائر

Recommended Posts

الكتاب: صورة المرأة في تاريخ الفنون

المؤلفان : د.محمد تاج - د.وائل غالي

الناشر : الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2010

صورة المرأة عبر العصور

12470048.jpg

الكتاب يهتم، ربما بشكل غير مسبوق، بالبحث في تاريخ الفنون عن "الصورة المثالية" للمرأة. التجسد النسوي في التاريخ. الأسطورة الأنثوية عبر العصور. ليس بمعنى الصورة أو التجسد أو الأسطورة المفارقة للواقع، بل يبحث المؤلفان في صلب الأسطورة الواقعية، أو الصورة المثالية، المطلوبة والشائعة واقعيا، للمرأة كما تبدت لأهل زمانها، ومواصفات هذه الصورة الجسدية والروحية والأخلاقية. إنه بحث في : كيف نظرت العصور المتعاقبة للمرأة؟، كيف حلمت بها؟، كيف تمنتها ووجدتها؟. كينونة صورة المرأة الصالحة للحياة في كل زمن من الأزمان؟.

والسؤال الأساسي الذي يطرح على هامش بحث من هذا النوع (على أهمية وجودة ما يطرحه) يتعلق بصحة فرضية أن كل مجتمع ينتج للمرأة صورة واحدة عامة في كل عصر أو مرحلة تاريخية. أم أن الأقرب للتصور وللحقيقة التاريخية هو أن هذه الصور المثالية للمرأة يمكن أن تتعدد أو تتنوع في كل عصر بحسب الميول والأذواق والاحتياجات والظروف المختلفة له؟.

والحقيقة أنه سواء في حال وحدة صور المرأة أو تنوعها في العصر التاريخي الواحد، إلا أنه بوسع البحث (الاجتماعي أو التاريخي أو الأنثروبولجي) أن يصل إلى مواصفات عامة للصورة المحبذة أو المرجحة أو المحببة أكثر للمرأة، والمنتشرة في نطاق اجتماعي واسع نسبيا في كل عصر تاريخي أو زمن اجتماعي.

من أجل ذلك يعقد الباحثان فصلا في المقدمة للحديث عن الموضوع والمنهج، إذ يأخذ الكتاب هيئة بحث علمي ملم بالمصادر ومدقق للمصطلحات. وتبدأ مقدمة المنهج بالسؤال :

"هل نقدر أن نتكلم عن أسطورة أو صورة للمرأة من صنع الفنان أو الفنانة؟"

والإجابة على هذا السؤال تشير بحسم إلى ثقافة المجتمع وظروف العصر التي تشارك الفنان مشاركة حاسمة في صناعة هذه الصورة، بل تكاد تكون هي الصانع الأساسي للصورة الأنثوية. فإذا كان الفنان هو الأب لصورته وإبداعه فإن هذه الظروف هي بمثابة الأم المنجبة، فإذا :

"كان يقال من قبل أن الولد ينبني وتتركب شخصيته على غرار صورة الأب. فإن هذا ليس حتميا أو لا غنى عنه، إذ يمكن للولد أن ينبني وتتركب هويته انطلاقا من صورة أم قوية تقوم بمهامها كأم وتكون لها في الوقت نفسه صورة مرضية ومقيّمة اجتماعيا"

وصورة المرأة التي أنتجها الفنان تغيرت بتغير الواقع عبر تاريخ تطور المجتمعات، تغيرت الصورة لكنها ظلت طيلة الوقت ملتصقة بالواقع تتطور وترتقي بتطوره وإرتقائه بدء من العصور الحجرية وحتى عصورنا الحديثة الذي أصبحت هذه الصورة فيها (لحسن الحظ) مستعصية و "أصعب" من ذي قبل :

"أصعب من ذي قبل على العنصريين ضد المرأة أن يفرضوا تمييزهم. إن الصورة وصورتنا عن أنفسنا لا تخضعان لحدود قومية وجغرافية في أيامنا هذه. وتبقى الأحلام والرغبات ملكنا المطلق حيث وجدنا".

فصورة المرأة ليست منفصلة عن قوانين التطور الإنساني والاجتماعي، كما أن اسم "المرأة" نفسه يختزل داخله كل النساء، وهو محل دوما للأفكار المسبقة والتصورات الثقافية والتاريخية الراسخة، والرواسب والنوازع اللاواعية، والتعميمات التي لا تخصص ولا تستثني أفراد النوع الأنثوي، والأحكام القاطعة التي تطلق على كل فرد من أفراد الجنس كله.

هذه الخصوصية لكلمة "المرأة"، والخصوصية في حد ذاتها ليست نقصا ولا امتيازا ولا تحدد درجة الإنسانية كما يطرح الكتاب، هذه الخصوصية الأنثوية، تتضخم بفعل هذه التصورات والأحكام القاطعة المسبقة لدرجة أن يخرجها هذا التضخيم من بعدها الإنساني العام. فيتصور البعض مثلا أن ما نطلق عليه "طبيعة المرأة" هو أمر منفصل ومغاير، منبت ومقصى، عن الطبيعة الإنسانية العامة التي تجمع الجنس البشري كله بنسائه ورجاله!!. وهو ما يحبس المرأة في نوع من "الجيتو" الثقافي الاجتماعي يحتم عليها التصرف في إطار أنماط ثابتة ومتوقعة وموحدة تلغي إبداعها الشخصي وخصوصيتها المتميزة كفرد. لذلك فإن من هموم الكتاب الأساسية هو "أنسنة" صورة المرأة الجديدة. أي العودة بها إلى مدار الفكرة البشرية المتغيرة المتطورة الزمنية :

"البرهنة على المنشأ التاريخي الثقافي لما توصف به المرأة والانتقال من ثم بصفاتها العقلية والخلقية خاصة من الأصيل اللازمني إلى المكتسب التاريخي التطوري، واعتبار التربية وفرص التعلم والعمل أهم عوامل التطور".

صورة المرأة في العصر الحجري

بحسب ما يمكن الوصول إليه من معلومات عن مجتمعات العصر الحجري القديم فإن الصورة الأولى التي انتقلت إلينا منذ ألاف السنين تمثلت في منحوتة تسمى "عذراء الكهوف" أو "فينوس العصر الحجري".

2455558_01.jpg

تمثال فينوس العصر الحجري

وتشير طبيعة الحياة والبيئة التي أحاطت بالإنسان الأول في هذه الحقب السحيقة إلى خضوعه لظروف الطقس المتقلب شديد البرودة لعصر جليدي زحف ليغطي رقعة كبيرة من اليابسة. ولذلك فقد كانت المرأة المفضلة في هذا العصر، كما يجسدها تمثال "عذراء الكهوف" – هي :

"الأقدر على احتمال المشقة والقيام خلال ذلك بمهام تنوء لصعوبتها وكثرتها المتون، إلى جانب ما يفترض من كونها أيضا الأخصب لتعويض ما تفقده القبيلة من أبناء لا بديل بأي حال عن تعويضهم في خضم ما تمر به القبيلة من أهوال"

لذلك فإن الصورة التي يحويها الكتاب والمسماة "عذراء الكهوف" هي تمثال لامرأة هائلة الحجم، متينة البنيان، ذات بدانة مفرطة، وأطراف قوية غليظة وافرة الشحوم، وبطن وأرداف كبيرة وأثداء ضخمة متدلية تدل على الخصوبة وكثرة الإنجاب، ووجه مطموس إذ لم يهتم فنان العصر الحجري بتصوير ملامح وجه المرأة التي يبدو أنها لم تكن قد دخلت بعد كواحدة من مقاييس جمال المرأة التي تستحق الوقوف عندها.

وما إن تبدلت الأوضاع بإنسان العصور الأولي بدخوله مرحلة جديدة يسميها المؤرخون "العصر الحجري الجديد"، حتى بدأت ملامح هذه الصورة في التبدل تدريحيا. بدأ المقام يستقر بالإنسان الذي تعلم استنبات القمح والشعير والكتان، وتعلم تخزين الفائض من هذه المحاصيل عن حاجته، وبدأ في استئناس الحيوان وتربيته. وتشير التماثيل التي وجدت في حضارة نقادة الأولى (جبانة مدينة توبت) بمحافظة قنا إلى هذا التبدل التدريجي بكل وضوح. حيث عثر الأثريون على تماثيل لبدينات بأرداف غليظة كثيرا ما مثلت بأذرع مرفوعة. لكنها كانت أنحف من ذي قبل. وهو ما وجد بصورة أوضح في ثقافات "مرمدة بني سلامة" و"وادي حوف" و"دير ترسا" و"البداري". حيث حل التناسق النوعي لأعضاء جسد المرأة محل الامتلاء والقوة التي حظيت باهتمام العصر الحجري القديم، فيما بدأ الاهتمام بإظهار ملامح وجه المرأة المطموسة. ويذهب بعض العلماء إلى أن أشكال النساء المجسدة في تماثيل العصر الحجري الحديث ربما دلت على أن سكان الكهوف عبدوها كآلهة باعتبارها المصدر لكل حياة.

صورة المرأة في الحضارة المصرية القديمة

مع بزوغ فجر الحضارة المصرية القديمة وبداية عصر الأسرات، حلت، محل الصورة السابقة الحافلة بالبدانة والقوة والغلظة الأقرب إلى الذكورية، صورة المرأة الرشيقة القوام، الجميلة الوجه، فاتحة البشرة ونجلاء العيون، كحلاء الرموش، ناعسة الجفن بعض الشيء، صغيرة الأنف، ممتلئة الشفتين، جعداء الشعر فاحمته، ناهدة الصدر صغيرته إلى حد ما.

467004241.jpg

ويرصد الباحثان سمة أخرى هامة في تماثيل المرأة في العصر الفرعوني هي التشابه الواضح على وجه العموم بين تماثيل المرأة وتماثيل الرجل. وهو ما يعزوانه إلي :

"أن كلا من الرجل والمرأة مزدوج الجنس. وأن الخط الفاصل بين المؤنث والمذكر يشطرهما إلى جنسين من كل طرف، في الرجل مكون ذكري ومكون أنثوي، وفي المرأة مكون أنثوي ومكون ذكري، وبالنتيجة فإن المرأة نزعة تعتبر، كلاسيكيا، على أنها رجولية، ومن جمل ما تتمثل فيه "إمكانية" بل ضرورة ممارسة سلطة، وعندها في الوقت نفسه أبعاد أكثر جمالية وأكثر ارتباطا بالعذوبة والميل إلى العناية..إلخ. لذلك تشابهت تماثيل الرجال وتماثيل النساء في الحضارة المصرية القديمة".

ويضرب الفنان الفرعوني نموذجا مبكرا لكيفية احترام المرأة وتصويرها ككيان له ذاتيته وخصوصيته لا كيان يجسد اشتهاءات الرجل. فلم يبالغ في تضخيم ما يعتبر مثيرا من أعضائها ولم يعرها إلا بالقدر الذي عرى به الرجل. وقد صور الفن المصري القديم المرأة في صورة ربة ذات جبروت وقوة، وهو ما يتجسد في تماثيل "سخمت" المرأة اللبؤة، و"إيزيس" الزوجة القوية الوفية، و"نبت إقرت" أول ملكة تحكم مصر، و"سبك نفروا" الملكة الثانية، وأخيرا "حتشبسوت" التي تزيت بزي الرجال وحكمت باسم "ماعت مارع حتشبسوت".

وقد أبدع الفنان المصري منذ بداية حكم الأسرات في تصوير تقاسيم أجساد النساء، وإظهار تناسق أعضائها في غير ابتذال أسفل صوبها الشفاف أو المحبوك على جسدها. وغالبا ما كانت تلون تماثيل النساء باللون الوردي أو الوردي المشوب بالصفرة، وبالبني الشاحب في بعض الأحيان.

ولم يكن هذا الاحترام الذي أبداه الفنان المصري لصورة المرأة وتركه لتصوير النساء مثيرات للشهوة عن تزمت أو تحريم أو نتيجة لتجريم المجتمع للتشبيب بالمرأة والتعرض لوصفها، بل إن خلو تماثيل المرأة الفرعونية من الأثار المبتذلة راجع إلى أن :

"المصريين عرفوا الحب ومارسوه، ولم يخجلوا من التعبير عن مشاعرهم، ولم يكتموا ذلك الحب ولا ستروه، بل أعترفوا به، حيث لم يعتبر الحب في الحضارة المصرية "خطيئة" تستوجب الخجل أو التوبة".

ويختم المؤلفان الفصل الخاص بصورة المرأة في العصر الفرعوني بالتغير الذي أعتراها مع المرحلة القبطية ودخول المسيحية وانتشارها في مصر. إذ لم يعد الهدف من تصوير المرأة هو إظهار جمالها بقدر ما أصبح إكسابها الوقار والعفة والتبتل، مع الاحتفاظ بملامحها واضحة نتيجة التأثر بالميراث الفني الفرعوني السابق. وتطل علينا المرأة في صورتها القبطية بعيون سوداء واسعة زاخرة بالود تكشف نظرتها عن شفافية ونقاء الروح. ووجوه تعلوها بشاشة وبشر وطيبة، وتكسوها السماحة والهدوء والرضا، وهو ما تمثل بمثالية في بورتريهات "وجوه الفيوم"، وفي منطقة "الشيخ عبادة" بمحافظة المنيا.

83697_1-14.jpg

صورة امرأتان من وجوه الفيوم

أما تصوير جسد المرأة في الفن القبطي فقد شهد تراجعا واضحا، حيث أعترى الجسد شيء من الطول المخالف للنسب الطبيعية كي يكسوه بالمهابة، كما تزينت أجساد النساء بنحافة تدل على الزهد في متع الحياة والتقوى والهداية. وأحيطت المرأة في الصورة القبطية بالكثير من الرموز المسيحية كالصليب وعناقيد العنب والحمائم وعلامة الحياة الفرعونية.

رابط هذا التعليق
شارك

  • الردود 61
  • البداية
  • اخر رد

أكثر المشاركين في هذا الموضوع

أكثر المشاركين في هذا الموضوع

الكتاب: صورة المرأة في تاريخ الفنون

المؤلفان : د.محمد تاج - د.وائل غالي

الناشر : الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2010

صورة المرأة عبر العصور (2)

12470048.jpg

المرأة عند العرب

يعمد كتاب "صورة المرأة في تاريخ الفنون" إلى تراث العرب الشعري في المقام الأول، ويليه النثري، في محاولته رسم ملامح صورة المرأة كما رسمتها فرشاة الكلمة عند الشاعر العربي. وبدون حاجة إلى أن يلمح المؤلفان لذلك يرى القارئ ضرورة إحداث هذه النقلة في استقصاء صورة المرأة عند العرب من فنون الرسم والنحت والتصوير إلى فنون الشعر بالذات والكتابة بعامة. إذ أن تحريم الإسلام لتصوير الجسم البشري احتياطا من عبادة الأصنام التي قضى دين التوحيد عليها جعل من تراث الفنون الإسلامية تراثا خاليا من التجسد البشري في الصورة خلوا يجعل من الشعر (فن العربية الأول) والتصوير بالكلمة عموما، مصدرا وحيدا في استقصاء صورة المرأة. ويبدو أن اهتمام الشاعر العربي بالوصف (منذ العصور الجاهلية وقبل الإسلام أيضا) كان هو التحايل أو البديل الملائم لغياب المخيال العربي عن مجالات الرسم والتصوير والنحت.

واللافت للنظر في تراث الشعر العربي هو تعدد وثراء تفاصيل وملامح صورة المرأة فيه تعددا نسبيا بعكس الحضارات السابقة التي تحقق فيها لهذه الصورة قدرا كبيرا نسبيا من الثبات والعمومية. وقد يعود ذلك، في بعض منه، إلى جور إندثار الجانب الأكبر من تراث الحضارات الشرقية الأولى على هذا التعدد في ملامح صورة المرأة فيها. كما يعود بالتأكيد إلى اختلاف طبيعة المادة المستخدمة في رسم صورة المرأة وهي الكلمة في حالة التراث العربي. وقد يلمح، في بعض منه أيضا، إلى نمو الوعي التاريخي وتشعب الثقافة البشرية وانفتاحها - بتقدم الزمن - على الاستلهامات والصور والملامح المتعددة للمرأة والعالم.

fcb%20hyjj.jpg

يذكر المؤلفان في بداية هذا الفصل الثالث أنه :

"تناقضت صور المرأة في الشعر العربي، وتأرجحت تارة بين ملامح عفيفة تصورها كالزهرة والفراشة، وبين ملامح فجة عارية تصورها كالبغي من ذوات الرايات الحمر. فنرى مثلا أن قيسا وإن هام بغرام فتاته ليلى، فقد عف عن أن يشبب بها ويصف مفاتنها بطريقة فجة تعريها أمام ناظري كل من تلتقط أذناه أبيات قصيدته، على العكس تماما مما فعل دوقلة المنبجي مع حبيبته دعد تلك التي وصفها بريشة فنان كلاسيكي لا يكتفي برسم أصغر التفاصيل رسما واضحا بليغا متناهي الدقة، بل ويضخمها ويبرزها ليبين مناحي الحسن والاشتهاء والتفضيل فيها، من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها"

وكما أختلفت توجهات الشعراء العرب في التعفف عن تصوير الأعضاء الحسية للمرأة في أشعارهم أو التشبيب بها وتصويرها بشكل بارز ومؤطر ومضخم التفاصيل، اختلفت أيضا توجهاتهم في تفضيل ملامح المرأة الجسمية الخارجية. وفي هذا السياق يحاول الكتاب رسم الملامح العامة لصورة المرأة المفضلة كما صورها الشعر والنثر العربي في تياره العام. وقد ساعد الرسم بالكلمة في التراث العربي على امتلاء ملامح هذه الصورة بالتفاصيل الحسية للمرأة، ما كان ظاهرا أو خفيا في بعض الأحيان منها. وتأتي هذه الصورة في الشعر صورة :

"امرأة بيضاء ممتلئة..سمينة – لا بدينة مترهلة – حمراء الخدود، ذات شعر غزير فاحم، عيناها نصف مغلقة يثقل جفيها النعاس، أو كأنها استيقظت من النوم، فلم تتفتح عيونها تماما، وترى أنفها مرفوعا في شمم وكبرياء، وأما نهدها فأبيض كأنه قد من عاج، ولا يميز المرأة زندها لامتلاء ذراعها واكتنازه، وهي طرية بضة تكاد تخلو من العظام، ويفوح عرقها برائحة الكافور وماء الورد والندى. وأما بطنها فمطوي كثير الثنيات، على أنها نحيفة الخصر عظيمة الردف"

ويرصد الكتاب وجود نظرة فنية هامشية، تتناقض مع مجرى المنظور العام الذي يحدد ملامح صورة المرأة العربية، نظرة تقدر الرشاقة والجسد الأهيف المتناسق، وبدت هذه النظرة أوضح مع بداية العصر العباسي وفي أدب التخوم كالأندلس. وهي النظرة التي تجسدها أبيات "السري الفراء" التالية :

"بيضاء تنظر من طرف تقلبه

مفرق بين أجسام وأرواح

ماء النعيم على ديباج وجنتها

يجول بين جنى ورد وتفاح

رقت فلو مزج الماء بها والراح

لامتزجت بالماء والراح"

تصوير الفنان الغربي للمرأة الشرقية

مع بدء الاستعمار الغربي لبلدان الشرق العربي والإسلامي بدأت موجات من الهجرة الاستشراقية تفد إلى هذه البلدان بهدف دراسة مجتمعاتها وعاداتها وأديانها وثقافتها. وقد حظيت المرأة الشرقية منذ بداية هذا اللقاء بإعجاب شديد من قبل الفنانين الغربيين. لذلك نجد صورا للمرأة الشرقية لدى أهم فناني الغرب مثل "رمبرانت" و"رينوار" و"ديلاكروا" و"ماتيس" وغيرهم كثيرون. لكن ما صوره هؤلاء الفنانون في بداية احتكاكهم بالمجتمع الشرقي لم يكن هو المرأة الشرقية كما هي في حقيقتها الاجتماعية والتاريخية والإنسانية. كان ما صوره الفنانون المستشرقون، في هذه المرحلة، هو المرأة الغربية لكن بديكور وملابس شرقية. و"لقد أرتدت الملكة مارى أنطوانيت بذاتها الثياب الشرقية التي أطلق عليها في ذلك الوقت : على طريقة السلطان". وكل ما نجح "الفنان المستشرق" في تجسيده تقريبا هو ذلك الجو الأسطوري الغامض الذي يحيط بالمرأة في بلاط سلاطين الشرق والذي يختلف عن أجواء القصور الملكية الأوربية بغض النظر عن مظاهر البذخ والثراء المشتركة.

300px-WomenofAlgiers.JPG

لكن مع توالي الحملات العسكرية الغربية وتجنيد بعض الفنانين فيها، وهجرة بعضهم الآخر، إلى الشرق والإقامة فيه لفترات طويلة افتتانا بأجواءه الأسطورية أو الروحية الخالصة، بدأت صورة المرأة لدى الفنان الغربي في التبدل، فلم تعد هي صورة المرأة الغربية في لباس شرقي فخم مزركش، إنما أوغلت ملامحها الحسية في الشرقية، وطغت عليها الملامح المصرية والمغربية والتركية على الأخص.

"وقد صورت المرأة وهي تمارس حياة تزخر بقدر وافر من قشور الحرية المقيدة بممارسات محدودة، داخل أجنحة الحريم، وفي التجمعات الخاصة بالنساء، كالحمامات العامة، وهن يدخن "الجوزة" ويحتسين القهوة وتقوم الجواري على خدمتهن، وفي القصور والمقاصير، بل وفي الأسواق وهن يشترين الطنافس ويساومن الباعة، بيد أنها لا تشارك الرجل أبدا أو تسانده فيما يقوم به. كما صور الجانب المشين المقابل للمرأة الأمة التي تباع وتشترى، وتعرض بامتهان كسلعة مجردة من المشاعر، ليقلب فيها الزبون كما يقلب في بضائع الأسواق."

بالطبع، كانت الصورة في هذه المرحلة غير واقعية وغير متطابقة مع الصورة الحقيقية للمرأة الشرقية، التي رغم حرمانها في هذه الفترة من كثير مما حظيت به من حقوق وأوضاع متحررة في ماضي المجتمع الشرقي، إلا أنها ظلت، رغم هذا، متطلعة وقادرة على المشاركة في مجالات الحياة المختلفة داخل مجتمعها مشاركة مؤثرة وفعالة. وقد يعود هذا الطابع غير الواقعي للمرأة الشرقية في صور الفنانين المستشرقين إلى اندماجهم المحدود في المجتمع الشرقي مما جعلهم غير قادرين على إدراك الطابع العملي للعلاقة بين المرأة والرجل. كما أن اختلاطهم في غالب الأحيان أتى اختلاطا بالجواري والراقصات وقينات المعازف، وهو ما نقل إليهم هذا الإحساس المغلوط :

"ومن ثم فقد صورت المرأة الشرقية كدمية بضة شهية، حلوة الملامح، مسلوبة الإرادة، يسعى الخلفاء والأثرياء لاقتنائها، وضمها إلى قصورهم، ولا يبخلون في سبيل استكمال رونقها وجمالها، وجعلها ترفل في أبهى حلة ببذل الوفير من المال"

108rt_lrg.jpg

لكن، وعقب انتهاء الحملة الفرنسية على مصر، أخذت الصورة في التحول بفعل المعرفة العميقة التي توصل إليها الغربيون عن المجتمع المصري الواقعي خلال الحملة. وجاءت موجة الاهتمام الغربي بكل ما هو مصري عقب الحملة لتعيد لصورة المرأة الشرقية بعض واقعيتها وتناسقها مع حقائق الواقع :

"لقد صور "هنري ماتيس" المرأة في لوحة (المحظية) أو (الحريم) غير راضية بحالها، تكتم تمردها الذي يكاد ينفجر كبركان يغلي في داخلها على الرجل الذي لا يعتبرها أكثر من محظية..,شاركه "ديلاكروا" النظرة نفسها، حيث صور الحريم أو نساء الجزائر وهن قابعات تكاد تلمح في أعينهن الضيق والتوتر، بالرغم من الرضا الظاهر في جلستهن، ذلك أنه رضا الاستسلام والخنوع رغم الأنف، لا القبول والطاعة"

المرأة في أعمال الرائدين "محمود مختار" و"محمود سعيد"

gallery_1238008616.jpg?1301557679

كان لاختلاف النشأة والميول والثقافة بين الرائدين المصريين الكبيرين في فن النحت والتصوير أثرها البارز في اختلاف توجهاتهم نحو المرأة، وفي تباين صورة المرأة لدى كلا منهما تباينا خلاقا. إذ نظر محمود مختار إلى المرأة نظرة ثورية وتقدمية تختلف عن النظرة السائدة للمجتمع المصري إليها خلال بداية القرن العشرين. ويعود ذلك إلى الدور المحوري الهام الذي لعبته أمه الفلاحة الصعيدية التي تولت – بإرادة جبارة - حمايته من إخوته لأبيه وتعهدته بالرعاية والعناية حتى نما وأشتد وصلب عوده وطابت موهبته الفنية :

"لذلك فنحن نرى المرأة مكافحة، طموحة، صلبة، متحدية في تماثيل محمود مختار، نراها وقد أصبحت رمزا للنهضة، وحازت بجدارة وشرف تمثيل مصر الحديثة، وأية امرأة هي؟..المرأة الفلاحة التي ترفع صدرها في تأهب وثقة، وتشمخ برأسها ناظرة إلى الأعلى..ونرى تلك الفلاحة، في تمثاله "الخماسين، تلتحف عباءتها، وتتمسك بها بقوة، وتندفع إلى الأمام تشق طريقها بمنتهى الصعوبة وسط الرياح "

وهكذا تظهر المرأة شامخة سامقة في سائر تماثيل "مختار" الكثيرة عن المرأة، مثل تمثال "مدخل القرية" و "فلاحة" و"العودة من النهر الثلاثي" و"نحو الحبيب" و"عند لقاء الرجل" و"العودة من السوق" و"بائعة الجبن" و"على شاطئ الترعة" و"على ضفاف النيل" و"إلى النهر" و"فلاحة ترفع المياه" و"الحزن" و"الراحة" و"القيلولة" و"الفلاحة المرحة".

o2.jpg

أما الفنان "محمود سعيد" أبن الطبقة الارستقراطية المصرية قبل الثورة، وهو نجل محمد باشا سعيد رئيس وزراء مصر الأسبق وخال "صافيناز ذو الفقار" التي تزوجت فاروق وأصبحت "الملكة فريدة" ملكة مصر، فقد وقف من المرأة موقفا شاعريا، حالما وخياليا، لا تشوبه القوة ولا يتسم بالتمجيد والإجلال كموقف "مختار".

"نساء محمود سعيد يمتلكن جمالا شرقيا مميزا، سمراوات، نحاسيات البشرة، يأسرن نظر من يشاهدهن، لهن جاذبية خاصة، حتى البدينات منهم ذوات جمال وسحر أخاذ..بدينات ولكن غير مترهلات، وإن بدت وتعددت طيات بطونهن..غير أنك لا تشعر في الوقت نفسه ببرودة أجسادهن التي قد يوحي بها مظهر بشرتهن المعدنية النحاسية، وإنما يشع منهن دفء شرقي خاص، بل دفئ مصري خالص.."

لم يكن "محمود سعيد" فنان "بورتريه" ينقل الوجوه من الواقع فوق القماش لكنه كان فيلسوفا يتعمق الشخصية التي يرسمها ويبرز ملامحها النفسية إلى جانب ملامحها الشكلية، لم يكن ثائرا صاحب رسالة وطنية مثل "مختار" بقدر ما كان شاعرا رقيق الإحساس، يعشق دفء وتماسك البشرة النحاسية لبنات بحري، ويتغزل في ملامحهن الأنثوية الفاتنة.

ونظرا لهذا النزوع الشاعري فقد اكتست صورة المرأة عند "محمود سعيد" بعدا سيرياليا يخالف الواقع بوضوح. وهو ما يتبدى مثلا في نظرة بنت البلد المليئة بالشرود والهيام فيما تكشف ثديها على شاطئ النيل في موقع مطروق تؤمه العيون بينما تمر المراكب الشراعية على مرأى منها. لم تكن لوحات "محمود سعيد" تصف ملامح المرأة المصرية الحسناء فقط بل كانت أيضا تتغزل وتشبب فيها بولع ورقة وهيام.

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة

×
×
  • أضف...