أسامة الكباريتي بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 (معدل) شهادة شخصية فرقة "العاشقين" الفلسطينية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحمد دحبور في طريقي إلى عملي صباحاً، يقع نظري يومياً على الأصباغ والكتابات المزدحمة على الجدران. ويستوقفني، بشكل خاص، بيتان من الشعر مخططان بالحرف الرقعي، وبالألوان الصارخة: الوطن الحبيب --- نحن فداه من يكرم الشهيد --- يتبع خطاه فأصحح، في قلبي، قافية الشطر الأول. وأضع كلمة "البعيد" مكان كلمة "الحبيب"، وأبتسم. فهذان البيتان من أغنية كتبتها لفرقة "العاشقين"، بعنوان "شوارع المخيم". وهي الأغنية التي قرأت بيتين منها أيضاً، على لصيقة ملونة موضوعة على مقدمة سيارة أجرة في تونس، وهما: لا تلبس السواد --- أم المكارم فموته ميلاد --- والفجر قادم ولا أستطيع إنكار سعادتي بما قرأت، على بساطة الكلمات. فليس قليلاً أن تسمع كلماتك تتردد بين جموع الناس من غير أن يعرفوا أنك أنت.. ولكن حذار من الغرور أو الوهم.. فما كان لهذا الكلام أن يشيع لولا أنه أصبح غناءً. والفضل كله لفرقة "العاشقين".. ـــــــــــــــــــــــ ولكن كيف بدأت الحكاية؟ حسناً، نحن الآن في صيف 1977. والمكان هو دمشق. وكان المرحوم فواز الساجر، المخرج السوري الشاب الذي انتشر على المسرح بما يشبه انفجار الوردة، يبحث عن أغنيات محددة لمسرحيـة الشاعـر سميـح القاسم "المؤسسـة الوطنيـة للجنـون" ـ ولعلها المسرحية النثرية الوحيدة التي كتبها الشاعر الفلسطيني المعروف ـ وكان على الأغاني أن تلائم المعالجة الدرامية للعمل الذي وافق فواز أن يخرجه لصالح "دائرة الثقافة والإعلام" ـ فهكذا كان اسمها ـ في منظمة التحرير الفلسطينية. وطلب مني فواز أن أكتب له الكلمات. فكتبتها عن طيب خاطر. وحين كنت في طريقي إليه لأسلمه النصوص، خطر لي، في الشارع، أن أكتب أغنية لا علاقة مباشرة لها بالنص، لكنني اقترحها لتكون بمثابة "Prologue"، مقدمة أو فاتحة للمسرحية، وكان المطلع: والله لزرعك بالدار --- يا عود اللوز الأخضر وأروي هالأرض بدمي --- لتنوّر فيها وتكبر وبعد أن اعتمد فواز الساجر كلمات الأغاني، بما فيها اللوز الأخضر، غادرت إلى القاهرة. وحين عدت، لا أبالغ إذا قلت إنني فوجئت بأغنية اللوز الأخضر في كل بيت من مخيم اليرموك. إن من يعرف قوانين كتابة الشعر بالعامية، يدرك أن حرف الألف سيختفي من كلمة "الدار" في الشطر الأول، ليصبح نطق الكلمة هو "بالدر". وهذا يعني أنني كنت أفكر في إيقاع سريع، وهو ما يلائم أحد الألحان الفطرية القروية. لكن الميلودي في الأغنية كان بطيئاً نسبياً، وجرعة الشجن كبيرة، وكان الهارموني قائماً على توزيع الأداء بين الجوقة وبين اثنين من أجمل الأصوات العربية السورية يومذاك: سمير حلمي وابتسام جبري.. ولم أكف عن سماع الأغنية. وسألت المخرج العبقري عن ملحن الأغنية، فأجابني مدهوشاً: ألا تعرفه؟ إنه حسين نازك.. أحمد سعيد حين وقعت عيناي عليه، لم أصدق نفسي: أنت؟.. فأجابني معانقاً: وأنت أيضاً أنت.. فمعرفتي بحسين نازك تمتد إلى سنوات. التقينا، من خلال حركة "فـــتح"، في العاصمة الأردنية، وكنت أعرفه باسم أحمد سعيد، ويعرفني باسم يسار الشعبي. أما أنا فقد انكشف اسمي الحقيقي بسرعة، وأما هو، فهو أحمد سعيد إلى أن جددنا تعارفنا مع اسمه الحقيقي. والطريف أنه كان قد لحن لي ثلاث أغنيات ـ إحداها تحولت إلى نشيد للزهرات والأشبال ـ وكنت لا أزال أعرفه باسم أحمد سعيد. ووجدنا نفسينا معاً، في مكتب الأستاذ عبد الله الحوراني المدير العام للدائرة الإعلامية الثقافية الفلسطينية. وبالغ أبو منيف بتهنئتنا على نجاح "اللوز الأخضر" منهياً كلامه باقتراح: لماذا لا نشكل فرقة فنية؟.. وكأنه كان يضع الكلام في فم حسين نازك ـ أحمد سعيد سابقاً ـ الذي أعلن: أرحب بالفكرة، وأقترح أن يكون اسم الفرقة "أغاني العاشقين"... وتململ أبو محمود، أحمد الجمل الذي كان نائباً في الدائرة لعبد الله الحوراني: "أليس هذا عنواناً فنياً أكثر من اللزوم؟..". وحسم أبو منيف الموقف: "بل هو الاسم الملائم.. أغاني العاشقين.. هذه مهمتكم جميعاً. أبو محمود للإدارة. حسين للموسيقى. أحمد للشعر".. ولكنني أنا الذي خلفت الموعد، فقد كان علي أن أسافر من جديد. أما حسين نازك فقد بدأ العمل. ووجد ضالته في صديقه محمد سعد ذياب الذي كان زميله في الجيش العربي الأردني، حيث تعلما أصول الموسيقى ودراستها أكاديمياً. ويتميز أبو أيمن بخط جميل، بحيث كان يرسم النوتة على المدرج الموسيقي بعد أن ينتهي حسين من كتابة اللحن. وإلى ذلك كان يعزف الفلوت. في تلك الفترة، كانت دائرة الثقافة والإعلام، تعدّ لإنتاج أول مسلسل تلفزيوني فلسطيني. وهو بعنوان "بأم عيني"، وكان على حسين نازك أن يضع له الموسيقى التصويرية، فوجدها مناسبة هو ومحمد سعد ذياب للبحث عن شبان وفتيات فلسطينيين مؤهلين ليكونوا نواة فرقة "أغاني العاشقين".. وقد اختار حسين عدداً من نصوص شعراء العمق الفلسطيني ـ نحب أن نسميهم شعراء الأرض المحتلة أو شعراء المقاومة ـ وهم محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وأصبحت هذه الأغاني مفتاحاً يشد الجمهور إلى مسلسل "بأم عيني".. كانت كلمات هؤلاء الشعراء مأخوذة من مجموعاتهم المطبوعة. فهي فصحى بالتالي. ومع ذلك فقد شهد المسلسل بعض الأغاني التي كتبها بالعامية شاعرنا أبو الصادق صلاح الحسيني، والمرحوم الشاعر يوسف الحسون، ولم تغب أغنية "اللوز الأخضر" عن المسلسل. فرقة "العاشقين" حققت بعض أغاني مسلسل "بأم عيني" شهرة مدوية. وقد أذكر بصورة خاصة "يا شعبي يا عود الند" و"كأننا عشرون مستحيل" من شعر توفيق زياد، و"أحبك أكثر" و"يستجوبونه" و"هذا هو العرس الذي لا ينتهي" من شعر محمود درويش. ولم يصبر حسين نازك على تأخري عنه، فألقى قنبلته الفنية بتلحين قصيدة توفيق زياد الشهيرة "سرحان والماسورة"، وجعل منها مغناة نوعية. وقد أرهق الشباب المتدربين عزفاً وغناء حتى أنهم كانوا يمزحون قائلين: لن يتاح لهذا العمل أن يسمعه الجمهور لأنه حين ينتهي سنكون قد فقدنا أصواتنا. و"سرحان والماسورة" قصيدة بمستويين: الأول سرديّ. يقص حكاية الشاب الفلسطيني سرحان العلي اللامبالي الذي يتفتح وعيه على العمل الوطني عندما يضربه جنود الاحتلال البريطاني، فيقرر أن ينسف أنبوب البترول مدركاً، بوعيه الفطري، أن النفط هو عصب اقتصادي وسياسي للمستعمرين. وينجح بعملية التفجير ويستشهد.. أما المستوى الثاني، فهو منظومة أهازيج شعبية فلسطينية على لسان أم سرحان التي ترثيه. وهذه الأهازيج بمعظمها أغان شعبية معروفة، تمكن توفيق زياد من تطويعها للفصحى مع المحافظة على طابعها الفلكلوري. وقد احتاج حسين نازك إلى المزاوجة بين الصولفيج الغربي والمقامات العربية لصهر المستويين الغنائيين في عمل واحد. كما أدخل، في حالات محدودة جداً، نوعاً من الأداء التعبير غير الملحن ـ إلقاء الشعر، عندما كان ذلك يخدم دراما العمل. ومفاجأة هذه المغناة تمثلت في أن الألحان ـ ولا سيما في المستوى الثاني ـ كانت معروفة، إلا أنها كانت تبدو كأنها تظهر لأول مرة. وسر ذلك في التوزيع وتغيير سرعة الإيقاع. وكأن هذا كله لم يكن كافياً للفرقة الشابة. فقد اقترح أبو منيف، عبد الله الحوراني، إضافة فرقة دبكة لتكمل التعبير بصرياً وإيقاعياً إلى جانب الغناء. وعندها اقترحت أن يصبح اسم الفرقة "فرقة العاشقين" لأنها تشمل الرقص التعبيري، إضافة إلى الغناء. دماء جديدة كان اسم حسين نازك قد ذاع في الوطن العربي، إثر تلحينه أغاني البرنامج التلفزيوني المشهور للأطفال "افتح يا سمسم". وقد أهدته شركة البرنامج جهازاً صغيراً، في غاية الجمال والأناقة، هو عبارة عن بيانو بحجم الآلة الكاتبة مما يمكن حمله باليد. ولما لم يكن للفرقة الوليدة مقر خاص، فقد كان يجمع أفراد الفرقة، في مقر "دائرة الإعلام والثقافة" خارج فترات العمل الرسمي. ولأن المقر كان بين بيوت عادية لمواطنين دمشقيين، فقد كان حريصاً على عدم إزعاج الجيران بأصوات الآلات الموسيقية، وهكذا بدأت التدريبات بالبيانو الصغير. وهي تدريبات لياقة صوتية. فكانوا يرددون الحروف الموسيقية بموازاة عزف البيانو: دو..و..و.. ري..ي..ي..سي..ي..ي.ي.. الخ. وذات يوم، كان هناك فتى في الرابعة عشرة من عمره. أتى به أبوه ليعمل مع الفرقة. ومن تجربة الصوت الأولى التفت الجميع إليه. ـ ما اسمك يا بني؟.. ـ محمد هباش.. ولمحمد شقيقان، خليل الذي يعزف على الناي. وخالد الذي يدير آلة القانون ببراعة، فضلاً عن عزفه على الناي والأرغول. ولهم شقيقتان آمنة وفاطمة وتتميزان بصوت متقن وأذن موسيقية. وسيكون لهذه الأسرة الفنية شأن كبير في تاريخ الفرقة. وسوف يتحرق الفتى محمد للغناء الفردي، لكن حسيناً كان يشفق على صوته الغض، ويطمئنه: المستقبل سيكون لك.. فلا تخف.. ولا تتعجل.. وينبثق في وجوهنا شاب وسيم كالرمح: ميزر مارديني.. كردي سوري. شامي عتيق. وقد تدرب في المسرح العسكري السوري على أيدي فنانين بلقانيين حتى أصبح من أهم الراقصين التعبيريين في سورية. وكان ميزر يحتاج إلى معرفة أصول الدبكات الفلسطينية ليوظف خبرته في هذا الفلكلور المهدد بالانقراض. فكانت هناك بثينة منصور، الشابة الصفدية الجميلة المتميزة باللياقة البدنية والحيوية الرياضية مع حسن يقظ لالتقاط كل حركة.. وذات يوم كنت أصعد درج الدائرة، فسمعت جبلاً يغني.. هذا هو الصوت الذي كان ينقصنا.. إنه حسين منذر، أبو علي الذي تحار في معرفة جنسيته. فهو فلسطيني. بحساب القرى السبع. وهو لبناني حسب الجنسية. وهو سوري شامي أعتق من ميزر في لهجته ونشأته.. وحتى تكتمل المعادلة، كان لابد من ظهور أحمد الناجي، إبن طيرة حيفا، النزق الذي يلاخم خياله وذو القلب الطيب في آن. وصاحب الصوت القوي حتى المفاجأة. والتاريخ المشرف كجريح وأسير سابق. وهو يعزف العود ببراعة. وإلى جانبه سهى دغمان الصفدية العصبية ذات الصوت الذهب. ولأنه وافق شن طبقة، فسرعان ما تحابا وتزوجا، كما تزوج محمد هباش ـ الذي كبر ـ من هناء منصور شقيقة بثينة. ومن يومها صار أبو منيف يمازح الشباب: لقد تحولتم بسرعة من فرقة العاشقين إلى فرقة المتزوجين. بطبيعة الحال، هناك عازفون ومغنون وراقصون، أبدعوا وتألقوا في هذه الفرقة الشابة.. لكنني كففت عن ذكر الأسماء، مكتفياً بما أوردت، حتى لا تخونني الذاكرة فأسيء من حيث أريد أن أخدم.. أما لماذا ذكرت هؤلاء دون سواهم، فلأن احتكاكي بهم كان أكبر. وأنا، في آخر حساب، أدلي بشهادة شخصية.. "ما عاد فينا نستنى" أنجزت عام 1980، كتابة سيناريو مسلسل "عز الدين القسام" في دمشق. وغادرت لأقضي عام 1981 في اليمن. ومن أبرز شخصيات هذا المسلسل، الشاعر الفلسطيني الشهير نوح إبراهيم، الذي كان من تلاميذ القسام وقد رثاه، ثم استشهد هو عام 1937 في قرية "طمرة" الجليلية إثر معركة غير متكافئة مع دورية إنجليزية. ونوح إبراهيم هو صاحب المغناة الشعبية الخالدة في مرثية شهداء هبة البراق (1929) والتي مطلعها: من سجن عكا طلعت جنازة --- محمد جمجوم وفؤاد حجازي وقد أوليت هذه الشخصية اهتماماً كبيراً. وبحثت بين الشهود الأحياء والوثائق القليلة عن أغانيه وأهازيجه فلم أجد إلا أقل القليل. وقد وظفت هذا الأقلّ في المسلسل، إلا أنني كنت أعتمد على تأليفي الشخصي، فالمسلسل أولاً وأخيراً درامي وليس تسجيلياً. وكان حسين نازك هو المكلف بوضع الموسيقى التصويرية، فكانت تلك فرصة لفرقة العاشقين، ولحسين منذر تحديداً، وهو من لا يستطيع أحد سواه تقديم شخصية نوح إبراهيم، بصوته الجبلي القوي، وطلته المهيبة. واحب المخرج هيثم حقي تلك الأغاني، وطلب المزيد منها لدعم المسلسل. ولما كنت غائباً ـ وأنا المفروض أن أكتب الأغاني بصفتي مؤلف المسلسل ـ فقد وقع الاختيار على شاعرنا الشعبي الكبير صلاح الحسيني ـ وهو أبو الصادق طبعاً ـ لكتابة النصوص الجديدة. وهكذا أصبحت أغاني هذا المسلسل مزيجاً من التراث الشعبي الفلسطيني، ونوح إبراهيم جزء أساس من هذا التراث، ومما كتبته أنا، أما أبو الصادق فكان له النصيب الأوفى. وهو لم يكتف بكتابة أغانٍ كاملة، بل كان يضيف ـ حسب الحاجة الدرامية للمخرج ـ إلى ما هو موجود. ومع الزمن اختلط الأمر علينا، فما عدنا نعرف التمييز بين ما كتبت وما كتب أبو الصادق. وأذكر أن أحمد الجمل قد افترض أن أغنية "على ما قال المعنّى" من تأليفي أنا. ودليله إلى ذلك عبارة "ما عاد فينا" من بيت: غصه في قلب الأوطان --- ما عاد فينا نستنى فأحمد الجمل، الجليلي اللوباني، يميز بحدسه وخبرته بين اللهجات الفلسطينية. وقد رأى أن أبا الصادق الغزاوي لا يقول "ما عاد فينا"، بينما أنا، الحيفاوي اللاجئ إلى سورية، يمكن أن أقول ذلك. أما أبو الصادق فيضحك سعيداً ويقول: مبروكة عليك ولكنها من تأليفي أنا. وقلت له: "إحنا مش قاسمين".. أصبح للعاشقين سمعة كبيرة. وبدأت تتدفق عليهم الدعوات إلى البلدان العربية والاشتراكية في البداية، ثم إلى اليونان وأمريكا وكندا وبريطانيا، وحصدوا الجائزة في إحدى دورات مهرجان "نانت" الفرنسي للفن الشعبي. وبدأت المسؤوليات تتضاعف، وكذلك الأسئلة. وتحولت نادرة "ما عاد فينا نستنى" إلى سؤال جدي عن اللهجة المتبعة. فقد كان هناك خطأ شائع يفترض أن الغناء الشعبي هو بدوي أو أشبه بالبدوي. ولهذا كان يتم قلب حرف القاف إلى جيم مصرية. ويتحول الضمير "إحنا" ـ نحن، بالفصحى ـ إلى "حِنا" بكسر الحاء. وكان في هذا بعض المفارقة، فأفراد الفرقة من اللاجئين الفلسطينيين إلى سورية. ومعظم هؤلاء من أهل الجليل. ومدن الجليل. باستثناء الناصرة، تلفظ القاف همزة. أما أهل القرى فيستخدمون الجيم المصرية حيناً والكاف حيناً آخر. ثم أنهم يميلون إلى كسر نهايات الكلمات بينما يميل بدو فلسطين إلى فتح النهايات. وكان علينا أن نجري حواراً دائماً حول اللهجة الملائمة لهذه الأغنية، واللهجة الملائمة لتلك. ولم تكن هناك مشكلة في النصوص التي يكتبها أبو الصادق. فاللهجة الغزاوية حسمت أمرها باختيار الجيم المصرية وفتح أواخر الكلمات، فهي "غزّا" أما نحن فنقول "غّزّي". الكلام المباح حين وقع العدوان على لبنان وبدأ اجتياح بيروت، صيف 1982، كنا في دمشق.. وبدأت الورشة بالعمل.. كانت الفرقة في حالة استنفار. أنا اكتب النص. حسين يكتب النوتة. أبو أيمن يوزع النوتة على الشباب والصبايا ويضبط مواعيد التدريب. ميزر يصمم الرقصات الملائمة. والجيران يصرخون ويستغيثون من الضجة.. فاتني أن أقول إن من بين من أسهموا في تربيتي. جدتي لأبي، التي توفيت عن مئة عامة. وكثيراً ما كانت تهدهدني بأغانيها وأهازيجها المحفوظة منذ القرن التاسع عشر. وكان لهذه الأهازيج ميزتان: أنها فلكلورية، وأنها غير مستهلكة. بمعنى أن المغنين المعاصرين لا يعرفون عنها شيئاً. وكنت أوظف اللحن البكر في خدمة العمل الجديد. أو على حد تعبير أبي منيف كنت أجلب العصفور بخيطه. وكان يدهشني حسين نازك بسرعة استجابته. أذكر يوم أحداث صبرا وشاتيلا، أنني كتبت المطلع: أنقاض شاتيلا --- مرت بنا فجرا والريح في صبرا --- تطفي القناديلا وسلمته إياه صباحاً. وحين أتيت بعد الظهر ببقية المقاطع، فوجئت بالشباب يعزفون ويغنون وكأن الأغنية كاملة. كان يمسك باللحن الذي يسمعه مني، فأنا لا أعرف كتابة النوتة، فيزيد من سرعة الإيقاع أو يبطئها. ويقاطع مجموعة الشباب بمجموعة الصبايا. والصوت الفردي مع صوت الجماعة، فإذا بنا أمام لحن جديد تماماً. وكثيراً ما كان يقترح أحد المغنين إضافة مقطع، أو تغيير كلمة. بل كان بعضهم يقوم بهذا التحوير فيؤخذ به إذا كان ملائماً. وأحياناً كان بعض المشاركين يقترحون إيجاد أغنية تغطي هذه اللحظة أو تلك من عملية المقاومة. وكان المشغل يدور.. إلى أن أتيت بأغنية "اشهد يا عالم علينا وعا بيروت".. وهذه حكايتها حكاية.. أصل اللحن، على ذمة جدتي خشفة بدران، من أغنية على شكل قصة: فتاة قروية تأتي مع أبيها إلى المدينة، فتغلط وتضيع، إلى أن.. نزلت تسلم عابوها يا لا لا --- حبلى وما مستحيه أبوها يصيح اذبحوها يا لا لا --- والأم تصيح الخطية وعلى هذا الإيقاع بدأت بـ "اشهد يا عالم.."، والأغنية طويلة نسبياً "تؤرخ" للاجتياح من أقصى جنوب لبنان إلى ساعة مغادرة الفدائيين لبيروت. وتردد أبو منيف وأحمد الجمل وأبو أيمن وحتى حسين نازك بقبول الفكرة. فاللحن أكثر شجناً من أن تحتمله أغنية مقاومة، وطول النص يهدد بالملل. لكنني دافعت عن فكرتي بأن الناس سيعتبرون هذه الأغنية هي مركز هذا العمل. وقلت إننا نتغلب على طول النص بأن نجعل الجوقة تأخذ دوراً درامياً. أي أنها لا تكرر اللازمة، بل تتناوب مع المغني الفردي ـ الذي هو أبو علي، حسين المنذر، ومن غيره؟ ـ في الانتقال من مقطع إلى مقطع. وهكذا نختصر الوقت إلى النصف. أما اللحن فاقترحت على حسين نازك أن يتدبر الأمر بعبقريته، فيعطي الصوت الفردي سرعة مختلفة عن صوت الجماعة.. كيف؟ لا أدري فهذه مشكلة الملحن. وكان ذلك.. ونجحت الأغنية فوق ما كنا نتصور جميعاً. اللغة والآلات عند هذه اللحظة من السياق العام. لا أقصد باللغة كلمات الأغاني. بل اللغة الموسيقية بحد ذاتها. فقد كان التوجه منذ البداية إلى المقامات الشرقية التي تتميز بربع الصوت، وهو اصطلاح غير موجود في الموسيقى الغربية. ولكن هذا لا يعني عدم التعامل إلا مع هذه المقامات. فهناك مقامات شرقية قابلة للعزف بالآلات الغربية. ومع أن التدريبات الأولى كانت على هدي البيانو (والأورغ أحياناً) لكنها لم تكن إلا من أجل اللياقة الموسيقية وسعة الاطلاع. أما آلات الفرقة، فهي العود، والشبابة، والأرغول، والطبل.. وبطبيعة الحال فإن "بيانو" التخت الشرقي هو "القانون" فهو ذو المساحة الأوسع بين الآلات الشرقية. وإذا كان للفرقة أن تتعامل مع آلات غير شرقية، فالكمنجة ممكنة وملائمة. وكذلك الدفوف المتطورة التي تسعف الإيقاع وتلونه.. وقد أحدث بعض أعضاء الفرقة تعديلاً على آلة العود. فألغوا الانتفاخ الشهير الذي يميزه، وجعلوه أشبه بالجيتار. إلا أن توليفاته ظلت شرقية مئة بالمئة. وكان حسين نازك يدرس مساحات أصوات المغنين عن كثب. وباستثناء الأغاني التي يؤديها حسين منذر، فإن كل مغنٍ يمكن أن يؤدي أغنية زميله، بحيث لا تتأثر الفرقة بتغيب أي من أعضائها لأي سبب. أما الرقص التعبيري ـ وهو الاسم أكثر ملاءمة للغرض من اسم الدبكة ـ فكان جزءاً أساساً من العمل. كنا منذ البداية، فقدر أن هذه الأغنية، مثلاً، لا تحتاج إلى رقصة. وكان ميزر مارديني يصمم أحياناً رقصة من غير غناء لتكون بعد هذه الأغنية وقبل تلك. كان له نظرية يبدو أنه استمدها من مدربيه البلقان، وهي أن عمر الراقص في العمل مثل عمر الطيار في الجو، محدود بفترة معينة، ولهذا يجب أن نأخذ من الراقص كل شيء. كان التدريب أشبه بالأشغال الشاقة، لا على مستوى بذل الجهد الجسدي وحسب. وإنما بإنشاء العلاقة الدقيقة بين الجسد والصوت. بل حتى وملامح الوجه. أضف إلى ذلك أن الراقصين كانوا يسهمون أحياناً في إكمال دور الجوقة من حيث ترديد بعض المقاطع. كان العاشقون عاشقين فعلاً.. لقد أصبحت الفرقة جزءاً من كيان كل منهم. المرحلة الرمادية وقع الانشقاق في سورية. ونكل المنشقون بهذه الفرقة الشابة. فهم على صلة وثيقة بجيش التحرير الفلسطيني، ولما كان شباب العاشقين في سن الخدمة العسكرية فقد كان التجنيد سيفاً مسلطاً على رؤوس بعضهم. ليس معنى هذا أنهم كانوا متنكرين لخدمة العلم. ولكن الجندية الكيدية كانت تعني حرمانهم من السفر وتلبية الدعوات المتلاحقة إلى بلدان العالم. فضلاً عن أن من حق الرئيس المباشر أن يمنعهم من الاتصال بـ "جماعة عرفات". و منظمة التحرير الفلسطينية التي تتبع لها دائرة الإعلام والثقافة "عرفاتية" حسب المقاييس جميعاً. زاد الطين بلة بابتعاد حسين نازك عن الفرقة.. وكان على محمد سعد ذياب أن يتدبر أمره مع هذه الفرقة المهددة. وأبو أيمن هذا، عبارة عن خزانة موسيقى متنقلة. هو من قرية "طمون" في الضفة، وقد أثمرت صداقته مع حسين نازك المقدسي بتوفير مخزون ثقافي موسيقي على أساس علمي. وكانت أمامه مغناة جميلة وعميقة، بعنوان "ظريف الطول" وكان قد كتبها أبو الصادق منذ فترة طويلة وأتى وقتها. استعان أبو أيمن بألحان الفلكلور، وبما بقي في ذاكرته من أفكار حسين نازك، وبادر هو إلى كتابة بعض الألحان. ثم استعان بالملحن العربي السوري مطيع المصري. وبلحن من محمد الجمل، وكان أبو أحمد هذا فناناً موهوباً وصديقاً لحسين نازك، لكن مشكلات الحياة ضيعت عليه الكثير من الفرص التي يستحقها. صمدت فرقة العاشقين للمحنة. وحققت، في مهرجان بصرى الدولي، نجاحاً شعبياً أذهل سورية. مما أفقد المنشقين صوابهم فراحوا يؤلفون فرقة موازية باسم العاشقين. ويمنعون الفرقة الحقيقية من استخدام اسمها. وكان الكاتب غالب هلسا يؤيد المنشقين بشكل هستيري. فراح يكتب ويحرض ضد هؤلاء الشباب. ويكيل الشتائم لـ "زمرة عرفات" التي تحارب فرقة العاشقين على أساس أن الفرقة الحقيقية هي التي ألفها ولحنها المنشقون. لكن الحرب لم تنجح. واستمرت الفرقة. كنت أكتب لها النصوص وأمليها على أبي أيمن بالهاتف من تونس، مع بعض الألحان التي أقترحها، وكنا نلتقي أحياناً، بالتهريب، في قطر أو الشارقة أو حتى موسكو. كان الغطاء هو دعوة رسمية تأتي إلى الفرقة من هذه البلدان. وكان الاستمرار أشبه بالمعجزة. زد على ذلك بعض الحساسيات التي نشأت بين بعض الشباب. لكن الحساسيات كانت تتلاشى عندما ينتجون عملاً جديداً. ومن أهم ما أنتجوه خلال هذه الفترة، قصيدة "الأرض" للشاعر الكبير محمود درويش حيث وظف فيها أبو أيمن كل ما يحفظه من ألحان شعبية فلسطينية فلقيت قبولاً طيباً من الجمهور. وكان أن انطلقت الانتفاضة، واستمر العمل، اختاروا قصائد من وحيها لشعراء معروفين مثل سليمان العيس وميخائيل عيد وحسين حمزة، وكتبت لهم أشياء بطبيعة الحال، فيما حققت قصيدة سميح القاسم "تقدموا" نجاحاً كبيراً على أيديهم. أين فرقة العاشقين الآن؟ جغرافياً هي في دمشق. لكن الانقطاع وصعوبة الظروف والمشكلات الصغيرة أنهكت هذا المشروع الجميل. هل نستأنف العمل؟.. آمل وأرجو وأتساءل عما إذا كان المرء يستطيع أن يستحم في ماء النهر مرتين. tot:: :) :) :) تم تعديل 11 سبتمبر 2004 بواسطة أسامة الكباريتي يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
أسامة الكباريتي بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 (معدل) من أشهر أعمال الفرقة إعدادهم لمسلسل "الشهيد عزالدين القسام" هذا الإعداد اشتمل على عدد من الألحان القيمة خاصة تلك التي صورت عملية إعدام شهداء ثورة البراق (1929) في سجن عكا .. أغاني إلى الشهيد عز الدين القسام ---------------------------------- عز الدين القسام ---------------------------------- يا هلا بك http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...yaahalaabak.mp3 عز الدين القسام http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...02-ezzeddin.mp3 ما ذلّينا http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...p3/03-zallu.mp3 لما عامل عربي فلسطيني قولوا لمن يبغي يجاهد http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...mp3/06-qulu.mp3 ظريف الطول http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...p3/07-zarif.mp3 يا ليل خلي الاسير http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e.../08-yaaleel.mp3 لاكتب على جبين المرج موال http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...3/09-laktob.mp3 قلبنا الأرض تنهد القسام http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e.../11-tnahhad.mp3 قصة شهداء البراق: رجال في الوغى http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...3/12-regaal.mp3 كانوا ثلاثة http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...3/13-kaanu3.mp3 من سجن عكا http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...p3/14-segen.mp3 افرشوا الساحة بلادي من الجنة هدا البلبل ع الرمان ويلكو من الشعب عرساننا زين الشباب واجب علينا الموت لها قيدي يا نار الثورة رايحين نقول نريده عالشوملي أبو ابراهيم قدر الإنسان دار العز يا مهيرتي يا ديرتي http://www.muenster.de/~hkheite/ezzoddin/e...3/28-dirati.mp3 تم تعديل 11 سبتمبر 2004 بواسطة أسامة الكباريتي يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
أسامة الكباريتي بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 من أعمالهم الفنية: لغة العاشقين لغة العاشقين هذي الجراح من فلسطين من فلسطين أرسلتها الرياح هبة النار والندى حملتها والعتابا والميجنا والسماح والكلام المباح ليس مباحاً ونغنيه والأغاني سلاح سرنا راية على رأس رمح فأذيعي أسرارنا يا رماح http://www.muenster.de/~kheite/al-asheqin-...usik/loghat.mp3 يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
أسامة الكباريتي بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 هذا زمان الشد فاشتدي ما بين قابلة و جلاد وترقبي لحدي ما بين معتد ومرتد فإذا بدا فعليك ميلادي والآن يبتدأ الصراخ دمي يغطيني والأرض تلبسني يا قبر يا زمني يا قبر يا زمني إن كان حدك جارحاً فأنا فلسطيني http://www.muenster.de/~kheite/al-asheqin-...usik/Haatha.mp3 يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
أسامة الكباريتي بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 11 سبتمبر 2004 يما مويل الهوا يما مويليا ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا ومشيت تحت الشتا والشتا رواني والصيف لما أتى ولع من نيراني بيضل عمري انفدى ندر للحرية يما مويل يا ليل صاح الندى يشهد على جراحي وانسل جيش العدا من كل النواحي والليل شاف الردى عم يتعلم بيا يما مويل الهوا بارودة الجبل أعلى من العالي مفتح درب الأمل والأمل برجالي يا شعبنا يا بطل أفديك بعينيا يما مويل الهوا http://www.muenster.de/~kheite/al-asheqin-...musik/yamma.mp3 يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان