اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

محاولة لفهم الرئاسة المصرية...


achnaton

Recommended Posts

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

فى زحمة الأحباط التى أعيشها هذه الأيام .. وصلتنى رسالة بالبريد الألكترونى من صديق قديم .. كان يعمل بالإهرام ثم هجرها الى " آلاف " وكنت بين الحين والآخر أدخل على صفحة " آلاف " على النت واقرأ مقالاته .. ولكنى فى الآونة الأخير لم أستطع الدخول عليها لأنقل اليكم الرابط لمقالته التى وصلتنى على الإيه ميل .. ولذلك سأكتفى بنقلها اليكم .. ودون تعليق منى حتى لا أطيل .. مستعيرا عنوان المقال كعنوان لهذا الموضوع .. لعلنا جميعا نعرف أن العيب هنا يكمن فى مجلس لنواب الشعب يجيد التصفيق .. كريم جدا فى التنازل عن حقوق الشعب .. والا .. فما معنى كل هذه السلطات التى يمنحها الدستور للرئيس !!!

هل توافقونى .. أن دستورنا لا يوجد له مثيل فى العالم .. ولذلك نحن متفقون .. وإذا كان للخيبة التقيلة عنوان .. فهو شارع مجلس الشعب .. واليكم ماكتبه الأستاذ نبيل شرف الدين ... :

From:"Nabil Sharaf Eldin" <Nabil@elaph.com> View Contact Details

Subject:Nabil's Article

Date:Wed, 1 Sep 2004 12:17:35 +0300

الخطط الشرفنطحية لمحاولة فهم الرئاسة المصرية

نبيل شـرف الدين

حرصت بعد طول غياب مرجعه نضوب القريحة وتصحر الخيال، وليست هناك ثمة أسباب

أخرى حجبتني عن قراء (إيلاف) المحترمين الفترة الماضية أن أزف إليهم بشرى

طيبة، أتوقع أنها سوف تسهم في تغيير حاضر ومستقبل مصرنا المحروسة، ذلك

التغيير الذي ينبع من الداخل، ولا يأتي من الخارج كما يروج لذلك أذناب الغرب

والحاقدين من أمثالي وبقية الذين يطلق عليهم "الليبراليين الجدد" في هذه

المنطقة المنكوبة من العالم المسماة الشرق الأوسط، وحتى لا تأخذنا

الاستطرادات والتشبيهات والمحسنات البديعية بعيداً، أعود إلى ما بشرنا به

الكاتب الصحافي عظيم الشأن سمير رجب رئيس مؤسسة "دار التحرير" الصحافية

القومية أو الحكومية ـ لن نتوقف طويلاً أمام المصطلحات ـ التي تصدر عنها عدة

صحف ومجلات منها الجمهورية والمساء وحريتي وشاشتي وعقيدتي وكل حاجتي، والأهم

من هذا أنه قائد طيبة الذكر الزميلة (مايو) لسان حال حزبنا الوطني (الحاكم)،

أما الأكثر أهمية على الإطلاق فهو أنه من المقربين لمؤسسة الرئاسة، وأن

مكانته لديها تضاهي مكانة هيكل من عبدالناصر، ومكانة موسى صبري من السادات،

بل ويقال هنا إنه من الكتّاب والصحافيين القلائل الذين يتصلون بالرئاسة وتتصل

بهم بشكل شبه يومي، استناداً إلى حظوة مردها الإعجاب بمنتوجات الأخ رجب التي

تأتي "الكبسولات" في الصدارة منها، ويروي أحد المخضرمين أن الرئيس مبارك في

بداية عهده اجتمع بالمثقفين والكتّاب وكان من بين الحضور حشد من رموز مصر

وكبار كتابها ومنهم الروائي يوسف إدريس الذي تعرض لانتقادات مبطنة بشأن ما

كان يكتبه حينئذ، ونصحه الرئيس مع الآخرين أن يكتبوا مثلما يكتب الأستاذ رجب،

مما دفع إدريس إلى مغادرة الاجتماع بينما كان الرئيس يتحدث، وهو سلوك ما كان

ليغتفر لو كان فاعله شخص دون منزلة يوسف إدريس، في ظرفه التاريخي.

ولإخواننا الذين لم يسعدهم زمنهم، أو حال حظهم العاثر دون الاطلاع على هذه

الكبسولات التي ينتجها الأستاذ رجب، نقول لهم إنها "منتج إعلامي جديد" ،

يناسب المرحلة الراهنة، وينبع من الداخل، الداخل جداً، ربما من أبعد نقطة في

داخل الداخل، ولكنه يخرج في النهاية في صورة "كبسولات" أو "كباسين" كما

ينطقها الشعب المصري الصديق في لهجته الماكرة.

وفي أحدث "كباسين" الأخ رجب كتب بكل ثقة واطمئنان، وبقلم معطر أو "كي بورد"

مباركة يقول فيها بالحرف الواحد: "نعم وألف نعم إن عصر مبارك هو أزهى عصور

الحرية والديمقراطية بلا منازع، ومن يدَّعون بغير ذلك زوراً وبهتاناً

وإغراضاً فليبدلوا قلوبهم ويغيروا عيونهم وينقوا عقولهم من شوائبها".

والذي حصل أيها الأعزاء أنني قرأت هذه العبارة نحو عشر مرات، وقلبت أمرها من

كافة جوانبه كما يقول النحاة، ففي مرات قرأتها من اليمين إلى اليسار، ومرات

أخرى من اليسار إلى اليمين، وحتى من الأعلى إلى الأسفل كما يقرأ الشعب

الياباني الصديق، علني استوعب ما تعنيه بالضبط، واعترف بأنني فشلت فشلاً

ذريعاً، فلم أفهم كيف يمكن للمرء أن "ينقي" عقله من الشوائب، فهاتفت صديقي

الدكتور خالد منتصر، باعتباره الطبيب الوحيد الذي يمكن أن أسأله مجاناً، عما

إذا كان هناك اكتشاف طبي جديد لتنقية العقول من الشوائب وتحليتها مثل ماء

البحر المالح فنفى منتصر علمه بذلك، فسألته عن تغيير العيون، الذي نصحنا به

الأستاذ سمير رجب، فأحالني الدكتور منتصر على بحوث عن تغيير القرنية مؤكداً

أنها الآن أصبحت عملية سهلة وبسيطة ومثل "شكة الدبوس" ولعل هذا ما شجعني على

سؤاله عن تغيير القلوب كما أشار بذلك العم رجب في "كبسونته" السحرية، وهنا

تجهم الدكتور منتصر قائلاً إنها عملية ممكنة، لكنها ليست سهلة، وتتطلب

إمكانيات هائلة وخبرات نادرة، فضلاً عن تدبير قلب حي لمتبرع.

ولعلكم أيتها السيدات والسادة أدركتم أنني بدأت بمحاولة تعاطي "كبسونة" الأخ

رجب من اليسار لليمين، أو من النهاية إلى البداية، إدراكاً مني لحقيقة أن مثل

هذه "الكباسين" لا يمكن أن تكون قد كتبت بنفس الآلية التي نعرفها ونمارسها

نحن معشر الكتبة الصغار الهواة، فلابد أن أنامل الأستاذ رجب خطتها وفق آلية

أو "شفرة" أخرى لا ندركها، وإضافة لذلك دعوني اعترف أيضاً بصراحة أنه كان

صعباً على المرء أن يستهل مقاله بالخوض في معضلات من وزن "عصر مبارك" وما قد

يجره ذلك علينا من تبعات ومضايقات و"وجع راس"، لكن "مابيد العين حيلة"، فهناك

مسلمات عرفناها عن الديموقراطية، ولا يمكننا تجاهلها، أولها هو يسمى بالتداول

السلمي للسلطة، وهو الأمر الذي لم يحدث طيلة "عصر مبارك" إلى درجة فقد فيها

الجميع الأمل في تحقيق ذلك، فاكتفوا بالمطالبة بألا يحدث هذا بعد عمر طويل،

لكن لا يبدو أيضاً أن هذا المطلب يمكن أن يتحقق خاصة في ظل تنامي دور السيد

جمال مبارك على نحو لا تخطؤه العين، وتقدمه الحثيث للسيطرة على الحزب الحاكم،

ومن بعده الحكومة التي أعلن مسؤولون كبار بكل صراحة ووضوح أنها "حكومة الحزب"

وليست حكومة مصر كما كنا نعتقد من قبل.

........

دعونا من قصة التداول السلمي هذه، وتعالوا نحاول أن نحلم "على قدنا"، فهي

مسألة لم تزل في عهدة الغيب ولن نستبق الأحداث، ولتكن مشيئة الله وإرادته

النافذة في مسألة التوريث هذه، تعالوا نحاول مناقشة أمر واقع، وهو سلطات رئيس

الجمهورية كما وردت في الدستور الحالي، لنكتشف بعد استعراضها أن الرئيس

المصري يتمتع رسمياً بسلطات مطلقة وواسعة، يحسده عليها الرئيس الأميركي

شخصياً، ويغار منه رئيس وزراء بريطانيا، أما المستشار الألماني فسوف يحقد

عليه بسببها، فلا جورج دبليو بوش حاكم عموم الكرة الأرضية هو القائد الأعلى

للقوات المسلحة والشرطة، ولا توني بلير الذي يحكم بريطانيا العظمى رئيس

المجلس الأعلى للقضاء، ولا مستشار ألمانيا الموحدة يستطيع تعيين محرر وليس

رئيس تحرير أي صحيفة ألمانية.

أما الرئيس المصري فيستند إلى الدستور، في ممارسة السلطات التالية بعد:

ـ رئيس الدولة المواد من 73 ـ 85

ـ رئيس السلطة التنفيذية المواد 137 ـ 160.

ـ رئيس مجلس الدفاع الوطني 180.

ـ القائد الأعلى للقوات المسلحة.

ـ القائد الأعلى للشرطة.

ـ رئيس المجلس الأعلى للهيئات القضائية.

ـ الرئيس الأعلى لكافة الأجهزة الرقابية في الدولة مثل هيئة الرقابة

الادارية، الجهاز المركزي للمحاسبات، الجهاز المركزي للتنظيم والادارة،

والمخابرات العامة بكافة أنواعها ومسمياتها، والمجالس القومية المتخصصة

وعشرات المؤسسات والأجهزة المختلفة.

ـ وهو بحكم الدستور يتولى ويمارس الوظيفة التشريعية المواد 72، 108، 112،

113، 144.

ـ ثم هو الذي يدعو مجلس الشعب للاجتماع ويفضه، المادتان 101، 102.

ـ وهو الذي يعين رئيس الوزراء والوزراء وتنعقد مسؤوليتهم أمامه.

ـ ثم هو يعين 10 أعضاء في مجلس الشعب.

ـ ثم هو يعين ثلث اعضاء مجلس الشورى.

ـ ثم هو الذي يعين ويقيل ويعزل جميع كبار موظفي الدولة.

ـ ثم هو الذي يعين رؤساء الهيئات القضائية.

ـ ثم هو الذي بيده وحده تعيين أو عدم تعيين نائب لرئيس الجمهورية.

ـ وهو رئيس الحزب الحاكم.

ـ وليس أخيراً فهو الذي يستطيع ان يجمع أعضاء مجلس الشعب والشوري بكامل عددهم

اذا حضر جلسة لأي منهما، وفي غير ذلك من جلسات البرلمان طبقا للمادة 107 من

الدستور حيث يجب توافر 50% من عدد الاعضاء +1 أي أغلبية مطلقة كشرط اساسي

لصحة انعقاد جلساته ابتداء واستمرارا وانتهاء. ثم هو الذي يعين أو يشير

بتعيين مجالس الصحف الحكومية.

وشخصياً لو كانت بيدي واحدة من هذه السلطات من دون رقابة حقيقية، لما اضطررت

إلى الكتابة ولا حتى القراءة، ولما فرطت فيها إلا بطلوع الروح، فما بالكم وقد

اجتمعت كل هذه السلطات، بينما يتوقع بعض البلهاء والحالمين ممن يحوزها أن

يتخلى عنها طواعية!.

......

يقول العارفون بشخصية الفلاح المصري إنه قد يغفر التطاول على شخصه، خلافاً

للبدوي الذي قلما يتسامح في هذا الأمر، إذ يعلنها حرب "داحس والغبراء" في أي

محاولة للمساس بذاته، لكن الفلاح المصري سوف يصنفك فوراً على لائحة الأعداء،

أو ضمن "محور الشر" إذا مسست بسوء، أو حتى حاولت، إيذاء ابنائه، ومن المعلوم

أنه ليس كل الأعداء محاربين، وحتى في التراث الفقهي الإسلامي، فهناك العدو

المحارب وغير المحارب، وبالتالي لا تعني العداوة لدى الفلاح المصري "إعلان

حرب" بالضرورة إذ تقتصر على التحسب وإعداد العدة للعدو، وسوء الظن به،

وحرمانه من أي فرصة للتواصل الإنساني، بل وقد تمتد إلى كل ما يصدر عن ذلك

العدو من أفعال وأقوال، فهي جميعها "شر مستطير" لا ينبغي التعاطي معها على أي

محمل آخر، تأكيداً على أن "سوء الظن من حسن الفطن" في مثل هذه الأحوال.

أما "إعلان الحرب" وإطلاق المدفعية الثقيلة فيلجأ إليها الفلاح المصري في

حالتين لا ثالث لهما، إما أن تتعرض لشرفه بسوء، أو تمس قوت يومه، لهذا لا

يمكن أن يقف الفلاح بنفس صبره المعهود وسعة صدره الأزلية، أمام أدنى محاولة

للنيل من أمه .. زوجته .. شقيقته، أو ابنته، وهذا هو تقريباً مربع الشرف

الأول في وجدان أي فلاح مصري، كما يتحول أيضاً هذا الفلاح الناعم المسالم إلى

"وحش كاسر" حين يتعلق الأمر برزقه و"قوت عياله"، وهو المعنى الذي يعبر عنه

مثل شعبي يقول "يا ناوي على قوتي، يا ناوي على موتي".

كل هذه المقدمة الطويلة تمهد لأول مفاتيح شخصية الرئيس المصري حسني مبارك،

وهو "الفلاح المصري"، فمن المعلوم أن السادات ومبارك من أصول ريفية، بينما لم

يكن عبد الناصر كذلك، خلافاً للصورة الدعائية الشائعة عنه كنصير للفلاحين،

فهو ـ أي عبد الناصر ـ كان دائماً ابن مدينة بحكم نشأته الشخصية، ولم تكن

"الفلاحة" من لوازم حياته ذات يوم، فوالده "ساعي البريد" عاش بين القاهرة

والاسكندرية، وبالتالي فشخصية عبد الناصر تراثها "كوزموبوليتاني"، شأن هاتين

المدينتين اللتين كانتا ولم تزالا تتشكلان من فيسفساء حضارية تجمع كافة ألوان

الطيف الحضاري تحت سماء واحدة.

وربما كانت هذه السمة "أي الفلاح" هي الأكثر حضوراً في حالة الرئيس الراحل

أنور السادات، وهي المدخل الأول لفهم شخصيته، فهو تسامح كثيراً مع التطاول

على شخصه، ولم يكن ابنه جمال في سن ولا وضع يسمحان بالتطاول عليه، أما حين

اقترب أحدهم، وهو الشيخ المحلاوي، من السيدة زوجته، كشّر السادات عن كل

أنيابة وضرب بكل شدة، بل وصل الأمر إلى حد التنكيل، فضلاً عن ذلك كان السادات

يدير المسألة بروح الفلاح الماكر، التي توصف في الموروث الشعبي المصري بتعبير

"لؤم الفلاحين"، فهو يدع الناس تتصور أنه لا يفهم شيئاً، كما أنه لا يدّعي

المعرفة ببواطن الأمور مثل أبناء المدن الذين يزعمون ذلك بغض النظر عما إذا

كان ذلك عن حقيقة أو ادعاء.

وهو أيضاً يصبر طويلاً على "جار السو" أي السوء، لأن الفلاح يدرك جيداً أنه

لن يستطيع أن يحمل حقله على كتفه أو على ظهر دابته، مثل "خيمة البدوي" ويرحل

بعيداً عن جار يبغضه، لهذا يصل الفلاح دائماً إلى "صيغة ما" للتعايش مع هذا

المرض المزمن، المسمى "جار السوء"، حتى يتحين له الفرصة المناسبة فيفعلها،

ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أدار السادات الصراع مع إسرائيل على نحو أقل

عنترية من "ابن المدينة" القبضاي أو الفتوة الذي يقف على قارعة الطريق

متوعداً، ومهدداً ومبشراً ونذيرا، إذ لا يرى الفلاح المصري أي غضاضة في

الانحناء أمام العاصفة، بل على العكس يعتبر الوقوف في وجه الريح ضرباً من

الخبل وسوء التقدير، وإلقاء النفس في المهالك، بينما هناك بديل ليس مشروعاً

فحسب، بل ويراه واجباً في هذه الحالة، لذلك انحنى السادات، ومن بعده مبارك

للكثير من العواصف العاتية هنا وهناك، وبينما أفلت عبد الناصر ومعه مصر

بمعجزة من عاصفة عابرة عام 1956، لكن جاءت عاصفة حزيران (يونيو) 1967 لتقصم

ظهره ـ وظهر الأمة كلها قبله ـ على الصعيدين السياسي والإنساني، ولم تقم لها

قائمة من يومها.

.....

المدخل الثاني لشخصية الرئيس المصري حسني مبارك هو "الطيار"، ولعل هناك صورة

نمطية (ستريوتايب) هو في الحقيقة أقرب إلى الكاريكاتيور روجت له السينما

المصرية عن الطيار، الذي لا همّ له سوى قصص الحب والغرام، فهو دائماً في

وسامة وجرأة حسين فهمي "أيام شبابه"، يقود الطائرة كأنها سيارة مكشوفة

"كابورليه"، يتهادى بها أمام جمهور من المعجبات والمعجبين، بينما المضيفة

الحسناء من طراز الفاتنة ميرفت أمين "أيام شبابها وحتى الآن"، تلملم شعرها

الذي تداعبه نسمة شارع المطار في القاهرة "أيام شبابها هي الأخرى"، والحقيقة

أن الطيار العسكري تحديداً هو صورة مغايرة تماماً لهذا المشهد الذي طالما

داعب خيال المراهقات والمراهقين، فهو دائماً على موعد مع الخطر أو لنقلها

بصراحة مع الهلاك، فمنذ اللحظة التي يرتدي فيها "عفريتة أو حلة الطيران"،

ينفذ التعليمات بصرامة لا تحتمل أي اجتهاد أو خروج على المألوف، ولا تعرف

التجارب والخيال، فالخطأ هنا يكلفه حياته، كما يكلف الجيش طائرة ثمنها

بالملايين، وحين يكون الطيار متخصصاً في الطائرات الضخمة فإن الكلفة ستزيد،

لأن معه بشراً أو معدات، كلها رهن خطأ واحد يرتكبه الطيار.

لهذا تتجذر في نفوس الطيارين العسكريين قناعات عدة، أبرزها الحذر المزمن

وربما المبالغ فيه، والتحسب من شئ ما في عهدة المجهول، ويصبح الأمن هاجسه

الحاضر دائماً في كافة حساباته، كما يرفض "لعبة الخيال" التي ستقوده إلى

التجريب وهو ما يعني إمكانية الفشل أو النجاح، ولأن في الطيران ـ كما أسلفنا

ـ فإن الفشل يعني النهاية المأساوية المحتومة، فإن ذائقة "المسرح التجريبي"

بنزقها وخروجها على المألوف هي أكثر ما يمقتها الطيارون الحربيون، ويعتبرونها

ضرباً من "التهريج المبتذل"، والنكات السخيفة، ولهذا لا يميل أغلب الطيارين

إلى مسألة التغيير غير المحسوب بدقة تصل إلى حد الملل، ولا يكترثون لأية

انتقادات في هذا المضمار، لأنهم يرددون بصوت عال وفي قرارة أنفسهم دائماً،

"هؤلاء الذين يجعجعون عوامون على البر، ولما يخوضوا مقارعة خطر الإبحار أو

الإقلاع مرة واحدة"، ففي التأني ألف سلامة، وهذا ما يعنيهم في الأمر برمته،

إذ أن أبرز نجاح للطيار أن يصل إلى محطته النهائية سالماً، وليس مهماً أن

يكون غانماً، فالسلامة هي المغنم الأهم.

لكن مع ذلك فهناك لحظات فاصلة يعرفها المتمرسون من الطيارين، التي ينبغي

عليهم فيها أن يتخذوا القرار، وبأسرع وقت ممكن لأن التردد فيها يعني أيضاً

كارثة محققة، لهذا نجد ردة فعلهم في مواقف محددة حاسمة وصارمة مهما ترتب

عليها من نتائج، وهو سلوك لا يبدو متسقاً مع ما سقناه سلفاً من اعتياد الحذر،

لكن هذه المواقف بطبيعتها استثنائية، تؤكد القاعدة الأساسية ولا تنفيها، وهي

لحظات "الخطر الحال المحدق" بلغة أهل القانون.

هي لحظات فاصلة، "ولا صلة لها طبعا بخطوط الأخ سمير رجب الفاصلة"، تشكل مواقف

مفاجئة أو منعطفات حادة لا تحتمل التأني ولا التردد، بل تقتضي "تدخلاً

جراحياً" حاسماً وقاسياً لبتر طرف لدغته أفعى الصحراء الشريرة المعروفة بـ

"الطريشة"، ولأن سمها زعاف يتسرب في الشرايين ليأتي على المرء في دقائق

معدودات، فلا مناص من التضحية باليد أو الذراع أو حتى الساق ليبقى المرء

معوقاً، أفضل من هلاكه، وهنا يمكن أن نرصد مواقف من هذا النوع في سلوك الرئيس

مبارك، منذ سنوات حكمه الأولى حين اندلعت أحداث شغب قوات الأمن المركزي لم

يكن هناك مفر من قرارات فرض حظر التجوال، ونزول الجيش إلى الشوارع، وهي

الإجراءات التي لم تفرض حتى يوم اغتيال السادات، لأن تمرداً في صفوف مؤسسة

أمنية ذات طبيعة نظامية كقوات "الأمن المركزي" المصري، التي تتجاوز قدراتها

البشرية جيوش دول أعضاء في الأمم المتحدة مثل الشقيقة قطر مثلاً، أو الصديقة

تونس مع احترامنا، هو أمر يجب أن يؤخذ بقبضة من حديد، كونه يمس نظاماً

متجذراً منذ آلاف السنين في مصر، وهو "الدولة المركزية" التي هي "ألف باء" أي

نظام حكم، وطنياً كان أو استعمارياً أو كان حتى من المماليك المجلوبين من

القوقاز، فمصر لم تكن في أي لحظة تاريخية "مملكة طوائف"، بل على العكس، وقفت

مسألة الإفراط في المركزية هذه حجر عثرة في لحظات تاريخية كثيرة دون إنجاز

تقدم، كما التهمت أحياناً التراث الحضاري لأقلية كالنوبيين مثلاً على مذبح

الدولة المركزية، التي تشبه تمدد النيل كالعمود الفقري من الجسد، ولاشك أن

أدنى وجع في هذا الهيكل يمس الكيان كله.

من هنا ندرك الخيط الدقيق بين نزوع الطيار المعهود للتأني، واستساغة الحلول

المجربة سلفاً، كالعقاقير التي يتم إخضاعها لعشرات التجارب قبل طرحها في

الأسواق، وبين اللحظات التي يجد الطيار نفسه حيال مواقف مفاجئة أو منعطفات

حادة، تقتضي منه اتخاذ قرار حاسم، وفي سمة "الطيار" هذه ما يميز مبارك عن

سلفيه، فكلاهما من أبناء "مدرسة المشاة" العسكرية، وهي ـ لمن لا يعرف ـ عصب

الجيوش ومخزون قادتها، لكن "مدرسة المشاة" رغم كل صرامتها وقسوة تقاليدها

وتراثها العتيد، تحتمل الخطأ مرة واثنتين وثلاثاً وعشرة، كما تحتمل بل وتقتضي

في كثير من الأحوال وجود الزعامة الكاريزماتية، في نسختها النازية والصدامية،

فالضابط الصغير حديث التخرج يقف كأنه "فيلد مارشال" أمام فصيلته أو سريته،

يحاضر في أهمية الانضباط والتقاليد العسكرية والوطنية وكل شئ، والجنود كلهم

آذان وعيون، أما في حالة الطيار، فليست هناك ثمة زعامات من هذا الطراز، بل

هناك ضابط نخبوي يتعرف على كل صغيرة وكبيرة في طائرته، ويراجعها بدقة قبل أن

يقلع بها، ثم يمضي في رحلته وفق "كاتالوج" من الخطوات المحسوبة والمجربة

مراراً، حتى يصل إلى محطة الهبوط بنجاح، محققاً أكبر قدر ممكن من ساعات

الطيران، لأن هذا هو ما يحسب له، ويتم تقويمه على أساسه في نهاية المطاف.

....

ونواصل في مقال لاحق، إن ظل في العمر بقية.

تم تعديل بواسطة achnaton

كلمات حق وصيحة فى واد .. إن ذهبت اليوم مع الريح ، فقد تذهب غدا بالأوتاد ..

ليس كل من مسك المزمار زمار .. وليس كل من يستمع لتصريحات الحكومة الوردية ..حمار

ويا خسارة يامصر .. بأحبك حب يعصر القلب عصر

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...