اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

الدنيا.. وعوض البتانوني


مرسي سلطان

Recommended Posts

الدنيا.. وعوض البتانوني

مرسي سلطان

رائحة الذرة المشوية، هي إحدى بشائر صيف بور سعيد بالنسبة لي، أشمها فأكاد أشم الصيف، وفي طريقي إلي المقهى ذلك اليوم، جذبتني الرائحة، فتطلعت إلي وجه صاحب العربة، فإذا به عوض البتانوني، وما أن لمحني حتى هتف في شبه ترحاب:

­ فينك يا أستاذ؟

فلم أستطع إخفاء دهشتي لرؤيته، بعد اختفائه الطويل، ثم ظهوره علي هذا الحال.

­ ياخبر ياعوض؟ خلاص بعت دره!

­ اللي حصل. وياريت الناس سايبيني في حالي. اشوي لك كوز؟

­ طري.

بعثر الكثير من كيزان الذرة التي سبق أن رصها بعناية، قبل أن يختار أحدها، ويبدأ في تقشيره، وهو يقول لي:

­ أنت عارف ورشة البلاط اللي كانت عندي؟

ومن لا يعرف ورشة البلاط وقصتها؟

في البداية، عرفت عوض عن طريق سيد الشرايدي، عندما كان لا يزال يعمل خفيرا في جبانات الأقباط، حيث شاءت الصدف بعدما تحولت بورسعيد إلي منطقة حرة، أن يقام المنفذ الجمركي ملاصقا لمنطقة الجبانات، فأصبح طريق الالتفاف حول الجمرك يمر خلالها، حين يسلكه المهربون في ظلام الليل، ومن بعدها هربت الأشباح ، ولم يعد عوض يسهر وحده وسط عالم الأموات الموحش ، بل وجد نفسه فجأة وسط صخب الحياة والأحياء ، يروحون ويغدون من حوله ، فاندمج معهم في السعي وراء ( المصلحة ) وجني المال ، وهو باق علي نفس حاله في نفس مكانه ، ينام أغلب النهار ويصحو غالب الليل، حين يقصده المهربون ليستطلعوا لديه أحوال الجمرك، وأسماء موظفي الوردية و أحوال شهيتهم النهمة ، وكذلك أسماء الساهرون من ضباط الشرطة والأماكن التي يكمنون بها، كما هو أيضا دليلهم الذي لا يخطئ وسط عتمة المقابر، ومن يودعون لديه بضائعهم حين يفشلون في إخراجها، وأحيانا يقومون بتخزينها لديه دفعة واحدة ليتم إخراجها بعد ذلك علي مراحل، وبين تلك المشاغل التي لاتنتهي، كان يجد الوقت الذي يقضيه ليجلس في استرخاء يدخن الجوزة، وحوله رفاقه المهربون يتوددون إليه، ويعمرون له الجوزة بالحشيش ليدخنوا معه، حتى أصبحت تلك الجوزة أشهر من العديد من الغرز لدي مهربي البضائع.

وحين دعاني الشرايدي تلك الليلة لزيارة المكان لأول مرة، شعرت في البداية ببعض الانقباض من فكرة دخول المقابر ليلا، لولا الفضول الذي غلبني في النهاية لرؤية ما سمعت عنه.

كان عوض قد اختار مكانه وسط جبانات الروم الكاثوليك الإيطاليين والفرنسيين شبه المهجورة، بين المقابر الفخمة التي تشبه أغلبها نماذج مصغرة من الكنائس، بعضها مكسو بالرخام الثمين أو مبني بالحجارة الصلدة، وفي كل ركن وناحية منها، تزينها تماثيل المتوفين والصلبان والملائكة المجنحة، والتي بدت آثار الإهمال واضحة عليها حيث تركت لتنمو حولها الكثير من النباتات وأخذت أشجار اللبلاب تسرح في كل مكان دون تهذيب، ربما من قبل نصف قرن، من بعد رحيل الجاليات الأجنبية.

وجدناه ساعتها يجلس وحده، وبجواره موقد صغير يعد عليه الشاي، وقد أضاء عتمة القبور من حوله بلمبة جاز صغيرة، وبعد أن فرش لنا قطعا من الكرتون فوق كتل الحجارة، قام علي الفور ليشعل بعض الفحم من أجل المعسل، وبين الحين والآخر، كان يمر بنا كل من في طريقهم إلي الجمرك أو عائدون منه، يجلسون بجوارنا، يشربون الشاي ويدخنون، يتهامسون بالحديث بينهم، هكذا وشوشة، عدا وقت الحساب والنقود، فعندها تعلو أصواتهم بالصياح.

وبعد تلك الليلة، لم أر عوض أو أسمع عنه، حتي جاء اليوم الذي فاجأ فيه الأجل الثري المعروف جورج نخلة ليلة رأس السنة بعدما أفرط كثيرا في الشراب طوال النهار، ثم أتبع ذلك بقرص من المخدر، ففاضت روحه قبل أن يبلغ عامه الثلاثين، وصبيحتها بحثوا عن عوض ليحضر لهم مفاتيح المقبرة، فلم يجدوه ­ كان في دمياط يحصل ثمن بضاعة أخرجها لأحد التجار ­ ، وسط الجو المشحون بالقلق والتوتر، ومشاعر الحزن علي الفقيد الشاب، سارع أحدهم بتحطيم أقفال المقبرة، فهالهم ما وجدوه بداخلها. أثواب من القماش مفككة ومضغوطة بأشرطة اللصق الشفاف. أجولة بلاستيكية ممتلئة بأحذية الكوتشي والشباشب. كراتين من القمصان وبنطلونات الجينز. شنط محشوة باللانجيري وملابس نسائية داخلية.. أربطة من الزهور الصناعية.. عشرات من علب الكريز والأناناس المحفوظ.. وكل... كل أنواع بضائع شرق آسيا.

بهت الجميع بما شاهدوه، وران الصمت عليهم، واقفون وكأن علي رءوسهم الطير، حتى خرج الأب بطرس عن وقاره.. آه يا عوض الكلب، وأقسم أن يطرده من الجبانة شر طرده.

وليلتها حين عاد عوض من دمياط وعلم بما جري، أدرك انه لاسبيل لإثناء الأب بطرس عن قسمه، وأنه تارك الجبانة لا محال، فأخذ يضرب كفا بكف: ­ يموت هو وينخرب بيتي أنا! وانزوي في ركن من المقهى واضعا رأسه بين كفيه وهو يترقب الأخبار، وحين عاد الشرايدي من جهة 'الإفرنج'، أخبره أن حكاية مخزن البضائع الذي وجدوه في مقبرة عائلة نخلة أصبحت حديث بورسعيد كلها بين الضحى والعشية، وأن بعضهم تناولها بطريقة ساخرة لا تليق بجلال الفاجعة، وقص عليه نكتة طازجة سمعها، عن التاجر الذي أرسل البضاعة إلي الآخرة قبل يوم الحساب، وبالطبع لم يضحك عوض، بل اغتم زيادة ووجد أن الحكاية قد لفت ودارت، وعادت لتلف برأسه طوال الليل، فلم ينم ليله، وما أن أصبح الصباح حتى كان قد ألبس العيال وأم العيال أفضل ما لديهم من ثياب، ثم وضعهم في سيارة تاكسي وهو معهم حتى باب الكنيسة.

وبعدأن صاح في الفناء الخارجي للكنيسة وعلا صوته، خرج له الأب بطرس بنفسه:

­ إيه تاني ياعوض؟

­ دلوقت الولاد دول مسيحيين وأولاد الكنيسة، خدوهم عندكم. إصرفوا عليهم. أنا ماعدتش أقدر أأكلهم عيش حاف، خدوهم وسيبوني أروح لدين المسلمين.

­ أصل حكاية رجوعك الجبانة تاني لازم تشيلها من دماغك، وهات م الآخر. جاي عايز إيه؟

­ عايز آكل عيش .. مش حكاية جبانة.. شوف لي شغلانه تانيه.. بس أروح فين؟

­ لو علي كده، خلاص.. من بكره تعالي اشتغل هنا في الكنيسة تحت عيني.

وأغلق الأب بطرس الباب من ورائه، وفي اليوم التالي كان عوض يكنس ويمسح في الكنيسة، ويعتني بالنباتات المزروعة حولها، يرمم بلاطها ويصلح حنفياتها، ويبدي مجهودا مضاعفا، لكن ذيله الأعوج ظل علي حاله، حيث بدأت تختفي بعض الشمعدانات الفضية والمباخر والأشياء الثمينة من الكنيسة، حتى جاء اليوم الذي ضبطه فيه الأب بطرس علي باب الكنيسة وأخرج ماكان يخفيه تحت ملابسه المنتفخة، وعند ذلك الحد كان طرده نهائيا هو أقل ما ينبغي عمله، لكن الرحمة عادت وغلبت الأب بطرس من جديد بعد أيام قلائل، عندما توسط لديه أهل الخير ليقبل توبته، بل وسمح له بإقامة كشك لصق السور الخلفي للكنيسة يأكل منه عيش حلال، يضع فيه عدة البلاط، ويصب أمامه درجات السلالم، فهي المهنة الوحيدة التي يعرفها، والتي اكتسبها عن أبيه الذي كان يقوم بترميم المقابر إضافة الي عمله الأصلي كخفير في الجبانة.

وماهي إلا فترة قصيرة، حتى راجت أعمال عوض، حين قررت الحكومة تسليم الشقق التي تبنيها للمواطنين دون تشطيب، فانتعشت أحواله، وراح يحسب نفسه في عداد المقاولين، خاصة بعدما حصل علي ترخيص بمزاولة مهنة المعمار، واستخرج البطاقة الضريبية، وقيد اسمه في سجل التأمينات الاجتماعية، واطمأن إلي دوام الحال.

لكنه محال يا عوض، فماذا يفعل الشباب القبطي بعدما ضاقت عليهم الشوارع؟، كونوا 'جمعية الكتاب المقدس' يلتقون فيها داخل الكنيسة، وبعدما تزايدت أعدادهم، تقرر فتح باب خاص بهم، وتشاء الصدف أن يكون المكان الوحيد المتاح للباب المقترح هو مكان كشك بلاط عوض البتانوني.

الغريب تلك المرة، أنه بدون جلبة أو ضجيج، انصاع عوض للأمر، وقام بتفكيك أخشاب الكشك، وتحميلها مع العدة علي عربة الكارو، واتجه ناحية البحيرة ليقيم الكشك من جديد.

سألوه إن كان يهرب من دائنيه، تجار الأسمنت والحديد، الذين يأتون للسؤال عنه كل يوم؟، فقال:

أبدا.. أنا صنايعي وزبوني يجيلي في أي حتة.

لكن ناحية البحيرة، غير ناحية وسط البلد، خاصة أن عوض ليس كما يدعي، يبحث عنه الزبون، ويذهب وراءه إلي آخر الدنيا!

ويوما بعد يوم، طالت ساعات وجوده في الكشك الجديد دون أن يجد شيئا آخر يفعله سوي شرب الشاي وتدخين الجوزة، والتي يفضلها عرف رفاقه القدامى طريقهم إليه رغم المكان النائي، فما لبثت أن انزوت عدة البلاط في ركن من الأركان، لتفسح المكان لمنقد الفحم، وموقد الشاي، إضافة إلي جركن لمياه الشرب، ودلو يغسل فيه الجوزة، وحين زرته مجددا في مكانه الجديد بصحبة الشرايدي، كانت الورشة قد تحولت تلقائيا إلي غرزه، ما لبث أن ذاع صيتها فيما بعد، حتى أزالتها شرطة المرافق، وبعدها اختفي عوض عن الأنظار خلال تلك الفترة شهدت فيها بور سعيد بوادر الكساد، وأفول زمن التهريب والتهليب، حتى صادفته أخيرا يشوي الذرة علي ناصية شارع ستالينجراد.

عاد عوض إليٌ بعدما انتهي من زبائنه الصغار ليكرر سؤاله:

­ فاكرها..؟ الورشة اللي كانت في ضهر الكنيسة..؟

­ ايوه.. مالها؟

­ استني.

وبحث تحت الخيش المفروش علي العربة، حتي عثر علي مظروف أصفر حكومي، ناولني إياه:

­ شوف!

سألته دون أن أفتحه.

­ فيه إيه الجواب ده؟

­ دا جواب من الضرايب عاوزين مني خمس تلاف جنيه وشويه عشان الورشة اللي كنت فاتحها من ميت سنة.

­ وحتعمل إيه؟

تكونش قاصدني علشان تسدد؟

­ قلبك أبيض ياراجل يا طيب، ما أنا عارفك، باطك والنجم زي حالاتي.. صلي ع النبي وقول يا باسط..

شايفني بابيع درة وتقول لي أسدد؟

­ طب شوف لك حل، قدم تظلم.. شكوي. أي حاجة، بدل ماياخدوك في حديد م الخلف، و يحبسوك أو يشغلوك بهم مصاريف.

­ أنت عارف صلاح المصوراتي؟ بيعدي من هنا كل يوم وهو راجع من البحر، أبقي أقول له ياخد لي كام صورة، وابعتهم بعد كده للضرايب في جواب (موسوجر) رسمي زي اللي هما باعتينه. وأهي صور واقعية وحقيقية.. وتغني عن الكلام.

وما أن انتهي من شي كوز الذرة علي جمرات الفحم، حتى ناولني إياه، فمضيت ناحية المقهي وأنا ألوح له بيدي.

­ والله فكرة مش بطاله..ليه لأ ؟

.. ع البركة .

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...