Iyad بتاريخ: 18 أكتوبر 2004 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 18 أكتوبر 2004 تيسير مشارقة في الشارع الخلفي الذي يؤدي إلي البوابة الشرقية لمقر الرئيس الفلسطيني المسمي مقاطعة ترقد بقالة صغيرة باسم الحلم العربي . بقالة صغيرة وناعسة مثل العالم العربي. يرتادها نهاراً بعض المارة ونفر من الحرس الفلسطيني الذين يبحثون عن علب التبغ. تفتح البقالة أبوابها متأخرة وتغفو مبكراً. لا تلوي علي شيء ولا تكترث لأحوال المقاطعةف. المقاطعة تعني مكتب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات برام الله. وقد تعرضت مباني المقاطعة (مجمع الرئاسة الفلسطينية) لتدمير شبه كامل أثناء الاجتياح الإسرائيلي الأخير للمدينة في آذار ونيسان 2002 وبعد ذلك. ولم ينج من تلك المباني سوي مبنيين اثنين يربط بينهما جسر معلق في الهواء. وهذا الجسر تم تدميره أثار تشديد الحصار علي الرئيس (أبو عمّار) في منتصف إحدي الليالي، حين فزع (من فزعة، أي هبّ) المواطنون الفلسطينيون لنجدة رئيسهم المحاصر. حينئذ قرعت الطبول وزمّرت الحافلات من كل حدب وصوب تستنجد بالنائمين أو الخائفين في بيوتهم بسبب حظر التجوال المطبق علي أفئدتهم. زحف الناس رغم حظر التجوال بعد منتصف الليل إلي تلك المقاطعة المحاصرة. كنا من نوافذ المنازل نشاهد الفوردات(حافلات الفورد بالأجرة والسيارات الخاصة) مشعلة الأضواء تسير علي الشوارع المقفرة في الليلة الظلماء باتجاه الرئيس الذي يلاطم بيديه المخرز. وسار الناس فرادي وجماعات راجلين نحو كعبتهم (المقاطعة) المهددة بالردم والتدمير. وفعلاً فكت آليات الاحتلال الحصار أمام زحف الراجلين والحافلات المليئة بالناس الغاضبين والمحتجين علي إيذاء زعيمهم المنتخب. قتل الجنود بعض الزاحفين فذهبوا إلي جنات الخلد فداء للمقاطعة والرئيس الذي يؤمن به البعض كأحد أولياء الله الصالحين، لا لشيء إلا لأنه الختيار الطيب و الأب الكبير والزعيم.. والمرجعية الكبري التي يلجأ إليها الناس في الملمات، وكأنه طقس من طقوس الأسلاف الصالحين . ماذا دمرت طائرات الأباشي حينئذ؟! دمّرت الجسر بين المبنيين المتبقيين من المقاطعة. دمرت حبل السرّة بين التوأمين. وكأن في ذلك ترميز أو شفرة تدلل علي قطع الطريق بين الضفة وغزة. وفعلاً لا يوجد رابط حقيقي بين شقي البرتقالة الفلسطينية (الضفة وغزة)كأن السلطة علي الأرض الفلسطينية المتناثرة لا يجمعها جامع. كيان هناك (غزة) منعزل تحت رحمة الخنق وكيان هنا (الضفة) مفتت إلي فسيفساء يربط بينها مستعمرات ومستوطنات. حال المقاطعة مثل حال الأرض الفلسطينية. إلا أن المقاطعة لملمت نفسها فوراً وبنت الجسر الذي ضم شطري المبني المتبقي من أرض المقاطعة، وبقيت الأرض الفلسطينية (بحسب أوسلو) تنتظر التئام شطريها الضفة وغزّة بعد طول حصار وافتراق. بقيت المقاطعة لفترة وجيزة مكوّنة من مبنيين نالهما دمار وخراب كبير لا رابط بينهما، تحيط بهما داخل أسوار المقاطعة مبان أخري دمّرت من قبل، مبان وعمارات كانت تأوي حراس ورجال من الأجهزة الأمنية. لست من العارفين جيداً بالمباني الأخري المحيطة بمكتب الرئيس الفلسطيني وبيته، فقلما وصلت إلي هناك، إلا لمشاهدة حصار أو فك حصار. ولكن مبني المحافظة(محافظة رام الله والبيرة ومكتب المحافظ مصطفي عيسي اللفتاوي ـ أبو فراس) الذي كان يرتاده المواطنون الفلسطينيون، وهو المجاور لمكتب الرئيس، فقد دمّره القصف ودويّ القنابل أثناء حصار الرئيس ، انخلعت الواجهة الأمامية لمبني المحافظة وكشفت عن الحجرات التي تعلـّـقت في الهواء.. فالقادم إلي مكتب الرئيس يمر بطريق ترابي وعر، وعلي يمينه غرف مبني المحافظة بلا حيطان، يجلس فيها حرّاس في الهواء الطلق. هناك في الواجهة المكشوفة يرقد سرير يجلس علي أرضية غرفة وكأنه علي شرفة ويمتد حبل غسيل تتعلّق عليه ملابس فوتيك خضراء لرجال الأمن الفلسطينيين. في هذه الواجهة المكشوفة من العمارة حجرات ما زال يقطنها أناس نصفهم في العراء. المشهد سوريالي وعجيب. كأنه لوحة فنية لسلفادور دالي.. قضبان حديد مخلـّعة وردم كبير وواجهة مبني المحافظة منهارة، والغرف المكشوفة علي الطريق ما زال يسكنها أناس قذفهم الدمار إلي الشارع. الحجرات التي كانت تملك أربعة حيطان صارت بثلاثة، والجدران طارت في الهواء بما تملك من براويز وصور لمقاومين ــ شهداء. رجال مبني المحافظة معلقون الآن في الهواء، يتحدثون كأنهم علي قارعة الطريق ويعّدون الشاي ويدخنون، ويلوّحون بأيديهم للقادمين. بإعادة ترتيب الوصف، تكون المقاطعة كالتالي : أسوار تضم عشرات المباني المدمرة وفي عمق الداخل يوجد مبني ـ توأم مهشم الأطراف يربط بين جزأيه جسر معلق تم إعادة بنائه علي عجل لكي يتيح تنقل القاطنين فيه دون الاضطرار للخروج إلي العراء. وفي الداخل حجرة مكتب الرئيس الذي جمع أوراقه القليلة علي مكتبه، أمامه، حيث يستقبل الضيوف وهي متراكمة ومتراصة فوق بعضها بعضاً. ويقول أحد العارفين بالرجل الكبير أبو عمار أنه يضم بعض أوراقه إلي جيبه حيث مسدسه وقلبه. هذه حال الختيار الشاب الفلسطيني ياسر عرفات الذي أمسك بزمام الأمور دائماً. يتجمع حوله نفر قليل من الرجال الشباب الذين يناولونه الخرائط والكتب والأوراق ويهمسون بأذنه بالطارئ القادم. لا ينام كثيراً ذلك القائد ويتزوّد بعسل فلسطيني من القــــري المجاورة لرام الله كي يبقي متماسكاً ومستقيماً كالألف لا انحناءة في ظهره وهو قصير القامة. في مبني المقاطعة الصامد يجلس صاحب الحل والربط أبو عمار بالرغم من الردم والدمار لمدة عامين متواصلين . لا يأبه بالإقامة الجبرية ولا يغادر غرفته إلا نادراً إلي الحجرات المجاورة. لقد أزاح الزعيم الكبير شبح التجوال المستمر بالطائرات والمروحيات عن حياته وظل ماسكاً علي الجمر الفلسطيني، متماسكاً صاحياً يقظاً، يدير أمور المواطنين ويحل مسائلهم ويعرفهم واحداً واحداً مثل أب هم أولاده أو جد هم أحفاده. يتداول العارفون بالرئيس الفلسطيني الحديث عن ذاكرته اليقظة والخصبة. فهو يتذكّر ما لا يتذكّره الآخرون، أو ما غفلوا عنه أو ما نسوه أو ما خانتهم ذاكرتهم باسترجاعه. أبو عمّار.. إنه الذاكرة الخصبة. يعرف بالأمور ويحفظ البعيد والقريب، ويتابع عن كثب التطورات، ويعرف فن إدارة الأزمات. الزعيم أو القائد أبو عمّار في مكتبه كالذاكرة المحاصرة. ولكنه يوزع بصره في المكان ليري كل شيء، ويطلق لبصيرته العنان لتستشرف المحتمل والقادم. يختفي لحيـــــظات إلي حجرته ليصلي أو ليغمض عينيه من عناء يوم حافل بالوفــــود والزائرين من المواطنين والصحافيين. هكذا هو، كما تعوّد عليه أقرب المقربين إليه. يأكل القليل والمفيد وينام قليلاً ويصل الليل بالنهار ويوزّع قلبه أرغفة للناس. مجمع المقاطعة يقع علي ضفاف شارع الإرسال الذي يصب في ميدان المنارة وسط المدينة رام الله. أما بوابة المقاطعة الكبري فهي من حديد صدئ، تعرضت للدمار أكثر من مرّة لم تدهن مرة إلا وخرّبت المجنزرات حديدها وألوانها. يحرسها نفر من المؤمنين بالحق الفلسطيني بالحياة ما استطاعوا والذين يتسلحون بالأمل الذي يمنحهم القوّة. يدخل من بوابة المقاطعة المارون من المواطنين ممن يحبون الاطمئنان علي صحة رئيسهم الذي يعيش في حجرة عميقة وسط الرماد والركام والدمار. كأنه العنقاء هذا الرئيس الفلسطيني، أو هو الطائر الفينيقي في الأسطورة الكنعانية القديمة. هو الذي نهض أكثر من مرّة من وسط الرماد والركام. وهناك من يعتقد أن الله يحميه ويوليه برعاية خاصة كي يبقي قائدا وزعيماً للفلسطينيين مكسوري الخاطر والجناح. هذه الرعاية الربانية للقائد والزعيم الفلسطيني أبو عمّار رفعته إلي مصاف القدّيسين والملهمين والفرسان البواسل. فبقي رافعاً رأسه ولم ينحن كالجبل لا يهزه الريح ورفع الفلسطينيون رؤوسهم من كبوة الغياب أو التغييب به. أما الجهة الأخري من المقاطعة، فهناك بوابة حديدية أخري، يحرسها نفر آخر من جنود فلسطينيين، تشرف علي ساحة كانت مهبط طائرة الرئيس العمودية.. أما الآن فالساحة أصبحت ملعب كرة قدم للحرس الخاص بقائد الوطن. وفي الشارع الخلفي الذي يؤدي إلي البوابة الشرقية لمقر الرئيس الفلسطيني المسمي المقاطعة ترقد بقالة صغيرة باسم الحلم العربي . بقالة صغيرة وناعسة مثل العالم العربي. يرتادها نهاراً بعض المارة ونفر من الحرس الفلسطيني الذين يبحثون عن علب التبغ. تفتح البقالة أبوابها متأخرة وتغفو مبكراً. لا تلوي علي شيء ولا تكترث لأحوال المقاطعة. لم أدخل البقالة ولم أفتش في قلب صاحب البقالة النابض، لكن الحلم العربي الغافي علي أطراف المقاطعة يذكرنا بالكلام العربي وبالأمة العربية وحكوماتها التي تطل بشكل ناعس علي أحوال الفلسطينيين. في الليل، بعد منتصفه تأتي الجيبّات(مفردها حافلة جيب) العسكرية الإسرائيلية وتقف علي بعد مسافة من الحلم العربي (عالمفرق) بالقرب من البوابة الشرقية لـ المقاطعة . تطل الجيبّات علي مبني مكتب الرئيس ياسر عرفات وعلي مهبط طائرته القديم. يترجل الجنود الإسرائيليون منها بأسلحتهم يراقبون المكان والتحركات التي تجري فيه. لو سار مواطن في شارع الحلم العربي بسيارته بعد منتصف الليل لاستوقفه الجنود الإسرائيليين بالسؤال عن وجهته، إلي أين؟ لا أحد يعترض طريق الجيبّات الإسرائيلية التي تبدأ بالتموضع في المساء في أرجاء المدينة رام الله. وبما أن كل الطرق تؤدي إلي المقاطعة، تصبح المقاطعة خافتة الأضواء في المساء وكأنها بين فكّي كماشة. وقد تمر ناقلات الجند الإسرائيلية من أمام مخفر الشرطة الفلسطينية في حي عين مصباح دون أن يعترض شرطي فلسطيني علي ذلك. محتلّون ويتجوّلون علي خاطرهم. هذه قوانين اللعبة أو المأساة ـ الملهاة الفلسطينية. أما المقاومون الذين احتضنهم المكان قبل عامين وأكثر فقد هجروا المدينة المحتلة أو قبع معظمهم في السجون بعد أن استشهد وقضي بعضهم. يهجر الناس المدينة العامرة في المساء إلي قراهم وبيوتهم. ينغلقون علي أنفسهم كالصدفة. فالرزق الشحيح ينتظرهم في الصباح الباكر. ينتظرون قدرهم و/أو ما تأتي به الرياح لهم من نصيب. ينام المواطنون في رام الله ويبقي قلبهم النابض في المقاطعة ساهراً، يقظاً، ينبض بالحياة علي أنوار خافتة وسط الدمار.. دمار تجوب فيه أرواح الذين قضوا واستشهدوا من حماة الديار، ونفر قليل من الحراس ورجل ختيار ـ شاب، يقبض علي الجمر بكلتا يديه يحمي النار الموقدة. المقاطعة الفلسطينية قاطعها الرؤساء والأباطرة العرب، لقد جحدوا علي الرئيس الفلسطيني حتي بمكالماتهم الهاتفية. قوطعت المقاطعة. فالرئيس يملك السر، سر الأشياء وسرّهم، ألم يقل العارفون بأن الله يضع السر في أضعف خلقه. علي هامش المقاطعة نكّس (تمثال الحرية الامريكي) شعلته: هناك علي هامش المجمّع الرئاسي الفلسطيني المقاطعة ، قام الفنانان الفلسطينيان (نبيل عناني) و(عبد الهادي يعيش) بصناعة أنموذج لـ تمثال الحريّة الامريكي ولكن هذه المرّة بشعلة مقلوبة أو منكّسة. ظل هذا التمثال موجوداً لفترة طويلة إلي أن اقتلعته ريحٌ قويّة طوّحت به بعيداً إلي كومة من مخلفات الركام. كاتب من فلسطين رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان