اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

الأيام الأخيرة


mohamed dahshan

Recommended Posts

د. حسن حنفي

الأيام الأخيرة

كما أن هناك علامات ليوم القيامة، اليقينى منها والظنى، هناك علامات أخرى لنهاية أى نظام سياسى. فقد كانت هناك علامات فى أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينيات مثل الحركة الوطنية، النكبة الأولى فى فلسطين، حركة ضباط الأحرار، حريق القاهرة، سقوط الوزارات، الحركة الفدائية فى القناة، ضرب الإنجليز لمخفر الشرطة فى السويس على أن نهاية نظام قد حانت، النظام البريطانى الملكى الإقطاعى، ونظام آخر جديد قد بدأ، ثورة يوليو 1952. وتم التعبير عن ذلك فى عديد من الأفلام حول الأيام الأخيرة ليسوع أو لهتلر أو لنابليون. فهى مفاصل التاريخ والدالة على حلقاته ودوراته وتلك الأيام نداولها بين الناس.

وعن علامات نهاية نظام فردية الحاكم وغروره وتجبره بل وتأليه نفسه، مسميا نفسه آخر الفراعنة أو زوجته ملكة مصر مثل حتشبسوت ونفرتيتى وكليوباترا وشجرة الدر. لا يستشير أحدا فى قراراته التى يغامر بها فى أواخر حياته. ويدعى الاعتماد فيها على الإلهام وهو فى طائرة فوق السحاب، قريبا من الملائكة ورسل الوحى، بل ومن الله. تأتيه الرؤى، الصلح مع العدو المحتل للبلاد على نحو انفرادى وكأن سيناء أغلى من فلسطين والجولان ولبنان. والحقيقة أنه اتفاق عن طريق الوسطاء بأسلوب مسرحى وأمام أجهزة الإعلام بدعوى الصدمات النفسية مخاطبا الغرب إذا عز عليه إقناعه بالإلهام السماوى. فالغرب يعلم منذ عصوره الحديثة أن ما يتخيل فى السماء إنما يحدث فى الأرض أولا قبل أن يتخيله الناس فى ثقافاتهم الشعبية ومؤسساتهم الدينية. يخاطر بمصائر الشعوب، وينفصل عن ماضيها، ويحول ثوابتها إلى متغيرات، ومتغيراتها إلى ثوابت، وكأن السياسات المحلية والدولية أسرار فى ذهن الحاكم، وكأن الحكم إرث شخصى، وكأن الوطن ضيعة، وكأن مصير الشعوب للبيع والشراء. لا فرق بين من غامر بالحرب وبين من غامر بالسلام. فكلاهما مغامرة بالأوطان. وكلاهما تنفيذ لأوامر السيد الأجنبى، ومظهر من مظاهر التبعية باسم البطولة. وإذا ما وصلت الأشياء إلى الحد الأقصى فالطرفان يلتقيان. لا فرق بين البطولة والخيانة والحلال بين، والحرام بين وبينهما أمور متشابهات. والقطعية فى السياسة تعصب. وتحويل السياسة إلى دين. لا توجد أحكام قاطعة فى السياسة خصاما أو مصالحة، غلق الأبواب أو فتح الأبواب. بل هناك تحليل للمواقف، وحساب للمكسب والخسارة، وترك العلاقات الدولية مفتوحة أمام الأوضاع المتغيرة. فقد ينقلب الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق.

الأحكام القاطعة فى السياسة تغلق الباب أمام البدائل، والرأى والرأى الآخر. وهى أحد مظاهر التسلط فى الرأى، والتعصب لأحادية الطرف، وإلغاء للتعددية السياسية. فالتسلط فى الداخل ينعكس على التسلط فى الخارج. وهو أيضا طلب للشهرة والإعلام، والرغبة فى الدخول إلى التاريخ ولو من أضيق الأبواب كما يفعل المجرمون ومشاهير اللصوص ومصاصو الدماء. والذاكرة تحتوى كل شيء، الخيانة والبطولة، الإدانة والبراءة، الظالم والمظلوم، الحاكم والمحكوم.

ومن مظاهر التفرد والغرور والتأله احتقار المعارضة فى الداخل، وعدم أخذها مأخذ الجد وإن سمح بها كنوع من زينة المجالس، يفخر بها أمام الغرب الذى يفرض مشروع الشرق الأوسط الكبير ويضع برنامجا لإصلاحه فى أول بنوده الديموقراطية. لديه مجالس منتخبة حتى ولو كانت مزيفة. يأخذ الحزب الحاكم بمعظم مقاعدها. وينجح الرئيس بالإجماع بناء على استفتاء عام للموافقة على المرشح الوحيد الأوحد مع أن الوحدانية من صفات الله. فإذا ما أراد إثبات أن المعارضة فى الداخل محدودة، ومن ذا الذى يستطيع معارضة فرعون- الإله، فإنه يقبض عليها بالآلاف فى ليلة واحدة أو يستبعدها من جهاز الدولة والصحافة والجامعات فى مذبحة تذكر فى التاريخ. وكما يقضى على المعارضة فى الداخل يحتقر المعارضة فى الخارج، ويقطع معها، ويعزل القلب عن الأطراف. بل ويدخل فى حروب وتحالفات مع الأجنبى ضد العربى، فيسفك العربى دم العربى كما يفعل الأجنبى وكما عبر عن ذلك فيلم العاصفة. فهو الوحيد العالِم، والآخرون جهلة أراذل. وقد يكون الثمن بضعة مليارات لتخفيف الديون. وأموال الوطن مهربة فى الخارج أضعاف الديون.

ومن عظمة التأله لا يكاد الحاكم يرى. ومن كثرة ما أحيط به من رجال البلاط يزينون أعماله ويمدحون صفاته، ويشيدون بمآثره، يغيب الواقع عنه. لا يعلم أن المياه الجوفية قد تجرف البنيان، وأن عرشه على الماء يهتز دون أن يشعر به لأن فرعون لا يموت إنك ميت وهم ميتون ويسخر ممن قبله. ولن يأتى أحد بعده. وليس له نائب لأن الله لا يخلفه أحد، وليس له مساعد إلا ابنه إعدادا له حتى يخلف الفرعون الصغير الفرعون الكبير. والبطانة جاهزة. مات الملك، يحيا الملك.

والاحتقان فى الشارع وصل الذروة. والناس بلغ بهم الضيق إلى حد الانفجار. فالغلاء يشتد يوما وراء يوم. والأسعار ترتفع والدخول على حالها. وكما يفقر الفقراء يغنى الأغنياء. وكما تشقى الجماهير تنعم القلة. ودعم المواد الغذائية لمحدودى الدخل كاد يكون صوريا. وانتهى عصر الإسكان الشعبى ولجان تقدير الإيجار. وبنيت المدن الجديدة للقادرين، كمستعمرات مغلقة بحراس شداد لحماية الأثرياء الجدد. والقطاع الخاص يلتهم كل شيء. والقطاع العام من قبيل الذكريات السيئة. والتعليم الوطنى أفرغ من مضمونه لصالح التعليم الخاص من أجل السوق. والناس تسخط كل يوم من الصباح إلى المساء. ولا ضير فى السخط والتبرم. أما الفعل والتمرد والمظاهرة فلها الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ والاعتقال سنوات وسنوات دون تهمة أو محاكمة. وطوابير الخبز تطول أو تقصر. ولم تعد السرقة فى المركبات العامة والأسواق بل بالمضاربة على أسعار الحديد والأسمنت وبتهريب الأموال ونواب القروض، وشركات توظيف الأموال التى تحولت من اللص الصغير إلى اللص الكبير، ومن الجماعات الدينية إلى الدولة العصية. فساد فى الداخل وتبعية فى الخارج، وبطالة وفقر، وضياع ويأس. فيهاجر غير القادرين إلى الداخل، المخدرات، والدين، والجنس، ويهاجر القادرون إلى الخارج. وتطول الطوابير أمام سفارات الدول العربية والأجنبية سعيا للخروج إلى أرض المعاد.

وكلما ازداد هاجس الأمن ازدادت العزلة والتفرد والتأله. وكلما طالت القامة ضعفت الأرجل ولم يعد للأرض ولا للناس أى دور. فيصعد فرعون إلى السماء بعد أن تطرده الأرض. فالأرض تدفع من أدنى إلى أعلى كما يفعل النبات والنار. وقد يحدث زلزال فى الأرض فيهوى فرعون، من حيث لا يحتسب كما تأخذ الأرض زخرفها وتتزين وتظن أن أمر الله لن يأتيها، وكما تجبر فرعون وقال أنا ربكم الأعلى.. والناس تنتظر الخلاص دون مخلص حتى لا يتكرر التأله. إنما تنتظره على أيديها حتى تسترد مصيرها، وتدافع عن أوطانها، وتستعيد كرامتها، وتثق بنفسها. فقد سئمت التأله. وكما يفعل الشهيد الذى فقد وطنه وأهله وقريته وصباه وتاريخه، والمستقبل أمامه معتم كذلك تفعل الشعوب فى هباتها. فتغيير الوضع القائم أفضل من الاستمرار فيه أو القيام بمغامرة غير محسوبة العواقب. فالمجهول أفضل من المعلوم. والعهد الآتى خير من العهد الماضى. وإيقاف الحاكم الحاضر لن يمنع الشعوب من التمرد نحو المستقبل.

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...