ELSHARIF بتاريخ: 5 مارس 2005 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 5 مارس 2005 (معدل) السادة الكرام السلام عليكم و رحمة الله و بركاتة إسمحوا لي أن أقدم لكم هذا الكتاب و حيث أن الكتاب ضخم ويأتي في 400 صفحة فسوف أقدمة لكم على حلقات .. و الله من وراء القصد الحلقة الأولى ------------ بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى ( فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) ( الزمر ) كتاب نهاية إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من ومتى وكيف دراسة تحليلية في القران والسنة والتوراة والإنجيل حقوق النشر متاحة للجميع الجزء الأول الفصل الأول : البداية الفصل الثاني : زوال إسرائيل قبل ظهور المهدي الفصل الثالث : مختصر لمجمل أقوال المفسرين الفصل الرابع : وكل شيء فصّلناه تفصيلا الفصل الخامس : تاريخ وجغرافيا بني إسرائيل في القران الفصل السادس : تاريخ اليهود في التوراة والتلمود الفصل السابع : فلسطين عبر التاريخ البداية قبل عدة سنوات ، كنت قد قرأت كتاب ( أحجار على رقعة الشطرنج ) للأدميرال الكندي ( وليام كار ) ، حيث يؤكد المؤلف في هذا الكتاب بالشواهد والأدلة ، سيطرة اليهود على واقعنا المعاصر . بعد قراءتي لهذا الكتاب ، وبالنظر لما يجري على أرض الواقع ، تملكتني حالة من اليأس والقنوط . فأحلامنا وأمانينا ، إذا ما سار الناس من حولنا ، على هدي ما يُخطّطه وينفذه اليهود – وهم سائرون وما زالوا – أصبحت هباءً منثورا ، وستسير الأمور إلى الأسوأ يوما بعد يوم ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها . لم أكن أعلم آنذاك ، أن بعد كل هذا الكفر والظلم والفساد ، الذي استفحل في الأرض ، وأخذ ينتشر في أرض الإسلام والعروبة ، انتشار النار في الهشيم ، بعد أن مُحيت آثار العيب والحرام ، من مفردات قاموس أهلها ، ستظهر في آخر الزمان ، خلافة راشدة على منهاج النبوة ، تُعيد هذه الأمة للحياة من جديد ، فأحاديث الفتن وما يكون بين يديّ الساعة ، لم تكن معروفة للعامة قبل سنوات قليلة ، ولم تلق أي اهتمام كون الساعة بعيدة عنا – حسبما نحب أن تكون – كل البعد . ومؤخرا بدأ كثير من الدارسين والباحثين ، يخوضون غمار ما جاء فيها من أحاديث ، منبّهين لظهور الكثير من أشراطها الصغرى ، ومحذّرين من قرب أشراطها الكبرى . معرفتي بوجود تلك الخلافة ، التي ستقطع الطريق ، على أصحاب المؤامرة اليهودية العالمية ، وتلغي أحلامهم بسيادة العالم ، من القدس ، كانت لي بمثابة الضوء في آخر النفق ، تلك المعرفة الجديدة أعادت لي الأمل ، بعدما تملكني الكثير من اليأس والقنوط ، من أحوال أمتي العجيبة . اعترتني حالة من الفضول ، أردت معرفة المزيد ، حيث ساعدني حبي القديم للمطالعة ، فعدّت لمطالعة كل ما يقع بين يديّ ، من كتب على مختلف مواضيعها ، من عقيدة وفقه وسيرة وتاريخ ، فضلا عن القرآن العظيم وتفسيره ، فتبين لي أن العلم والمعرفة ، يهتكان الكثير من أستار الجهل بأمور الحياة الأخرى ، ويزداد المرء بهما إيمانا ويقينا وصلة بربه ، وثباتا على دينه ، فازددت حبا للمعرفة والمتابعة . شملت مطالعاتي في تلك الأثناء ، بعض الكتب التي تناولت سيرة المهدي ، وأكثر ما حاز على اهتمامي من هذه الأحاديث ، ما يتعلق بالمهدي وظهوره ، والمعارك التي سيخوضها . وبعد تحليلي لتلك الأحاديث ، ومحاولة الربط فيما بينها ، تبين لي بأن دولة إسرائيل الحالية ، لن تكون موجودة عند ظهور أمره ، وأن المهدي سيدخل القدس ، وبلاد الشام ككل بلا حرب ، فتبادر إلى ذهني بعض التساؤلات ، التي كان لا بد لي من الإجابة عليها ، بدافع الفضول في البداية ، وأهمها كيف اختفت إسرائيل قبل ظهور المهدي ؟ ومن الذي كان سببا في اختفائها ؟ كنت سابقا أعتقد – كما كان وما زال – يعتقد عامة المسلمين اليوم ، أن الطريق إلى تحرير القدس ، ستكون بالوحدة العربية ، وهذا بلا شك ضرب من الخيال . أو بالعودة إلى الإسلام وقيام الخلافة الإسلامية ، وهذا أيضا أمر بعيد المنال ، والواقع لا ينبئ بذلك ، واليهود الآن يسيطرون على مجريات الأمور ، أكثر مما نسيطر على زوجاتنا وأولادنا ، فهم يراقبون ويُحاربون ، أي جسم مسلم أو عربي ، تحول من حالة السكون إلى الحركة ، وكل المحاولات الإسلامية والقومية العربية النهضوية ، وُئدت واشتُريت وبيعت في سوق النخاسة ، فلا أمل في المنظور القريب ، حسب ما نراه على أرض الواقع . وأما إسرائيل فعلى ما يبدو ، أنها ستبقى جاثمة فوق صدورنا ، تمتص دماءنا ، وتعدّ علينا أنفاسنا ونبضات قلوبنا ، لتثبت للعالم أننا ما زلنا أحياء ؟! والعالم يأتي وينظر ويهزّ رأسه موافقا ، ويمضي مطمئنا ، نعم إنهم ما زالوا أحياء . وكأن العالم ، ينتظر منا أن نموت أو نفنى ، فيستيقظ يوما ما ، فلا فلسطين ولا فلسطينيون ، ليرتاح من تلك المهمة الثقيلة والمضنية ، التي رُميت على كاهله – وكأنه بلا خطيئة اقترفتها يداه – كي يرتاح من مراقبة طويلة ، لعملية احتضار شعب أُدخل إلى قسم العناية الحثيثة ، منذ أكثر من50 عاما ، وما زال حيا . وبالنظر إلى الواقع – قبل ثلاث سنوات – ولغاية هذه اللحظة ، فإنك تراه يقول بأن إسرائيل ستبقى . ولكن الأحاديث النبوية الشريفة ، ترفض ما يقوله الواقع وتؤكد زوالها ، قبل ظهور المهدي والخلافة الإسلامية ، ولكن كيف ؟ ومن ؟ ومتى ؟ ، وللإجابة على هذه الأسئلة كان لا بد من البحث . ومن هناك ، وقبل ثلاث سنوات تقريبا ، كانت البداية . ما يملكه عامّة المسلمين في بلادنا من معتقدات ، فيما يتعلّق بتحرير فلسطين ، يتمحور حول ثلاثة عبارات تقريبا ، هي : أولا ؛ عبارة " شرقي النهر وهم غربيه " المشهورة لدينا ، بين فلسطينيي الشتات ، وثانيا ؛ عبارة " عبادا لنا " ، وثالثا ؛ عبارة " وليدخلوا المسجد " . والتفسيرات المعاصرة لهذه العبارات في مجملها ، حصرت التحرير بقيام الخلافة الإسلامية ، حتى أصبحت من الأمور العقائدية ، ويؤمن بصحتها الكثير من الناس ، إن لم يكن الأغلبية العظمى . أما حديث لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود ، ويا مسلم يا عبد الله ، الذي غالبا ما نتدواله ، فهو يتحدث عن مسلمين حقيقيين ، لن يتوفروا في ظل هذه الأجواء على المدى القريب ، أو يتحدّث عن خلافة إسلامية ، ومما أعلمه أن الخلافة الإسلامية ، لن تكون إلا بظهور المهدي ، وخلاف ذلك لم أجد في السنة النبوية ، من الأحاديث ما يشير إلى هذه الفترة ، فهي مغيبة تقريبا ، إلا من حديث هنا ، أو هناك . في النصف الثاني من عام 1998م ، ومن خلال البحث الأولي في العديد من المصادر ، أمسكت ببعض الخيوط ، التي قادتني بدورها إلى الآيات ، التي تحكي قصة العلو والإفساد اليهودي في سورة الإسراء ، فطفقت أسبر معاني ألفاظها وعباراتها وتركيباتها اللغوية ، فتحصلّت على فهم جديد لآيات هذه السورة ، يختلف تماما عن معظم ما تم طرحه سابقا ، ومن خلال هذا الفهم استطعت الإجابة على معظم تساؤلاتي ، وتساؤلات أخرى كانت ترد في ذهني ، بين حين وآخر ، أثناء كتابتي لهذا البحث . عادة ما كنت أطرح ما توصلت إليه ، شفاها أمام الآخرين ، وغالبا ما كانت أفكاري ، تُجابه بالمعارضة أحيانا بعلم ، وأحيانا من غير علم ، وغالبا ما كان النقاش يأخذ وقتا طويلا ، وكان هناك الكثير ممن يرغبون بالمعرفة ، كل حسب دوافعه وأسبابه الخاصة ، وكانت الأغلبية تفاجأ بما أطرحه من أفكار ، فالقناعات الراسخة لدى الأغلبية ، مما سمعوه من الناس أو وجدوه في الكتب ، والواقع الذي يرونه بأم أعينهم ، يخالف بصريح العبارة ما أذهب إليه . والمشكلة أن الأمر جدّ خطير ، فالواقع الجديد والمفاجئ ، الذي سيفرض نفسه بعد عدة شهور ، عندما يأتي أمر الله ، ولا ينطق الحجر والشجر بشيء ! كما كانوا يعتقدون ، سيوقع الناس في الحيرة والارتباك . وتتلاطم الأفكار والتساؤلات في الأذهان تلاطم الموج في يوم عاصف ؛ ما الذي جرى ؟ وما الذي يجري ؟ وما الذي سيجري ؟ لذلك وجدت نفسي ملزما بإطلاع الناس ، على ما تحصّلت عليه ، وعلى نطاق أوسع من دائرة الزملاء والأقارب . وبالرغم من محدودية قدراتي وتواضعها ، إلا أني حاولت جاهدا ، أن أصهر كل ما توصلت إليه ، مما علّمني ربي ، في بوتقة واحدة . تمثّلت في هذا الكتاب ، الذي بين أيديكم ، في أول محاولة لي للكتابة ، كمساهمة متواضعة ، في الدعوة إلى الله ، ونصرة لكتابه الكريم ، قبل أن يوضع على المحك ، عندما يتحقّق أحد أعظم الأنباء المستقبلية ، بشكل مخالف ، لما اعتادوا أن يسمعوه ويقرءوه ، من آراء وتفسيرات ، كثرت في الآونة الأخيرة ، تتناول ما تُخبر عنه سورة الإسراء ، من إفساديّ بني إسرائيل . كما وحاولت جاهدا أن أقدم هذا الكتاب ، في أسرع وقت ممكن ، بعد أن تأخرت سنتين وأكثر ، شغلتني فيها مشاكل الحياة الدنيا ومصائبها ، عن إخراج هذا الكتاب إلى حيّز الوجود ، ومن ثم لأسعى لإيصاله ، إلى أكبر عدد من أمة الإسلام ، لعله يجد فيهم من يلق السمع وهو شهيد ، فإن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . هذا الكتاب سيكون بإذن الله ، متوافرا باستمرار ، ضمن موقع خاص به ، على شبكة الإنترنت ، وإن تعذّر الدخول إليه ، لسبب أو لأخر ، فبالإمكان الوصول إليه ، عن طريق محرك بحث جوجل ( www.google.com ) بكتابة عنوان الكتاب كاملا ، أو أحد العبارات الموجودة على صفحة الغلاف ، حيث تستطيع من خلال هذا الموقع : 1. الحصول على أحدث نسخة من الكتاب . 2. إبداء أي ملاحظة أو استفسار . 3. متابعة أطروحات جديدة ، قد تصدر للمؤلف مستقبلا . 20 / 7 / 2001م _ 29 / 4 / 1422هـ المؤلف تعقيب من خلال ردود الأفعال الأولية لبعض الأخوة ، سواء من قرأ أو من لم يقرأ الكتاب ، وجدنا أن الكثير من الناس ، تخلط ما بين أمرين ؛ الأمر الأول : هو كشف الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، وهو ما لا ندعيه في كتابنا هذا ، ونعوذ بالله من أن ندعيه ؛ والأمر الثاني : هو قراءة وبيان وتفصيل ، ما هو مكشوف أصلا في القرآن والسنة ، من علم الغيب ، مما أوحى سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام . يقول سبحانه وتعالى ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ، ... ( 59 الأنعام ) ، ويقول ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65 النمل ) ، وقد جاء أسلوب النفي ومن ثم الإثبات في هذين الموضعين ليفيد الحصر ، أي حصر علم الغيب بالله دون غيره ممن في السموات والأرض ، وهذا ما يعلمه عامة الناس ويرددونه عن ظهر قلب ، وهذا مما لا خلاف فيه ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ، هل هذا الحصر مطلق ؟ فإن كانت الإجابة بنعم ، فما القول في الاستثناء الذي جاء في قوله تعالى ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ( 179 آل عمران ) ، وفي قوله ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ، … (27 الجن ) ، حيث استثنى سبحانه وتعالى الرسل عليهم السلام من تلك القاعدة ، إذ يقول ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ، مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49 هود ) ، ويقول ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52 الشورى ) . ليتبين لنا ، أن الله سبحانه وتعالى أطلع على غيبه من شاء من رسله ، وبذلك لم يحجب علم الغيب بالكلية عن البشر ، والإتيان بالحصر ثم الاستثناء ، يفيد بأن مرد العلم بالغيب أولا وأخيرا هو علام الغيوب ، وكذب وخاب من استقى علمه بالغيب من غيره . أما ما كُشف للرسل فهو بعض من علم الله ، بما كان وما هو كائن وما سيكون ، مما اقتضت الحكمة الإلهية كشفه للناس عن طريق الوحي ، وكثير من هذا الغيب ، مخطوط فيما ورثته البشرية من كتب الأنبياء ، وفضلا عما جاء في القرآن من أنباء الغيب ، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام بالكثير من أنباء الغيب ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، وأفاضت الأحاديث النبوية في ذكر ما سيقع في مستقبل الأمة من فتوحات وفتن وابتلاءات ومحن وأشراط وأمارات للساعة . وأما قوله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم ( قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50 الأنعام ) ، وقوله : ( قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188 الأعراف ) ، لا ينفي علمه عليه الصلاة والسلام لبعض الغيب ، وما قيل له ذلك إلا ليجيب من يسأله عما لم يعلم من أنباء الغيب ، أو ما لا حكمة في الإخبار عنه مما علم . تميزت النصوص النبوية التي تتحدث عن أحداث المستقبل ، سواء في القرآن والسنة أو في التوراة والإنجيل ، بالتلميح لا بالتصريح ، فهي غالبا ما تصف الشخوص والأزمان والأماكن والظروف والنتائج ، باستخدام عدة أساليب لغوية ، كالاستعارة والتشبيه والالتفات والاعتراض وما إلى ذلك ، مما هو غير مألوف لأناس هذا الزمان ، وخير مثال على ذلك هو ذكر اسم رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام في التوراة والإنجيل ، ( أحمد ) بالمعنى لا باللفظ ، وأحمد لغة هي اسم التفضيل من ( حمد ) ، ومعناها أحمد الناس أو أكثر الناس حمدا ، مع أن اسمه - محمد - في الواقع جاء بنفس المعنى مع اختلاف اللفظ . والحكمة التي قد لا يدركها الكثير من الناس ، من عدم وضوح النصوص النبوية ، هو بقاء نسبة ضئيلة من الشك ، لحرمان الناس ذوي العلاقة من الدافع لتعطيل مجريات الأمور ، إذ لا بد للأسباب والمسببات أن تأخذ مجراها ، من حيث الزمان والمكان والشخوص ، حتى تتحقق النبوءات كما تم الإخبار عنها . ولنا في قصة فرعون مع موسى عليه السلام خير مثال على ما قد يفعله المجرمون لتعطيل أمر الله ، عندما أمر بذبح مواليد بني إسرائيل كافة ، لمجرد رؤيا منام علم من تأويلها ، بأن واحدا منهم سيكون سببا في تقويض أركان ملكه ، ورغم ما اتخذه من إجراءات وتدبيرات احترازية لحرمان هذا الطفل من الحياة ، إلا أن مكر الله كان أعظم وأكبر ، وبالرغم من قدرته سبحانه على منع فرعون من إيذائه دون تدخل بشري ، إلا أنه أوحى لأم موسى بأن تتخذ من الأسباب ، ما هو كفيل بتحقيق المراد الإلهي . هذا ما كان من أحد المجرمين والعتاة لمجرد رؤيا منام ، فماذا لو أتاه نص صريح بأن الذي سيقوض أركان ملكه ، هو ذلك الطفل الذي سيأتي به اليم إلى قصره ، فهل كان فرعون سيتخذه ربيبا ، أم ماذا سيفعل به ؟ وللناس من أمر النبوءات الواردة في القرآن والسنة مواقف شتى ، فمنهم من لا يرغب بالفهم ، ومنهم من ليس لديه القدرة على الفهم ، ومنهم من يعتقد بأن لا جدوى من البحث في أمرها ، ومنهم من يحاكمها بناء على أهواءه وأحلامه ، فيأخذ ما اتفق وينكر ما اختلف . ولذلك تجد بعض الناس ، عند الحديث عن المستقبل ، يقول مستنكرا لا يعلم الغيب إلا الله . ونحن كمسلمين مطلوب منا أن نؤمن بالغيب المخبر عنه في القرآن والسنة ، لقوله تعالى ( الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3 البقرة ) ، وأعظم الغيب هو وجود الله ، ونحن وآباؤنا لم نعلم بوجود الله ولم نعرفه حق المعرفة ، ولم نعلم باليوم الآخر وما سيجري فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب ، إلا من خلال القرآن الموحى به من عند الله جل وعلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، وما دمنا آمنا بالله وباليوم الآخر من خلال كتابه ، فما لنا لا نؤمن بما سواها من أخبار الغيب مما حواه هذا القرآن العظيم بين جنباته . يقول سبحانه وتعالى ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا ، وَيُزَكِّيكُمْ ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151 البقرة ) ، لم يُبعث عليه الصلاة والسلام فقط ليتلو علينا القرآن ، بل بُعث أيضا ليُزكينا وليعلمنا الكتاب والحكمة ، وليعلمنا ما لم نكن نعلم من قبل ، لنخلص من هذه الآية وغيرها من الآيات التي جاءت بنفس النص ، أن هناك شيء اسمه الحكمة ، يراد لنا أن نتعلمه من القرآن والسنة ، لكل ما ورد فيها من تشريعات وحدود وأوامر ونواهي وأخبار الماضي والمستقبل ، قررها سبحانه في أواخر الآيات وفي نهاية القصص ، كل حسب موضوعه . ومن مجمل الآيات التي ورد فيها نبوءات مستقبلية ، تبين لنا وحسب ما تقرره تلك الآيات أن هناك حِكما إلهية من الإخبار عنها ، وقد حُصرت هذه الحِكم الإلهية عموما في أمرين : أولا : أن معرفة الخبر قبل تحققه من القرآن أو السنة ، هي بمثابة زف البشرى للذين آمنوا ، ونذير للذين كفروا ، من الذين يعايشون ظروف الحدث المخبر عنه . وهذا مما يملأ نفوس المؤمنين بالأمل ، ويعطيهم الدافع للعمل ، دون كلل أو ملل ، ويلهمهم الصبر على ما أصابهم من الأسقام والعلل ، ويملأ نفوس الكفرة والمنكرين الخوف والترقب والحذر ، ويزيدهم تحديا وطغيانا وكفرا ، لدرجة أن يتحدّوا الله لينزل بهم ما يعدهم من العذاب ، كما هي عادة الجبابرة والظلمة والمفسدين في الأرض . ثانيا : أن معاينة الحدث عند تحققه على أرض الواقع تماما كما ورد في القرآن أو السنة ، سيكون بالضرورة سبب لزيادة إيمان المؤمنين بربهم وكتبه ، وزيادة في اجتهادهم بعبادته ، وأما للذين كفروا فهو زيادة في قهرهم وإذلالهم ، رغم كل ما أخذوه من إجراءات احترازية درءا ومنعا لأمر الله . أما من يدّعي بأن لا حكمة ولا فائدة من الإخبار عنها ، وأن معرفتها على حقيقتها يبعث في النفس اليأس والقنوط والتواكل ، فأولئك يقولون على الله ما لا يعلمون ، لمخالفتهم لما اقتضته الحكمة الإلهية من الإخبار عنها ، ويدّعون بأنهم أكثر حكمة وعلما من أحكم الحاكمين وأعلم العالمين . وخلاصة القول : أننا لم نكشف شيئا من الغيب ، وما قمنا به لم يتعدى حدود القراءة والتفكر والتدبر ، فيما أنزل رب العزة على رسله وأنبيائه من أخبار الغيب ، وبذلنا ما وفقنا الله إلى بذله ، من جهد في فهمها واستيعابها وتفصيلها وتبسيطها وتقديمها للناس بلغة يفهمونا ، وما لنا في ذلك من فضل ، إن الفضل إلا لله . وفي نهاية الأمر ، وبعد مخاض عسير ، كان هذا الكتاب ، الذي نعرضه مجانا ، ونحاول جهدنا إيصاله للناس في شتى بقاع الأرض ، ونشكر كل من ساهم في نشره ، وغايتنا سواء أصبنا أو أخطانا ، هي نفع الناس في دينهم ودنياهم ، وإنما الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى . وبضاعتنا في هذا الكتاب مستقاة ، من كتاب الله وسنة رسوله ، والناس أحرار في شرائها أو الإعراض ، فصانعها بشري متهم ، حيث لا وحي يوحى ، بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ولا نفرضها على أحد ، ولكن لا عليك إن اطلعت عليها ، فهي إن لم تنفعك ، فلن تضرك في شيء ، مع يقيننا الشخصي ، بأنها لا تخلو من الفائدة ، بل فيها الكثير ، كما أجمع معظم من حظي بقراءة هذا الكتاب ، وتذكر أنك حر فيما اعتقدت بشأن هذه البضاعة . أما بالنسبة لمسألة تحديد موعد من خلال العد ، فهو نتيجة لعملية عدّ في كلام الله ومن كتاب الله ، وما هو بقراءة في فنجان ، أو نظر في النجوم ، وما طرحنا الفصل الخاص بهذه المسألة ، والتي قد تصيب وقد تخطئ ، إلا بعد أن تولدت لدينا قناعة ، بصرف النظر عن المواعيد المطروحة في ذلك الفصل ، تقول بأن نهاية كل من إسرائيل وأمريكا ، قريبة جدا جدا ، ومجريات الأمور سـتأخذ منحى مغايرا لما عليه الحال الآن ، وسيكون التغير سريعا ومفاجئا ومضطردا ، بحيث تأخذ الناس حالة مستمرة من الخوف والترقب ربما تدوم لعدة سنين . أما ما نود قوله لقرّاء هذا الكتاب ، هو أن يأخذوا بأحسن ما في هذا الكتاب ، وأن يتركوا ما هو دونه ، تماشيا مع ما أخبر به أتباع رسله الكرام ، في حق ما أنزله عليهم من الهدي ، قال تعالى ( فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ ، وأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (18 الزمر ) . هذا ما قاله رب العزة في حق كتبه ، وما أنزل فيها من الهدي على رسله ، فما بالك بقولنا في حق كتاب ، أنجزه عبد من عباد الله ، لا ولن يصل إلى حد الكمال ، مهما بذل من جهد ، والعقل البشري له حدود وطاقات ، مهما بلغ من إبداع ، فإن أصاب في شيء أخطأ في أشياء ، وكل إنسان في نهاية المطاف لدية قدر من الحكمة ، ليميز الغث من السمين فيما قرأ أو سمع . ونسأل الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل أُضيف هذا التعقيب بتاريخ 15 / 3 / 2002م – 1 / 1 / 1423هـ المؤلف تم تعديل 5 مارس 2005 بواسطة ELSHARIF رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
ELSHARIF بتاريخ: 7 مارس 2005 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 7 مارس 2005 زوال إسرائيل قبل ظهور المهدي استفاضت كثير من المؤلفات لكبار العلماء والأئمة ، في ذكر المهدي وسيرته ، وأكدت على حتمية خروجه آخر الزمان ، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ، ابن حجر والشوكاني والسيوطي والصابوني وغيرهم ، وهناك من أفرد له بابا ، أو كان له مقالا في كتاب ، كالذهبي وابن تيميه وابن القيم والقرطبي والبرزنجي وغيرهم . وهناك الكثير من الكتب المتخصصة الحديثة ، جمعت أقوال أولئك العلماء والأئمة في المهدي وأحداث آخر الزمان ، فمن رغب بالاستزادة فليرجع إليها ، فهي متوافرة بكثرة في المكتبات هذه الأيام ، والإلمام المسبق بالأحاديث الواردة في المهدي ، سيساعد كثيرا في فهم ما استخلصته من أفكار في هذا الفصل . وأما من ينكر أحاديث المهدي ، فلا التفات لقوله ، فالأحاديث الصريحة وغير الصريحة ، التي أتت على ذكر أخبار المهدي ، بلغت حد التواتر المعنوي ، وقد ورد فيها ما يُقارب الأربعين حديثا . وما سنتناوله منها ، هو ما يخص موضوع هذا الكتاب فقط . وأود أن أشير إلى أن ذكر المهدي قد جاء في التوراة ، حيث أن الترجمة العربية للنص التوراتي ، تُسمّيه ( بالقدّوس ) في موضع ( وبالغصن ) في موضع آخر ، وهذا النص موجود مع التعليق ، في فصل النبوءات التوراتية . وقد تنبأ بظهوره ( نوستراداموس ) مفسّر النبوءات التوراتية ، وأشار إليه بألفاظ صريحة ، سنوردها في فصل لاحق . وللحقيقة ، ومن خلال اطلاعي على الكثير ، من دراسات وأبحاث الغربيين ، التي تتناول النبوءات التوراتية والإنجيلية ، الخاصة بأحداث النهاية ، تبيّن لي بأن اليهود والنصارى ، أكثر إيمانا ويقينا ، من عامة المسلمين ، بحتمية ظهور المهدي ، وانتصاره في كافة حروبه ، واتخاذه للقدس عاصمة لملكه ، وامتداده لمساحات شاسعة من الأراضي . ولأنهم يعلمون بأن النهاية قد اقتربت ، ويعتقدون بأنه سيقود تحالفا عسكريا ضد الغرب ، ينجم عنه دمار الحضارة الغربية برمتها ، فهم يتوقعون ظهوره في أي لحظة ، ويخشون أن يظهر وأن تقوى شوكته ، وهم في غفلة من أمرهم ، فلذلك تجدهم يُحاولون تجنيد العالم بأسره ، ضد ما يُسمّونه بالإرهاب الإسلامي ، خوفا من ذلك المصير المشؤوم الذي ينتظرهم ، عند ظهور أمره . غربة الإسلام : عَنْ ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ ، كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ، قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ) رواه أبو داود وأخرجه أحمد ، وصحّحه الألباني . عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا ) رواه مسلم ، وأخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والدارمي ، وصححه الألباني . قبل ظهور المهدي ستشهد الأمة الإسلامية ، عصرا حالك السواد ، من كثرة الظلم والجور والفساد ، يتميز بوجود قلة مؤمنة صابرة متمسكة بدينها ، لا حول لها ولا قوة ، تنتظر حتى يأتي الله بأمر من عنده ، وكثرة طاغية فاسدة ومفسدة متمسكة بدنياها ، هم غثاء كغثاء السيل . جيش يغزو الكعبة بداية ظهور أمر المهدي : عَنْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، ( قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ، قَالَ : يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ ) رواه البخاري ، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني . عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : عَبَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ ، ( فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ شَيْئًا فِي مَنَامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ ، فَقَالَ : الْعَجَبُ إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ الْبَيْتِ ، بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ ، قَالَ : نَعَمْ فِيهِمْ الْمُسْتَبْصِرُ وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ ، يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا ، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى ، يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ ) ، رواه مسلم ، وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد ، وصححه الألباني . عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( جَيْشٌ مِنْ أُمَّتِي يَجِيئُونَ مِنْ قِبَلِ الشَّامِ ، يَؤُمُّونَ الْبَيْتَ لِرَجُلٍ يَمْنَعُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ خُسِفَ بِهِمْ ، وَمَصَادِرُهُمْ شَتَّى ، فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِهِمْ جَمِيعًا وَمَصَادِرُهُمْ شَتَّى ، فَقَالَ : إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ جُبِرَ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ جُبِرَ ثَلَاثًا ) رواه أحمد بهذا النص ، ورواته ثقات ، إلا واحدا وثقه البعض وضعفه آخرون . بداية ظهور المهدي ستكون في مكة بإذن الله ، وفور معرفته تسارع قلة من تلك القلة ، لمبايعته على الإمارة ، فيلجأ إلى الحرم تهرّبا ويعتصم به . ويظهر أمره شيئا فشيئا ، فيُبعث إليه بجيش يغزو الكعبة ، فيخسف به في الصحراء ما بين المدينة ومكة . هذه الأحاديث الثلاثة متوافقة من حيث النص والمضمون ، غير أن الحديث الثالث ، أضاف عبارة توضّح مخرج ذلك الجيش . ومع أن أحد الرواة ضعفه ، إلا أن تلك الإضافة ( من قبل الشام ) تتفق والتفسير المنطقي ، للأحداث الموصوفة في جملة أحاديث هذا الفصل . لنخلص إلى ما يلي : 1. أن جيشا سيغزو مكة . 2. وهذا الجيش من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، ويعجب رسول الله ويحق له العجب ، فما آل إليه أمر أمة الإسلام هذه الأيام ، يثير ما هو أكثر من العجب والشفقة ، حتى في نفوس أعدائنا . 3. ومقصد هذا الجيش رجل من قريش يلجأ إلى الحرم ، وغايته وأد بؤرة الخلافة الإسلامية في مهدها ، خوفا من أن تزلزل أركان عبدة الحياة الدنيا . 4. يُخسف بهذا الجيش في الصحراء قبل وصوله إلى مكة . 5. ومخرج هذا الجيش من قبل الشام ؟! عمران بيت المقدس يعقبه خراب المدينة المنورة : عَنْ مُعَاذٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عُمْرَانُ بَيْتِ المَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ ، وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا ، أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ يَعْنِي مُعَاذًا ) . رواه أبو داود ، وأخرجه أحمد ، وصححه الألباني . تعمر بيت المقدس في آخر الزمان ، برجوعها إلى الحكم العربي ، واتخاذها عاصمة للحكم ، فيرسل حاكمها جيش إلى الكعبة ، عند ظهور أمر المهدي ، فيخرب المدينة المنوّرة في طريقه إلى مكة ، ومن ثم يُخسف بجيشه ، قبل أن يصلها بالقرب من ذي الحليفة ، وهي ميقات إحرام أهل المدينة ، بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة ، وبينها وبين مكة مسيرة عشرة أيام . المهدي لا يغزو العراق وبلاد الشام : عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ ، قال : قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ ، قَالَ : فَقَالَ نَافِعٌ : يَا جَابِرُ لَا نَرَى الدَّجَّالَ يَخْرُجُ حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ ) رواه مسلم وابن ماجه وأحمد ، وصححه الألباني . وتجمع جزيرة العرب لقتال المهدي وصحبه ، فيغزونها فيفتحها الله فتدين لهم ، ومن ثم يخرجون إلى إيران فيفتحها الله فتدين لهم ، ومن ثم يغزون الروم فيفتحها الله ، ومن ثم يخرج الدجال ، فيغزونه بمعية عيسى عليه السلام ، فيفتحه الله . ولو تدبرت هذا الحديث ، ستجد أن البلدان التي سيغزوها المهدي ، عندما يمسك بزمام الأمور ، هي بالترتيب ؛ أولا : جَزِيرَةَ الْعَرَبِ ثانيا : فَارِسَ أي إيران ، ثالثا : الرُّومَ أي روسيا وأوروبا الشرقية ، رابعا : الدَّجَّالَ ، والملاحظ في هذا الحديث ، عدم ورود ذكر فتح بلاد الشام والعراق ، التي لا بد للمهدي من المرور بها ، عند خروجه لفتح فارس ، ولفتح الروم الذين سيُلاقونه بالقرب من مدينة دمشق . فلو كانت دولة إسرائيل قائمة في فلسطين ، أليس من الأحرى بالمهدي ومن معه تحريرها ، فور خروجه من جزيرة العرب ؟! يظهر بوضوح في هذا الحديث ، أن كل واحد من هذه الأمور ، أمارة لوقوع ما بعده ، كما هو الحال في الحديث السابق ، وكل منهما يتقاطع مع الآخر في نقطتين ، هما ؛ أولا : غزو الروم ويقابلها خروج الملحمة ، وثانيا : غزو الدجال ويقابلها خروج الدجال ، ويضيف الحديث الأول ثلاثة أحداث ، هي عمران بيت المقدس ، وخراب يثرب ، وفتح القسطنطينية . حتمية نزول الخلافة في بيت المقدس : عن ابْنُ حَوَالَةَ عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَا ابْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ، فَقَدْ دَنَتْ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَايَا وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ إِلَى النَّاسِ ، مِنْ يَدَيَّ هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ ) رواه أحمد ، وأخرجه أبو داود والحاكم ، وصححه الألباني . عند خروج المهدي إلى بلاد الشام ، سيتخذ القدس عاصمة لخلافته ، تنعم الأمة الإسلامية خلال سنوات حكمه ، بإقامة الحق والعدل ورفع الظلم والجور عن أمة الإسلام . نستخلص من هذا الحديث ما يلي : 1. لا بد للخلافة من النزول في بيت المقدس آخر الزمان . 2. ونزولها هناك يعني بدء ظهور الفتن والكوارث الطبيعية ، ومن ثم علامات الساعة الكبرى ، بداية بظهور الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام ، في نهاية حكم المهدي . 3. وهنا لا بد لنا من أن نشير ، إلى أن عبارة ( نزول الخلافة ) ، ربما تشمل الحكم العربي للقدس ، الذي تكثر فيه الفتن والحروب والاقتتال ، والموصوف بالظلم والجور ، قبل ظهور المهدي . نطق الحجر والشجر : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ : يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ) . رواه مسلم وأحمد بنفس النص ، وصححه الألباني ، وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه ، بنصوص أخرى . هذا الحديث روي بعدة نصوص ، وهذا النص أشهرها وأكثرها تداولا بين العامة ، أما نطق الحجر والشجر ، فهو أمر خارج عن المألوف والعادة ، ولا يُعقل أن تحصل تلك المعجزة في آخر الزمان ، قبل بدء ظهور أشراط الساعة الكبرى على الأقل ، حتى بظهور المهدي . فنطق الحجر والشجر ، أكثر إعجازا من نطق عيسى عليه السلام في المهد صبيا . فمن المنطقي ألا يحدث هذا الأمر ، قبل ظهور الأحداث غير المألوفة للناس ، كأشراط الساعة الكبرى . ومن الأرجح أن يتزامن هذا الحدث ، مع وجود عيسى عليه السلام ، لكي يستقيم الأمر ، فالمعجزات غالبا ما تأتي على أيدي الرسل ، وهذا ما تؤيده سورة الإسراء . أما عبارة ( شرقيّ النهر وهم غربيه ) فلا أساس لها من الصحة ، إذ لم أجد لها أصلا ، في أي من كتب الحديث على اختلافها وكثرتها ، لا في صحيحها ولا في ضعيفها . ولا تعدو أكثر من كونها ، عبارة أضيفت إلى الحديث من قبل العامة ، بعد قيام دولة إسرائيل المعاصرة غربيّ النهر . وبالرغم من ذلك ، يُصرّ البعض على أنها موجودة في الأحاديث الضعيفة . أما الزمن الفعلي المتوقع لتحقق هذه النبوءة ، هو وقت نزول عيسى عليه السلام ، وهرب الدجال ومن معه من اليهود إلى فلسطين ، حيث يُقتل على أبواب القدس . خلاصة القول : وبناءا على ما تقدم ، نقول أن زوال دولة إسرائيل أمر حتمي ، يتبعه زوال حلفائها من الغرب بالضرورة ، قبل ظهور خلافة المهدي ، وأن من سيقوم بتحريرها هو جيش عربي ، وأن صاحب هذا الجيش سيتخذ مدينة القدس عاصمة لملكه ، ومن ثم تدين له بلاد الشام والعراق ، وأن فترة حكمه أو حكم من يخلفه ، ستكون حافلة بالظلم والجور ، وعند ظهور أمر المهدي في مكة ، يبعث حاكم مدينة القدس جيشا إلى الجزيرة ، لا قبل للمهدي وجماعته به ، فيُخرب المدينة المنورة ، لدى مروره بها متجها إلى مكة ، فيخسف الله بهم الأرض . وآنذاك يظهر أمر المهدي ، فيهب إلى قتاله من رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، خوفا من عودة دين أكل الزمان عليه وشرب ، يدعوا إلى إخراجهم من غيّهم وضلالهم ، وحرمانهم مما يتلذّذون به من الشهوات والحرمات ، التي استحلّوها واستباحوها في هذا العصر ، فاستعبدتهم فلا فكاك لهم منها ، ولا يرضون عنها بديلا . فتكون أولى مواجهات المهدي ، مع جيش آخر ، يُجمع له من جزيرة العرب ، فينتصر عليهم حربا ، وبعد أن يستتب له أمر الجزيرة يخرج إلى أهل الشام . فيتسلم مقاليد الحكم فيها تسليما عن طيب خاطر ، أو استسلاما خوفا ورهبة ، ويتخّذ مدينة القدس عاصمة لخلافته ، ومن ثم يخرج إلى إيران فيفتحها ، ويعود إلى بلاد الشام . ومن ثم تكون الروم ( نصارى الشرق ) قد جمعت جيشا عرمرما ، قوامه قرابة المليون نفر ، فيخرج لملاقاتهها ، فتقع الملحمة الكبرى الفاصلة بين الحق والباطل ، بالقرب من دمشق ، فيكون النصر في النهاية ، حليف المهدي ومن معه من المسلمين . ومن ثم يخرج إلى القسطنطينية ( استنبول ) ، فيفتحها بالتهليل والتكبير من غير قتال ، وقريبا من نهاية حكمه يخرج الدجال ، فيعيث في الأرض فتنة وفسادا ، ويُحصر المهدي وصحبه في الشام ، فينزل عيسى عليه السلام ، فيهرب الدجال ومن تبعه من اليهود إلى القدس ، وهناك يلحقون به فيقتله عليه السلام ، ويتولى المسلمون أمر البقية الباقية من اليهود ، فينطق الحجر والشجر ، فيبيدوهم عن بكرة أبيهم ، بإذن الله ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، والله أعلم . هذا ما سيكون من أمر المهدي ، بإذن الله ، قدّمناه بشكل مختصر وموجز ، تناولنا فيه بعضا من سيرة المهدي ، التي تعرضت لفتوحاته آخر الزمان ، مستندين إلى ما أوردناه من أحاديث صحيحة ، آخذين بعين الاعتبار ، أحاديث صحيحة أخرى ، لم يتسع المقام لإيرادها . أما موضوع هذا الكتاب ، فهو يبحث إجمالا ، في حدثين عظيمين مفاجئين ، قبل ظهور المهدي ، وفي وقت قريب جدا جدا ، وهما ؛ أولا : نهاية الدولة اليهودية واختفائها إلى الأبد ، ثانيا : انهيار الحضارة الغربية العملاقة ومظاهرها المختلفة واختفائها إلى الأبد . ما ستجده في ثنايا هذا الكتاب : ـ الإجابة على التساؤلات المطروحة على صفحة الغلاف ، فيما يتعلق بالدولة اليهودية ، ومصيرها ومصير اليهود . ـ الإجابة على كثير من التساؤلات التي تدور في أذهان الناس ، وتوضيح كثير من القضايا الخلافية التاريخية ، فيما يخص تاريخ وجغرافيا بني إسرائيل ، منذ نشأتهم الأولى حتى قيام الساعة ، وخاصة فيما يتعلق بتواجدهم في فلسطين . ـ استقراء وتحليل ما جرى ويجري على أرض الواقع ، في منطقتنا والعالم من حولنا . ـ فهم حقيقة الصراع الدائر بين الغرب والشرق ، وحقيقة العداء الغربي للأمة العربية والإسلامية ، والذي بلغ أشدّه في العقود الأخيرة . ـ تفسيرات منطقية للأحداث المستقبلية ، مدعّمة بالشواهد والأدلة من القرآن والسنة والتوراة والإنجيل والواقع ، ووضعها ضمن سياق زمني منطقي . مختصر لمجمل أقوال المفسرين قبل أن نبدأ في الإبحار ، في معاني ومقاصد آيات سورة الإسراء ، سنتجول قليلا ، في بعض كتب قدماء المفسّرين ، لنستعرض مجمل تفسيراتهم ، لهذه الآيات ، ومجمل ما أوروده من روايات وآثار ، عن الإفساد والعلو في الأرض ، ووعديّ الأولى والآخرة ، ومن هؤلاء المفسرين : القرطبي وابن كثير والطبري والبيضاوي ، والبغوي والنحاس والثعالبي ، وأبي السعود والشوكاني وابن الجوزي ، والسيوطي والنسفي والألوسي . تعريف بسورة الإسراء : قال الألوسي في تفسيره : " سورة بني إسرائيل ، ( وهو الإسم التوقيفي لها ) وتسمى الإسراء وسبحان أيضا ، وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير ، رضي الله تعالى عنهم مكية ، وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور . وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال : (( إن التوراة كلها في خمس عشرة آية ، من سورة بني إسرائيل ، وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم ، وتخريب مسجدهم واستفزازهم النبي ، وإرادتهم إخراجه من المدينة ، وسؤالهم إياه عن الروح ، ثم ختمها جل شأنه ، بآيات موسى عليه السلام التسع ، وخطابه مع فرعون ، وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض ، فأهلك وورث بنو إسرائيل من بعده ، وفي ذلك تعريض بهم ، أنهم سينالهم ما نال فرعون ، حيث أرادوا بالنبي ، ما أراد فرعون بموسى عليه السلام وأصحابه ، ولما كانت هذه السورة ، مصدرة بقصة تخريب المسجد الأقصى ، افتتحت بذكر إسراء المصطفى تشريفا له – أي المسجد الأقصى - بحلول ركابه الشريف فيه ، جبرا لما وقع من تخريبه )) " . الآيات : قال تعالى ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَــابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7 ) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8 ) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11) … وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12 الإسراء ) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ : وأوحينا إليهم في التوراة ، وحيا مقضيا مبتوتا . لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ : لتفسدن في الأرض ، جواب قسم محذوف ، والمراد بالأرض الجنس ، أو أرض الشام وبيت المقدس ، ومرتين إفسادتين . وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا : ولتستكبرن عن طاعة الله ، من قوله أن فرعون علا في الأرض ، والمراد به البغي والظلم والغلبة ، لتستكبرن عن طاعة الله تعالى ، أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان ، وتفرطن في ذلك إفراطا مجاوزا للحد ، وأصل معنى العلو الارتفاع ، وهو ضد السفل وتجوّز به عن التكبر ، والاستيلاء على وجه الظلم . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا : والوعد بمعنى الموعود ، مراد به العقاب ، وفي الكلام تقدير ، أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود ، وقيل الوعد بمعنى الوعيد ، وفيه تقدير أيضا ، وقيل بمعنى الوعد الذي يراد به الوقت ، أي فإذا حان موعد عقاب أولى الإفسادتين . بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا : البعث بالتخلية وعدم المنع ( البيضاوي ) ، وقال الزمخشري : " خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم وفيه دسيسة اعتزال " ، وقال ابن عطية : " يحتمل أن يكون الله تعالى ، أرسل إلى ملك أولئك العباد رسولا ، يأمره بغزو بني إسرائيل ، فتكون البعثة بأمر منه تعالى " . أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ : ذوي قوة وبطش في الحروب ، والبأس والبأساء في النكاية ، ومن هنا قيل ، إن وصف البأس بالشديد مبالغة . فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ : قال الجوهري " الجوس مصدر ، وقولك جاسوا خلال الديار ، أى تخللوها كما يجوس الرجل للأخبار أى يطلبها " ، أي عاثوا وافسدوا وقتلوا وتخللوا الأزقة بلغة جذام ، بمعنى الغلبة والدخول قهرا ، وقال الزجاج : " طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي احد لم يقتلوه "، والجوس طلب الشيء باستقصاء ، وقال الألوسي : " والجمهور على أن في هذه البعثة ، خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ، ووقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل ، وحرقت التوراة " . وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا : قضاء كائنا لا خلف فيه ، وكان وعد عقابهم لا بد أن يفعل ، أي لا بد من كونه ، مقضيا أي مفروغ منه . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ : ثم للعطف ، وتفيد التراخي في الزمن ، يقول الألوسي " جعل رَدَدَنا ، موضع نَرُدُّ ، فعبر عن المستقبل بالماضي " ، ويُضيف في تفسير قوله تعالى ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) ، أي رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون بعد البعث والجزاء " ، وهذه الكرة بعد الجلوة الأولى ، أي الرجعة والدولة والغلبة ، على الذين بُعثوا عليكم . وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ : أعطاهم الله الأموال والأولاد . وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا : والنفير أي القوم الذين يجتمعون ، ليصيروا إلى أعدائهم فيحاربوهم ، وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو ، أي أكثر رجالا من عدوكم ، والنفير من ينفر مع الرجل من عشيرته . إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا : وهذا الخطاب قيل أنه لبني إسرائيل الملابثين ، لما ذكر فى هذه الآيات ، وقيل لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعناه إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك ، وأن إحسان الأعمال وإساءتها مختص بهم ، والآية تضمنت ذلك ، وفيها من الترغيب بالإحسان ، والترهيب من الإساءة ، ما لا يخفى فتأمل . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ : أى حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة ، وجواب إذا محذوف تقديره بعثناهم لدلالة جواب إذا الأولى عليه ، فالظاهر فإذا جاء وإذا جاء للدلالة ، على أن مجيء وعد عقاب المرة الآخرة ، لم يتراخ عن كثرتهم واجتماعهم ، دلالة على شدة شكيمتهم في كفران النعم ، وأنهم كلما ازدادوا عددا وعدة ، زادوا عدوانا وعزة ، إلى أن تكاملت أسباب الثروة والكثرة ، فاجأهم الله عز وجل على الغرّة ، نعوذ بالله سبحانه من مباغتة عذابه . لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ : اللام لام كي ، وليسوءوا متعلق بفعل حُذف لدلالة ما سبق عليه ، وهو جواب إذا ، أي بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ، أي ليجعل العباد المبعوثون ، آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم ، إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن . وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ : اللام لام كي ، والضمير للعباد أولى البأس الشديد ، والمسجد مسجد بيت المقدس ، قال الألوسي : " فإن المراد به بيت المقدس ، وداود عليه السلام ابتدأ بنيانه ، بعد قتل جالوت وإيتائه النبوة ، ولم يتمّه ، وأتمّه سليمان عليه السلام ، فلم يكن قبل داود عليه السلام مسجد حتى يدخلوه أول مرة ، ودفع بأن حقيقة المسجد الأرض لا البناء ، أو يحمل قوله تعالى دخلوه على الاستخدام ، والحق أن المسجد كان موجودا ، قبل داود عليه السلام كما قدمنا " . كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ : كما دخلوه أي دخولا كائنا ، كدخولهم إياه أول مرة ، قال الألوسي: " والمراد من التشبيه أنهم يدخلونه بالسيف والقهر والغلبة والإذلال ، وفيه أيضا أن هذا يبعد قول ، من ذهب إلى أن أولى المرتين ، لم يكن فيها قتال ولا قتل ولا نهب " . وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا : أي ليدمروا ويخربوا والتبار الهلاك ، وليتبروا أي يدمّروا ويهلكوا ما غلبوا عليه من بلادكم ، أو مدة علوهم ، أي ما علوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد ، وقيل ما ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد ، تتبيرا أي تدميرا ، ذُكرَ المصدر إزالة للشك وتحقيقا للخبر ، ما علوا مفعول لتبروا ، أي ليُهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ، أو بمعنى مدة علوهم . عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ : لبقية بني إسرائيل عسى ربكم ، إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أن يرحمكم ، وهذه العودة ليست برجوع دولة ، وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد عليهما السلام . ( ذلك لأن المتقدمين من المفسرين اعتبروا أن تحصّل المرتين ، كان قبل بعثهما عليهما السلام ) . وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا : وإن عدتم للإفساد بعد الذي تقدم ، عدنا عليكم بالعقوبة فعاقبناكم في الدنيا ، بمثل ما عاقبناكم به في المرتين . وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا : أي محبوسون في جهنم لا يتخلصون منها . إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ : أي إلى الطريقة التي هي أصوب ، وقيل الكلمة التي هي أعدل . وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا : أي يُبشّر بما اشتمل عليه من الوعد بالخير ، آجلا وعاجلا للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ويراد بالتبشير مطلق الإخبار ، أو يكون المراد منه معناه الحقيقي ، ويكون الكلام مشتملا على تبشير المؤمنين ببشارتين ، الأولى ما لهم من الثواب ، والثانية ما لأعدائهم من العقاب . وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وهو عذاب جهنم ، أي أعددنا وهيأنا لهم ، فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة ، عذابا مؤلما وهو أبلغ من الزجر ، لما أن إتيان العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع ، ولعل أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم ، لأنهم لا يقولون بالجزاء الجسماني ، ويعتقدون في الآخرة أشياء لا أصل لها ، فلم يؤمنوا بالآخرة وأحكامها المشروحة ، في هذا القرآن حقيقة الإيمان ، والعطف على أن لهم أجرا كبيرا ، فيكون إعداد العذاب الأليم ، للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به ، كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ومصيبة العدو سرور يُبشّر به ، فكأنه قيل يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم ، ويجوز أن تكون البشارة مجازا مرسلا ، بمعنى مطلق الأخبار الشامل للأخبار بما فيه سرور للمؤمنين . وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11) وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ : ويدعو الإنسان على ماله وولده ونفسه بالشر ، فيقول عند الغضب : اللهم العنه وأهلكه ونحوهما . دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ : أي كدعائه ربه بالخير ، أن يهب له النعمة والعافية ، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ، ولكن الله لا يستجيب بفضله . وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا : بالدعاء على ما يكره أن يُستجاب له فيه ، قاله جماعة من أهل التفسير ، وقال ابن عباس : ضجرا لا صبر له على السراء والضراء . وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) : أي كل ما تفتقرون إليه فى أمر دينكم ودنياكم ، فصلناه تفصيلا : بيناه تبينا لا يلتبس معه بغيره ، أي بيناه بيانا غير ملتبس ، فأزحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا . أقوال المفسرين في المبعوثين أولا وثانيا من تفسير القرطبي : " بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ، هم أهل بابل ، وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى ، حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه ، قاله ابن عباس وغيره ، وقال قتادة : أرسل عليهم جالوت فقتلهم ، فهو وقومه أولوا بأس شديد ، وقال مجاهد : جاءهم جند من فارس ، يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر ، فوعى حديثهم من بين أصحابه ، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال ، وهذا في المرة الأولى فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل ، ذكره القشيري أبو نصر ، وذكر المهدوي : عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر ، فهزمه بنو إسرائيل ثم جاءهم ثانية ، فقتلهم ودمرهم تدميرا ، ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ذكره النحاس ، وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول : إن المهزوم سنحاريب ملك بابل ، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية ألف فارس ، فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى ، فرجعوا إلى بابل ، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين ، واستخلف بختنصر وعظمت الأحداث في بني إسرائيل ، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا ، فجاءهم بختنصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وقال ابن عباس وابن مسعود : أول الفساد قتل زكريا ، وقال ابن إسحاق : فسادهم في المرة الأولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة ، وذكر ابن إسحاق : أن بعض العلماء ، أخبره أن زكريا مات موتا ، ولم يقتل وإنما المقتول شعيا ، وقال سعيد بن جبير : في قوله تعالى ( ثم بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ) هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل ، وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق ، فالله أعلم وقيل : إنهم العمالقة وكانوا كفارا قاله الحسن . من تفسير ابن كثير : وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف ، في هؤلاء المسلطين عليهم من هم ، فعن ابن عباس وقتادة : أنه جالوت الجزري وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك ، وقتل داود جالوت ، ولهذا قال ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم ) الآية ، وعن سعيد بن جبير : أنه ملك الموصل سنحاريب وجنوده ، وعنه أيضا وعن غيره : أنه بختنصر ملك بابل ، وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية ، لم أر تطويل الكتاب بذكرها ، لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ، ونحن في غنية عنها ولله الحمد ، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية ، عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم ، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم ، فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم ، وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا ، وما ربك بظلام للعبيد ، فإنهم كانوا قد تمردوا ، وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء ، وقد روى ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا ، فسألهم ما هذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وهذا هو المشهور وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم ، حتى أنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ معه منهم خلقا كثيرا أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها ، ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه ، لجاز كتابته وروايته والله أعلم . من تفسير الطبري : فكان أول الفسادين قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم ، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط ، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم ، قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين ، قتل زكريا ويحيى بن زكريا ، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ، ملكا من ملوك النبط في الأولى ، وسلط عليهم بختنصر في الثانية . عن حذيفة بن اليمان ، يقول : قال رسول الله : إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعلوا وقتلوا الأنبياء ، بعث الله عليهم ملك فارس بختنصر ، وكان الله قد ملّكه سبع مئة سنة ، فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس ، فحاصرها وفتحها ، وقتل علي دم زكريا سبعين ألفا ، ثم سبى أهلها وبني الأنبياء ، وسلب حليّ بيت المقدس ، واستخرج منها سبعين ألفا ومئة ألف عجلة من حليّ ، حتى أورده بابل ، قال حذيفة : فقلت يا رسول الله ، لقد كان بيت المقدس عظيما عند الله ، قال : أجل بناه سليمان بن داود ، من ذهب ودر وياقوت وزبرجد ، وكان بلاطه بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة وعمده ذهبا ، أعطاه الله ذلك ، وسخر له الشياطين ، يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين ، فسار بختنصر بهذه الأشياء ، حتى نزل بها بابل ، فأقام بنوا إسرائيل في يديه مئة سنة ، تعذبهم المجوس وأبناء المجوس ، فيهم الأنبياء وأبناء الأنبياء ، ثم إن الله رحمهم ، فأوحى إلى ملك من ملوك فارس ، يقال له كورش وكان مؤمنا ، أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم ، فسار كورش ببني إسرائيل وحلي بيت المقدس ، حتى رده إليه فأقام بنوا إسرائيل مطيعين لله مئة سنة ، ثم إنهم عادوا في المعاصي ، فسلط الله عليهم ابطيانحوس ، فغزا بأبناء من غزا مع بختنصر ، فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس ، فسبى أهلها وأحرق بيت المقدس ، وقال لهم يا بني إسرائيل ، إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء ، فعادوا في المعاصي ، فسيّر الله عليهم السباء الثالث ملك رومية ، يقال له قاقس بن إسبايوس ، فغزاهم في البر والبحر ، فسباهم وسبى حلي بيت المقدس ، وأحرق بيت المقدس بالنيران ، فقال رسول الله : هذا من صنعة حلي بيت المقدس ، ويرده المهدي إلى بيت المقدس ، وهو ألف سفينة وسبع مئة سفينة ، يرسى بها على يافا ، حتى تنقل إلى بيت المقدس ، وبها يجمع الله الأولين والآخرين " . ثم اختلف أهل التأويل ، في الذين عنى الله بقوله أولي بأس شديد ، فيما كان من فعلهم ، في المرة الأولى في بني إسرائيل ، حين بعثوا عليهم ، ومن الذين بعث عليهم في المرة الآخرة ، وما كان من صنعهم بهم ، فقال بعضهم : كان الذي بعث الله عليهم في المرة الأولى جالوت ، وهو من أهل الجزيرة ، وفيما روي عن ابن عباس قوله : بعث الله عليهم جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، وضرب عليهم الخراج والذل ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا ، يقاتلون في سبيل الله فبعث الله طالوت ، فقاتلوا جالوت فنصر الله بني إسرائيل ، وقتل جالوت بيدي داود ، ورجع الله إلى بني إسرائيل مُلكهم ، وقال آخرون : بل بعث عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، وفيما روي عن سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ، وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل فارس ، قالوا : ولم يكن في المرة الأولى قتال ، ( ثم رددنا لكم … ) وفي قول ابن عباس ، الذي رواه عطية عنه ، هي إدالة الله إياهم من عدوهم جالوت حتى قتلوه ، وكان مجيء وعد المرة الآخرة عند قتلهم يحيى ، بعث عليهم بختنصر ، وخرّب بيت المقدس ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وأعانه على خرابه الروم ، فلما خربه ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم ، وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل ، وهؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء . وفيما روي عن سعيد بن جبير ، قال : بعث الله عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، قال : فردّ الله لهم الكرة عليهم كما أخبر ، قال : ثم عصوا ربهم ، وعادوا لما نهوا عنه ، فبعث عليهم في المرة الآخرة بختنصر ، فقتل المقاتلة وسبى الذرية ، وأخذ ما وجد من الأموال ، ودخلوا بيت المقدس ، كما قال الله عز وجل ، ودخلوه فتبّروه وخرّبوه ، فرحمهم فردّ إليهم ملكهم ، وخلّص من كان في أيديهم من ذرية بني إسرائيل ، وعن مجاهد قال : بعث الله ملك فارس ببابل جيشا ، وأمر عليهم بختنصر ، فأتوا بني إسرائيل فدمروهم فكانت هذه الآخرة ووعدها . وعن قتادة قوله : فبعث الله عليهم في الآخرة ، بختنصر المجوسي البابلي ، أبغض خلق الله إليه ، فسبا وقتل وخرّب بيت المقدس ، وسامهم سوء العذاب ، وفيما روي عن ابن عباس قال : فلما أفسدوا ، بعث الله عليهم في المرة الآخرة ، بختنصر فخرب المساجد " . من تفسير البغوي : قال قتادة : إفسادهم في المرة الأولى ، ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم ، وقال ابن إسحاق : إفسادهم في المرة الأولى قتل إشعياء في الشجرة وارتكابهم المعاصي ، ( بعثنا عليكم عبادا لنا ) ، قال قتادة : يعني جالوت الجزري وجنوده ، وهو الذي قتله داود ، وقال سعيد بن جبير : يعني سنحاريب من أهل نينوى ، وقال ابن إسحاق : بختنصر البابلي وأصحابه ، وهو الأظهر ، ( فإذا جاء وعد الآخرة ) وذلك قصدهم قتل عيسى عليه السلام ، حين رفع ، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام ، فسلط عليهم الفرس والروم خردوش وطيطوس ، حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم . من تفسير الشوكاني : والمرة الأولى ، قتل شعياء ، أو حبس أرمياء ، أو مخالفة أحكام التوراة ، والثانية قتل يحيى بن زكريا ، والعزم على قتل عيسى ، ( عبادا لنا ) قيل هو بختنصر وجنوده ، وقيل جالوت ، وقيل جند من فارس ، وقيل جند من بابل ، والمرة الآخرة ، هى قتلهم يحيى ابن زكريا ، ( وإن عدتم ) قال أهل السير ، ثم إنهم عادوا إلى ما لا ينبغي ، وهو تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكتمان ما ورد من بعثه فى التوراة والإنجيل ، فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب ، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ، ما جرى من القتل والسبي ، والإجلاء وضرب الجزية ، على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة . من تفسير الألوسي : واختلف في تعيين هؤلاء العباد في إفسادهم الأول ، فعن ابن عباس وقتادة ، هم جالوت الجزري وجنوده ، وقال ابن جبير وابن إسحاق هم سنحاريب ملك بابل وجنوده ، وقيل هم العمالقة ، وفي الأعلام للسهيلي ، هم بختنصر عامل لهراسف ، أحد ملوك الفرس الكيانية ، على بابل والروم وجنوده ، بعثوا عليهم حين كذبوا أرميا وجرحوه وحبسوه ، قيل وهو الحق . واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين ، بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في إفسادهم الأخير ، فقال غير واحد إنهم بختنصر وجنوده ، وتعقبه السهيلي وقال بأنه لا يصح ، لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام ، وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل ، وقيل الاسكندر وجنوده ، وتعقبه أيضا وقال : بأن بين الاسكندر وعيسى عليه السلام نحوا من ثلاثمائة سنة ، ثم قال لكنه إذا قيل إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا ، جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه ، لأنه كان حينئذ حيا ، والذي ذهب إليه اليهود ، أن المبعوث أولا بختنصر ، وكان في زمن آرميا عليه السلام ، وقد أنذرهم مجيئه صريحا ، بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام ، كما نطق به كتابه ، فحبسوه في بئر وجرحوه ، وكان تخريبه لبيت المقدس ، في السنة التاسعة عشر من حكمه ، وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلثمائة وثماني وثلاثين سنة ، وبقي خرابا سبعين سنة ، ثم إن أسبيانوس قيصر الروم ، وجّه وزيره طيطوس إلى خرابه ، فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين ، فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة ، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال . وقال الألوسي : " ونعم ما قيل إن معرفة الأقوام المبعوثين ، بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه ، مما لا يتعلق به كبير غرض ، إذ المقصود أنه لما كثرت معاصيهم ، سلط الله تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى ، وظاهر الآيات يقتضي اتحاد المبعوثين أولا وثانيا " ونقول : نتفق مع الألوسي في بعض ما ذهب إليه ، ونختلف معه في التقليل من شأن المبعوثين ، التي ما أخبر بها سبحانه ، في كتابه العزيز إلّا لكبير غرض ، وهو إثبات أن هذا القران من لدن علّام الغيوب ، لمن هم في شك يلعبون من المسلمين وغيرهم ، فهذه النبوءة تحكي واقعا نعاصره الآن ، بكل تفاصيله ( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ) ومعرفة وتحديد المرتين ، أمر في غاية الأهمية . مع أن عبارته الأخيرة – رحمه الله - في النص السابق ، التي أكد فيها " اتحاد المبعوثين أولا وثانيا " ، وهو المفسّر الوحيد من القدماء ، الذي أشار صراحة إلى هذا الأمر ، أعطتني دفعة كبيرة للمضي قدما في هذا البحث ، حيث كنت قد تتبعت الضمائر الواردة في الآيات ، وتأكدت من هذا الأمر في بداية البحث ، فقد أيّدت هذه العبارة ، جانبا من الأفكار التي كنت أحملها ، فيما يتعلق بهذه النبوءة ، بعدما تبيّن لي من خلال الأحاديث النبوية ، التي ذكرتها في بداية البحث ، أنّ فناء دولة إسرائيل ، سيكون قبل قيام الخلافة الإسلامية ، التي ما زال عامة المسلمين ، ينتظرون ويأملون قيامها ، للقضاء عليهم وإنهاء وجودهم . وبما أن المبعوثين عليهم أولا وثانيا متحدين ، فذلك يعني أن معرفتنا لمن بُعث عليهم أولا ، ستقودنا بالضرورة لمعرفة من سيبعث عليهم ثانيا ، وثالثا للكشف عن الكثير مما أحاط هذه النبوءة من غموض ، كان سببا في كثير من التفسيرات المغلوطة ، التي أوقعت أُناس هذا العصر ، في الحيرة والارتباك . كان هذا عرضا لمجمل ما قاله المفسرين ، أجلّهم الله ورحمهم جميعا ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أحدا منهم ، لم يعاصر قيام دولة اليهود للمرة الثانية ، وكان أكثرهم حداثة ، هو الألوسي الذي توفي سنة 1227 هجري ، والملاحظ من أقوالهم ، أنهم أجمعوا على أن تحقّق المرتين ، كان قبل الإسلام ، ونسبة إحدى المرتين ، إلى البابليين وبقيادة بختنصر ( نبوخذ نصر ) على الأغلب ، وهو الحدث المشهور تاريخيا بما يُسمّى ( السبي البابلي ) . ومعظم ما تقدّم من روايات هي أخبار موقوفة ، على أصحابها ، وأصلها أهل التوراة ، حيث أنها المصدر الوحيد لمثل هذه الروايات ، ، والتي امتلأت التفاسير منها ، وهي ليست مما يُرجع إليه من الأحكام ، التي يجب بها العمل ، فتُتحرى في صحتها أو كذبها ، لذلك تساهل كثير من المفسرون في نقلها ، وهي في بعض منها أقرب إلى الخرافة . أمّا المعاصرين من المفسّرين ، فقد أعاد أغلبهم نسخ أقوال القدماء بشكل مختصر ، وأضافوها إلى كتبهم ، ولم يأتوا بجديد إلا واحدا ، هو الشيخ سعيد حوى رحمه الله ، حيث أعلمني أحد الزملاء بذلك ، عندما عرضت عليه بعض نتائج هذا البحث ، فقال لي بأن إحدى النتائج التي خرجت بها ، كان الشيخ قد أوردها في تفسيره ، وقد اطّلعت على تفسيره لهذه الآيات مؤخرا ، فوجدت بأن الشيخ ، قدّمها كاحتمال موسوم بالشك ، ولكنا نطرحها على وجه اليقين ، الذي لا يُخالطه شك ، بإذن الله . أما أناس هذه الأيام ، ممن علم أو لم يعلم ، فقد جاءوا بتفسيرات وأقوال شتى في هذه الآيات ، منها ما وافق تفسيرات القدماء وأقوالهم من جانب ، وخالفها في جوانب آخرى ، ومنها ما خالفها جملة وتفصيلا . بعض من أسباب الاضطراب والارتباك ، في تفسير آيات سورة الإسراء ؟ 1. هجر القرآن القرآن في العادة ، لا يُقرأ من قبل عامّة المسلمين ، هذه الأيام ، إلا ما رحم ربي ، وإن قُرء ، فهي قراءة بلا تفكّر أو تدبّر ، حتى أصبحنا إذا سمعناه ، يصدر من أحد البيوت ، في حيّ أو شارع قريب ، تساءلنا فيما إذا كان أحدهم قد مات ، قال تعالى ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30 الفرقان ) . وهجر القرآن نبوءة ، وقد تحققت في زماننا هذا ، وأنّى لنا هذا ، فالتفكر والتدبر في أمور الحياة الدنيا ، أشغلنا وأغنانا عن الآخرة ، التي ما خلا من القرآن موضع ، إلا وذكّرنا بها ، وهذا أخشى ما نخشاه ، لأننا لا نريد أن نتذكّر ، لكيلا نتألّم من المصير المرعب ، الذي نسجناه بأيدينا ، والذي إن تذكّرناه ، لم يغمض لنا جفن ، ولم ترقأ لنا عين . 2. تجميد القرآن وتعطيله وفصله عن الواقع ، ماضيا وحاضرا ومستقبلا يذهب كثير من الناس ، من علماء وعامّة ، إلى أن فهم القرآن واكتشاف مكنوناته ، مقصور على فئة معينة من الناس دون غيرهم ، أو في زمان أو مكان دون آخر . بالرغم من أن هناك الكثير من التفسيرات الخاطئة ، والروايات المضلّلة أحيانا ، في كتب التفسير القديمة ، والتي لم تصحّح لغاية الآن . ونحن باعتمادنا بشكل كلّي على تفسيرات القدماء ، حرمنا أنفسنا من فهم كثير من الآيات ، ذات الصلة بواقعنا المعاصر ، والتي ما كان لأحد من المفسرين قديما ، القدرة على تفسيرها ، في زمن يسبق زماننا هذا ، ولا نقصد هنا التعريض بأي حال من الأحوال ، بأي من المفسرين أجلّهم الله ، فكل له عذره وأسبابه ، ولكن نريد أن نؤكد من خلال هذا الكتاب أن القرآن ما زال حيّا ، وما زالت لديه القدرة ، على الإتيان بجديد حتى قيام الساعة ، ولم يكن فهم القرآن يوما ، ولن يكون محصورا ، بزمان أو مكان ، أو أشخاص دون غيرهم . 3. الغموض والإبهام في نصوص النبوءات المستقبلية عادة لا تُستخدم النصوص الصريحة ، في الكتب السماوية ، وفي السنة النبوية ، كأسلوب للإخبار عن مضامين النبوءات ، فعادة ما يُستعمل الوصف والتشبيه والتمثيل . وهذا هو حال مجمل النبوءات المستقبلية ، تبقى بعض نصوصها عصية على الفهم ، حتى تتمكن من تجسيد نفسها على أرض الواقع ، لتفسّر نفسها بنفسها . فلاكتمال معالمها ، أسباب ومسببات ، لا بد لها من أخذ مجراها الطبيعي . وعادة ما تكون في جانب منها مبهمة ، خاصة للطرف صاحب الدور الأكبر ، بترجمة أحداثها على أرض الواقع . وفي المقابل تبقى بعض نصوصها سهلة للهضم والفهم ، لمن جاءت في كتبهم ، إذا عاصروها ، ولكن بالقَدْرِ الذي لا يسمح لهم ، بالتدخل في مجرياتها ، أو تعطيل الأسباب والمسببات المؤدية لتحقّقها . ولتبقى قدرتهم على التدخل مقيّدة ، بما لم يعرفوه يقينا ، مما أُبهم عليهم من نصوص النبوءة . ومثال ذلك ما جاء في كتب اليهود والنصارى ، من نصوص تبشّر بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام . وبالرغم من كثرة النصوص التي أخبرت عنه ، لم يستطع اليهود الاستدلال عليه يقينا ، قبل ظهور أمره ، وإلا لقتلوه . وصاحب النبوة لم يكن يعلم ، بأنه المقصود بنبوءات أهل الكتاب ، قبل أن يتنزّل عليه الوحي ، وحتى اسمه ( محمد ) عليه الصلاة والسلام ، جاء مغايرا لاسمه ( أحمد ) الموجود في كتبهم ، حيث جاء بالمعنى وليس باللفظ . وبعدما بُعث ، ومع مرور الزمن ، بدأ الواقع يُفسّر جميع النصوص التي كانت بحوزتهم شيئا فشيئا . أما قريش فما كانت تُصدّق من نبوءات أهل الكتاب شيئا . وحتى لو كُشفت مضامين النبوءات ، عند اكتمال معالم القدر ، وقبل تحقق الفصل الأخير منها ، كان من الصعب على ذوي العلاقة ، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ، من أجل التأثير على مجريات أحداثها ، أو منع تحقّقها ، وخاصة أن معظم النبوءات إذا فُسرّت ، وكان واقع الحال لا يتطابق مع التفسير ، وهذا أمر طبيعي جدا ، فعادة ما يُجابه التفسير بالإنكار والتكذيب ، أو التشكيك حتى ممن يعنيهم الأمر ، أو الظن أن بالإمكان منعها ، كما هو الحال عند بني إسرائيل ، الذين يعلمون هذه النبوءة علم اليقين ، ويُحاولون جهدهم منع تحقّقها ، كما حاولوا جهدهم البحث ، عن نبينا عليه الصلاة والسلام ، لمنع بعثه وظهور أمره . وكما سيكون الحال مع كثير من الناس ، الذين سيقرأون هذا الكتاب ، الذي نكشف فيه ملابسات تحقّق وعد الآخرة ، كما لم تكن من قبل ، بعد أن تشابكت خيوطها ، واتصلت بإحكام منذ سنين عدة ، ولكن الناس كانوا عنها غافلين . 4. فهم الألفاظ ومدلولاتها في كثير من الأحيان نفهم ألفاظ القرآن ، بالمعنى الذي نستخدمه به في حياتنا المعاصرة ، وربما يكون هذا الاستخدام مختلف أو مخالف تماما ، لاستخدام العرب القدماء - الذين نزل القرآن بلغتهم - لنفس اللفظ ، مما يتسبّب في سوء التفسير أو الفهم . فعلى سبيل المثال ، لنأخذ كلمة ( فَصَلَ ) ، فنحن نستخدم هذا اللفظ تقريبا بمعنى واحد ؛ قَطعَ التيار ، فَرّقَ ما بين شيئين بشيء ثالث ، طرده من الوظيفة . أما العرب القدماء فقد كانوا يستخدمونها بمعان شتى ، تفهم عادة من السياق ، منها ؛ قَطعَ وفَرَّقَ وخَرَجَ ، ومن هذه المعاني تستطيع تفسير قوله تعالى ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ (249 البقرة ) ، على أن طالوت خرج بالجنود . وفي كثير من الأحيان ، يحمل اللفظ الواحد في القرآن ، مفهوما عاما عريضا ، ويندرج تحته عدة مفاهيم خاصة ، يُعرّفها ويُفصّلها القرآن في مواضع عديدة . ومن هذه الألفاظ على سبيل المثال ؛ الإفساد والعلو والفاحشة والظلم ، وهذه كلها مفاهيم عامة ، يختلف تحديد مواصفاتها ومقاييسها ، باختلاف فهم الشخص على سبيل المثال لماهيّة اللفظ . وإذا تركنا الإجابة للناس ، كلٌ حسب رأيه ، ستجد أن هناك تعاريف عديدة ومتباينة ، أما القرآن فله تعريفه الخاص . فلنأخذ لفظ الظلم ، يقول سبحانه وتعالى ( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59 القصص ) ، فما هي ماهية هذا الظلم ، الذي يتحتم عليه إهلاك القرى ؟ وكيف تستطيع القرى أن تسلم من الهلاك ، بما أن الظلم هو المقياس لذلك ، كما أخبر رب العزة ؟ ولفهم دلالة هذا اللفظ ، يتحتم عليك أن تُلمّ بكل مُتعلّقاته ، في جميع الآيات القرآنية ، التي ورد فيها ذكره ، لتخرج في النهاية بما يُشبه المقياس ، الذي من خلاله تستطيع تعريف هذا المفهوم ، بالمقياس الإلهي له ، وليس بالمقاييس الشخصية للناس . 5. الإيجاز الشديد مثل قوله تعالى ( فجاسوا خلال الديار ) ، حيث وصف سبحانه ،كل ما فعله أولئك العباد ، في المرة الأولى بثلاث كلمات فقط ، أو بالأحرى كلمة واحدة هي ( فجاسوا ) ، وبالرغم من ذلك ، فإن هذه الكلمة ، وعند الاطلاع معانيها في المعجم ، ستجد أنها تصوّر مشهدا سينمائيا كاملا ، وبدون الاطلاع على تلك المعاني ، لن تمتلك القدرة على تخيّل ذلك المشهد . 6. الحذف وتقدير المحذوف حذف كلمة أو عبارة من السياق ، لسبق الدلالة عليها فيما تقدم من نصوص ، مثل حذف جواب شرط إذا الخاص بوعد الآخرة ، وتقديره ( بعثناهم عليكم ) في الآية (7) ، لدلالة قوله تعالى ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم ) في الآية ( 5) . 7. الالتفات الحديث عن الغائب ، ومن ثم الانتقال لتوجيه الخطاب إلى الحاضر ، والعكس بالعكس ، بين حين وآخر ، مثل ( وقضينا إلى – الحديث هنا عن الغائب ( السابقين من بني إسرائيل ) …لتفسدنّ في – الخطاب هنا إلى الحاضر ( المعاصرين من بني إسرائيل ) .. ) . عادة ما يستخدم هذا الأسلوب ، في إخبار المستمع الحاضر عن حدث وقع في الماضي . والهدف من إنزال هذه النبوءة في كتاب موسى ، وإعادة نسخها في القرآن ، هو كشف للغيب الذي لا يعلمه إلا من أخبر عنه ، فيما أنزله من كتب على رُسله ، لعل الناس المعاصرين بربهم يؤمنون ، عند تحقق هذه النبوءة بكل تفاصيلها ، كما جاءت في الكتب السماوية . لذلك جاء الإخبار في القرآن للناس كافة ، وجاء الخطاب لبي إسرائيل خاصّة ، لأن الأمر يعنيهم أكثر من غيرهم ، فلعلّهم إلى ربهم يرجعون . لقد أخبر سبحانه في الآية (2) أنه آتى موسى الكتاب ، وفي الآية (4) أخبر بأنه أنزل في ذلك الكتاب نص هذه النبوءة ، التي سيشرع فيما يلي بالإخبار عنها بكل تفاصيلها ، كما جاءت في كتاب موسى ، حيث جاء النص آنذاك مخاطبا لبني إسرائيل . وإتيان النص بأسلوب المخاطبة لبني إسرائيل في القرآن ، يفيد أن هناك جزء من هذه النبوءة سيتحقق مستقبلا بعد نزول هذه الآيات ، وأعيد النص لتذكير بني إسرائيل وتنبيههم وتحذيرهم ، من مغبة الإفساد في الأرض في المرة لثانية ، مما يترتب عليه نفاذ الوعد الثاني ، كما نفذ الوعد الأول . ومع أن المخاطَب في هذه الآيات ، هم بنوا إسرائيل ( المعاصرين ) ، ولكن يجب ألا ننسى ، أن هناك من يقرأ ويسمع خطابه تعالى – لبني إسرائيل – من خلال القرآن ، ممن هم من غير بني إسرائيل ، ولا يعلمون من أمر هذه النبوءة شيئا ، فيما إذا كانت قد أنزلت عليهم في كتابهم أم لا ، فابتدأ عز وجل القصة بالإخبار عن وجودها في كتابهم ، لمن لا يعلم من الجمهور بذلك ، من مستمع وقارئ لهذه القصة . ليُعيد الجمهور إلى الأجواء التي أُنزلت فيها هذه النبوءة ، ليسهُل فهمها من قبلهم . وليصبحوا مساوين لبني إسرائيل في معايشة تلك الأجواء ، التي يعرفونها كما يعرفون أبنائهم ، من خلال ما لديهم من كتب . لذلك تجده سبحانه أحيانا يتوجه بالخطاب إلى الجمهور ، تاركا ( خطاب بني إسرائيل ) ، ليضيف إليهم خبرا أو تعقيبا ، على جزء معين من هذه النبوءة ، أو إيضاحا أو تفصيلا ،لم يرد في النص الأصلي للنبوءة ، التي سبق أن أُنزلت عليهم ، أو تحقق بعد نزولها ، لزم إخبار الجمهور عنه في هذه الآيات . فالحكمة من الإخبار بهذه النبوءة والكشف عنها للبشر ، هي تحصّل الإيمان بالقرآن ومن أنزله ومن أُرسل به ، كما عقّب سبحانه بقوله في نهاية السورة ( قُلْ ءَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا (107 الإسراء ) . وسنبين إن شاء الله كل موضع ، حصل فيه التفات ، لتصبح نصوص النبوءة أكثر وضوحا وأسهل للفهم . وعدم معرفة ماهية الالتفات ومواضعه - أحد أوجه البلاغة في لغة العرب – سيجعل من الصعوبة بما كان ، أن يفهم الناس النصوص القرآنية بشكل صحيح ، وربما يقلب المعنى بشكل مخالف تماما . 8. الضمائر متابعة الضمائر في هذه الآيات ، بأنواعها الثلاثة ، المتكلِّم والمخاطَب والغائب ، وتحديد على من يعود كل منها . وهنا لا بد أن نوضح ونؤكد ، على أنّ كل الضمائر الواردة في الآيات ( 4-8 ) ، ما عدا ضمائر المتكلِّم التي تعود عليه سبحانه ، تعود على أولئك العباد أولي البأس الشديد أنفسهم في مواضع ، وعلى بني إسرائيل في مواضع أخرى ، وهي محصورة فيهم على الإطلاق ، إذ لم يضف النص طرفا ثالثا . 9. الاعتراض وهو إضافة جملة إلى السياق ، كتعقيب على خبر قد سبق ذكره ، زيادة في الإيضاح والإبانة ، وهو أحد أوجه البلاغة أيضا . وعدم وجود هذا التعقيب ، ربما يُثير التساؤل في ذهن المستمع ، فيُضيف الراوي من تلقاء نفسه خبرا جديدا ، ليدفع الحيرة عنه ، ومنعا لتوارد الاجتهادات والتفسيرات الخاطئة في مخيلته ، وليُغني المستمع الحاجة إلى السؤال . فعادة ما تأتي الجملة المعترضة كإضافة ، لإزالة الغموض واللبس ، الذي قد ينجم عن سوء تقدير المستمع ، ولزوم هذا التعقيب يعود لتقدير الراوي . وقد وقع الاعتراض في نصوص النبوءة في موضعين ، في قوله تعالى " وكان وعدا مفعولا " ، للتعقيب على الوعد الأول ، لبيان أن هذا كان قد أُنجز أم لم يُنجز . وفي قوله تعالى " وليتبّروا ما علوا تتبيرا " للتعقيب على العلو الكبير الخاص ببني إسرائيل ، لبيان وتأكيد أن هذا العلو ستتم إزالته مستقبلا لا محالة . 10. الهوى والعاطفة نحن كمسلمين مرتبطون عاطفيا بالمسجد الأقصى ، ومرتبطون عاطفيا بالبطولات الإسلامية وأبطالها ، ومرتبطون عاطفيا بالخلافة الإسلامية وخلفائها ، لأنها توفّر لنا شعورا بالعزة والكرامة طالما افتقدناه ، ونحن بأمس الحاجة إليه هذه الأيام . وفي المقابل نحن أبعد ما نكون عن الإسلام ، في حياتنا العملية ، ولو نظرنا في أعماق أعماقنا ، لوجدنا أننا نرفض الإسلام كأسلوب للحياة ، لأن الإسلام بكل بساطة يرفض كل مظاهر الحياة الدنيا ، التي يتمسّك بها الآن معظم المسلمين ، ويسعون لإبقائها ويحرصون على إدامتها والاستزادة منها ما أمكنهم ذلك . نص هذه النبوءة موجود في كتب اليهود ، فما الذي قام به زعماؤهم العلمانيون والمتدينون ، عندما أرادوا أن يقيموا لهم دولة ؟ أخذوا من النبوءة الجزء الخاص بالعودة من الشتات ورد السبي ، وفسّروها على أن الله أراد لهم ذلك ، بغض النظر عن فسادهم وإفسادهم ، وأخفوا النصوص التي تُحذّر من العقوبة التي تنتظرهم ، ليُضفوا على عودتهم إلى فلسطين ، بعدا دينيا توراتيا ، وبالتالي استطاعوا كسب التأييد والدعم المادي والمعنوي ، سياسيا واقتصاديا وعسكريا ، من اليهود والنصارى على حد سواء . نحن أيضا نملك نص النبوءة نفسها ، وملزمون بتحرير الأقصى ، ولأننا نشعر بالعجز وقصر ذات اليد ، قمنا بإضفاء البعد الديني على عملية التحرير ، بحصرها بخلافة إسلامية غير منظورة على المدى القريب ، واستبعدنا احتمالية أن يتم هذا الأمر ، خارج هذا الإطار العاطفي . وبعد أن تقوقعنا داخل هذا الإطار ، بدأنا نُفسّر المعطيات حسب ما يتوافق مع هذا التوجّه . حتى بلغ بنا الأمر ، إلى أن نُحمّل النصوص القرآنية ما لا تحتمله ، لتوافق رغباتنا وأهوائنا وتطلّعاتنا كمنتسبين للإسلام . فأخذنا عبارة ( عبادا لنا ) ، وعبارة ( وليدخلوا المسجد ) وعبارة ( كما دخلوه أول مرة ) ، وسلخناها عن جلدها ، وقمنا بالإسهاب في تفسير وتفصيل هذه العبارات ، وأهملنا بعض العبارات الأخرى ، وفسّرنا بعضها الآخر بشكل يُناقض فحواها ، فعزلنا العبارات عن آياتها ، وعزلنا الآيات عن بعضها ، وعزلنا مجموعة الآيات عن السورة ، وعزلنا السورة عن القرآن ، وعزلنا القرآن عن كل شيء . فخرجنا باستنتاجات وتحليلات وأصدرنا أحكام ، حرمت الكثير من الناس من المعرفة الحقيقة ، التي تكتنفها نصوص هذه النبوءة ، التي تم تفسيرها ، بتغليب من الهوى والعاطفة ، على النصوص القرآنية والسنة ، وعلى العقل والمنطق والواقع والتاريخ والجغرافيا . وبذلك أزاحت بعض التفسيرات ، التي حصرت تحرير الأقصى ، بالخلافة الإسلامية عن غير قصد ، عن كاهل هذا الجيل عبء فكرة التحرير ، وأبعدت عن أذهان الناس شبح حرب قادمة ، مما ساهم بشكل غير مباشر ، في تخدير أمة الإسلام لسنين طويلة ، لينعُم الناس بحياة آمنة مطمئنة ، ولكن للأسف بعيدا عن الدين . فالخلافة الإسلامية على المدى القريب صعبة التحقق ، لأن مقومات قيامها ضمن الظروف الراهنة معدومة . والأمة بحاجة لمن يُنبّهها لا لمن يُخدّرها … وقبل طرح هذه الفكرة الخطرة عن تحرير المسجد الأقصى … ونسبها إلى كتاب الله … وأن الله أراد ذلك … كان على روّاد هذه الفكرة … أن يتجرّدوا من عواطفهم وأهوائهم كليا عند تفسير آيات الله … فالقرآن يطلب العقل سبيلا للفهم لا العاطفة والهوى … لدرجة أنه جعل ( القلب ) موطنا للعقل بدلا من العاطفة … وأن يُفكّروا مليّا قبل أن يُقدّموها للناس … فنحن بحاجة لبناء مساجد في نفوس الناس … فإن استطعنا القيام بذلك … فلن نحرّر المسجد الأقصى فقط … بل سنحرّر العالم بأسره … وإن لم نستطع فالأحرى بنا … أن نعتزل ونفرّ إلى رؤوس الجبال … بأطلال المساجد المتبقية في نفوسنا … حتى يأتي الله بأمره … !!! هذا الطرح الخطِر والبعيد جدا ، عما جاء في النصوص القرآنية ، سيؤدي بالناس لا محالة ، إلى الوقوع في الحيرة والارتباك ، ونشوء كثير من علامات الاستفهام ، حول من قدّم هذه التفسيرات ، وحول مصداقية كتاب الله نفسه ، من قبل ضعاف الإيمان والعقل والقلب ، عندما تتحقّق النبوءة بشكل مغاير لتلك التفسيرات . ربما يُصرّ الكثير من الواقعيون ، على أن الواقع يُناقض مما يطرحه هذا الكتاب . غير أن هذا الواقع سيتغير بالتدريج ، أو بين عشية وضحاها ليتوافق مع أمر الله . وإن لم يتوافق ، فأمر الله فوق الواقع ، وكثيرا ما يأتي بغتة . وبالرغم من ذلك ، أعتقد بأن كثير من المتغيرات ، على المستوى الإقليمي والعالمي ، ستلوح في الأفق ، قبل مجيء أمر الله ، وسيلحظها كل ذي بصيرة . رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
ELSHARIF بتاريخ: 7 مارس 2005 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 7 مارس 2005 وكل شيء فصّلناه تفصيلا قال تعالى ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ علَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76 النمل ) ، هذه الآية الكريمة تؤكد أن هذا القرآن ، فضلا عن مخاطبته لكافة البشر ، جاء ليقصّ على بني إسرائيل ، أي ليُخاطبهم ويوضّح لهم بشكل خاص ، كثيرا مما اختلفوا فيه ، من أمور الدين والدنيا والآخرة . فهو يحكي تاريخهم ، ويعرض مواقفهم من أنبيائهم ، ومشاهد من كفرهم وعصيانهم وعدوانهم ، والعذابات التي أنزلها الله بهم ، ، ويكشف طبائعهم ، ويفضح سرائرهم ، ويُفنّد أقوالهم ، ويُحذّرهم ويُحذّر منهم ، ويُبيّن لهم حقيقة ما جاء به رسلهم وأنبيائهم من وحي ، بعد أن طمسته وشوّهت معالمه أقلام أحبارهم . ويقول سبحانه في الآية (12) من سورة الإسراء ، ( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ) ، أي أن كلّ شيّ مما سبق هذا القول من آيات ، قدّ بيّنه سبحانه ، بيانا واضحا لا لُبس فيه . وهذا القول البليغ ، عندما تقرأه مرارا وتكرارا ، تجد أن له وقعا خاصا في نفسك ، والآيات التي تسبق هذا القول ، تخبرنا عن أمر يتعلق ببني إسرائيل ، من حيث إفسادهم وعلوهم وعقابهم . وقد جاء هذا القول ( بالفعل ومفعوله المطلق للمبالغة في التأكيد ) مرة واحدة في القرآن ، في هذا الموضع بالذات ، تعقيبا على ما مجمل ما جاء قبله من آيات ، ولم يأتِ عامّا كما في قوله تعالى ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3 فصلت ) ، أو في قوله تعالى ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52 الأعراف ) . وإن دلّ هذا على شيء ، فإنما يدّل على أن ما تتحدّث عنه هذه الآيات ، أمر غاية في الأهمية ، ولذلك فصّله سبحانه تفصيلا ، وأبانه بيانا لا يختمره شكّ أو تقوّل ، وأن هذا التفصيل جاء لعِظم هذا الأمر ، وأن معرفته بكل دقائقه وتفاصيله ، لا بد إلا أن يكون فيه الكثير ، من النفع والفائدة ، لمن يُخاطبهم القرآن ، وما كان بيانه وتفصيله عبثا . وما كان هذا الفصل ، إلا للتعريف بهذه الدقائق والتفاصيل ، وما جاء هذا الكتاب إلا لتعميم الفائدة على الناس ، والله من وراء القصد . لو أمعنت النظر في مجمل سورة الإسراء ، لوجدت أنها تناوبت ما بين أسلوبي الإخبار والمخاطبة ، ولو أمعنت النظر في مقدمة السورة ، ستجد أنها جاءت إخبارية ومُخاطِبة للمسلمين ، بصفة عامّة ، وإخبارية ومُخاطِبة لبني إسرائيل ، بصفة خاصّة . والسؤال الأول : لماذا أُعيد نص النبوءة بأسلوب المخاطبة ، لبني إسرائيل في عصر أمة الإسلام ؟ مقدمة السورة ( الآيات 1-3 ) جاءت كتمهيد ، فهي تذكر المسجد الأقصى ، وتبين قدسيّته عند الله وبالتالي عند المسلمين ، وتذكُر كتاب موسى عليه السلام ، وتذّكِر بني إسرائيل بما جاء فيه ، وبالذات عدم الشرك بالله ، واتّخاذ وكلاء من دونه ، ويمنّ اللهّ عليهم ويذكرهم بنجاة أسلافهم من الطوفان ، وبنفس الوقت يحذّرهم من الهلاك ، من خلال ذكر نوح عليه السلام ، وأنّه ما كان لنوح ومن معه النجاة ، لولا إقراره بالعبودية لله ( عبداً ) أولاً ، وقيامه بالعبادة لله ( وشكوراً ثانياً ) . السؤال الثاني : لماذا التمهيد ، وبهذا الشكل المرعب لبني إسرائيل ؟ هناك قول بأن كلتا المرتين وقعتا قبل الإسلام ، فلو كان هذا الأمر صحيحا ، لتوجب أن يكون نص النبوءة كاملا بأسلوب الإخبار ، ولما كان هناك داعي لوجوده أصلا ، فقد أخبرنا سبحانه في مواضع أخرى في القرآن ، بأنه غضب عليهم ، ولعنهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة ، وتوعدهم بأن يبعث عليهم ، من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، وقطّعهم في الأرض أمما . السؤال الثالث : ما هو الأمر الذي خرج عن كل ما تقدّم ، فأراد سبحانه لفت أنظارنا إليه ، مبينا أهميته ، ومنبها إليها ؟ بما أن المرتين متشابهتين تماما ، فلو فرضنا جدلا أن القول السابق صحيح ، لكان من الأحرى ، أن يأتي النص في الحديث عن المرتين مجملا ، على سبيل المثال ، على النحو التالي ، ( … لتفسدن … مرتين ولتعلن علوا كبيرا … فإذا جاء وعد كل منهما ، بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد … فأساءوا وجوهكم ودخلوا المسجد … وكان كلٌّ من الوعدين مفعولا … وتبّروا ما علوا تتبيرا ) . السؤال الرابع : لماذا فَصَلت وفَصَّلت الآيات ، كلّ مرة على حدة ؟ الآية الرابعة ، أجملت ثلاثة شروط من شروط المرتين ، وهي الأرض ( المقدّسة ) والعلو والإفساد ، والآية الخامسة أفردت وأوجزت الحديث عن الوعد ( العقاب ) الأول ، فذكرت البعث والجوس وصفة العباد ، وجاءت الأفعال كلها بصيغة الماضي . والآية السادسة فصّلت مظاهر العلو الثاني ، من لحظة النشوء حتى اكتمال مقوماته ، من حيث القدرة العسكرية والبشرية والاقتصادية ، وجاءت الأفعال كلها بصيغة الماضي ، مع حملها لصفة الاستقبال . السؤال الخامس : لماذا جاءت أفعال وعد الأولى بصيغة الماضي ، ولماذا جاءت أفعال وعد الآخرة بصيغة الاستقبال ؟ السؤال السادس : لماذا جاء التخيير ما بين الإحسان أو الإساءة ، بعد اكتمال مظاهر العلو الثاني ، وقبل الحديث عن عقاب وعد الآخرة ، ولم يأتِ عند الحديث عن وعد الأولى ؟ السؤال السابع : لماذا أُخرجت كيفية مجيئهم ، عند مجيء وعد الآخرة من نص النبوءة ، ولماذا أُفردت في نهاية السورة ؟ السؤال الثامن : لماذا أُعيد ذكر بني إسرائيل وقصّتهم مع فرعون في نهاية السورة ، الآيات ( 101 – 104 ) ؟ ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) تُشير هذه الآية ، بذكر المسجد الحرام ، إلى نقطة البداية ، لانتشار رسالة الإسلام ، التي أنعم الله وأكرم بها نبيه ، محمد عليه الصلاة والسلام . وبذكر المسجد الأقصى ، تُشير من طرف خفي ، إلى ما ورد في الحديث الصحيح ، إلى أن مسك الختام لهذه الرسالة ، آخر الزمان ، سيكون بنزول الخلافة الراشدة ، وأميرها المهدي في بيت المقدس ، بإذن الله . وهذا مما يوحي بأن قيام دولة إسرائيل ، هو أحد أشراط الساعة ، وأن نهايتها ، علامة لقرب ظهور المهدي ونزول الخلافة فيها ، والله أعلم . وأهم ما جاءت به الآية هو تعريف المسجد ، بوصفه بالأقصى أي الأبعد ، وبالذي باركنا حوله ، وهو المسجد الذي سيكون موضوع ما يلي هذه الآية من آيات . ( وَآتيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) في هذه الآية ، يحذّر الله بني إسرائيل ، من الاتّكال على غيره ( لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ .. وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ (28 آل عمران ) ويختم سبحانه السورة ، بقوله ( .. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ .. ) أي لم يتخذ له حليفا لضعف أو لذلّة ، وهذا تعريض بالعلو الحالي لبني إسرائيل ، حيث كانوا أذلّاء مضطهدين ، وبموالاة الغرب أصبحوا سادة . ويذكّرهم فيها بما أنزله عليهم من الهدى ، ليكون لهم نورا يهتدون به ، ومن ضمنه هذه النبوءة ، التي أعادها إلى أذهانهم مخاطبا إياهم بمضمونها ، وكما وردت في الكتاب الذي أُنزل على موسى عليه السلام ، ويحذّرهم من اتّخاذ أولياء من دونه ، من الإنس والجنّ على حدّ سواء . فاختاروا الولاء لغير الله ، وتمسكنوا ، وحقّقوا مآربهم منذ البداية بالفساد والإفساد ، بما خطّطوا له بمكرهم ودهائهم ، ونفذّه غيرهم ، من فتن وحروب سبقت وهيّأت الظروف ، وتسبّبت في قيام دولتهم في فلسطين . ولما تمكنوا استعلوا واستكبروا فيها ، استمروا بالفساد والإفساد ، وساموا أهلها سوء العذاب ، فاستحقّوا غضب الله واستوجبوا العقاب ، فتوافق أمرهم مع ذهب إليه النص القرآني ، بذِكر إفسادهم في الأرض بمجملها أولا ، ومن ثم جاء ذِكر علوهم الكبير الذي نشهده هذه الأيام ، في قوله تعالى ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) . ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) يقول ابن كثير : " تقديره يا ذريّة من حملنا مع نوح ، فيه تهييج وتنبيه على المنة " وهذا النداء موجّه لبني إسرائيل ، وبالإضافة لما قاله ابن كثير ، نلمس تهديدا وتحذيرا خفيا لبني إسرائيل ، من وراء ذكر نوح عليه السلام ، فعادة ما كان سبحانه وتعالى ، يمنّ عليهم بتذكيرهم بنعمة النجاة من فرعون وقومه ، ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (50 البقرة ) إلا في هذا الموضع ، وهي المرة الوحيدة في القرآن التي يمنُّ عليهم فيها ، بأنهم سلالة من حمل مع نوح عليه السلام ، أي من الذين أنجاهم الله من الطوفان ، حثا لهم على الإيمان به ، والعبادة والشكر له كما كان يفعل نوح والذين حملهم معه ، وأنّ فِعل هؤلاء هو الذي أنجاهم من الهلاك ، فإن لم يفعلوا كما فعلوا ، حلّ بهم ما حلّ بقوم نوح . وذِكْرُ نوح في هذا الموضع وتكرار ذكره ، في الآية (17 الإسراء ) ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) دفعني إلى إلقاء نظرة على سورة نوح . ومنها قوله تعالى ( ... أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) ... إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ... (4) ... فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) … جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) … وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) … قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) .. وَقَدْ أَضَلّوا كَثِيرًا ... (24) … رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) ... وَلَا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28 نوح ) اقرأ هذه الآيات وتفكّر وتدبّر ( .. أولا إنذار .. ولا تأخير .. فرار .. إصرار واستكبار .. إمداد بأموال وأولاد .. وجنات وأنهار .. استهزاء وسخرية .. عصيان .. عبادة القوة والمال .. المكر الكبير .. الإضلال .. الكفر .. وأخيرا تبار .. ) وهذا هو حال بني إسرائيل .. وهذا هو الإفساد في الأرض .. وردُّ الله عليه أوله إنذار .. فإن كان هناك استكبار وإصرار .. كان هناك تبار . يقول سبحانه ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15 الإسراء ) . والرسول قد بُعث ، منذ ألف وأربعمائة وإحدى وثلاثون عاما ، وقد أتاهم بالإنذار في كتاب ربه ، ( وصحيفة الإنذار ) الموجهة لتلك الأفاعي في الجحر الأبيض ، وتلك الطفيّليات في منتجعات المال العالمية ، التي تمتص بنهم دماء الكرة الأرضية ، وتلك الفئران المستأسدة في قدس الأقداس ، هي ( سورة بني إسرائيل ) ومن أول حرف فيها وحتى آخر حرف ، حيث قال فيها ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا .. ) وقد ساد دولة الكفر ويسودها ، قطاع الطرق واللصوص والقتلة ، وأسافل مجرميها ( .. فَفَسَقُوا فِيهَا .. ) فاغتالوا أصالتها ، وقدسيّة أرضها ، ووقار شيخوختها ، وسكينة عبّادها ، وحياء حرائرها ، وأحلام طفولتها ، وحتى طهارة مساجدها ( .. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ .. ) ، وهذا هو ( قول ) رب العزة ، ( … لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ … ) ، وهذا هو ( فعله ) ( .. فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16 الإسراء ) وهذا هو ( تعقيبه ) ( … وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17 الإسراء ) وهذه هي ( خاتمته ) ( وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ( 111 الإسراء ) . اقتصرت مقدمة السورة على ثلاث آيات فقط ، حملت من المعاني ما يشحذ الفكر والوجدان ، ويعمل على تهييج العقل وتنبيهه من غفلته ، لاستقبال واستيعاب ما سيأتي من عرض ، لنبوءة ستغير مجرى التاريخ في يوم أو بضعة أيام . وهذه النبوءة تعني كل من سمع برسالات السماء ، وتمسّهم في صميم معتقداتهم ، وأكثرهم تأثّرا هم أصحاب الديانات الثلاث ، والذي يمتلك كل منهم مخزونا عقائديا ، فيما يخصّ عودة اليهود إلى الأرض المقدسة ، يلتقي مع أحدها ويتعارض مع الآخر في التفاصيل والأحداث . ( وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَـابِ ، لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَـابِ : ورد جذر الفعل قضى في القرآن (63) مرة ، ومشتقات هذا الفعل حملت عدة معاني ، وعادة ما يأتي هذا الفعل ، ليفيد تمام العمل الوارد نصا في السياق ، أو المفهوم ضمنا ، كما في قوله تعالى ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ (200 البقرة ) ، بمعنى أنجزتم مناسككم وانتهيتم منها ، وقوله تعالى في شأن لوط وقومه ( وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ ، أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66 الحجر ) ، أي أخبرناه بالأمر ، على وجه الانتهاء منه ، إذ لا رجعة عنه ، فلا نقاش ولا جدال فيه ، ( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (114 طه ) ، أي من قبل أن تُخبر بوحيه ، على وجه التمام . وقوله تعالى ( وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ ) أي أنّا كنّا قد أخبرنا بني إسرائيل في كتابهم - أي أن مضمون هذا الخبر موجود في كتابهم نصا حتى هذه اللحظة - بما سيأتي تفصيله فيما يلي ، من شأن إفسادهم وعلوهم في الأرض ، وهذا الخطاب ، في هذه العبارة ، موجّه في الحقيقة لمن هم من غير بني إسرائيل ، ممن ليس لديهم ، علم أو اطلاع على هذا الأمر ، ليطلعهم الله على هذا الأمر ، وما كان الله ليُخبر عنه إلا لعظيم شأن ، وذلك من سابق علم علام الغيوب ، بما سيكون منهم مستقبلا ، وليس ما قضاه عليهم بمعنى الأمر أو الحكم ، فحاشا لله أن يأمر بالإفساد في الأرض أو أن يقضي به . والكتاب المقصود هنا هو كتاب موسى عليه السلام ، المنصوص عليه في الآية الثانية أعلاه ، وليس التوراة ، فكتاب موسى شيء والتوراة شيء آخر . والذي قادني إلى معرفة تلك الحقيقة ، هو تساؤلي ، أولا : عن سبب عدم ذكر التوراة بدلا من الكتاب ، وثانيا : رغبتي بالاطلاع على نص النبوءة في التوراة نفسها ، فيما لو وجد . وبعد أن استخرجت كافة الآيات القرآنية ، التي ذُكر فيها موسى ، والتي ذُكرت فيها التوراة ، تبين لي أن ذكر التوراة ، لم يرتبط بذكر موسى على الإطلاق ، وعدم الربط بينهما لا بد له من سبب ، وبيان ذلك ، والنص التوراتي للنبوءة في الترجمات العربية للتوراة اللاتينية ، سيأتي في فصل قادم ، إن شاء الله . لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا : هنا حصل التفات من الحديث عن الغائب ، وهم بني إسرائيل ككل ، في قوله تعالى ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَــابِ ) ، ومن ثم عاد سبحانه ، لتوجيه الحديث إلى الحاضر المُخاطَب ، وهم بني إسرائيل ( المعاصرين ) لرسالة الإسلام ، وذلك بسرد النبوءة ، بنفس الأسلوب والعبارات ، التي أنزلت عليهم في كتابهم ، قبل 3 آلاف ، زمن موسى عليه السلام . فجاءت نصوصها مخاطبة لبني إسرائيل ، ولكن بألفاظ عربية جزلة موجزة ، كما وأضيف إليها تعقيبات ، لتبين وتؤكد بعض ما تحقّق منها ، قبل إنزالها في سورة الإسراء مرة أخرى ، على محمد عليه الصلاة والسلام . فبدأت بقوله تعالى ( لَتُفْسِدُنَّ ... وَلَتَعْلُنَّ ... ) . في هذا الموضع قَرَنَ سبحانه ، ما بين الإفساد والعلو في المرتين ، في قوله ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4 الإسراء ) ولم يوضح التفاصيل ، ولتكون لدينا القدرة ، على معرفة شكل هذا الإفساد وهذا العلو ، دعنا نمعن النظر في الآيات التالية ، حيث اقترن فيها الأمرين معـا ، في مواضع أخرى من القران الكريم ، كقوله تعالى ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ … إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4 القصص ) ، وقوله ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14 النمل ) ، حيث جاءت هذه الآية ، تعقيبا على فرعون وقومه لما علو وأفسدوا ، وجحدوا بآيات الله ، فكان جزاءهم الهلاك غرقا . وقوله ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83 القصص ) توضح هذه الآية ، بأنّ جزاء من لم يُرد العلو والإفساد ، سواء كان قادرا على ذلك أم لم يكن ، هو أن يكون لهم حسن ثواب الدنيا والآخرة ، والعاقبة للمتقين بإذن الله ، وذلك تعقيبا على قارون وصنيعه وما حلّ به وبكنوزه ، حيث قال تعالى فيما آتاه ، من المال والقوة ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (76) ، فجحد نعم الله ونسبها إلى نفسه ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا (78) ، فعلا واستكبر ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ (79) ، فأهلكه الله (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ (81 القصص ) ، ليجعله عبرة لغيره . والملفت للنظر ، أن اقتران العلو بالإفساد ، جاء في أربع آيات فقط من مجمل القرآن ، وكلها ذات علاقة ببني إسرائيل ، وقد تقدم ذكرها أعلاه . والقرآن كما نعلم أُنزل للناس كافة ، منذ اليوم الأول لبعثة نبينا ، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها ، ومن ضمن هؤلاء بني إسرائيل ، الذين عاصروا هذه الرسالة وهذا القرآن ، وقد ذكّرهم الله وما زال يُذّكرهم ، في معجزته الخالـدة بمـا حصل لفرعون وقارون ، وهم أشدّ الناس قربا لهم ، لما علوا وأفسدوا في الأرض ، وأنّهم إن أصرّوا على الإفساد في الأرض ، مضت فيهم سنة الأولين ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تحْوِيلًا (43 فاطر ) ، وقال في سورة الإسراء ( سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) لينالهم ما نال سابقيهم ، من العذاب في الدنيا والآخرة ، وأنّ لا مناص لهم للنجاة من سخطه وغضبة ، إلّا بالعودة إليه والإنابة له ، ولكن هيهات لمن قيل في أسلافهم ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً … وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74 البقرة ) . علوّ بني إسرائيل في المرة الأولى ، لم تتضح تفاصيله في سورة الإسراء ، لكنها جليّة واضحة في مواضع أخرى من القران ، وسيأتي الحديث عنها في حينه ، أما ما نحن بصدده الآن ، هو توضيح مفهوم العلوّ ، ولدينا مثالين هما فرعون وقومه وقارون وكنوزه ، وبما أنّ العلوّ المقصود هنا ، هو علوّهم كأمّة وليس كأفراد ، فالخيار يقع على علوّ فرعون وقومه ، وهذه آيات تعرضت لبعض من مظاهر هذا العلو ومقوماته ، قال تعالى ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51 الزخرف ) وعلى لسان مؤمن آل فرعون ( يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ (29 غافر ) ، وقال ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (88 يونس ) ، وقال ( وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ (24)كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27 الدخان ) وبالقليل من التدبر في الآيات السابقة . نجد أنّ مقومات علو فرعون وملأه ، وهم علية القوم ، ويمثلهم في زماننا ، رجال الحكم والقضاء والدولة ، ورجال السياسة والمال والإقتصاد ، والوجهاء ورؤوس الناس ، تتمثل فيما يلي : ملك مصر والسيادة على أهلها ، والقوة والمنعة والظهور في الأرض ، وامتلاك الزينة والأموال ، والجنات والعيون ، والأنهار الجارية ، والزرع والمقام الكريم ، والنعم المختلفة . ـ مفهوم العلو : هو مظهر من مظاهر الحياة ، بمعنى الاستعلاء والارتفاع والتكبّر والتجبّر ، من خلال امتلاك مقومات مادية ، كالأرض والمال والقوة ، مما يُمكّن الظلمة والمفسدون من سيادة الناس وسياستهم ، والتحكم في تصريف شؤونهم ، على وجه من الظلم والبغي . أما مفهوم الإفساد ؛ فهو يتمثّل في بعض ما قيل من آيات في فرعون وملئه ، قال تعالى ( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83 يونس ) ، وقال ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4 القصص ) ، وقال ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46 المؤمنون ) ، وقال ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12 النمل ) ، وقال ( فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى (24 النازعات ) ، وقال ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (38 القصص ) ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54 الزخرف ) ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79 طه ) . ومظاهر إفساده تتمثل فيما يلي : جعْلُ أهل مصر فرقا وطوائف متنابذة ، واستضعاف طائفة منهم ( بني إسرائيل ) ، بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ، والإسراف في كل أمره ، والاستكبار والفسق ، وتكذيب الرسل ، ومعصية الله وجحود آياته ، وادّعاء الربوبية والألوهية ، واستخفاف الناس وإضلالهم . ـ مفهوم الإفساد : استضعاف الناس وتفريقهم وتصنيفهم ، وإثارة الفتن فيما بينهم ، والقتل وسفك الدماء ، وتكذيب الرسل ، وتكذيب آيات الله وجحودها ، ومعصية الله ورسله ، واستخفاف عقول الناس وتضليلهم وإضلالهم ، وإنكار ربوبية الله ، وإنكار أحقيته في العبادة دون غيره . وخلاصة القول : هذا هو مفهوم العلو ، وهذا هو مفهوم الإفساد ، الذي تتحدث عنهما سورة الإسراء ، لذلك عند أي محاولة لتعيين أيٍّ من المرتين ، يجب أن تكون الحالة موضوع البحث ، مطابقة تماما لما كان عليه فرعون ومَلَئه ، وكأنّ علو وإفساد بني إسرائيل ، صورة في مرآة لعلو وإفساد فرعون ومَلَئِه ، وما علينا إلّا أن نبحث ، في ماضي بني إسرائيل وحاضرهم ، عن أيّ حالة ترافق فيها مثل هذا العلو ومثل هذا الإفساد ، كما هو الحال بالنسبة لفرعون وقومه . ولن نذهب بعيدا ، فإحداهما موصوفة في القران الكريم وبالتفصيل أيضا . والأخرى نشاهدها بأم أعيننا على أرض الواقع ، منذ أكثر من خمسين عاما . فِي الْأَرْضِ : قرن سبحانه وتعالى ، بين الإفساد والعلوّ لكلتا المرتين بالأرض ، ولفظ الأرض هنا اسم جنس ، وجاءت كذلك لتشمل الجزء والكل والخاص والعام ، حيث قال في الآية (4) ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) ولم يحدّد مكانا بعينه ، وعاد سبحانه وحدّد موقع العقاب في المرتين ، حين قال في الآية (7) ( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) حيث ربط ما بين العقاب والمسجد ، لنفهم من ذلك أن العقاب الموعود به بنو إسرائيل والمقصود هنا ، سينفذ فيهم في المرتين ، خلال تواجدهم في فلسطين ( الأرض المقدسة ) ، وذُكر المسجد للإشارة إلى المكان . وهذا المسجد تم تعريفه ، في بداية سورة الإسراء ، في قوله تعالى ( الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (1) وقوله الذي باركنا حوله ، أي ما يليه من الأرض ، ولم يقل باركنا فيه ، أي لم تُحصر البركة في المسجد فقط ، بل شملت ما حوله من الأرض . والملاحظ أن ذكر الإفساد حُصر في المرتين ، وأن ذكر الإفساد سبق ذكر العلوّ ، وأن العلو لم يُحصر في المرتين ، بل أُفرد ووصف بالكبير . وبما أن التركيز هنا على المرة الثانية ، فذلك يوحي بأن الإفساد في المرتين متطابق ، وبأن تحصيلهم للعلو ، على الأقل في المرة الثانية ، سيتأتى عن طريق الإفساد ، وأن العلو الثاني أكبر من الأول ، لذلك تأخر ذكر العلو وصفته ، عن كلمة مرتين للاختلاف . ذلك لأن إفساد بني إسرائيل المُتأتّي عن العلوّ ، اقتصر على حدود دولتهم ، في فلسطين في المرة الأولى ، وهذا ما يُثبته القرآن والتوراة . وأمّا إفسادهم وعلوّهم الأخير في فلسطين ، والذي نعيشه الآن ، سبقه ورافقه إفساد وعلو ، شمل مشارق الأرض ومغاربها . والله أعلم . وبما أنّ العقاب سيحل بهم في الأرض المقدسة ، يترتب على ذلك ، حتمية سبق وقوع الإفساد والعلوّ فيها ، حتى ولو سبق منهم ، الإفساد والعلو في الأرض على عمومها ، أو تزامن مع إفسادهم وعلوهم ، في الأرض المقدسة ، لذلك جاء الحديث مجملا في الآية (4) ، وهي الآية الأولى من قصة الإفسادتين ، فذُكر الإفساد والعلو ، لاشتراط وقوعهما في المرتين ، ولم يأتي بأي تفاصيل لأيّ من المرتين فيها . وخلاصة القول : أن الأرض التي سيتم فيها ، علو بني إسرائيل وإفسادهم ، هي الأرض على عمومها في المرة الثانية ، وفلسطين بشكل خاص في المرتين . وأن عقابهم في المرتين ، سيكون في الأرض المقدسة خاصة ، وزوال علوهم في المرة الثانية ، من الأرض على عمومها ، والله أعلم . مَرَّتَيْنِ : المرة ، هي الفعلة الواحدة ، من شيء يُمكن تكراره ، والجمع مِرار ، واعتدنا أن نجمعها على مرّات . وقد أوضح سبحانه بما لا يدع مجالا للشك ، أنهما مرّتان بصريح اللفظ . ولا يصحّ أن نُضيف ثالثة ، ومن أفتى بثالثة ، فقد أفتى بغير علم . وعندما تقول : مرة ، ومرتان ، وثلاث مرات ، فأنت في الواقع ، تَعدُّ فعلة واحدة تتكرّر ، ولها صفة الاستمرار ، كالعمرة والحج مثلا ، لتقول اعتمرت مرة ، ومرتان ، وثلاث ، والعمرة لها شروط ومناسك خاصة بها ، تميّزها عن غيرها كالحج مثلا ، ولا يصحّ أن تَعدَّ أفعالا مختلفة على أنها مرّات ، كأن تقول مثلا ، عندما تعتمر مرة ، وتحجّ مرة ، اعتمرت مرتين أو حججت مرتين . ولا يصحّ أن تُسمّي فعلة غير مكتملة الشروط والمواصفات ، على أنها مرة ، كعمرة بلا طواف أو سعي . وخلاصة القول : أنّ المرتين تكرار لفعلة واحدة ، تمتلك نفس الشروط والمواصفات ، وبما أن إفساد بني إسرائيل في الأرض ، بدأ منذ نشأتهم ، قبل حوالي (3) آلاف سنة ، واستمر لغاية هذه اللحظة ، كان من الضروري لنا ، أن نستنبط من هذه الآيات شروطا ومواصفات ، تجعل من السهولة بما كان ، تحديد المرتين وبدقة متناهية ، وتحديد موقعهما من حيث الزمان والمكان ، وأول شرط من الشروط هو الإفساد المقترن بالعلو ، والشرط الثاني أن يكون في الأرض المقدّسة دون غيرها . ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا : جاء أي مجيء الوقت المعين أو الموعد المحدّد ، والوعد أي الموعودين به من العقاب والهلاك ، والمعنى إجمالا هو مجيء زمن الاستحقاق ، لنفاذ الوعد بالعقاب والهلاك ، ومجيء الوعد متعلّق بتحقق الشروط الثلاثة في الآية السابقة ، ويتوضّح هذا المعنى ، في قوله تعالى ( وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59 الكهف ) ، أي ربط الهلاك بموعد معين ، لا يتأخر ولا يتقدّم ، كما في قوله تعالى ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(34 الأعراف ) . وسرعة مجيء موعد الهلاك وإبطاءه ، تعتمد على درجة الظلم ، وتجد ذلك في قوله تعالى ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا … ( 59 الكهف ) ، وقوله ( … وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59 القصص ) ، والظلم المقصود هنا هو الظلم الأممي ، مع توافر الإصرار . إذ كلما زادت درجة الظلم ، وزادت وتيرة اقترافه ، كلما أسرع إلى الأمم قدرها المحتوم ، لتمضي فيها سنن الله ، التي لا تتحول ولا تتبدل . بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ : قال تعالى ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ (2 الجمعة ) ، وقال ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56 البقرة ) ، وقال ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ (31 المائدة ) ، ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا (5 الإسراء ) ، ومن خلال التدبر في الآيات السابقة ، نجد أن المبعوث من قبله سبحانه ، ليس له القدرة على بعث نفسه ، وذلك على حالين : الأولى : هي وجود الإرادة الإلهية وانعدام الإرادة البشرية ، فالرسل عليهم السلام بتلقي الرسالة عن طريق الوحي ، ينتقلون من حال الغفلة والسكون إلى حال الهداية والدعوة ، والموتى ينتقلون بنفخ الروح فيهم من حال الموت إلى حال الحياة . وفي هذه الحالة يكون التدخل الإلهي ظاهرا ، بإحداث البعث عن طريق إرسال الروح والوحي ، سواء كانت وسيلة البعث مادية أو معنوية . والثانية : هي وجود كلتا الإرادتين ، مع تعليق الإرادة الثانية بالأولى ، فالأحياء يملكون الإرادة في بعث أنفسهم ، لتصريف أمورهم الدنيوية ، ولكنّها إرادة معلقة بالمشيئة أو الإرادة الإلهية ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فإن توافقت الإرادة البشرية للقيام بأمر ما ، مع الإرادة الإلهية ، وقع ذلك الأمر وإن لم تتوافق لم يقع ، قال تعالى ( وَمَا تَشَاءُونَ ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30 الإنسان ) . وفي هذه الحالة يكون التدخل الإلهي غير ظاهر ، حيث أنه يتم عن طريق التمكين ، بإزالة المعوقات والمثبّطات وإيجاد التسهيلات والمحفّزات ، سواء كانت الوسائل مادية أو معنوية . وفي كلتا الحالين يكون البعث من عند الله ، ولذلك نسب سبحانه بعث أولئك العباد إلى نفسه ، لأن الله سيُمكّن لهم الأسباب والسبل عند خروجهم ، لتحقيق وعده في بني إسرائيل . وأما هؤلاء العباد فسيخرجون من تلقاء أنفسهم ، ورغبة منهم في ذلك ، بدفع من أسبابهم الخاصة . ونجد ذلك في قوله تعالى ( وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ، وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46 التوبة ) أي لو أرادوا الخروج ، لأعدّوا عدة الخروج ، ولكنهم لم يُعدّوا العدّة ، لأن رغبة الخروج لديهم معدومة أصلا . وبما أن إرادتهم معدومة ، كره الله انبعاثهم ، فثبّطهم كي لا يخرجوا مكرهين حياءً أو رياءً ، خشية تأثيرهم السلبي على الخارجين . وفي المقابل ، فإنّ من وُجد لديه الإرادة والرغبة في الخروج ، كان الأولى بإزالة المُثبّطات ، وإحاطته بالمُحفّزات لتمكينه من الانبعاث والخروج . ـ مفهوم البعث : هو انتقال ، أو انقلاب ، أو تحول ، أو تغير من حالة إلى أخرى ، نتيجة مُسبِّب خارجي ، مادي أو معنوي . وخلاصة القول : أنّ عملية البعث هنا ، معلّقة بالمشيئة الإلهية ، وموعد البعث منوط بهذه المشيئة ، وأن هؤلاء المبعوثين ولو تولدت فيهم الإرادة ، ومهما حاولوا الانقضاض ، مرارا وتكرارا على بني إسرائيل ، للقضاء عليهم وإفنائهم ، فلن يتمكنوا من ذلك ، حتى مجيء ذلك الموعد . عِبَادًا لَنَا : معظم الناس هذه الأيام ، يعتقدون اعتقادا جازما لا شك فيه ، بأن هؤلاء العباد المُشار إليهم ، في هذه العبارة ، هم عباد مؤمنين ، بل من أولياء الله المخلصين . ولبيان خطأ هذا المعتقد ، سنناقش هذا الأمر من عدة وجوه ، وبما أن هذه العبارة ، أحد أهم مرتكزات الفهم الخاطئ ، للنبوءة التي جاءت بها آيات سورة الإسراء ، سنتاولها بالشرح والتفصيل ، بما يتناسب مع حجم المساحة ، التي احتلتها في أذهان الناس : أولا : رأي المفسرين القدماء هذه العبارة ،لم يكن فهم معناها ومغزاها ، مشكلة للمفسرين القدماء ، وهم الأكثر قربا وفهما ، لألفاظ العربية وتركيباتها اللغوية ، ولو طالعت تفسيراتهم للعبارة ، وآرائهم في أصحاب البعث الأول والثاني ، التي أجملناها في الفصل السابق ، لوجدت أنّهم بلا استثناء ،لم يعيروها أدنى انتباه ، وبما أنّ أنّهم ، جزموا بأنّ تحقق الوعدين ، قد تمّ قبل الإسلام ، فهم على الأقل ،لم يثبتوا لهم صفة الإيمان ، حيث أن بني إسرائيل آنذاك ، كانوا من أهل الكتاب ، وكل من حولهم كانوا من عبدة الأوثان . بل على العكس من ذلك ، نجد أنهم بلا استثناء ، كانوا قد أثبتوا لهم صفة الكفر . ثانيا : كلمة عباد نكرة ، وإضافتها للجار والمجرور ، لم تعرّفها ، وبالتالي لم توضح ماهية المعتقد وردت هذه عبارة ( عبادا لنا ) في القرآن مرة واحدة فقط ، ولو أمعنّا النظر في تركيبتها ، لوجدنا أنّه سبحانه نكّر هؤلاء العباد ، ولم ينسبهم إلى نفسه حتى بضمير متصل ، كأن يقول عبادنا ، وأضافها إلى الجارّ والمجرور ( لنا ) ، لنفهم أنّ تنكيرهم ، كان غاية بحدّ ذاته ، والإضافة للجارّ والمجرور ، جاءت هنا لتفيد ملكية الله لهم فقط ، وليس لها علاقة ببيان ماهية المعتقد . وذلك ليعلم بني إسرائيل ، أن هذا البعث من عند الله ، وبتمكين منه سبحانه ، فكل ما يجري على الأرض بخيره وشرّه ، لا يكون إلا بمشيئة الله جل وعلا وتقدير منه . ثالثا : الفرق بين العبودية والعبادة لنعلم أن أصل العبودية الخضوع والذل ، كرها أكثر منها طواعية ، وأصل العبادة الطاعة والولاء ، طواعية ورغبة لا كراهية فيها . وتجب العبودية لله على الخلائق ، بدافع الربوبية أي المُلكية ، بأحقية الخلق والإيجاد ، واقرأ سورة الملك إن شئت فهبي تفصل الأمر ، ونجدها في قوله تعالى ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ (164 الأنعام ) أي صاحب كل شيء ، وقوله ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (17 المائدة ) أي مالك للسموات والأرض ، وقوله ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (102 الأنعام ) مما يعقل ولا يعقل ، والخلق هو الموجب لحقوق الربوبية والملكية ، ولذلك قال جل شأنه ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93 مريم ) من الملائكة حتى الذرّة من التراب ، رغما عن أنوفهم لا خيار لهم ، بأحقية ما سبق من خلقه إياهم . ويندرج تحت العبودية ، عبودية الرقّ بدافع الشراء أو ما شابه ، التي توجب الملكية وحق التصرف بكل شؤون العبد ، ومن هنا جاءت تسمية الرقيق بالعبد ، كما في قوله تعالى ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50 يوسف ) والملك هو ملك مصر ، وهو ربّ الرسول أي صاحبه وسيّده ، والرسول هو نفس الفتى الذي ، قال : ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) ، وربوبية المَلِك لهذا الفتى جاءت بدافع ملكية الملك للفتى . أما العبادة ، فهي تقديم فروض الطاعة والتقديس والولاء ، لإله أو لآلهة ، ولا جبرية فيها فالخيار للمخلوق ، فهو يعبد ما يشاء ، والآلهة التي اتخذها الناس للعبادة كثيرة ومتنوعة ، قال تعالى ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا ، لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31 التوبة ) ، أما الغاية من خلق الجنّ والإنس فهي عبادة الله ، لقوله تعالى ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56 الذاريات ) . وكلّ الناس يمارسون طقوسا العبادة ، سواء كانوا من أهل الكتب السماوية أو وثنيون أو ملحدون ، أما المؤمنون بالله فهم من نُسبت عبادتهم لله ، وليس من نُسبوا بذواتهم فقط ، قال تعالى ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138 البقرة ) . ونجد أنه سبحانه ، يدعو إلى الإقرار بالربوبية ووحدانية الألوهية ، بأحقية الخلق لكل شيء أولا ، ومن ثم يأمر بالخضوع له ، وإفراده سبحانه بالعبادة والاتكال عليه ، في قوله ( ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، فَاعْبُدُوهُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102 الأنعام ) . فلا تستقيم العبادة إلا بإقرار الربوبية لله أولا ، ولا يستقيم الحال بإقرار الربوبية لله وحدها دون القيام بمقتضيات العبادة . وهذا ما كان عليه كفار قريش ، حيث أنهم أقرّوا بربوبية الله لهم ، ولكنهم أشركوا بالعبادة ، قال تعالى ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87 الزخرف ) ، بينما عبادتهم للأصنام قالوا فيها ( … مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى … (3 الزمر ) . قال تعالى ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11 فُصّلت ) ، طوعا من قبيل العبادة ، ولو لم تأتيا طوعا ، لكان ذلك كرها من قبيل العبودية ، حيث قال تعالى ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44 الإسراء ) . ومن ذلك يُسمّى من يرزح تحت العبودية كرها عبدا ، فلا خيار في ألا يكون ، فهو مرغم ، ويُسمى من يقوم بواجبات العبادة طواعية عابدا ، فالخيار في أن يكون أو لا يكون ، عائد إليه ، وأشدّ الكفر ، هو ما أُنكر فيه العبودية والعبادة لله معا ، وشتان ما بين المسمّيين ، مع أن أصليهما واحد ، وهو كلمة ( عَبَدَ ) . رابعا : الإفراد والجمع عباد وعبيد كلمتان مترادفتان ، ومفردهما ( عَبْد ) ، والعبد لغة نقيض الُحرّ ، فكلمتيّ ( عباد ) و ( عبيد ) هي صيغة الجمع من كلمة ( عبد ) ، وذلك بدلالة النص القرآني في قوله تعالى ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65 الكهف ) ، ولو قال ( عابدا من عبادا ) لاختلف الأمر ، وتدبرّ قوله تعالى ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3 الإسراء ) ، نجد أنه سبحانه يُخبر أن نوح عليه السلام ، كان عبدا أولا من العبودية ، وعابدا بالشكر لله ثانيا من العبادة . أما كلمة ( عابد ) ، وهو القائم بالعبادة ، فصيغة الجمع منها هي ( عابدون ) ، وذلك بدلالة قوله تعالى ( وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5 الكافرون ) خامسا : ترادف كلمتي عباد وعبيد في المعنى والاستخدام . وقد أطلق سبحانه لفظ عباد على العبيد بمعنى رقيق ، ونجد ذلك في قوله تعالى ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ (32 النور ) ، نجد أن الضمير المتصل ( كم ) في كلمة ( عبادكم ) يعود على المؤمنين المخاطبين بالنص ، ومما لا يُعقل ، أو من المستحيل أن نقول بأن كلمة ( عباد ) جاءت لغة من العبادة ، فهي لا تحمل هذا المعنى على الإطلاق ، ولو بدلالة هذه الآية فقط . وأما الترادف في الاستخدام ، فقد جاء في قوله ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31 غافر ) وقوله ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46 فصلت ) وقوله ( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48 غافر ) ، نجد أن المعنى المستفاد من عباد وعبيد ، هو جملة خلق الله ، مؤمنهم وكافرهم على السواء . سادسا : كلمة عباد نكرة ، ولا يُعرّفها إلا ما يأتي بعدها من سياق . تشمل العبودية ، كل من في السماوات والأرض ، وما بينهما من الخلائق ، وتشمل العبادة ، كل من يملك العقل والإرادة من خلقه ، ومنهم على سبيل المثال الملائكة والإنس والجن ، وهم المطالبون والمكلفون ، بإفراده جل وعلا بالألوهية والعبادة ، والمحاسبون عليها ، فإن جاءت كلمتي عباد أو عبيد ، معرّفة أو غير معرّفة بأل التعريف ، أو بالإضافة ، فهي تفيد جملة الخلق ، كقوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48 غافر ) . ولا تفيد أي معنى آخر على الإطلاق ، إلّا إذا أُضيف إليها ما يفيد ذلك : كقوله تعالى ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81 الصافات ) ليُبرز فيهم سبحانه صفة الأيمان ، فهم عباده المؤمنين ، وفيها حثّ على الإيمان به . أو دل السياق على غير ذلك ، من نفي أو إثبات لصفة دون غيرها ، لتناسب الموقف ، كقوله تعالى ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28 فاطر ) ليُبرز فيهم صفة العلم ، وحصر خشية الله بمن يتصف بالعلم ، فهم عباده العلماء ، وفيها حثّ على طلب العلم ، وقوله ( أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17 الفرقان ) دل السياق على ضلالهم ، فهم عباده الضالين ، وفيها تحذير من الضلال ، وقوله ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ (53 الزمر ) دل السياق على إسرافهم ، فهم عباده المسرفين ، وفيها تنفير من الإسراف ، وكلّهم نسبهم الله إلى نفسه ، بإضافة ضمير متصل يعود عليه سبحانه . سابعا : التركيب اللغوي للعبارة ، جيء به لتخصيص جزء من كل بصفة معينة ، وهي المراد إبرازها أصلا . ولتوضيح ذلك ، لاحظ الفرق بين أن تقول ( هذا بيتنا ) وذاك ( بيتٌ لنا ) ، يفهم المستمع من العبارة الأولى ؛ أنّ هذا البيت مُلك لكم وخاصتُكم وأنّكم مُقيمون فيه ، وأمّا الثانية ؛ فيفهم منها المستمع أنّ ذلك البيت ، مُلك لكم ، وأنّكم غير مقيمين فيه ، وربما يكون فارغا أو مؤجّرا . ومن هنا نجد أن عبارة ( بيت لنا ) ، تعني أنّ بيتكم هذا ، هو واحد من جملة بيوت تملكونها ، ولا تعني شيئا أخر على الإطلاق ، وأنّك زدته تنكيرا بمثل هذا اللفظ . وأنك لو قلت ( ذاك بيت لنا ذو غرف كثيرة ) ، نفهم أنك أبرزت فيه صفة معينة ، اختص بها دون غيره ، من البيوت التي تملكونها ، وهي احتوائه على غرف كثيرة ، وميّزته عن باقي بيوتكم ، التي في معظمها ذات غرف قليلة . وكذلك الأمر بالنسبة لعبارة ( عبادا لنا ) ، التي جاءت منكّرة أيضا لإبراز صفتهم ، ( أولي بأس شديد ) ، التي يتميزون بها عن غيرهم ، من جملة عباد الله مؤمنهم وكافرهم ، ولم يأتي السياق بتصريح أو تلميح عن ماهية معتقدهم . ولتوضيح ذلك أكثر فأكثر ، نطرح هذا المثال ، فيه أربعة أقوال لرجل ، يُجيب رجلا آخرا ، يريد عمالا لمزرعته : 1- سأرسل لك ( أولادي ) غدا ، للعمل في مزرعتك . 2- سأرسل لك ( أولادا لي ) غدا ، للعمل في مزرعتك . 3- سأرسل لك ( أولادي ، أولي المهارة والخبرة في الفلاحة ) غدا ، للعمل في مزرعتك . 4- سأرسل لك ( أولادا لي ، أولي مهارة وخبرة في الفلاحة ) غدا ، للعمل في مزرعتك . فما المعنى الذي أفادته كل عبارة أعلاه ؟ 1- أنه سيرسل جميع أولاده ، مع عدم توضيحه لصفتهم أو ماهيتهم . 2- أنه سيرسل بعضا من أولاده ، مع عدم توضيحه لصفتهم أو ماهيتهم أيضا . 3- أنه سيرسل جميع أولاده ، وأن جميع أولاده لديهم مهارة وخبرة في الفلاحة . 4- أنه سيرسل بعضا من أولاده ، وأن هذا البعض من أولاده فقط ، هو الذي يملك المهارة والخبرة في الفلاحة ، أما البقية فلا . وأخيرا تدبرّ هذه الآيات : ( وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118 النساء ) ( أي أن من جملة العباد المنسوبين إلى الله هناك نصيب لإبليس ) ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42 الحجر ) ( أي أن سلطان إبليس محصور فقط على أتباعه من الغاوين ، الذين هم من جملة العباد المنسوبين إلى الله ) ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194 الأعراف ) ( أي أنتم وهم ، أي العابد والمعبود ، سواء في كونكم عباد ) ( قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا (31 إبراهيم ) ( أي أن الخطاب لعبادي الذين آمنوا ، دون عبادي الذين كفروا ) ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63 مريم ) ( أي وأن النار لمن لم يكن تقيا من عبادنا ) ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109 المؤمنون ) ( أي وكان هناك فريق من عبادي ، يقولون غير ذلك ) ( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85 غافر ) ( أي في مجمل عباده ، والخاسرون منهم ، هم الكافرون دون المؤمنين ) ( نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52 الشورى ) ( أي وهناك من لم نهدي من عبادنا ) ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93 مريم ) ( مؤمنهم وكافرهم بلا استثناء ) وفي الحديث الصحيح الطويل ، الذي رواه مسلم وأخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وأحمد ، جاء ما نصه " … إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى ، إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي ، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ ( جبال القدس ) ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ … " يرد نفس التركيب اللغوي لعبارة ( عبادا لنا ) ، وهو ( عبادا لي ) والمقصودين به هم قبيلتي يأجوج ومأجوج ، الذين قال فيهم سبحانه ( قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ، عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94 الكهف ) . وخلاصة القول : أن كلمة ( عبادا ) ، جاءت نكرة ، و كلمة ( لنا ) لم تعرّفها ، وإنما جاءت هنا لتأكيد الملكية فقط ، وكل الخلق ملك لله ، ليؤكد سبحانه لبني إسرائيل ، أن هذا البعث سيكون من عنده ، وبما أن هؤلاء العباد ملكه ، فهم رهن إشارته وطوع بنانه ، ويملك حق التصرف بشؤونهم ، فإن شاء بعث وإن شاء أمسك . وأكثر المعاني دقة لهذه العبارة ( عبادا لنا ) ، هو أنهم ( طائفة من خلقنا ) لا أكثر من ذلك ولا أقل ، وأهم ما يميّز هؤلاء الخلق عن غيرهم ، أنهم ( أولي بأس شديد ) فقط لا غير . وأن ورود لفظ ( عباد ) في القرآن ، لم يقتصر على أولياء الله وأحباؤه ، وإنما جاء هذا اللفظ في الخطاب القرآني ، منّا على العباد بنعمة خلقه إياهم ، ورفقه ولطفه بهم ، مطيعهم وعاصيهم ، والكلمات ( عبادي ، عبادنا ، وعباده ) عادة ما تأتي كتهيئة ، لما سيأتي بعدها ، من صفة مميزة ، أو سياق يدل على صفة ، وهي المراد إبرازها أصلا ، فإن كانت صفة محمودة ، كالإيمان والعلم فقد أُبرزت تحببا بها ، وإن كانت صفة مذمومة ، كالضلال والإسراف ، فقد أُبرزت تنفيرا منها . وأما صفة البأس الشديد ، فقد أُبرزت تهديدا وتحذيرا وتخويفا لبني إسرائيل ، من سوء عاقبتهم ، بوقوعهم بين أيدي مثل أولئك الخلق ، الذين لن يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة ، لعلهم ينتهون ويرجعون ويرتدعون ، عمّا هم عليه من فساد وإفساد واستعلاء في الأرض . أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ : وصف الله هؤلاء العباد ، بأولي البأس الشديد ، والبأس كما قدمه معظم المفسرون ، هو القوة والبطش في الحروب ، والشدّة جاءت زيادة في المبالغة ، قال تعالى ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (25 الحديد ) ، فانظر وتفكر في معدن الحديد ، فهو يحمل في جوهره صفتان ، قلما تجدهما في معدن أخر . وهما ؛ أولّا : أنّه يحافظ على طبيعته ، مهما عظم عليه الطرق واشتدّ ، ولا يحترق أي يتحول إلى مادة أخرى ، مهما ازدادت شدة النيران عليه ، وإن انصهر عاد إلى سابق عهده عند البرودة ، وهذه الصفة إن وجدت في البشر ، فهي الجلد والصبر عند وقوع البلاء . وثانيا : أنّه عند تشكيله وشحذه ، فهو قوي قاتل وقاطع ، لذلك قيل " لا يفل الحديد إلّا الحديد " ، وهذه الصفة إن وجدت في البشر ، فهي القوة والبطش عند مواجهة الأعداء . وفي قوله تعالى ( وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (84 النساء ) نجد أنّه سبحانه قد وصف نفسه بذات الصفة ، وبما أنّ البأس الشديد تعني القوة والبطش ، فأين تستعمل هذه القوة وهذا البطش من قبله سبحانه ؟ وفي أي المواقع والمواقف يصف رب العزة نفسه بهاتين الصفتين ؛ القوة والبطش ؟ دعنا نتتبع هذه الصفات والعلاقة ما بينها ، في الآيات التالية ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12 البروج ) ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16 الدخان ) نجد أنّ الشدة ارتبطت بالبطش ، والبطش بالانتقام . ( إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52 الأنفال ) ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40 الحج ) ( فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42 القمر ) ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102 هود ) ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4 آل عمران ) ، ونجد أنّ الشدة ارتبطت بالقوة ، والقوة بالعزة ، والعزة بالأخذ ، والأخذ بالشدة ، والشدة بالعزة ، والعزة بالانتقام . ومما تقدم نجد أن الموقف ، الذي يستدعيه جل وعلا لإظهار بأسه الشديد ، هو موقف الانتقام ، وأن الانتقام لا يتأتى إلا ممن هو قوي وعزيز . وخلاصة القول : أنّ هؤلاء العباد ، المبعوثين من قبله سبحانه على بني إسرائيل ، اختارهم الله لتنفيذ مهمة ، وهي إنزال أبشع انتقام إلهي ممكن في بني إسرائيل ، لذلك تطلب الأمر أن يكونوا أولي بأس شديد ، ويتمتعون بالقوة والعزة ، ذوي صبر وجلد عند وقوع البلاء ، وقوة وبطش عند اللقاء ، بغض النظر عن إيمانهم أو كفرهم ، زيادة في التنكيل وإمعانا في الإذلال لبني إسرائيل ، وما عدا ذلك من صفات العباد ، لا تصلح لتنفيذ هذه المهمة . والفتوحات التي اتخذت الطابع الإسلامي قديما وحديثا ، لم تحمل الطابع الانتقامي بإهلاك الحرث والنسل ، الذي سيكون عليه الأمر الذي تصفة الآيات . فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ : لم ترد كلمة ( جاسوا ) ، أو أي من مشتقات مصدرها ( جوس ) في مجمل القرآن ، إلّا مرة واحدة فقط في هذا الموضع ، لذلك لجأت إلى معجم لسان العرب ، وهذا مما قيل فيها : " الجوس هو مصدر جاس جوسا ، وجوسان تردد ، فجاسوا خلال الديار : ترددوا بينها للغارة والجوسان ؛ أي قتلوكم بين بيوتكم ؛ بمعنى يذهبون ويجيئون ؛ فطافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه ؛ تخللوها فطلبوا ما فيها ، والجوسان : الطوفان بالليل ، ورجل جوّاس أي يجوس كل شيء يدوسه ، والجوس : طلب الشيء باستقصاء ، وكل موضع خالطته ووطئته ، فقد جسته " . ولو جمعنا كل ما قيل فيها من معاني ، وأعدنا تشكيل هذه المعاني وصياغتها ، لخرجنا بالمشهد التالي : ( أغاروا عليكم – ليلا على الأرجح – ودخلوا دياركم ، ووطئوا أرضكم ليقتلوكم وينكّلوا بكم ، وتردّدوا فيها ذهابا وإيابا ، وطافوا خلالها شرقا وغربا ، وتخلّلوا أزقتكم واقتحموا بيوتكم ، بحثا وتقصيّا ، لعلّهم يجدوا منهم ، من بقي حيا ليقتلوه ) . نلاحظ هنا أنّ الله جلّت قدرته ، أوجز في وصف فعل هؤلاء العباد أيّما إيجاز ، ليصف كل ما فعلوه في كلمة واحدة فقط ، هي كلمة ( جاسوا ) لتصف مشهدا كاملا ، ولم تكن الإضافة ( خلال الديار ) إلّا لتوضيح ما كان قد جيس . وهذا يُشبه مشهد الإغارات الوحشية ، التي كان يقوم بها ، الأمريكي المدجّج بالسلاح الناري ، على قرى الهنود الحمر شبه العُزّل ، وما يُخلفه وراءه من دمار ومآسي ، مشهد طالما حفلت به أفلام الغرب الأمريكي . والعبارة جاءت لتصف ما قام به عباد البعث الأول عند بعثهم ، قال تعالى ( فجاسوا ) بصيغة الماضي ، أي أن الجوس ، قد وقع في الماضي ، ولم يقل ( ليجوسوا ) بصيغة الاستقبال ، كما هو الحال في أفعال البعث الثاني ، التي ستقع في المستقبل . وخلاصة القول : أن هذا الجوس قد وقع في الماضي ، وكان غاية في البشاعة ، واستباح فيه هؤلاء العباد حُرُماتهم جميعها ، من أرض ومال وعرض ، فوقع فيهم القتل والنهب والسبي . وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا : هذا الخبر جاء كتعقيب على الوعد الأول ، ليؤكد سبحانه تحقق المرة الأولى ، بعلوها وإفسادها وبعثها ، قبل نزول هذه الآيات . حيث جاءت صيغة اسم المفعول ( مَفْعُولا ) من الفعل ( فَعَلَ ) ، للدلالة على تمام الفعل ، بمعنى وكان وعدا ( قد فُعِلْ ) فيما مضى من الزمان . ولم تأتي بأي حال من الأحوال بمعنى ( مقضيا ) ، كما قدّمه معظم المفسرين القدماء ، ومنهم القرطبي أجلّه الله ، حيث قال فيها " وكان وعدا مفعولا ، أي قضاء كائنا لا خلف فيه " ، على اعتبار أن نفاذ الوعدين كان قبل الإسلام . وقد جاءت هذه العبارة ، كجملة معترضة ، بحيث لو قمت بإسقاطها من السياق ، ومن ثم قرأت الآيتين ( 4و5 ) ، كما يلي : ( … بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار . ثم رددنا لكم الكرة عليهم ، وأمددناكم … ) لوجدت أن السياق لم يتأثر بحذفها ، فخبر نفاذ الوعد الأول ، انتهى عند ذكر الجوس ، أي أن الجوس قد وقع بعد البعث . وجاء التعقيب على الوعد ، بالجملة المعترضة ( وكان وعدا مفعولا ) لبيان وتأكيد ، أن الوعد بالبعث الذي تقدّم ذِكره ، قد تحقّق فعلا ، وكانت نتيجته هي الجوس ، ومن ثم يبدأ النص بالإخبار عن الوعد الثاني . قال تعالى ( وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا ، وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ ، كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) … فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ ، قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166 الأعراف ) وهذه الحادثة كما نعلم ، وقعت في بني إسرائيل قبل مئات السنين ، والآن انظر قوله تعالى ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ .. (48 النساء ) جاءت الجملة المعترضة ( وكان أمر الله مفعولا ) زيادة للإيضاح ، ولتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أو الظن ، لبني إسرائيل المعاصرين لرسالة الإسلام ، والمتشكّكين منهم والذين خانتهم ذاكرتهم ، وغير المصدّقين بصحة هذا الأمر ، الذي كان الله قد أجراه في أسلافهم ، أن هذا الأمر وهو المسخ ، قد مضى في أسلافهم حقيقة ، فجاء تعقيبه تعالى على ما تقدم ، من لعن ومسخ لأسلافهم ، بقوله ( وكان أمر الله مفعولا ) لإزالة الشك ، ولتأكيد أنّ الله قادر على تكرار ذلك الأمر ، إن لم يؤمنوا بما أُنزل من القرآن على وجه التهديد والتحذير . وخلاصة القول : أن الوعد الأول بالبعث ، كان قد مضى وانقضى قبل نزول هذه الآيات ، وأنّ تعقيبه عز وجل بقوله ( وكان وعدا مفعولا ) ، جاء لتذكير اليهود الحاليين وتحذيرهم ، وإنباء المسلمين غير العالمين ، بوقوع ذلك في بني إسرائيل ، بأنه قد وقع فعلا ، وبشرى لهم بأن الوعد الثاني ، سيتحقق كما تحقّق الوعد الأول ، وأن الله لا يخلف الميعاد ، وما عليهم إلا الصبر والاستمرار في كفاحهم ضد اليهود ، وحسن الظن بالله وبوعده – وعد الآخرة – قال تعالى ( وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ ، أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ ، حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31 الرعد ) . ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ : قال تعالى ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) أي ثم رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار ، وهذا لا يتحصل إلا بعد البعث والحساب ، بدلالة الاستثناء في تكملة السياق ، في قوله تعالى ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6 التين ) ، وبالتالي تكون ( ثم رددناه ) بالماضي ، جاءت بمعنى أيضا ( ثم نردّه ) بالمستقبل . وجاءت كلمة ( رددنا ) بمعنى أعدنا من إعادة ، ( والكَرّة ) مصدرها كَرَرَ وفعلها كَرَّ ، والكَرُّ والفرُّ تقنية عسكرية ، ويقولون " الحرب كرٌّ وفرُّ " وهي تعني الفعل المضاد للفعل السابق ، فالغلبة كانت للعباد والهزيمة لبني إسرائيل ، وردّ الكرة لهم هو العكس تماما ، كالصورة في المرآة ، أي الغلبة والتفوق العسكري لبني لإسرائيل . وليس المقصود بالكرّة العودة إلى فلسطين ، وانتصار اليهود في حروبهم ضد الدول العربية ، لقوله ، ( الكرّة عليهم ) أي الغلبة العسكرية على العباد أنفسهم دون غيرهم . فالضمير المتصل ( هم ) في (عليهم ) ، يعود على العباد المبعوثين عليهم ، الذين سبق ذكرهم ، وجميع الضمائر المتصلة ( كم ) في هذه الآية ، تعود على بني إسرائيل . قال تعالى ، على لسان الكافر حين يرى العذاب ( لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (58 الزمر ) ، فالفعل الذي سبق ، هو مجيئه من الدنيا إلى الآخرة ، فتمنى الكرة ، وهي العودة من الآخرة إلى الحياة الدنيا ، ليكون من المحسنين . وخلاصة القول : أن المقصود هو أن يُوقع اليهود بأولئك العباد ، ما كان أولئك العباد قد ، أوقعوه في أسلافهم من قبل ، من استباحة للأرض والمال والعرض ، بعد استكمال مظاهر العلو الثاني ، بالاستقواء على أولئك العباد والاعتداء عليهم . وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفيرًا : وأمددنا في ( لسان العرب ) " مصدرها مدد ؛ ومدّه غيره وأمدّه ؛ وأمددناهم بغيرنا ؛ والمدد هم العساكر التي تلحق بالمغازي ، والإمداد أن يرسل الرجل للرجل مددا ، تقول أمددنا فلانا بجيش ، قال تعالى ( يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ (125 آل عمران ) " وفي المجمل تعني الزيادة والكثرة ، في المساعدة العسكرية المقدمة من قبل الغير ، من مال وأفراد وعتاد أثناء الحرب . عندما يكون الجيش أقرب للهزيمة منه إلى النصر . والنفير هم القوم ينفرون معك ويتنافرون في القتال ، ومنه قوله تعالى ( انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41 التوبة ) . جاء في ( كتاب النبوءة والسياسة ) ، للكاتبة الأمريكية ( غريس هالسل ) : " لقد أغرقنا إسرائيل بالأسلحة : جعلنا من دولة الثلاثة ملايين يهودي ، ماردا عسكريا أكبر من أي دولة منفردة ، مثل ألمانيا أو إنكلترا أو فرنسا ، وأقوى من 21 دولة عربية مجتمعة ، عدد سكانها 150 مليون نسمة " " أن إسرائيل .. هي المستفيد الأول بلا منازع من برنامج مساعداتنا .. تحصل على ثلث مجمل المساعدات الأمريكية الخارجية " وتقول الكاتبة تعقيبا على انتصار إسرائيل في حرب 1967 ، " لم يعطِ أحد أي فضل للولايات المتحدة ، لأنها زودت إسرائيل بالأسلحة والتكنولوجيا والدولارات ، وحتى بالعناصر العسكرية الأمريكية التي ساعدت الإسرائيليين ، في تلك الحرب . لقد ربحت إسرائيل لأن الولايات المتحدة كانت تؤيدها بلا حدود " وتقول أيضا " أن نسبة العسكريين إلى المدنيين في إسرائيل ، هي ( 1 عسكري من كل 22 مدني ) وهي أعلى نسبة في العالم " وتقول أيضا على لسان الأستاذ في الجامعة العبرية ( إسرائيل شاهاك ) " إن دافع الضرائب الأمريكي أرسل إلى إسرائيل ، في عام 1985 خمسة مليارات دولار " واستمرت أمريكا بدفع هذه القيمة سنويا لغاية الآن ، فضلا عن المساعدات المادية والعينية الأخرى " ، انتهى . وفي قوله تعالى ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم ، وأمددناكم بأموال وبنين ، وجعلناكم أكثر نفيرا ) ثلاثة أفعال ، جاءت جميعها بصيغة الماضي ، وهي ( رددنا لكم ، أمددناكم ، جعلناكم ) وحُمّلت جميعها أيضا صفة الاستقبال ، بمعنى ( ونردُّ لكم ، ونمدُّكم ، ونجعلكم ) ولكن باختلاف الزمان ، فهذه الأفعال جاءت لتأخذ صفة الاستقبال ، قبل قيام دولة إسرائيل ، فتفيد معنى ( ونردُّ لكم ، ونمدُّكم ، ونجعلكم ) ، ولتأخذ بعد قيام دولة إسرائيل صفة الماضي ، ( رددنا لكم ، وأمددناكم ، وجعلناكم ) . كان المفسرين القدماء أكثر قربا منا ، وأكثر فهما لمفردات اللغة العربية ، ومع ذلك لم يعطوا هذه الآيات حقها من التفسير والتفصيل ، مما ساهم في إخفاء هذا الأمر العظيم حتى هذه الأيام ، ومردّ ذلك أنهم لم يعاصروا الدولة الحالية لليهود . ولو فُسّرت هذه الآيات تفسيرا دقيقا كما الآن ، لكشفت هذه النبوءة للمسلمين ، الكثير من الوقائع ، ولكان ضرّ هذا الكشف عنها للمسلمين أكثر من نفعه ، ولكن لم يشأ الله ذلك رحمة بالمسلمين ، حتى لا يتملكهم اليأس والقنوط والتسليم بالأمر الواقع ، بما أنّ الله قد أخبر بذلك ، وهو الحقّ وقوله حقّ . ولو حصل أن علم المسلمون بتفاصيل هذه النبوءة مسبقا ، فربما ترك معظم الفلسطينيون بلادهم ، مع إطلاق أول رصاصة من قبل برابرة هذا العصر ، إلا من أوتي الحكمة ورَحِمَ ربي ، ولَحُرِمَ المسلمون شرف الشهادة ، ونيل الأذى في سبيل الله ، لقوله تعالى ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140آل عمران ) ولقوله ( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ، لَا يُصِيبُهُمْ ، ظَمَأٌ ، وَلَا نَصَبٌ ، وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ ، عَمَلٌ صَالِحٌ ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120التوبة ) . ولكن عدم معرفة الفلسطينيون ، آنذاك بحتمية قيام الدولة اليهودية ، أبقى الأمل بإمكانية منع إقامتها ، حيّا في نفوس أهلها ، فبقي الكثير منهم فيها ، واستمر باب الجهاد في سبيل الله ، مشرعا على مصراعيه ، وبقي سجل شرف الشهادة في سبيل الله ، مفتوحا إلى يوم القيامة ، لمن يرغب منهم في تدوين اسمه ، ولتكون منهم بإذن الله تلك الطائفة ، التي أخبر عنها رسول الحق عليه الصلاة والسلام . أما بالنسبة لليهود ، فهل كُشفت لهم هذه النبوءة ؟ أقول : نعم بلا شك ، ألم يقل سبحانه ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَـابِ ) وكشفت لهم أيضا نبوءات أخرى ، ويعرفون تفاصيلها كما يعرفون أبناءهم ، قال تعالى ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ، وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ، لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154 الأنعام ) ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً ، وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ، فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ، سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145 الأعراف ) وقد كشفها الله لهم ليعلم ما سيكون منهم ، فعلم العقلاء يزيدهم تواضعا وخضوعا وامتثالا ، وعلم الذين لا يعقلون ( اليهود ) زادهم جهلا واستكبارا وطغيانا وعصيانا وعدوانا ، وسنوضح لاحقا ما كان منهم ، بناءا على معرفتهم لما جاء في كتبهم من نبوءات ، بإذن الله . أما لماذا كُشفت الآن ، نقول : أن لا جدوى من إخفاءها الآن ، فقد اكتملت معالم القدر من ظروف وملابسات ، وفسّر الواقع جزءا كبيرا من نصوصها ، وكل شيء أصبح واضحا للعيان ، ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا (115 الأنعام ) وعلم سبحانه ما أراد أن يعلم ؛ مما كان من المسلمين ، واتخذ وسيتخذ منهم ما أراد أن يتخذ ، وما كان من اليهود وسيأخذ منهم ، ما شاء أن يأخذ حطبا لنار جهنم ، وبئس المصير ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8 الإسراء ) . والكشف عن أسئلة الامتحان والبلاء ، لن يُغيّر شيئا ، فقوائم النتائج والشهادات ، تُعلن من على شاشات التلفاز ، فقد نجح الكثير من طلاب الآخرة في امتحان ربهم ، على ( درجة شهيد بامتياز مع مرتبة الشرف ) ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ونحن الآن بانتظار أن يُصدر رب العزة ، نتائج أولئك الأوغاد السفلة ، بعد أن يمهرها بتوقيعه المبارك ، وكأنّي أتخيّل الملائكة يُعدّونها ، في عجلة من أمر ربهم ، لتكون جاهزة عند موعد التسليم ، فتدبّر في قوله ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ، كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110 … وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَلِيَرْضَوْهُ ، وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ، (113 … وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ، لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115 الأنعام ) ، وموعدهم قريب ، وعند مجيئه سيكون الباب مشرعا لأولئك العباد بأمر ربهم ، لينقضوا عليهم ويزلزلوا أركانهم ، ويكسروا شوكتهم ويقتلعوها من جذورها ، والبعبع الأمريكي يغطّ في سبات عميق ، ولن يمنعهم من أمر الله أحد كان . ونقول : أنّ عودة اليهود إلى فلسطين حقّ ، فالذي أخبر عن ذلك هو الحقّ ، وأنّ إخراج أهلها منها حقّ ، بعد أن منّ الله عليهم بالاستضعاف بالأرض ، كما استضعف الذين من قبلهم ، فأُورثوا الأرض من بعد ، فقد أَخرج رسوله من قبل بالحقّ ، ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5 الأنفال ) وفي إحدى سننه الكونية لمن يُخرج الناس من ديارهم قال الحقّ ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13 إبراهيم ) . وهذه رسالة رب العزة ، إلى أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، ومن سورة ( محمد ) : ( فَلَا تَهِنُوا ، وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ، وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ ، وَاللَّهُ مَعَكُمْ ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) … وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) ، وإن لم نكن نستحق الانتساب لأمّة ( محمد ) عليه أفضل الصلاة والتسليم ، قولا وعملا ، فسنّة الاستبدال واقعة بنا لا محالة ، ومن المؤسف أنها على وشك . وخلاصة القول : أنه وبعد نفاذ الوعد الأول فيكم ، من قبل هؤلاء العباد ، وقتلِهم وقهرِهم لكم ، وزوال دولتكم ، وتشتتكم في الأرض بمدة من الزمن ، طالت أو قصرت - تفيدها ثمّ - سنأذن لكم بالعودة إلى الأرض المقدسة ، وتهزموهم كما هزموا أسلافكم ، وتعود لكم السطوة عليهم ، وتلحقوا بهم ما ألحقوه بأسلافكم ، ونُمدّكم بالأفراد المدربين على القتال والمساعدات المالية والعسكرية ، ونجعلكم أكثر عددا وعتادا . وهذا من قبيل ( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بيْنَ النَّاسِ ) بإجراء القضاء والقدر ، وليس من قبيل المكافأة ، لبني إسرائيل على إحسانهم ونيلهم رضاه سبحانه ، كما يدّعون في توراتهم ، وكما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين . ( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7 ) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا : وهذا على سبيل التخيير ، ولنفي الجبرية على من يملك العقل والإرادة ، ولدفع الظلم عن نفسه جلّ وعلا ، حيث قال ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46 فصلت ) ، وجاءت في ظاهرها ، تحمل الكثير من الترغيب ، والكثير من الترهيب ، وفي باطنها التهديد والتحذير مما يليها ، لكيلا يكون لهم على الله حجة ، بأنه لم يحذّرهم وينذرهم ، قبل إنزال عقاب وعد الآخرة فيهم . أما دفع تهمة الإفساد عن النفس ، فليست بالأماني ومعسول الكلام ، ولكن بالنظر إلى ما اقترفته الأيادي ، حيث قال سبحانه ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123 النساء ) . والتغيير من الإفساد إلى الإصلاح ، ومن الإساءة إلى الإحسان ، لا يأتي عبثا بل يحتاج إلى الكثير من الجهد والعمل ، فالبداية تكون بتحصيل العلم والمعرفة بالله ، بالتفكّر والتدبّر في ملكوت السماوات والأرض ، ومن ثم الأيمان بوجوده وقدرته على الخلق والإيجاد ، ومن ثم ردّ الجميل لصاحب الفضل والمنّة ، بإقرار ربوبيته وملكيته لنا ، ومن ثم الطاعة والتسليم والانصياع ، ومن ثم تحصيل المعرفة بمراده من الخلق ، كما جاء في كتابه ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56 الذاريات ) ، وبالتالي البحث الحثيث لمعرفة ما يُنال به الرضا ويُدفع به الغضب ، ومن ثم العمل بما تعلم ، فإن لم يكن حبا في ملك الملوك ، ليكن ولاءً لسبق الفضل ، وإن لم يكن طمعا في الجنة فخوفا من النار . فانظر بربك إلى ربك ما أعدله ، أنعم عليك وأوجدك أولا ، وسيدخلك الجنة إلى الأبد ثانيا ، لتكون ممن قالوا ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74 الزمر ) ، لا من الذين قالوا ( يَوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97 الأنبياء ) . قال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11 الرعد ) ، فالتغيير يبدأ من العبد وينتهي عنده ، قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5 الصف ) ، حيث سبق الزيغ منهم فأزاغ الله قلوبهم ، أفلا يستحق الأمر شيئا من العناء … ؟! فلنسارع بتغيير أنفسنا ، قبل أن تتغير جلودنا مرارا وتكرارا ، في نار جهنم . فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ : فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام ، مما قال في دعاءه " أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " ، والآخِر والآخِرة نقيض المتقدم والمتقدمة ، ومن معجم مختار الصحاح : الآخِر بكسر الخاء بعد الأول وهو صفة ، تقول جاء آخِرا أي أخيرا ، وتقديره فاعل ، والأنثى آخِرة والجمع أواخر . وخلاصة القول : أنها المرة الثانية في الترتيب ، والأخيرة في عدد المرات ، ولا ثالثة بعدها ، وإنما هناك أخرى ، ولكنها تختلف في أنها ليست مرة ، ولا يصحّ أن نسميها مرة ثالثة ، فهي لا تمتلك شروط المرتين السابقتين . بعثناهم عليكم : هذه العبارة ، غير موجودة أصلا في نص الآية ، وهي جواب شرط إذا الخاص بوعد الآخرة ، وقد حُذفت ، لدلالة جواب شرط إذا الخاص بوعد أولاهما . ولتوضيح عمل ( إذا ) وما يعنيه شرطها وجوابها ، نقول نستعمل ( إذا ) عادة ، إذا أردنا تعليق فعل معين ( ويسمى جواب شرط إذا ) ، بفعل آخر ( ويسمى شرط إذا ) ، كأن تقول لزوجتك على سبيل المثال : " إذا حصلت على ترقية في نهاية الشهر ، اشتريت لك ذلك الخاتم " ، فالذي ذهبت إليه في الواقع ، هو أنك علّقت عملية شراء الخاتم ، الذي رغبت فيه زوجتك ، بعملية حصولك على الترقية الموعود بها آخر الشهر ، فإن لم تكن هناك ترقية ، فلن تحصل زوجتك المسكينة على الخاتم . فشرط ( إذا ) هو ( الحصول على الترقية ) ، وجواب الشرط هو ( شراء الخاتم ) . وبعبارة أخرى نقول أن حصول زوجتك على الخاتم متعلّق بالحصول على الترقية . وبإعادة عبارة ( بعثناهم عليكم ) المحذوفة ، يصبح النص كما يلي ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ – بعثناهم عليكم – لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ) . وعبارة ( وليسوءوا وجوهكم ) ليست جوابا للشرط ، لارتباطها بلام كي ، حيث جاءت العبارة لتعليل البعث وتوضيح الغاية منه . وضمير الغائب ( هم ) في ( بعثناهم ) يعود على العباد أنفسهم ، وضمير المخاطب ( كم ) في ( عليكم ) ، يعود على بني إسرائيل . وخلاصة القول : أن هذه المرة هي الأخيرة من المرتين ، وأن تحقّق البعث متعلّق بمجيء الموعد المحدّد ، وبما أن الضمير في كلمة ( بعثناهم ) يعود على نفس العباد ، فإن عباد البعث الثاني ، هم نفس عباد البعث الأول . لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ : إساءة الوجه ، أن يُفعِلَ بِالإنسان ما يَكْرَه ، وأساءه نقيض سَرّه . وفي الواقع أن فِعل الإساءة ، لن يقع على الوجوه بشكل مباشر ، وإنما على المظاهر والمقومات المادية ، التي مكّنتهم من العلو والاستكبار والاستعلاء على الناس ، ليُحرموا هذه الميزة بتبادل الأدوار مع أولئك العباد . ويكسبوا ميزة جديدة ، هي الاستضعاف والذل والانخفاض ، بتبادل الأدوار مع الفلسطينيين ، ومن ثم ليقع فيهم ، ما أنزلوه بالفلسطينيين طيلة مدة علوهم ، من قتل وأسر وتعذيب وسلب للأراضي والممتلكات ، وإتلاف وهدم ، على قاعدة الجزاء من جنس العمل ، ( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14 التوبة ) . وضمير الغائب ( واو الجماعة ) في ( ليسوءوا ) ، يعود على نفس العباد ، وضمير المخاطب (كم ) في ( وجوهكم ) ، يعود على بني إسرائيل . والذي سيظهر على الوجه ، هو تعابير الاستياء ، التي تنتج في الغالب ، عن مشاعر تجيش بها النفس البشرية ، كالألم والحسرة والغيظ والخزي والذل ، عندما تتعرض للأذى النفسي ، الذي غالبا ما يكون ناتج ، عن فقدان مادي لما هو جيد ، أو كسب ما هو سيئ ، أو كلاهما ، وتعتمد درجة الاستياء على درجة الفقد أو الكسب ، والذي سيفقده اليهود ، هو السيادة والغنى والقوة . ونجد وصف لتعابير وجه ، يشعر صاحبه بسوء ألمّ به ، لحرمانه من الذكر ، بولادة الأنثى ، التي ستجلب له العار مستقبلا ، في قوله تعالى ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ … (59 النحل ) ، ونجد وصف آخر لتعابير وجوه الذين اقترفوا السيئات ، عندما استيقنوا أن لا مفر ولا عاصم من أمر الله ، وأنهم سينالون جزاء سيئاتهم ، فتملكّتهم مشاعر اليأس والقنوط من النجاة ، في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27 يونس ) توحي عبارة ( ليسوءوا وجوهكم ) ، أن ما سينزل بهم من عقاب ، على أيدي هؤلاء العباد ، شديد الوقع ، وبالغ الأثر والتأثير في نفوسهم ، مما سيعكس بالضرورة آثار المساءة على وجوههم . لدرجة أنه سبحانه ، أورد نفس التعبير ، في وصفه لحال الكفار عند رؤيتهم لعذاب جهنم ، في قوله تعالى ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27 الملك ) . فالعقاب الذي سيحلّ باليهود قريبا ، ليس له نظير ، ولا يُمكن أن يتأتى هذا العقاب ، إلا من قبل أناس يملؤهم الحقد والكراهية ، ولديهم رغبة شديدة وملحة للانتقام ، من بني إسرائيل لسبب أو لآخر . قال تعالى ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ، أَنْ يُقَتَّلُوا ، أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33 المائدة ) تبين الآية الأولى ، عظم مكانة النفس البشرية عند الله ، إذ ليس لأحد كان ، إزهاق أرواح الناس سوى خالقها ، فهو الذي يحيي ويميت ، ومن أزهق روحا بغير نفس أي قصاصا ، أو لمنع الفساد في الأرض ، كإقامة الحدود الموجبة للقتل ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن قام بهذا الأمر ، خارج نطاق ما تقدّم من موجبات القتل ، فقد أعلن حربه على الله . وأن من أعلن حربه على الله ، في الآية الثانية ، حُصر جزاءه من قبل رب العزة ، بأربعة خيارات ، تنفّذ فيه في الحياة الدنيا ، من قبل من أوكله الله بذلك ، رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
ELSHARIF بتاريخ: 7 مارس 2005 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 7 مارس 2005 مجيء اليهود من الشتات : يظنّ البعض ، بناءا على عبارة جئنا بكم لفيفا ، أن وعد الآخرة ما زال بعيدا عن التحقق ، كون تجمّع بني إسرائيل في فلسطين لم يكتمل بعد ، فالكثير منهم – تقريبا النصف – ما زال في الدول الغربية ، وهذا الظنّ في غير محلّه ، وينمّ عن عدم معرفة بحقيقة الشخصية اليهودية . فاليهود المنتشرون كالجراد ، في شرق العالم وغربه ، لن يهاجروا إلى فلسطين ، إلا في حالة واحدة إذا أُجبروا على ذلك مُكرهين ، أو دُمّر العالم بأسره ، ولم يبق إلا فلسطين ليهاجروا إليها ، وهذا غير وارد في المنظور القريب ، ودمار إسرائيل القادم ، سيكون سابقا ، بل سببا لانهيار العالم الغربي ودماره . فاليهود كائنات طفيلية ، لا تستطيع العيش بمعزل عن الآخرين من غير اليهود ، وحتى الدولة اليهودية تتصف بنفس الصفة ، فهي لا تستطيع البقاء والمحافظة على وجودها وكيانها ، بدون المساعدة الخارجية من الدول الغربية ، والتسوّل الدائم والمستمر . وهذه هي المسكنة التي ضربها الله عليهم ، ولازمتهم على مرّ تاريخهم الطويل ، في غناهم وفقرهم وفي ذلّهم وعلوهم . ولا أدلّ على ذلك التسويق المذلّ والمخزي والمستمر ، للمحرقة النازية المبالغ فيها ، والتي جعلوا منها ، ومن تهمة معاداة السامية ، مسمار جحا في حلق الشعوب الغربية ، لابتزازها ونهب خيراتها وخاصة ألمانيا ، فهم عالة على كل من آواهم ، وهذا ما يشهد به تاريخهم ، وكان سببا – بالإضافة إلى غدرهم ومكرهم ومؤامراتهم - في اضطهادهم ، من قتل ونهب ونفي وتهجير . واليهود هم أول من ابتكر الربا ويعيشون به وعليه ، والآن هم يملكون معظم بيوت المال العالمية إن لم تكن كلها ، حتى البنوك المركزية الأمريكية والبريطانية ، وحق إصدار النقد فيها ، فهل من المعقول أن يتركوا العجل الذهبي ، ويغادروا جنّة إلههم بمحض إرادتهم ؟! طبعا لا ، فهذا ضرب من الخيال . لذلك أستطيع الجزم – لما تقدم – بأنّ تجمّعهم في فلسطين بكلّهم وكليلهم لن يكون ، وللعلم فإن معظم المهاجرين اليهود ، كانوا من بلدان أوروبا الشرقية المعروفة بفقرها ، وأما الغربيون فأعدادهم قليلة جدا . فضلا عن ذلك ،لم يأتي في مجمل معاني لفيفا ما يُفيد ، تجمّع كل اليهود في فلسطين ، كشرط لتحقّق وعد الآخرة ، والمعنى المستفاد منها هو الاختلاط في الأصول ، والجمع من أماكن مختلفة ، وهذا قد تحصّل ، فالدول التي هاجروا منها ، شملت معظم أرجاء المعمورة ، وهي غنيّة عن التعريف ، وهذا هو المراد . أما فيما يخص السنن الإلهية في القرى الظالمة ، فقد وردت في هذا البحث الكثير من الآيات التي توضّحها ، فلا أسرع من الانتقام الإلهي ليحل بها . وظلم اليهود وعلوهم واستكبارهم ، وعنجهيّتهم وعنصريّتهم ، ومحاربتهم لله ورسوله وأولياؤه ، وقتل الأبرياء العزّل ، وهدم البيوت ، واستلاب الأراضي واقتلاع أشجارها واستيطانها ، ومنعهم مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وتدنيسها ، فاق كل تصوّر ، وأوجب عقابه سبحانه لهم منذ زمن بعيد . ولولا أن الحكيم العليم جلّت قدرته وعَظُم شأنه ، ضرب لهم موعد لن يُخلفوه ، وأن أرضه المقدسة تزخر بأوليائه الصالحين ، لأنزل الآن عليهم رجزا من السماء ، كما أنزله على أسلافهم ، لمجرد تبديلهم للقول والهيئة عند دخول القرية ، لعنهم الله بكفرهم قليلا ما يؤمنون . ولكنّ عقابهم سيكون مختلفا ، رحمة من ربك بعباده الصالحين هناك ، لكيلا يسوءهم العذاب ، فضلا عمّا أساء لهم أولئك الأوغاد . فليرتقبوا إنّا مرتقبون ( فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) ، و ( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4 نوح ) . تعني عملية ربط نفاذ وعد الآخرة ، بتجمّع كل اليهود في فلسطين ، أن وعد الآخرة ، لن يتحقق حتى قيام الساعة ، وهذا مخالف لما نراه على أرض الواقع ، حيث وصل الظلم اليهودي أقصى مداه ، ومخالف أيضا لما تحكيه النصوص ، إذ أن هناك عودة أخرى للإفساد ، وهناك عقاب آخر ، سينطق فيه الحجر والشجر ، قبل قيام الساعة ، التي أصبحت أشراطها الكبرى على الأبواب ، والناس في غفلة من أمرهم . ما تُخبر عنه الآيات في السورة ، ليس وعدا بنصر للمؤمنين ، وإنما وعد استثنائي بعقاب بني إسرائيل : قال تعالى ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ (167 الأعراف ) تقرّر هذه الآية الكريمة ، بأن الله سيبعث على بني إسرائيل ، من يسومهم سوء العذاب إلى قيام الساعة . إذاً هناك استمرارية للبعث ، وهناك استمرارية للعذاب . وقد وقع العذاب فيهم ، على أيدي وثنيون ونصارى ومسلمون ، على مرّ تاريخهم الطويل . مما يؤكد أن العذاب الخاص بوعدي المرتين ، هو حالة استثنائية خاصة مختلفة ، عمّا تقرّره الآية أعلاه ، وأن الذين سيُوقعونه بهم أناس استثنائيون أيضا ، وهذا الاستثناء جاء لما يملكونه من صفات ، على رأسها صفة البأس الشديد ، لأن إفساد بني إسرائيل المقترن بالعلو في كلتا المرتين ، أعظم من أي إفساد سابق أو لاحق ، مما يتطلّب بعث أناس هم أهل ، لما يريده الله لبني إسرائيل ، من العذاب الشديد . أُنزلت نصوص هذه النبوءة على موسى عليه السلام ، قبل 3 آلاف سنة تقريبا من الآن ، وقبل 1600سنة من مجيء الإسلام تقريبا ، وكُشفت نصوصها لبني إسرائيل ، بعد نكوصهم عن الدخول إلى فلسطين ، وقبل سنوات التحريم والتيه . وهي في الواقع ، تحكي حالتين استثنائيتين من تاريخ بني إسرائيل ، يتحصّل لهم فيهما علو أمميّ في فلسطين ، يشترط فيهما سبحانه ، الإحسان وتجنّب الإساءة ، فإن أحسنوا أحسن إليهم ، وإن أساءوا أزال علوهم ، وعذّبهم في الدنيا والآخرة . ووعدهم بإطالة أمد هذا العلو إليهم ، طالما هم محسنون ، والإساءة إليهم بعقابهم وبإزالة هذا العلو ، طالما هم يُسيئون ويُصرّون على الإساءة . ولعلمه المسبق بإفسادهم بعد التمكن من العلو فيها في المرتين ، أخبرهم سبحانه بما سيكون منهم مستقبلا ، مؤكدا ذلك بِقَسَم ، تستشعر من خلاله التحدّي الإلهي لهم ، كونهم دائبون على تحدّيه ، بمحاربة رسله وأولياءه وشرائعه . وأنهم كلمّا علوا في الأرض ، سيفسدون فيها ، بالرغم من تحذيرهم هذا ، معلنين حربهم عليه سبحانه . فينالون غضبه وسخطه عليهم ، مما يستوجب العقاب . وعندما يتحصّل ذلك منهم ، وعدهم ربهم بأن يبعث عليهم في كل مرة ، عبادا له أولي بأس شديد ، ليعيدونهم إلى موقعهم الحقيقي من الإعراب بين الأمم . لنؤكد هنا على أن ما تُخبر عنه سورة الإسراء حصرا ، هو وعد بعقاب وعذاب لليهود لإفسادهم واستعلائهم في الأرض ، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى ، وفي التعقيب على هذا الخبر ، كانت إحدى الحكم الإلهية للإخبار عنه ، هي زفّ البشرى للمؤمنين . أما نصر المؤمنين ، من أهل فلسطين ، الذين نصروا الله بصبرهم ورباطهم وثباتهم ، فالإخبار عنه والوعد به ، جاء في مواضع أخرى من القرآن ، فلا نخلط بين الأمرين . من هم هؤلاء العباد ، ولماذا هم ، وما الذي يجري في الحقيقة ؟ يؤكد النص القرآني ، في الآيات من ( 5-7 ) من سورة الإسراء ، أن العقاب الإلهي لبني إسرائيل ، سيحلّ بهم على أيدي بشر . طائفة من خلقه ، سخّرهم الله جلّت قدرته ، من أجل القيام بهذه المهمة العظيمة ، واختارهم لهذه المهمة لاتصافهم بالبأس الشديد . وطبيعة هذه المهمة هي الانتقام ، وهذا الانتقام إلهي الطابع ، وصفته شديد الوقع والتأثير . وبالتالي من الضرورة بما كان ، أن يمتلك أولئك العباد ، مخزونا هائلا وكمّا ضخما ، من الحقد والكراهية الموجّه لبني إسرائيل لسبب أو لآخر ، مما أوجد لديهم رغبة شديدة وملحة في الانتقام منهم ، حتى يتوافق ذلك مع مقتضى الإرادة الإلهية في الانتقام ، وليتجلى ذلك العذاب في أبشع صوره ، كما لو أنه أُنزل عليهم من السماء . وتوحي الآيات بأن هناك علاقة عدائية ، ما بين اليهود وأولئك العباد ، نشأت منذ نهاية علوهم الأول ، وتجدّدت مع بداية علوهم الثاني ، واستمرت وتزايدت مع مرور الزمن ، وأن سبق العداء والاعتداء اليهودي على أولئك العباد ، سيكون السبب في خروج أولئك العباد عليهم . ولتوضيح ما خفي بين السطور ، في هذا النص القرآني الكريم ، سنقوم بطرح مثال قريب إلى أذهاننا . لنأخذ مثلا ، الإرادة أو الرغبة في الأكل ، وهي عادة لا تأتي عبثا ، وفي الغالب تتحصّل لسببين : الشعور بالجوع ، أو لوجود صفة الشراهة في الإنسان . والإنسان الشَرِه يأكل في العادة ، دون الحاجة للشعور بالجوع ، ذلك لأنها طبع ملازم له ، فتخيّل أن إنسانا كهذا ، كان جائعا فضلا عن شراهته ، وعند نزوله من إلى الشارع ، مرّ بمطعم ، فشاهد من خلال الواجهة الزجاجية دجاجة مشوية ، فاستثارته بمنظرها وأسالت لعابه ، بالتأكيد ستتولّد لديه رغبة شديدة ، في التهام تلك الدجاجة الشهية على الفور ، للشعور باللذة والمتعة ، أثناء التهامها . وعندما همَّ بالدخول ، تبيّن له أن المطعم مغلق للاستراحة ، وحسب اللافتة الموجودة على الباب ، تبين له أن المطعم لن يُفتح قبل عشر دقائق . والذي حصل مع صاحبنا ، أنه لم يترك الأمر ويمضي في حال سبيله ، بل أخذ الأمر على أنه موضوع شخصي ، كونه ذو طبع شره ، وكأن الدجاجة اعتدت عليه بتعرّضها له في الطريق ، وطعنته في مقتل ، فاتخذ قرارا بالانتقام منها ، لكي يُزيح عن كاهله ، ذلك الوضع وذلك الشعور المزري ، الذي فرضته عليه تلك الدجاجة ، بما سبّبته له من استثارة واستفزاز . ولكن هل يستطيع تنفيذ رغبته في الانتقام من الدجاجة ؟ كلا ! … إذن لا مناص له إلّا الانتظار ، لحين مجيء الموعد المنتظر ، فقرّر الانتظار ريثما يفتح المطعم … والآن تخيل سلوك ذلك الإنسان ، لحظة فتح الباب وحتى لحظة وقوع الدجاجة بين يديه … ! وتخيل ما الذي سيفعله بتلك الدجاجة حتى ينتهي من أمرها … ! وتخيل ما بقي من حطامها … ! وتخيل منظر الطاولة لحظة الانتهاء منها … ! وتخيل منظره لحظة تركه لساحة المعركة … وهو يشعر بنشوة الانتصار … الذي حققه وباقتدار … على تلك الدجاجة المزعجة … ! أخبر سبحانه بأن عقابه لبني إسرائيل ، سيكون من فعل البشر ، والسلوك البشري في بعض من جوانبه ، هو مجموعة من الحوادث المتكررة . وما نحن بصدده في هذا المقام ، هو القانون الفيزيائي ( لكل فعل رد فعل معاكس له بالاتجاه ) ، ولكن ليس مساو له بالمقدار ، فرد الفعل في السلوك البشري ، تتدخل فيه عوامل كثيرة ، تغير من مقدار رد الفعل . ومن قراءتنا للنص القرآني وفهمنا له ، نجد أن هذا العقاب الإلهي ، سينفذ في بني إسرائيل على أيدي بشر ، وسيكون غاية ، في البطش والتنكيل والإذلال . وهذا السلوك البشري ، لا يقوم به إلا من كان يعتمل في صدورهم ، رغبة شديدة في الانتقام . ورغبة الانتقام لدى البشر ، لا تنشأ عبثا ، فغالبا ما تكون ردّ فعل لفعل سابق . بمعنى أن الرغبة في الانتقام لدى شخص ما ، تنتج عادة لسبق الاعتداء من قبل شخص آخر ، فغالبا ما يتسبب الشخص المعتدِي ، في إيقاع الأذى ، بالشخص المعتدَى عليه ، سواء كان هذا العدوان جسديا أو نفسيا ، مما يُشكل خطرا وتهديدا ، على كيان المعتدَى عليه برمّته ، من حيث الأمن والسلامة النفسية والجسدية ، فيُشكّل هذا العدوان استفزازا واستثارة ، تجعل المعتدى عليه ، يعيش حالة من التوتر والقلق ، تؤدي به أخيرا إلى القيام برد العدوان ، بعدوان أشد قسوة وأكثر إيلاما وتنكيلا ، حتى يتخلّص المعتدَى عليه من تلك الحالة ، بالإضافة إلى رد اعتباره أمام نفسه وأمام الآخرين ، ولدرء خطر تكرار العدوان من قبل المعتدِي نفسه أو من قبل غيره . وفي كثير من الأحيان ، يتكرر نفس السلوك البشري ، لشخص ما عند تعرضه لنفس المثير ، في أوقات مختلفة . وفي أحيان كثيرة يتشابه سلوك شخص ما ، لدرجة التطابق مع سلوك شخص آخر ، تعرض لنفس الموقف ، وإن اختلف ، فالاختلاف إما أن يكون : أولا ؛ في درجة الشدة ، للفعل نفسه من ( شتم ، أو ضرب ، أو إيذاء بليغ أو قتل ) . ثانيا ؛ في درجة الشدة لرد الفعل من ( اكتئاب ، أو امتعاض ، أو شتم أو ضرب أو إيذاء بليغ أو قتل ) . ثالثا ؛ في طبيعة الشخص المعتدى عليه ( فإن كان ذليلا ربما يكتئب ، وإن كان جبانا ربما يمتعض ، وإن كان قويا فيه لين ربما يشتم أو يضرب ، وإن كان عزيزا وقويا ربما يؤذي أو يقتل وينكل ) . وبما أن السلوك البشري حدث متكرر ، فهو قابل للدراسة والمقارنة . وسورة الإسراء أعطت صورة من صور هذا السلوك ، لأولئك العباد في التعامل مع بني إسرائيل . وتصوير السلوك البشري ، يظهر في مواضع كثيرة ، أثناء السرد القرآني للقصة ، الذي يعتمد التصوير بإيجاز شديد ، ليلقي على كاهل القارئ ، تخيل بقية تفاصيل القصة ، التي اختفت بسبب الإيجاز ، وما كان المثال السابق إلا لإيضاح الجانب الخفي ، مما تحكيه النصوص من أحداث غير ظاهرة ، تغيب في العادة عن ذهن القارئ ، أثناء التلاوة العادية للآيات . ما تحصل لدينا من ملامح لسلوك هؤلاء العباد ، ومن أحداث من خلال الآيات ، هو ما يلي : 1. صفة البأس الشديد : اتصاف هؤلاء العباد بالقوة والبطش في الحروب . 2. ردّ الكرّة : قيام بنو إسرائيل بالإعتداء على هؤلاء العباد ، بعد تحصّلهم على العلو الكبير . 3. مجيء الوعد : متعلّق بعِظَم الظلم والإفساد في الأرض ، فكلما ازدادت وتيرته كلما اقترب . 4. البعث : الخروج للغزو والغارة ، يقترب كلما ازدادت وتيرة الاستفزاز والتهديد ، وتناقصت المُعيقات والموانع . 5. دخول المسجد : سلب مقومات العلو اليهودي في فلسطين . 6. إساءة الوجه : عِظَم الانتقام وبشاعته ، بالإيذاء والقتل والتنكيل والتهجير والسبي . تتبع وقارن ما بين معطيات السلوكين : (1) صفة الشراهة (2) سبق رؤية الدجاجة تسبب في الاستفزاز والإثارة (3) تولّد الإرادة والرغبة في الأكل (4) انتظار مجيء الموعد ( الذي حدده مدير المطعم ) (5) مجيء الموعد (6) الانبعاث : فتح الباب وتمكين الوصول ( موظفو المطعم ) (7) دخول المطعم (8) التلذذ والاستمتاع بالتهام الدجاجة ) . (1) صفة البأس الشديد (2) سبق الإيذاء والاعتداء تسبب في الاستفزاز والإثارة (3) تولّد الإرادة والرغبة في الانتقام (4) انتظار مجيء الموعد ( الذي حدّده سبحانه ) (5) مجيء الوعد (6) الانبعاث : إزالة المعوقات وتمكين الوصول ( العلي القدير ) (7) دخول المسجد (8) الانتقام بالتلذذ والاستمتاع بالتنكيل ببني إسرائيل ) . الملامح الخفية التي ظهرت من خلال المقارنة هي : 1. ضرورة اعتداء بني إسرائيل على أولئك العباد ، بإضرارهم وإيذائهم بشكل بالغ الأثر . 2. تولّد حالة من التوتر والقلق والقهر ، لدى أولئك العباد يُخلّفها ذلك العدوان . 3. تولد الإرادة والرغبة في الانتقام ، لدى أولئك العباد ، بردِّ الصاع صاعين ، لدفع الأذى والضرر ، وردّ الاعتبار . 4. العمل والاستعداد والانتظار ، ريثما تأتي اللحظة المناسبة ، التي تُمكّنهم من الانقضاض . والآن لنطرح الأسئلة التالية : 1. من الشعب الذي يمتلك صفة الصبر والجلد عند وقوع البلاء ، والقوة والبطش عند مواجهة الأعداء ؟ 2. من الشعب الذي هُزم من قبل اليهود عند نشوء دولتهم ، والوحيد الذي استمر اليهود ، في إيذاءه والاعتداء عليه ، بشكل مباشر وغير مباشر ، وما زالوا حتى يومنا هذا ، وسيستمرون في إيذاءه حتى يُجبروه على الخروج عليهم ؟ 3. من الشعب الذي يُظهر رغبة شديدة وملحة في الانتقام منهم ، والقضاء عليهم وإنهاء وجودهم ، وما بقي عليه إلا أن يُهيئ الله له ، أسباب الخروج والانبعاث ؟ 4. من الشعب الذي بُعث عليهم في المرة الأولى ، ودمّر مملكتهم في فلسطين بالذات ؟ وأين تقع الأرض التي خرج منها الآن ؟ 5. من الشعب العزيز والقوي ، الذي لا يقبل الخضوع والذل والهوان ، ولديه القوة والقدرة ، ليفاجئهم ويكيل لهم الصاع صاعين ، وينزل بهم أبشع انتقام إلهي ، وبتجلّ واقتدار ؟ شروط ومواصفات المرة : والآن لنحاول استنباط الشروط والمواصفات ، التي يجب توافرها في المرة الواحدة ، ليصبح لدينا مقياس ينأى بنا ، عن التخبط والعشوائية والاجتهاد الخاطئ ، نستطيع من خلاله ، تقييم كل حالة من الحالات المعروضة بين أيدينا ، لأجل التحقق وبدقة متناهية ، من كونها إحدى المرتين أم لا :- أوجه التشابه بين المرتين : 1. المكان : الأرض المقدسة - فلسطين . 2. صفة الإفساد : أممي جماعي - القتل وسفك الدماء ، إخراج الناس من ديارهم ، محاربة الله وما جاء به رسله . 3. العلو : الاستعلاء - امتلاك الأرض والمال والقوة . 4. صفة المبعوثين : أقوياء وأعزاء - يفضلون الموت على الذل والمهانة ، ولا يقبلون بأقل من ردّ الصاع صاعين ، ومخرجهم من نفس الأرض ، في المرتين . 5. صفة العقاب : انتقام إلهي - الدخول بالغلبة قسرا وقهرا ، وهدم مقومات الدولة ، وإفناء شعبها ، والشتات لمن ينجو منهم . علامات فارقة تميز كل مرة عن الأخرى : 1. النشأة والاستمرارية : تواكلية - إحداهما بالتواكل على الله ، والأخرى بالتواكل على الناس . 2. المجيء : مختلف - دخول فلسطين كأمة في الأولى ، دخولها كجماعات متفرقة من الشتات في الثانية . 3. الوعد : الأول - تحقق قبل نزول سورة الإسراء ، والثاني - سيتحقق في مستقبل الأمة الإسلامية . هل من المكن أن يبعث الله الكفرة ويُسلّطهم على من شاء من عباده ؟ هذا السؤال كان قد أورده الزمخشري في الكشاف ، حيث قال : " ( عبادا لنا ) ، وقُرئ عبيدا لنا ، وأكثر ما يُقال عباد الله ، وعبيد الناس ، سنحاريب وجنوده وقيل بختنصر … فإن قلت كيف جاز أن يبعث الله الكفرة ويُسلّطهم عليهم ؟ قلت : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم ، على أن الله أسند بعث الكفرة إلى نفسه ، فهو كقوله تعالى ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ، بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129 الأنعام ) " انتهى . أما الإمام أحمد فقد قال ردا على نفس السؤال : " هذا السؤال إنما يتوجه على قدريّ ، يُوجب على الله تعالى بزعمه ، رعاية ما يتوهمه بعقله مصلحة ، وأما السُنيّ إذا سُئل هذا السؤال أجاب عنه بقوله : ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23 الأنبياء ) " انتهى . ولا ننسى أن الكلام في المسألة أعلاه ، محمول على أن البعثين قد تحصّلا قبل نزول الآيات ، حيث أجمعت كل الروايات على كفر المبعوثين ، فجاء الكلام ردّا ، على من قد ينكر على الله ، بعث الكفرة على فسقة أهل الكتاب ، ويحصر ذلك بالمؤمنين وهما وظنا واتباعا للهوى ، مُقدّرا بأن في ذلك كل المصلحة والمنفعة ، مُلزما ربّ العزة برأيه . وبالإضافة لما تقدّم ، نسوق بعض الأدلة من القرآن والسنة ، على تسليط الله الناس بعضهم على البعض ، دون بيان ماهية المعتقد من حيث الإيمان أو الكفر ، وحتى نصرة الدين بالفجار : قال تعالى ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251 البقرة ) وقال أيضا ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40 الحج ) ومما روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أنه قَالَ في معرض حديثه : ( … وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ ) ، وأخرجه مسلم وأحمد والدارمي . فإذا كان الحكيم العليم ينصر دينه بالفجار ، أفلا يُعذّب الكفار بالكفار ؟!! أولم يُسلّط الله التتار على فسقة المسلمين قديما ، ويُسلّط الأتراك والنصارى واليهود على فسقة المسلمين حديثا ، أم أن هذا التسليط كان من عند غير الله ؟!! والسؤال هل هناك منفعة أو مصلحة ، تُرتجى من بعث الريح والحجارة ، أو بعث الطير والضفادع ، على الأقوام السابقة ، طالما أن الغاية هي عقاب الظلمة والمفسدين ؟!! الخلاصة : 1. أن إفساد بنو إسرائيل وعلوهم سيكون كأمّة ، وبقيام دولة لهم في فلسطين لمرتين فقط ، لا ثالث لهما . 2. أن البعث من عند الله ، وأنه عقاب وعذاب لبني إسرائيل لإفسادهم في الأرض ، في الدرجة الأولى ، بالرغم من كونه نصرا للمستضعفين ، من أهل فلسطين ، الذين انتصروا لربهم ودينهم . 3. أن هذا البعث متعلّق بموعد ، والمؤشر على قرب أجله ، هو ازدياد وتيرة الظلم والإفساد اليهودي . 4. أن غاية هذا البعث ، هي الانتقام من بني إسرائيل في الدرجة الأولى ، وليس مكافأة لصلاح المبعوثين . 5. أن الوعد الأول كان قد أُنجز فيما مضى ، وقبل مجيء الإسلام ، بل قبل عيسى عليه السلام . 6. أن تحقق الوعد الثاني ، اشتُرط فيه قبل تحققّه : أولا : مجيئهم من الشتات ؛ ثانيا : هزيمة اليهود للمبعوثين وإلحاق الأذى بهم ؛ ثالثا : اعتماد اليهود على المساعدات المادية والبشرية ؛ رابعا : تفوّق اليهود عسكريا على أعدائهم . 7. أن للبعث الثاني سبب ، وهو سبق الاعتداء اليهودي على المبعوثين ، وأن خروج المبعوثين عليهم ، سيكون لرفع الضرر والانتقام لأنفسهم . 8. أن المبعوثين عليهم في المرة الثانية ، هم نفس المبعوثين عليهم في المرة الأولى . 9. أن هذا البعث سيكون مُفاجئا لهم ، وهم في قمة علوهم وتجبرهم ، وسيأتيهم من حيث لا يحتسبوا ، وسيتم قتل اليهود والتنكيل بهم ، ومن ثم دخول فلسطين والسيطرة عليها ، مع انعدام قدرة اليهود على صدّ المبعوثين . 10. أن الدخول الأول يعرفه اليهود ، كمعرفتهم لأولادهم ، وليس للمسلمين معرفة بصفته ، كونهم لم يُعاصرونه ، إلا من خلال كتب اليهود . 11. أن تدمير مقومات علوهم في مشارق الأرض ومغاربها ، أمر حتمي ، ولو بعد حين . 12. أن ماهية المعتقد للمبعوثين مُبهمة ، فمن الجائز أن يكونوا كفرة أو مسلمين أو مؤمنين أو من أولياء الله المخلصين ، في كلا المرتين ، أو في مرة دون الأخرى ، وأن أهمّ ما يُميّزهم في كلا المرتين ، هو اتّصافهم بالبأس الشديد . -------------------------------------------------------------- الإخوة الأعزاء : في الحلقة القادمة سوف نتعرض لتاريخ وجغرافيا بني إسرائيل في القران مع تحياتي للجميع الشريف رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
ELSHARIF بتاريخ: 9 مارس 2005 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 9 مارس 2005 تاريخ وجغرافيا بني إسرائيل في القران بعد مراجعتي لمعظم الآيات القرآنية ، التي تحكي سيرة بني إسرائيل ، تبيّن لي الكثير من الوقائع المبهمة في تاريخهم ، والمفاهيم المغلوطة ، التي كنت أحملها ويحملها عامة المسلمين ، والتي سيرد تفصيلها في هذا الفصل إن شاء الله . كنت سأقتصر بحثي في تاريخ بني إسرائيل ، لإثبات تحقق وعد المرة الأولى من علو وإفساد وعقاب ، ولكن تبين لي من خلال الأحاديث العامة ، وعند طرحي لموضوع هذا البحث ، أن كثيرا من الناس ، يجهلون تاريخ بني إسرائيل ، وخاصة ماهيّة الأحداث التي حصلت معهم ، وموقعها من حيث الزمان والمكان ، والتي ذُكرت متفرقة في القرآن ، وبلا ترتيب في أغلب الأحيان ، ويجهلون أيضا حتى ترتيب أنبياء بني إسرائيل وتعاقبهم ، لذلك اضطررت لتعقب تاريخهم منذ البداية ، لما فيه من فائدة . إبراهيم عليه السلام حسبما ورد عن أهل الكتاب ، أن إبراهيم عليه السلام ، كان مقيما في بلدة أور في جنوب العراق ، ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24 العنكبوت ) ، ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26 العنكبوت ) ، ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71 الأنبياء ) ومن ثم انتقل إبراهيم ولوط عليهما السلام ، وهو الوحيد الذي آمن له من قومه ، إلى فلسطين . وسكن لوط عليه السلام قرية ( سدوم وعمورة ) حسب تسمية التوراة ، في موضع البحر الميت حاليا ، واستمر إبراهيم عليه السلام على الأرجح ، إلى المدينة المسمّاة باسمه لغاية الآن – وهي الخليل جنوبي القدس - وسكن فيها ، وظاهر النص القرآني ، يفيد بأنهما لم يكونا متزوجين ، ولو كانا متزوجين ، لذُكِرَ أهلهما عند النجاة ، كما اقترن ذِكْر الأهل مع الأنبياء ، في كل من حالات النجاة والهجرة ، التي وردت في القران ، كما في الآية ( وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76 الأنبياء ) ، والآية ( قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا … لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ (32 العنكبوت ) ، والآية ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ (29 القصص ) ليفيد ذلك أنهما هاجرا منفردين وفي مقتبل العمر ، وأن الزواج حصل بعد الإقامة ، وعلى الأرجح ، من نفس الأقوام التي دخلوا عليها وعايشوهاكأفراد ، والله أعلم . قال تعالى على لسان إبراهيم ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لي عَلَى الْكِبَرِ ، إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39 إبراهيم ) ، ومرت سنون طويلة ، وبعد أن تقدم إبراهيم عليه السلام في العمر ، وهبه الله جلّ وعلا إسماعيل أولا من هاجر ، فأسكنه وأمه في مكة ، ومن ثم رُزِقَ بإسحاق في شيخوخته ، من سارة التي أصبحت عجوزا ، ومن ثم وُلِدَ يعقوب لإسحاق عليهما السلام ، قال تعالى ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72 هود ) . مسألة بناء البيت الحرام والمسجد الأقصى : قال تعالى ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96 آل عمران ) . وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : ( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ، قُلْتُ : كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ ، ثُمَّ قَالَ : حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ ، وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ ) رواه البخاري ، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد . جاء في شرح السندي ، لنفس المتن عند ابن ماجة ، ما نصه : " قوله ( وُضِعَ أول ) بالبناء على الضمة ، ( قال أربعون عاما ) قالوا : ليس المراد بناء إبراهيم للمسجد الحرام ، وبناء سليمان للمسجد الأقصى ، فإن بينهما مدة طويلة بلا ريب ، بل المراد بناؤها قبل هذين البناءين ، والله أعلم " . ومن معاني ( الوضع ) ، في لسان العرب " والمواضع معروفة ، وواحدها موضع ، والموضع هو اسم المكان ، وفي الحديث : " ينزل عيسى بن مريم فيَضَعُ الجزية " ، فتوضع الجزية وتسقط ، وفي الحديث : " و يَضَعُ العلم " أي يهدمه ويلصقه بالأرض ، ووَضَعَ الشيء وَضْعَاً أي اختلقه وأوجده ، ووضع الشيء في المكان ، أثبته فيه " . ولم تأتِ ( وُضِعَ ) بأي حال من الأحوال بمعنى ( بُنِيَ ) ، وذلك يفيد بأن الوضع كان للقواعد فقط . وقد رُوي أن آدم عليه السلام ، هو أول من بنى الكعبة ، واتخذت مكاناً لعبادة الله ، ومن ثم تحول الموضع لعبادة الأصنام ، وأزيلت معالم ذلك البناء ، بفعل الطوفان زمن نوح عليه السلام ، واختفت هذه القواعد نتيجة تراكم الأتربة ، على مرّ السنين . وإعراب ( وُضِعَ ) في كلا الموضعين ، هو فعل ماضٍ مبني للمجهول ، أي أن فاعل الوضع غير معلوم في النص ، وجاءت بمعنى تعيين وتحديد مكان البيت ، وهناك روايات بأن الملائكة كشفت لآدم عن موضعه ، عندما بناه لأول مرة . وبلغة مسّاحي الأراضي ، نستطيع القول أن ( وُضع ) ، جاءت بمعنى تحديد وإسقاط إحداثيات الموقع على الأرض ، وتثبيت حدوده . ولا يختلف اثنان ، على أن من أعاد بناء البيت الحرام ، هما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، بدلالة قوله تعالى ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26 الحج ) ، بوّأنا أي كشفنا وأظهرنا له موضعه ومكنّاه منه وأذنا له في بنائه ، ومن ثم كان البناء برفعه فوق القواعد ، في قوله ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ (127 البقرة ) ، والغاية من بناءه هو جعله مكانا للعبادة ، بما تشمله من طواف وقيام وركوع وسجود ، لمن يستجيبوا لرسالة الإسلام ، كما ورد في الآية أعلاه ، التي كان يحملها إسماعيل عليه السلام ، المقيم في ذلك المكان ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54 مريم ) . يعقوب ويوسف عليهما السلام قال تعالى ( وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58 مريم ) ، ويعقوب عليه السلام هو إسرائيل ، والمقصود ببني إسرائيل ، هم نسل يعقوب عليه السلام ، وحسب ما ترويه التوراة ، أنه ترك مقام أبيه إسحاق في فلسطين ، وهاجر إلى خاله في العراق ، ورعى عنده الغنم عدة سنين ، وتزوج اثنتين من بناته ، وعاد إلى فلسطين مرة أخرى ، وقد رُزق عليه السلام باثني عشر ابنا ، وأبرزهم يوسف عليه السلام ، في قوله تعالى ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4 يوسف ) ، وقوله ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا (100 يوسف ) . أي أجلس أبوه وأمه إلى جواره ، احتراما وتقديرا وتوقيرا ، ومن ثم سجد له أخوته الأحد عشر ، دون أبويه ، ففي الأية (4) كانت الرؤيا الأولى ، للأحد عشر كوكبا والشمس والقمر ، ومن ثم كانت الرؤيا الثانية ، لسجود الأحد عشر كوكبا ، دون الشمس والقمر ، وهذا ما تؤكده الأية ( 100 ) ، حيث رُفع الأبوين إلى العرش ، ومن ثم وقع السجود من الأخوة . أما مكان سكنى يعقوب عليه السلام ، ومن قوله تعالى على لسان يوسف ( وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ (100 يوسف ) ، يتبين لنا أنهم كانوا قد سكنوا الصحراء ، وعاشوا حياة البداوة ، ومن المعروف أن مهنة البدو ، هي تربية المواشي ، وتبادل منتجاتها مع أهل الحضر ، ومن قوله على لسان أخوة يوسف أيضا ( وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82 يوسف ) والقرية ، هي مكان تواجد يوسف عليه السلام في مصر ، حيث تركوا الأخ الشقيق ليوسف ، وقولهم هذا وتردّدهم لأكثر من مرة على مصر ، يدل على قربهم منها ، وقولهم ( وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) يدل أنهم ذهبوا إلى مصر ورجعوا في قافلة ، وأفرادها يقطنون معهم أو بالقرب منهم . والأرجح أن تكون هذه الصحراء ، التي كانوا يقيمون فيها قريبة إلى مصر ، وربما تكون صحراء النقب ، جنوب فلسطين ، وفي منطقة بئر السبع بالذات ، حيث سكنى بدو فلسطين ، وهو الأرجح والله أعلم . الانتقال إلى مصر : وبعد أن تبوّأ يوسف عليه السلام في مصر منصبا ، يوازي منصب وزير الخزينة ، أو المالية في عصرنا الحالي ، لدى فرعون مصر ، انتقل يعقوب وبنوه ، للحاق به في مصر ، قال تعالى ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) … (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَني مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ … (101 يوسف ) ، ودخلوها معزّزين مكرّمين آمنين ، وقوله ( آمنين ) يوحي بأن ليس كل من دخل مصر آنذاك ، ليقيم فيه من الغرباء والدخلاء ، سيكون آمنا على نفسه ، من الاضطهاد والاستعباد . بعض مظاهر الحكم المصري : قصة يوسف عليه السلام أشهر من أن تعرّف ، لذلك سنوردها باختصار ، ونركّز على بعض ما خفي منها . حيث كانت مصر آنذاك إحدى كُبريات الممالك القديمة ، بدلالة قوله تعالى ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي … (54 يوسف ) ، وعلى لسان مؤمن آل فرعون ( يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ (29 غافر ) ، ونظام الحكم فيها ملكي وراثي ، وكلمة فرعون ربما تكون اسم أو لقب للملك ، ويقال أن الفراعنة لم يكونوا ملوك مصر ، في زمن يوسف عليه السلام ، فسواء كان هذا أو ذاك ، فنحن نصف الأوضاع في مصر بشكل عام . حيث يبدو أن المجتمع المصري ، كان يتألّف من أربع طبقات :- الطبقة الأولى : العائلة الملكية ، التي هي في مصاف الآلهة من حيث الحقوق والامتيازات . الطبقة الثانية : الأشراف من المصريين ، الموكل إليهم الأعمال التنفيذية ، ويتمتعون بامتيازات استثنائية ، من وزراء وما شابه ، وهم علية القوم وسماهم سبحانه ملأ فرعون ، في قوله ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (88 يونس ) . ومنهم العزيز صاحب يوسف عليه السلام ، وهامان الذي كان يشغل ما يشبه ، منصب رئيس الوزراء في عصرنا هذا ، قال تعالى ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36 غافر ) . وانضوى يوسف عليه السلام ضمن هذه الطبقة ، مع أنه كان من الغرباء ، كونهم كانوا بأمسّ الحاجة لعلمه وحكمته ، لإدارة شؤون البلاد الاقتصادية ، في سنين الجفاف ، ، لا لشيء آخر . بعد أن أصبح عليه السلام من المقربين للملك ، ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54 يوسف ) حيث كان عبدا مملوكا لذلك العزيز ، الذي قال عنه يوسف عليه السلام ، عندما رُووِدَ عن نفسه للوقوع في الزنا ، بزوجة من أكرمه وأحسن مقامه : ( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23 يوسف ) أي لن أظلم نفسي بمعصية الله ، ولن أظلم زوجك بنكران معروفه معي ، إذ قال لها زوجها عند شراءه ( وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا (21 يوسف ) ، ولفظ ربّ في الآية السابقة جاء بمعنى صاحب أو مالك ، ولفظ العزيز هو لقب يُطلق على الأشراف ، ذوي المناصب الرفيعة ، وقد خُوطب به يوسف عليه السلام ، من قِبَل أخوته في الآية (88) . ويبدو أن المجتمع المصري كان منغلقا على نفسه ، ولا يخالط الغرباء من منظور الفوقية والاستعلاء ، ويخاف الغرباء ويخشاهم وبالتالي كان ينبذهم . والطبقة الثالثة : عامة المصريين وهم يعملون بالوظائف العامة والخاصة ، وامتيازاتهم عادية ، وشملت هذه الطبقة نسبيا بني إسرائيل ، في زمن يوسف عليه السلام . والطبقة الرابعة : العبيد عن طريق الشراء وما شابه ، وأغلبهم من غير المصريين ، بلا حقوق وبلا امتيازات ، بل على العكس ليس لهم إلا المهانة والازدراء ، ويعملون بقوتهم اليومي في الزراعة والبناء والخدمة ، ومن ضمنها صاحبيّ السجن ، وشملت بني إسرائيل ، بعد يوسف عليه السلام ، حتى زمن موسى عليه السلام . والمخطئ من هؤلاء العبيد في حق المصريين ، كان مصيره السجن أو العذاب الشديد أو القتل ، وبدون محاكمة على الأرجح ، وخاصة إذا كان خصمه مصريا ، حتى ولو أُتهم زورا وبهتانا . وأما الموقع الجغرافي لعاصمة الملك ، وبدلالة هذه الآيات ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51 الزخرف ) ، ( وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ (24)كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27 الدخان ) ، فهو يقع على مجرى نهر النيل ، في أخصب الأراضي المصرية ، أما سكنى فرعون وآله ( أي عائلته ) كانت خارج المدينة ، بمعزل عن الشعب ، وقصره مقام على ضفاف النيل . هل كان يوسف داعية إلى الله في مصر ؟ نقول نعم ، وقد بدأ الدعوة في السجن ، عندما قال لصاحبيّ السجن ( يَصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ، مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ، إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40 يوسف ) ، واستمرت دعوته حتى مماته ، قال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ ، فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ، كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34 غافر ) وهو يعني أهل مصر ، وكان يوسف عليه السلام ، يدعوا إلى الله تعالى بالقسط ، فما أطاعوه تلك الطاعة ، إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي ، ولهذا قال مؤمن آل فرعون : ( فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك ، قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ) ، وطال الأمد بقوم فرعون وببني إسرائيل ، فضلّوا إلا قليلا ، وكان منهم مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه ، وعلى لسانه جاءت هذه الآية ، ومنهم أيضا أهل موسى عليه السلام . أحوال بني إسرائيل في مصر بعد وفاة يوسف عليه السلام وحتى خروجهم منها : بعد زوال سندهم لدى فرعون ، أصبح حالهم حال العبيد . وربما يكون ذلك في زمن فرعون نفسه ، أو من مَلَك بعده ، بعد وفاة يوسف عليه السلام ، لزوال المصلحة والنفع الذي تأتّى من علم يوسف ، وحكمته في الإدارة والاقتصاد . واستمر حالهم كذلك حتى خروجهم مع موسى عليه السلام ، وحسب ما يُروى أن المدة ، ما بين دخولهم إلى مصر ، وخروجهم منها هي أربعمائة سنة ، والله أعلم ، وحالهم في تلك الفترة الزمنية ، يصفه القرآن بما يلي : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4 القصص ) ، ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49 البقرة ) ، ( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30 الدخان ) ، وازداد العذاب والاضطهاد لهم ، ببعث موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه . موسى عليه السلام والحكمة الإلهية التي أرادها الله من بعث موسى عليه السلام ، هي ما ابتدر به رب العزة سورة القصص ، بقوله ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ علَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ، وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ ، مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6 القصص ) والقصة بتمامها ، مفصلة في سورة القصص وسورة طه ، وقصة موسى معروفة ومألوفة لدينا ، حيث وُلد عليه السلام ، وألقته أمه في النيل ، خوفا من ذبحه ، فالتقطه آل فرعون ، واعتنوا به . حتى إذا بلغ أشدّه ، قتل مصريا ، فأتمر به ملأ فرعون ، فغادر مصر متجها إلى مدين ، ولم يكن قد لقي بلاء قبل ذلك ، فقد كان ربيبا منعمّا في آل فرعون ، ولم يكن عليه السلام ، قد أُوحيَ إليه بعد ، وإنما كان مسلما ، على دين آبائه إبراهيم إسحاق ويعقوب عليهم السلام . الموقع الجغرافي لمَدْيَن : قيل فيها في المعاجم : أنها تقع " قرب بحر القلزم ( البحر الأحمر ) محاذية لتبوك ، وتقع بين وادي القرى والشام ، وقيل اتجاه تبوك بين المدينة والشام ، وقيل هي كفر سندة من أعمال طبرية ، وقيل بلد بالشام معلوم تلقاء غزة ، وفي ( البداية والنهاية ) : " كان أهل مدين قوما عربا ، ومدين هي قرية من أرض معان ، من أطراف الشام ، مما يلي ناحية الحجاز ، قريبا من بحيرة قوم لوط ، وكانوا بعد قوم لوط بمدة قريبة " . والقول الأخير هو أفضل ما قيل فيها ، وهو الأرجح فهي تقع شرقيّ نهر الأردن ، في السفح المطل على فلسطين ، قبالة أريحا ، حيث المكان المسمى بوادي شعيب حاليا ، والذي يقع فيه مقام النبي شعيب عليه السلام ، في جبال محافظة البلقاء الأردنية ، وهي أرض خصبة تصلح لزراعة القثائيّات ، وفيها الأشجار المثمرة ، وعيون الماء ، ويؤيد ما ذهبنا إليه قوله تعالى ، على لسان شعيب مخاطبا قومه ( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89 هود ) ، والمقصود هنا البعد المكاني ، حيث المسافة بين قرية شعيب والبحر الميت ( بحيرة لوط ) ، لا تتجاوز (20) كم ، أما البعد الزماني بين لوط وشعيب ، فيُقدّر بمئات السنين ، حيث أن لوط عاصر إبراهيم ، وشعيب عاصر موسى عليهم السلام . وكما ورد في الروايات ، كان أهل مدين ، يقطعون السبيل ويخيفون المارة ، وهم أصحاب الأيكة أي الأشجار الملتفة والمتشابكة - وهي صفة موجودة أيضا في تلك المنطقة - وكانوا من أسوء الناس معاملة ، يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيهما ، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص ، فآمن بشعيب بعضهم وكفر أكثرهم ، ( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189 الشعراء ) ( فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91 الأعراف ) ، ولم تدمر ديارهم بل بقيت على حالها ، ويقال أن ذلك كان في يوم شديد الحر ، فبعث الله ظللا من الغمام ، في بقعة قريبة من مكان سكناهم ، فذهبوا ليستظلوا بها ، فنزل بهم العذاب ، وبقي في القرية من آمن لشعيب عليه السلام من قومه وهم قلة . مقام موسى في مدين : ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ … ) ، خرج موسى من مصر وحيدا ، ( قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22 القصص ) ، ولم يكن يملك من أمره ، إلا حسن ظنّه بربه عز وجل ، حتى صار إلى مدين . فلبث موسى عليه السلام ( 8-10 ) سنين في أهلها ، لقوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ … (27 القصص ) وتزوج فيها ورعى الغنم ، وتعرف إلى أهلها وعرفوه ، وعرف سهولها وجبالها ووديانها ، ( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ … ) . العودة إلى مصر : وبعد أن قضى المدة المطلوبة منه ، ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ (29 القصص ) غادرها مع أهله وما تحصّل عليه من أغنام ، تسيّره أقدار ربه . وكان خط مسيره ، والله أعلم ، باتجاه الجنوب ، شرقي البحر الميت باتجاه مصر ، حيث انحدر بأهله إلى وادي عربة ، جنوب البحر الميت ، فضلّ الطريق ، وهناك أتاه هاتف السماء ، لذلك قال تعالى ( … ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَمُوسَى (40 طه ) ، إلى موضع الوحي ، في الوقت المقدّر . فأوكله الله بحمل الرسالة إلى فرعون ، وأمره بالتوجه إلى مصر ، ومن هناك سار – بخط شبه مستقيم - مجتازا صحراء النقب جنوب فلسطين ، وصحراء سيناء باتجاه بوابة مصر البرية من الشرق ، ومن ثم سار جنوبا باتجاه القاهرة ، حيث إقامة فرعون وقومه . تحديد الموقع الجغرافي ، للمكان الذي أوحي فيه ، إلى موسى عليه السلام : نزل الوحي إلى موسى مرتين ؛ الوحي الأول : هو الذي كُلف به موسى بحمل الرسالة ، وما بعث به إلى فرعون وبني إسرائيل ، أثناء عودته إلى مصر ، بعد خروجه من مدين ، والوحي الثاني : هو الشريعة الجديدة التي كُتبت في الألواح لبني إسرائيل ، بعد خروجهم من مصر ، في الطريق إلى الأرض المقدسة ، ويعتقد الكثيرون أن الوحي نزل على موسى ، على جبل سيناء الواقع في صحراء سيناء المصرية ، وهذا غير صحيح ، حيث لم يوجد أي نص في القرآن يفيد ذلك . والواقع أن هذه تسمية الصحراء المصرية بصحراء سيناء ، استندت إلى ما جاء في التوراة ، مع أن التوراة لم تُحدّد موقع الصحراء أو الجبل . وتذكر التوراة في سفر الخروج ، أن بني إسرائيل مروا على التوالي ، بثلاثة صحارى ، هي الواردة في النص التالي بالترتيب : " 15: 22: ثم ارتحل موسى بإسرائيل من البحر الأحمر ، وتوجّهوا نحو صحراء شور ، 27: ثم بلغوا إيليم … 16: 1: ثمّ انتقلوا من إيليم حتى أقبلوا على صحراء سين ، الواقعة بين إيليم وسيناء " . وجاء في نص آخر : " 17: 1: وتنقل بنوا إسرائيل على مراحل ، من صحراء سين … إلى أن خيّموا في رفيديم …19: 2: فقد ارتحل الإسرائيليون من رفيديم إلى أن جاءوا إلى برية سيناء ، فنزلوا مقابل الجبل فصعد موسى للمثول أمام الله ، فناداه الرب من الجبل … 20 : ونزل الرب على قمة جبل سيناء … " وهذه النصوص تُشير إلى أن جبل سيناء ، هو اسم الجبل الذي أُوحي بجانبه إلى موسى ، وأن برية سيناء هي تسمية ، للمكان الواقع مقابل جبل سيناء . وأن برية سيناء هي الأبعد عن مصر ، كونها كانت آخر الصحارى التي مرّوا بها ، أثناء مسيرهم ، باتجاه بوابة الأرض المقدّسة شرقي نهر الأردن ، والترجمات العربية للتوراة ، لا تُميّز بين القفر ، أي الخلاء غير المأهول بالسكّان ، وبين الصحارى الرملية القاحلة . وجاء في التوراة " 16: 35: واقتات الإسرائيليون بالمنّ طوال أربعين سنة ، حتى جاءوا إلى تخوم أرض كنعان العامرة بالسكان " . وهذا النص الكاذب والمضلّل ، يقول أن المنّ والسلوى كانت تنزّل عليهم طيلة أربعين سنة ، قبل وصولهم إلى مشارف فلسطين ، أي قبل أن يُطلب منهم الدخول إلى الأرض المقدسة ، وقبل أن يحكم عليهم بسنوات التحريم والتيه الأربعين . والصحيح أن المنّ والسلوى كانت تنزّل عليهم خلال مسيرهم في الصحراء ، وهي مدة قصيرة ، أما سنوات التحريم والتيه الأربعين – سنوات الغضب الإلهي - فلم يكن يتنزّل عليهم شيء . وتسمية الصحراء المصرية بسيناء ، وذكر التوراة أن بني إسرائيل عاشوا فيها أربعين سنة يأكلون المن والسلوى . ضلّلت حتى اليهود أنفسهم ، الذين بحثوا ونقبوا فيها طويلا ، عن أي أثر لمقامهم فيها ، ولكن دون جدوى ، مما اضطر بعض الباحثين اليهود مؤخرا ، إلى تكذيب معظم روايات التوراة ، ونشر الكثير من آرائهم ونتائج أبحاثهم في الصحف . أما كلمة الطور فقد وردت في القرآن (10) مرات ، (8) منها بلفظ ( الطور ) معرّفة بأل التعريف ، بمعنى الجبل ، وواحدة بلفظ ( طور سيناء ) ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20 المؤمنون ) ، وواحدة بلفظ ( طور سينين ) بنفس المعنى السابق ، ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2 التين ) . وسيناء وسنين لغة ، إذا لم تمنع من الصرف ، أي لحقها التنوين جرّاً ونصباً ، فإنها تعني كثرة الشجر ، وإذا مُنعت من الصرف ، كما هو الحال هنا فهي اسم ، والكلمات ( طور وسيناء وسينين ) ألفاظ أعجمية ، ومما تقدم نستطيع القول بأن ( طور سيناء ) اسم لجبل معروف لبني إسرائيل ، بمعنى ( جبل الغابة ) ، وهو في الحقيقة ، اسم الجبل الذي أوحيَ بجانبه إلى موسى ، حسب تسمية التوراة له ، وقد عُرّف هذا الجبل من خلال القرآن ، بأنه يُنبت التين والزيتون . والمقصود بكلمة ( الطور ) المعرّفة بألف ولام ، أينما جاءت في القرآن ، هو طور سيناء أو سينين ، والطور هو سلسلة جبال فلسطين ، التي تربض على تلالها مدينة القدس ، والتي هي في الأصل جبل واحد ، يمتد من مدينة نابلس شمالا إلى مدينة الخليل جنوبا . قال تعالى ( فَلَمَّا قَضَى موسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ، آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا ، قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ، إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ، أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29 القصص ) قلنا أن موسى عليه السلام ، كان قد ضلّ طريقه بعد خروجه من مدين باتجاه مصر ، ، لقوله عليه السلام ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ) فوجد نفسه في أحد الأودية . ودخوله إلى الوادي كان عن طريق انحداره ، بواد فرعي جنوب البحر الميت ، وكان ذلك ليلا ، وفي طقس بارد جدا . وأثناء التخييم هناك ، كان يلتفت يمنة ويسرة ، بحثا عن الدفء والهداية ، فآنس نارا من جانب الجبل ، فاتجه إليها بعد أن استأذن أهله ، ليأتيهم بجذوة منها لأجل الدفء ، أو يجد من يرشده إلى طريقه ، ولكنه لم يجد نارا ، ولم يجد في المكان أحد . نور لا نار : ( فَلَمَّا أَتَاهَا … ) ، أي النار ، وقف تحتها ( فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ (30 القصص ) وفي الواقع لم تكن نارا ، بل كانت نور في شجرة ، وهي الشجرة الموصوفة في قوله سبحانه ( شَجَرَةٍ ، مُبَارَكَةٍ ، زَيْتُونِةٍ ، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ، وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ (35 النور ) ، وهي ( شجرة ) ، ( وزيتونة ) ، ( ومباركة ) ، أي تقع في بقعة من الأرض ، ينبت فيها شجر الزيتون ، وهي أرض مباركة ، وقوله ( لا شرقية ولا غربية ) ، أي لا في الجانب الشرقي من وادي عربة ، ولا في الجانب الغربي منه ، فهي في منتصف الوادي تقريبا ، وقوله ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) ، أي لها وهج من نور ، وليس ذلك من اشتعال نار فيها ، فهي مضيئة من تلقاء نفسها ، وقوله ( يكاد زيتها يضيء ) ، أي أن الإضاءة ناتجة عن زيت الشجرة ، فلا يكون ذلك إلا وهي مثمرة ، فالزيت يوجد في الثمر ، وتشكل الزيت في الثمر ، لا يكون إلا في بداية فصل الشتاء ، ويؤيد ذلك طلب موسى عليه السلام للدفء ، ليتأكد لنا أن دخوله إلى بطن وادي عربة ، كان في فصل الشتاء ، وأن الشجرة التي نوديَ من تحتها في الوادي المقدس ، هي نفس الشجرة الموصوفة في سورة النور ، ولا أدري لماذا يتملكني شعور قوي ، بأن هذه الشجرة قائمة في ذلك المكان إلى اليوم ، في منطقة موحشة ومقفرة وغير مأهولة ، تضيء كلما أثمرت ، في فصل الشتاء . ( فَلَمَّا أَتَاهَا ) وقف حائرا أمامها ، يتفكّر في أمرها ، حيث أنه لم يجد ما جاء يسعى إليه ، فلا نار ولا ناس يُشعلونها ، وأثناء شروده ، وفي سكون الليل ، ( نُودِي يَمُوسَى (11 طه ) ( مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ (30 القصص ) ، أي من الجانب الأيمن من الوادي ، ( مِنْ جَانبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ (52 مريم ) ، أي من الجانب الأيمن للجبل ، وليس الأيسر ، ( بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ (44 القصص ) ، أي الجبل الغربيّ ، وهذا تحديد جغرافي بالغ الدقة لمكان الوحي . أتاه النداء باسمه ممن يعرفه ، وذلك مما آنس موسى ، ليبدّد سكون ذلك الليل الموحش ، ويقطع عليه شروده وتأمله ، ولا أخاله إلا قد أجفل عليه السلام ، ولما التفت إلى مصدر النداء ، خاطبه رب العزة قائلا ( إِنِّي أَنا رَبُّكَ ) مطمئنا إياه ومعرّفا بنفسه ، ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (12طه ) فأمره بخلع نعليه – إذ هو في حضرة ملك الملوك – ليتجه حافي القدمين ، سائرا في الجانب المقدس من الوادي ، صوب الجبل ، قال تعالى ( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا(52 مريم ) أي كان الكلام مناجاة ، والمناجاة عادة تستدعي القرب . نحن نعلم أن الأرض المباركة والمقدّسة هي أرض فلسطين ، وبما أن الوادي الذي نزل فيه موسى واد مقدّس ، فلا بد له من يكون واقعا في الأرض المقدّسة ، وبما أن الشجرة نبتت في بقعة مباركة ، فلا بد لها من أن تكون قائمة في الأرض المباركة ، وبما أن شجرة سورة النور زيتونة مباركة ومضيئة ، فلابد لها من أن تكون هي الشجرة ، التي رآها موسى فظن نورها نارا ، في بطن وادي عربة ، والله أعلم . وعندما اقترب موسى ، بما فيه الكفاية لبدء المناجاة ، ناجاه ربه قائلا ( وَأَنا اخْتَرْتُكَ ، فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ، وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14 طه ) فأمره بتوحيده ، وإفراده بالعبادة ، وإقامة الصلاة ، ومن ثم منحه آيتيّ العصا واليد وكلّفه بحمل الرسالة ، والذهاب لدعوة فرعون ودعوة بني إسرائيل إلى الله ، ( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24 طه) . وفي الصباح عاين موسى عليه السلام المكان ، وحفظه عن ظهر قلب ، فهو المكان الذي تغيّر فيه مجرى حياته عليه السلام ، ولم كان يعلم عليه السلام ، ما يدبّره رب العزة من أقدار ، ستأتي به إلى هذا المكان في قادم الأيام ، عند خروجه بقومه من مصر ، متجها إلى بوابة الأرض المقدسة ، حيث كان في أرض مدين . موسى في مصر : كنت أعتقد وربما يشاركني كثيرون أيضا ، أن مُقام موسى في مصر ، لا يتجاوز عدة أيام أو عدة أشهر على أبعد تقدير ، ولكن تبين لي أني كنت مخطئا ، فالأحداث والوقائع التي مرت مع موسى عليه السلام كثيرة ، وتحتاج إلى سنوات عديدة ، وأظنه مكث هناك ما لا يقل عن30 عاما ، يدعوا فرعون وقومه وبني إسرائيل أيضا ، ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (87 يونس ) فلو تفكرت في الآية الكريمة ، لتبينت أن طلبه سبحانه ببناء البيوت ، وجعلها باتجاه بيت المقدس ، وأَمْرِه إياهم بإقامة الصلاة فيها ، ما كان إلا لطول مُقام ، ولو كان مُقامهم قصيرا أو عارضا ، لما أمرهم بذلك . والجدل بين موسى عليه السلام وفرعون ، أخذ زمنا طويلا ، بدءا باللقاء الأول الذي عرض فيه موسى رسالته ، وما أيّدها به من آيات – العصا واليد – ولقاء يوم الزينة حيث التقى موسى بالسحرة ، وبناء الصرح ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38 القصص ) . بناء الأهرامات : الصرح هو البناء الضخم والمرتفع ، وأعتقد أن الأهرامات الثلاثة ، هي ما أُمر هامان ببنائها ، من قبل فرعون ، لينظر إلى إله موسى . وفيما بعد اتُّخذت تلك الصروح ، مقابر ومدافن . إذ لو فُحِصت مادة بناء الأهرامات ، لتبين أنها من الطين المشوي ، لدلالة قوله تعالى ( فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطِّينِ ) ، إذ يخبر سبحانه – وما إعلامه لنا بذلك عبثا - بأنهم كانوا يستخدمون الطين في البناء ، وليس الحجارة كما يعتقد علماء الآثار ، الذين حاولوا جاهدين لتفسير الآلية المعقدة والمستحيلة ، في رفع تلك الصخور ذات القطع الكبير ، إلى قمة الهرم حيث لم يكن لديهم رافعات عملاقة . وهذا الخبر يكشف حقيقة ، ربما لم تخطر ببال علماء الآثار من قبل ، ويجعل كيفية البناء غاية السهولة ، حيث كان عبيد فرعون ومنهم بني إسرائيل ، ينقلون الطين – وليس الصخور والحجارة - ويضعوه في قوالب مثبتة على الهرم نفسه ، وكل لبنة في موقعها ، وينتظرون اللَبِن حتى يتماسك ، لينزعوا القوالب ، وكلما أنجزوا مرحلة ، قاموا بتثبيت القوالب مرة أخرى ، على ما تمّ إنجازه ، وبدءوا بنقل الطين ليفرغوه فيها ، وهكذا دواليك ، حتى يكتمل بناء الهرم . ومن الداخل ستجد أن قلب الهرم مفرغ ، وستجد أن هناك سراديب طويلة غير نافذة ، تتوزّع بكافة الاتجاهات ، والغاية منها توزيع الحرارة ، عند إشعال النار في قلب الهرم لشيّ الطين الجاف ، وهي عملية تحتاج إلى وقت طويل نظريا ، ولكن مع كثرة العبيد فالأمر مختلف ، والآلية بسيطة وليست معقدّة ، ولا توحي بأن الفراعنة كانوا جبابرة وأشداء ، فبناة الأهرام هم العبيد وليس الفراعنة أنفسهم ، وربما يكون شيّ الطين قد تم على مراحل ، وليس دفعة واحدة . وهذه الفكرة مطروحة للمختصّين لنفيها أو إثباتها ، وبذلك تكون الأهرامات ، رمزا من رموز الكفر والعصيان والتمرد والتحدي الفرعوني لله ورسوله ، ويكون أبو الهول هو إله المصريين القدماء ، قبل أن يُعلن فرعون ربوبيته ، تحديا لموسى عليه السلام وربه . وبالإضافة إلى تلك الأحداث ، التي وقعت أثناء تواجد موسى في مصر ، ما وقع في قوم فرعون من البلاء الذي أنزله الله ، وكلما كشف عنهم بلاء أرسل عليهم آخر ، ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133 الأعراف ) . وستجد ما مرّ بقوم فرعون من وقائع ، أثناء تواجد موسى في مصر ، قد سُردت بإيجاز في الآيات (103 – 136) من سورة الأعراف ، والآيات (85 – 90) من سورة النمل ، ومواضع أخرى متفرقة في القرآن الكريم . وفي نهاية المطاف ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88 يونس ) أي الغرق ، فاستجيبت دعوة موسى ، وهذا بالضبط ما حصل مع فرعون ( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ (90 يونس ) ولو تمعنت في قوله ، لتبينت أنه لم يؤمن ، لقوله ( الذي آمنت به بنو إسرائيل ) ، وأغلبية بني إسرائيل لم تكن تؤمن بالله ، ولم يقل الله أو إله موسى تكبرا وعلوا . فمن أصرّ على المعصية وانتهاك حدود الله بكافة أشكالها ، والكفر بكافة أشكاله ، وعن علم بها وبعقوبتها ، ومنّى النفس بقول ( لا إله إلا الله ) عند الموت معلنا التوبة ، أنّه لن يوفق بقولها آنذاك ، لأن قولها يُوجب الجنة ، وهي لم تكتب لهؤلاء . ووجوب الجنة يحتاج لدفع الثمن ، وتوفير الثمن اللازم لها ، يحتاج إلى جدّ واجتهاد وصبر لا محدود ، وأن من كانت تلك الكلمة آخر عهده بالدنيا ، كُتبت له الجنة ، وما أصعب تذكّرها وقولها ، أما هؤلاء فإن تذكّروها ، تلعثموا بها فلم تؤد معناها ، فلا توبة مع إصرار ، قال تعالى ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، ذَكَرُوا اللَّهَ ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135 آل عمران ) ، وقال أيضا ( وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ ، لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ، حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ ، قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ، أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18 النساء ) . ومعظم مسلمي هذا العصر ، إلا ما رحم ربي ، وهم قلة يُعدّون على أصابع اليد الواحدة ، في بعض البلدان المسماة بالإسلامية ، سلكوا هذا المنهج الذي حذّر منه رب العزة ، ( جماعة كل شيء بحسابه ) ، والأغلبية هم غثاء كغثاء السيل ، فلا فائدة فيهم أو تُرتجى منهم ، فإن لم يكفر أحدهم بالله أشرك في عبادته ، ومن لم يستجب ويطع ، تولى وعصى . والأوثان كثيرة هذه الأيام ، واتّخذت أشكالاً عديدة . صحيح أنها ليست من الحجر أو التمر ، ولكنها أدهى وأمرّ ، فنحن حاشى لله أن نعبد الحجارة ، وكل ما نقدّسه فقط ، كرسي ورصيد في البنك وعمارة ، وتلفزيون وستالايت وخلوي ، وشقراء أو سمراء في سيّارة . وناهيك عن المعاصي من أكل ربا ، وسرقة وخيانة وتبرج وزنا ، وقطع رحم ، وأكل لحم ، وشرب خمر ودم ، وشتم وسب وذم . خروج موسى ببني إسرائيل من مصر : قال تعالى ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بعِبَادِي ، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ، لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77 طه ) ، نتبين من ذلك أن خروج موسى بقومه إلى البحر ، كان بوحي من ربه ، وإن لم يخب ظني فقد اتجه صوب البحر الأحمر مباشرة ، أقصى الشمال من خليج السويس ، وبعد أن خرج بقومه من البحر ، اتجه شرقا وشمالا بخط شبه مستقيم ، متجاوزا صحراء سيناء وصحراء النقب ، حيث المدخل الجنوبي لوادي عربة ، وسار شمالا في بطن الوادي ، حتى الجبل المعهود جنوب البحر الميت ، ليستقبل الوحي بناءا على الموعد المسبق ، الذي ضرب بينه وبين ربه ، بعد النجاة من فرعون وقومه ، قال تعالى ( يَبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ (80 طه ) ، وهذه الآية تدل على عدم مكوثهم لفترة طويلة ، في أي من صحراء سيناء أو النقب ، وأن وجهتهم كانت حيث المكان الموعود ، وكان موسى يستعجل المسير وهم يبطئون ، وبعد تلقيه الوحي ، وما كان منهم معاصي في بطن الوادي ، صعد بقومه إلى المرتفعات الشرقية ، ودخل الأردن عن طريق الوادي الذي نزل به في المرة السابقة ، ملتفا حول مملكة الآدوميين ومملكة الموآبيين شرقي البحر الميت ، ليصل إلى مكان إقامته السابق ، حيث كان سفيرا لبني إسرائيل – ولم يكن يعلم بذلك آنذاك - في مدين قرية شعيب عليه السلام ، ليُمَهّد لهم طيب الإقامة فيها مستقبلا . ترتيب الأحداث التي مرت بموسى وبني إسرائيل خلال تلك الرحلة الطويلة الصاعقة والبعث بعد الموت : رحلته مع بني إسرائيل ، في طريق العودة إلى مدين ، اختلفت كثيرا عن سابقتها ، فقد كانت ترافقه في هذه الرحلة أمّة بأسرها ، بما لها وما عليها ، وأكثرها من غير المؤمنين ، وغير المطيعين لله تعالى وله عليه السلام ، فكان المسير فيها بطيئا وشاقا وطويلا ، قال تعالى ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ (83 يونس ) ، وقال أيضا ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى ، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ، حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ ، وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56 البقرة ) ، وكان قولهم هذا فور نجاتهم وخروجهم من البحر ، بعدما رأوا كل ما أجراه الله ، على يد موسى من معجزات ، تلين لها قلوب الجبال وعقولها ، فأماتهم الله ثم أحياهم ، ولو نظرت إلى قولهم في الآية السابقة ، واستخدام أداة الجزم والتأبيد ( لن ) ، تجد أن لديهم إصرار عجيب على الكفر ، بما هو غيبيّ ومحجوب عن حواسّهم ، رغم مشاهدتهم للآيات والآثار الدالة على وجوده ، وأنهم لا يؤمنون إلا بما تدركه الحواس من أشياء مادية ، وهذا ما جعلهم يقعون في فتنة العجل الذهبي بعد هذه الحادثة ، وفي فتنة الدجال مستقبلا ، بما لديه من فتن مادية ظاهرة للعيان ، ( فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ، ثُمَّ ، اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ ، فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153 النساء ) ، وقد وقع هذا منهم ، قبل اتخاذهم للعجل . تفجير الماء ونزول المنّ والسلوى والتظليل بالسحاب أثناء المسير : وبناءً على ما سبق ، كان خط مسير الرحلة في معظمه في صحاري قاحلة ، وكل ما كان بحوزتهم من طعام وماء أثناء الخروج ، كانوا قد استنفدوه في أيامهم الأولى ، قال تعالى ( وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ، وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ ، وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ، وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160الأعراف ) ، ومن هذه الآية الكريمة ، نجد أنهم قُسّموا إلى (12) جماعة ، لتيسير عمليّه القيادة ، ومنّ عليهم ربهم ، سبحانه عما يصفون ، بأن وفّر لهم كل أسباب الراحة ، من ماء وغذاء ، وحتى أنه وقاهم من حر الشمس ، بأن جعل السحاب يظللهم ، أينما حلوا وأينما ارتحلوا ، أثناء مسيرهم باتجاه الأرض المُقدّسة ، وفي تلك الأثناء مرّوا على عبدة الأصنام ، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم ألهة كما لهؤلاء ألهة ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ ، فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ ، قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ، قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138 الأعراف ) . ولا يغب عن بالنا ، أن رحلة كهذه ، كانت تستوجب ما بين فترة وأخرى ، التخييم والإقامة لبعض الوقت ، ومن ثم متابعة المسير ، وهكذا دواليك ، ولم تتعدى مدد الإقامة في أي من مراحل المسير ، سوى أيام أو أسابيع معدودة ، فهم لم يركنوا إلى مكان معين ، إذ كان هناك مواعدة للقاء في جانب الطور الأيمن ، في وادي عربة ، وكانت هذه المواعدة جماعية لموسى ولبني إسرائيل ، ولكنّ موسى عليه السلام ، وبعد أن قطع شوطا كبيرا في وادي عربة ، استعجل اللقاء ، وعندما اقترب من المكان المحدد ، استخلف أخيه هارون في قومه ، وتركهم ومضى مسرعا رغبةً منه في إرضاء ربه ، واعتذارا عن التأخير الذي تسبّب به قومه ، من جرّاء مماطلتهم وتذّمرهم . اللقاء الأول لموسى بربه بعد الخروج من مصر ، واتخاذ العجل في بطن وادي عربة : قال تعالى ( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَمُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) وهناك كان موسى عليه السلام ، مشتاقا ومندفعا فطلب رؤية ربه ، وكأنه نسي ما كان من قومه ، فطلب من ربه ما طلبه قومه منه ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ، قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ، قَالَ لَنْ تَرَانِي ، وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ، فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ، وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143 الأعراف ) فصُعق موسى كما صُعق قومه من قبل ، وبعدما أفاق ، أُعطيت له الألواح ، التي تحمل في ثناياها الشريعة الجديدة لبني إسرائيل ، ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145 الأعراف ) . ومن ثم ، أخبره ربه بأن قومه فُتنوا من بعده ، بعبادتهم للعجل الذهبي الذي ابتدعه السامري ، ( قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ (85 طه ) ، وكانت عقوبة الشرك بالله غاية في القسوة ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ، يَقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ ، فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54 البقرة ) ، وتوحي هذه الآية بأن الأمر كان مُلزما ، وقبول التوبة كان مشروطا بقتل النفس ، فمن رغب في التوبة آنذاك ممن عبدوا العجل ، قتل نفسه حقيقة وقُبلت توبته ، ومن لم يقتل نفسه ، قال فيهم سبحانه ، ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152 الأعراف ) . وبالنظر في قوله تعالى ، على لسان موسى مخاطبا السامريّ ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97 طه ) ، نجد أن العجل الذهبي ، قد حُرّق ورُمي في البحر ، وأقرب بحر لمقام بني إسرائيل في وادي عربة ، هو البحر الميت . اللقاء الثاني والرجفة ونتق الجبل : وبناءً على ما كان منهم ، اختار موسى (70) رجلا من أفضلهم ، للاعتذار عما فعله السفهاء من قومه ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ ، قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ، أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ، أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155 الأعراف ) فشهدوا الوحي بمعية موسى عليه السلام دون سماعه ، وشعروا بوجود خالقهم وقدرته ، ومقدار حنقه وغضبه عليهم ، بأن زلزل الأرض من تحت أرجلهم . أخذ الميثاق ، وإلزام النقباء الاثنيّ عشر بالسهر على تطبيقه ، والحكم بما جاء فيه : وهناك عُرض عليهم الميثاق ليلتزموا به ، ويلزموا أتباعهم على القيام به ، ويتحملوا مسؤولية نقضه ، فتردّدوا وأبَوْا ، فرفع سبحانه فوقهم الجبل ، وأجبرهم على أخذه بالقوة ، ولو أصرّوا على الرفض لأطبقه عليهم ، فقبلوه على مضض ، وكان الله أعلم بما يعتمل في صدورهم ، ولكنه غفور رحيم ، حيث قال فيهم ، ( وَإِذْ أَخَذْنَا ميثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ، قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ، قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (93 البقرة ) . فاختير من السبعين رجلا (12) نقيبا ، بعدد الأسباط ( أي قبائل بني إسرائيل ) وهم الذين تُسميهم التوراة بالقضاة . وهذا نص الميثاق الذي أُلزموا بالعمل على تطبيقه ، بالإضافة إلى الوصايا الواردة في سورة الأنعام ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ، لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ ، وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ، وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ ، فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12 المائدة ) . رفض المن والسلوى وطلب القثائيات ، والحكم عليهم بالنزول في موطن زراعتها : كانت مدة المكث بادئ الأمر في الصحراء بسيطة ، وذلك لتذمّرهم وعدم صبرهم على طعام واحد ، أي المنّ والسلوى ، فحكم عليهم سبحانه بإكمال المسير ، المقدّر مسبقا ، بقوله على لسان موسى ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا ، فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ (61 البقرة ) ، وحيث أنه قال ( مِصْراً ) منونةً ، ولم يقل ( مِصْرَ ) بدون تنوين ، فهي غير مصر التي خرجوا منها ، وإنما جاءت هنا بمعنى ( بلداً ) نكرة وغير معرّفة ، وقوله ( فإنّ لكم ما سألتم ) تعني أن هذا البلد يتميّز ، بأن فيه ما سأله بني إسرائيل من نبيهم ، من عدس وبصل وغيره ، ولو تساءلنا عن موقع هذا البلد ، القريب من الأرض المقدسة ، الذي يتميز بخصوبة أراضيه ، ووفرة مياهه من ينابيع وآبار ، ويصلح لزراعة القثّائيات ، بالتأكيد ستكون الإجابة الأرض الواقعة ، شرق نهر الأردن ، وفي السفوح الغربية للجبال المطلة على فلسطين ، وبالتحديد قرية مدين التي يعرفها موسى ، ويعرف ميّزاتها وخصائصها ، والله أعلم ، والتي كان أهلها قد هلكوا بعذاب يوم الظلّة ، قبل أو بعد خروج موسى منها ، ليرثها بنوا إسرائيل مع القلة المؤمنة ، من قوم شعيب التي نجت من العذاب . دخول مدين والمُقام فيها : قال تعالى ( وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58 البقرة ) ، وقال في آية أخرى ( وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162 الأعراف ) ، ولم يكن المقصود بهذه القرية ، الأرض المقدسة ، كونهم دخلوها حربا ، بعد موسى عليه السلام بأربعين عاما على الأقل ، وهذه القرية سُكنت حقيقة ، بدخولها بلا قتال بمعية موسى عليه السلام ، وقد بدّل الذين ظلموا منهم –أي العُصاة – القول والهيئة عند الدخول ، فأرسل عليهم سبحانه رجزا من السماء . وقوله قبل الدخول ( وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ ) و قوله لهم في النص الآخر ( فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ) يوحي بأنها سكنى مؤقتة ، ولم يكن لديهم علم ، بأنه سيكون هناك ما بعدها ، وهو الاستعداد والتهيئة لدخول الأرض المقدسة ، فأفشلوا أنفسهم في الدخول الأول لتلك القرية ، فاستحقوا غضب الله عليهم ، وأفشلوا أنفسهم عندما أُمروا بالدخول الثاني بلا حرب ، فأفشلهم الله وأذهب ريحهم . وقد قيلت هذه العبارة ، لآدم عليه السلام وزوجه ( وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا (35 البقرة ) ، قبل دخوله الجنة ، ولم يكن لديهما علم بأن الإقامة فيها مؤقتة ، وأن هناك ما بعدها ، وسيحاطون به علما عند وقوعه ، وفي موعده المقدر المضمر في علم الله ، ولكن بعد فوات الأوان . وإن لم تكن مدين ، هي القرية التي دخلها بنوا إسرائيل وأقاموا فيها ، فهي قرية تقع في نفس المنطقة ، والله أعلم . الخسف بقارون ، ورحلة موسى والفتى ، وذبح البقرة : أقام بنو إسرائيل في مدين بمعية موسى - على ما يبدو - سنين عديدة ، واطمأنوا بها وإليها ، وطاب لهم المقام فيها ، حيث الزراعة وتربية المواشي والتجارة ، وهذا هو ديدنهم ، ومن الأحداث التي وقعت فيها ، قصة البقرة ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ (67 البقرة ) ، وقصة سفر موسى حيث مجمع البحرين ، للالتقاء بالعالم ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقبًا (60 الكهف ) وقصة قارون المعروفة ، ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76 القصص ) . الأمر بدخول الأرض المقدّسة وتحريمها عليهم وتيههم شرقي النهر : وبعد مدة من مكثهم في مدين ، أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة ( فلسطين ) ، ولم تكن هناك حاجة للقتال آنذاك ، فرفضوا وعصوا ، لقلة وانعدام إيمانهم ، وأخلدوا إلى الأرض ، وتذرّعوا بحجج واهية ليبرّروا اتكاليتهم وعجزهم ، فدعا موسى ربه ليحكم بينه وبينهم ، فاستجاب له ربه ، ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26 المائدة ) ، فكان تحريم الدخول لمدة أربعين سنة ومن ثم التيه في الأرض . والتيه لغة الحيرة والضلال ، ورجل تائه وتيّاه ، إذا كان جسورا يركب رأسه في الأمور ، وفي الحديث : إنك امرؤ تائه ، أي متكبر أو ضال متحيّر . والمراد من ذلك أنهم تُركوا على رؤوسهم ، وحُرموا من قيادة الأنبياء ، بأن الله تخلى عنهم وحرمهم من رعايته لهم ، ورفع عنهم الوحي وتركهم بلا هداية ، بعد موت موسى عليه السلام ، على مدى 40 سنة ، ولم يُقصد بالتيه الضياع والتشرّد المكاني ، في صحراء سيناء ، كما كنا نعتقد سابقا . والصحيح أنهم حافظوا على تواجدهم ، كأمة مكونة من 12 جماعة شرقي نهر الأردن ، وأُوكلت قيادة كل جماعة إلى أحد النقباء الاثني عشر ، كل حسب السبط الذي ينتمي إليه ، بعد انقطاع قيادة الوحي ، وهذا مما ينفي نبوة فتى موسى المسمى بيوشع بن نون . وهنا تتضح الحكمة من جراء إلقاء مسؤولية حفظ الميثاق وإقامته ، على النقباء الاثني عشر بعد وفاة موسى وانقطاع الوحي والعناية الإلهية . وهذا ما حاول مؤلّفو التوراة إخفاءه بتبديل مواضع الكلم ، فجعلوا المن والسلوى ، تتنزّل عليهم لمدة أربعين سنة في الصحراء ، وهي عدد سنين التحريم والتيه ، التي كانوا يأكلون فيها البصل والعدس . ويدّعي كتبة التوراة أن بني إسرائيل ، أثناء قدومهم إلى الأرض المقدسة ، بمعية موسى عليه السلام ، قد قاتلوا أقواما كثيرة ، شرق نهر الأردن وانتصروا عليها ، ويدّعون أيضا أنهم هاجموا الكنعانيين بعد موسى ، وهدموا أسوار مدينة أريحا بمعية يوشع بن نون ، وأنهم أقاموا زمن القضاة غرب النهر . وهذا كله محض افتراء وتلفيق ، فكيف يقاتل من طلب منه مجرد الدخول ولم يدخل ، ولفظ الدخول في القرآن يوحي بانتفاء القتال . والحوار الذي دار بين موسى وقومه لدخولها ، تجد نصه كاملا في الآيات (20 – 27) المائدة . زمن الإخبار بنص نبوءة الإفساد والعلو في الأرض : وبعد مدة يسيره من الزمن من ذلك الحكم ، كشف موسى عليه السلام النقاب عن النبوءة موضوع هذا الكتاب ، وأخبر عنها قبل أن ينتقل إلى جوار ربه . وتركهم في غيهم وطغيانهم يعمهون ، كما حكم عليهم ربهم ، وأُوكل الأمر من بعده إلى النقباء الإثني عشر أصحاب الميثاق ، ليحفظوا التوراة ، وليحكموا بين الناس بما جاء فيها ، ومن ذلك اليوم انتقلت مسؤولية حفظ التوراة والشريعة إلى أناس عاديين ، فبدأ ظهور الأحبار ، قال تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ، لِلَّذِينَ هَادُوا ، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ (44 المائدة ) . طلب المُلك لدخول الأرض المقدّسة بعد نهاية سنوات التيه : ( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وبعد انقضاء سنون التيه الأربعون ، التي عاشوا خلالها شرقي نهر الأردن . بُعث فيهم نبيا ، يدّعون أن اسمه ( صمويل ) . وربما لتعرضهم لضيق العيش والاضطهاد والغزو ، من قبل الممالك المجاورة شرقي النهر ، طلبوا من هذا النبي ، أن يبعث لهم ملكا ، قال تعالى ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ، إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (246 البقرة ) بغية دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ، فبُعث لهم طالوت ملكا ، وأنزل الله لهم التابوت تحمله الملائكة ، آية لملكه ، كونهم لا يؤمنون إلا بما هو محسوس ، فأعدّهم ونظّم صفوفهم ، واجتاز بهم نهر الأردن ، فشربوا منه إلا قليلا . وكانت المواجهة مع الكنعانين – على الأرجح في سهول أريحا – ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ) وقتل داود - الذي كان من جنود طالوت - جالوت قائد الكنعانيين ، ودخلوا القدس . ومن ثم انتقل المُلك لداود عليه السلام ، بغض النظر عن الكيفية ، ( وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (251 البقرة ) ، ونص هذه الأحداث كاملا ، تجده في الآيات (246 – 251) البقرة ، وكانت هذه أول معركة يقاتل فيها بنو إسرائيل ، وكان جيشهم يتألف من القلة المؤمنة ، التي لم تكن قد شربت من النهر ( نهر الأردن ) ، وكان هذا هو الدخول الأول لبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة . داود عليه السلام يؤسس أول دولة لليهود في القدس : قال تعالى ( وَلَقَدْ آتَينَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16 الجاثية ) ، هذه الآية تشير إلى أن هناك خمسة أمور اجتمعت لبني إسرائيل ، وهي الكتاب أي الشريعة التي تركها لهم موسى عليه السلام ، والحكم أي الملك ، والنبوة أي الوحي ، والسعة في الرزق ، والتفضيل باختيارهم لحمل الرسالة السماوية في ذلك الزمان ، وقد اجتمعت هذه الأمور الخمسة في زمن مملكتهم الأولى في الأرض المقدسة ، حيث كان داود عليه السلام أول ملوكها . ملك داود عليه السلام : معظم الآيات التي أخبرت عن داود وملكه ، كانت تركّز على شخص داود ، حيث اتّصف عليه السلام بالورع والتقوى وكثرة العبادة ، والعلم والقوة مع شيء من اللين في المعاملة ، وتوحي بأن شغله الشاغل ، كان توطيد أركان دولته الحديثة ، ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20 ص ) ، وإعداد ما استطاع من قوة للدفاع عن دولته الصغيرة ، التي كانت محصورة في بيت المقدس وما حولها ، من هجمات الأقوام المجاورة لها من الكنعانيين ، ولم يكن يسعى لتوسيع رقعة الدولة ، كون الأمة الإسرائيلية آنذاك كانت قليلة - وهي لم تكثر إلا في العصر الحديث ، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث رُفع عنهم القتل - ولم تكن تستدعي امتلاك مساحة كبيرة من أرض فلسطين . صفة الجبن الملازمة لليهود ومعالجتها بابتكار داود للدروع الحربية : قال تعالى ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80 الأنبياء ) ، والضمير ( كم ) في كلمتي ( لكم ) و ( بأسكم ) ، يعود على المخاطبين بالقرآن ، وهذا خبر يفيد أن داود عليه السلام ، هو أول من ابتكر الدروع الحربية الحديدية ، وأول من استعملها هم بنو إسرائيل ، وهذا يكشف طبيعة الجبن فيهم ، والحرص على الحياة ، والخوف من الموت ، وكرههم للقتال ، ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا (96 البقرة ) وصناعة داود لها يدل على معرفته بطبيعتهم تلك ، فقد قالوا لموسى من قبل ( إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24 المائدة ) ، فالجبن والتواكل على الغير ، طبيعة متأصّلة في نفوسهم ، وانظر إلى قولهم ( وربك ) وليس ( وربنا ) ، فهو رب موسى ، وليس بربهم ، فما كانوا مؤمنين ، لذلك قال فيهم موسى عليه السلام ( فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25 المائدة ) ، وكان أغلبهم فاسقين وعصاة ومعتدين ، حتى في زمن طالوت وداود وسليمان وعلى مر العصور ، حيث قال تعالى ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78 المائدة ) ، فكما تأذّى موسى عليه السلام ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5 الصف ) تأذّى منهم داود عليه السلام وهو أول ملوكهم ، وتأذّى منهم عيسى عليه السلام وهو آخر أنبيائهم ، ومن وقع بينهما من الأنبياء . ولم يكن شُرب أغلبهم من النهر ، عند عبورهم مع طالوت إلى فلسطين عطشا ، وإنما ليستثنيهم طالوت من الخروج في الجيش للقتال ، وما زالوا يفتعلون الحجج للتهرب من القتال حتى في دولتهم الحالية ، فهم يدفعون بأبنائهم إلى المدارس الدينية ، لتجنيبهم الخدمة العسكرية . فابتكر عليه السلام الدروع الحديدية ليلبسوها في حروبهم ، مع الشعوب المجاورة ، التي على ما يبدو كانت تغزوهم باستمرار ، لعلها تدخل شيئا من الاطمئنان إلى تلك القلوب الوجلة ، وتدفعهم إلى الذود عن حمى مملكتهم . ولو نظرت إلى واقعهم المعاصر ، لوجدتهم يلبسون الدروع الواقية من الرصاص ، حتى في مواجهة الحجارة ، وتجدهم يتحصّنون وراء السيارات المصفحة ، أو يقاتلون من وراء جدر من الإسمنت المسلح ، وهذا ما يفضحهم به القرآن في مواضع كثيرة ، ( لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14 الحشر ) . سليمان عليه السلام يوطّد أركان الدولة : نظام الحكم ملكي وراثي : ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ (30 ص ) ، ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ (16 النمل ) ، نتبين من الآيتين السابقتين ، أن نظام الحكم في مملكة بني إسرائيل الأولى ، كان ملكيا وراثيا ، في نسل داود عليه السلام . وفي سنين حكم سليمان عليه السلام ، سعى إلى توسيع رقعة مملكته نسبيا ، لتغطي مساحة أكبر من مدينة القدس ، لتشمل ما حولها من المدن والقرى ، من النهر شرقا إلى البحر غربا ، ولكنها على كل الأحوال ، لم تشمل فلسطين كاملة ، فأهل فلسطين الأصليين لم يخرجوا منها ، ولم يّبادوا ، ولكنهم تقهقروا إلى ما بعد حدود مملكة سليمان ، حيث كانت الممالك في تلك العصور ، تقتصر على مدينة – بحجم قرية في العصر الحالي – وما حولها من سهول ومراعي ، ولا أظنهم استكانوا ، وسلمّوا لبني إسرائيل بالأمر الواقع ، وإنما كان هناك ، حروب ومناوشات ، والله أعلم . حقيقة ملك سليمان : أما قول سليمان عليه السلام ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35 ص ) فكان ملكا شخصيا خاصا به ، ولم يكن لبني إسرائيل فيه ، ناقة ولا بعير ، ولم يقصد به امتلاك مساحات شاسعة من الأراضي ، ومظاهر ملكه اقتصرت على ما وهبه سبحانه إياه ، من الممتلكات والقوة والحكم ، والتي تميّز بها عن كافة ملوك الأرض ممن أتوا بعده ، ومنها ؛ جريان الريح بأمره ، وحكمه للجنّ ، واستعمالهم في البناء والغوص والقتال والصناعة ، والقدرة على إذابة النحاس وتشكيله ، وكثرة جنوده من الجن والإنس والطير ، وكان عليه السلام قويا ورعا تقيا عالما حكيما ، وفيه شيء من الشِدّة ، وكان بنوا إسرائيل يرهبونه ويخافونه ، ولذلك نال قسطا كبيرا من اتهماتهم المشينة ، بعكس أبيه داود الذي كان لينا معهم ، فقال فيهم سبحانه ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ … (102البقرة ) ، وعلى ما يبدو أن الشياطين بعد وفاته عليه السلام ، ادّعت أن سليمان لم يسلطّ عليهم ، وإنما كان تابعا لهم ، يعبدهم ويستعين بهم لقضاء مصالحه . فأشركوا بالله وعبدوا الشياطين وأباحوا السحر والشعوذة ، ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100 الأنعام ) . أكثر ما حيّرني في أمر ملك سليمان ، هو الغاية من تسخير الريح ، فالروايات في كتب التفسير غير منطقية ، حيث تقول أنها كانت تحمل سليمان وملأه وجنوده ، على بساط خشبي عظيم ، وتنقلهم من بلد إلى آخر للقتال والترفيه وغيره ، ولم يرد في تواريخ الأمم التي عاصرت ملك سليمان ، أنهم شاهدوا يوما بساطا خشبيا طائرا ، وسورة النمل تؤكد أن سليمان وجنوده ، كانوا يسيرون على الأقدام أثناء تنقلهم . وبعد طول تفكير وتمعنّ وتدبّر في الآيات ، التي تتحدث عن الريح وعن ملكه عليه السلام ، تبين لي أنه كان يركب البحر ، منطلقا من الأرض المقدسة ، فتجري الريح بمركبه إلى حيث أراد برفق ولين في الذهاب ، لتسهل عليه عملية البحث والتقصي ، بدلالة قوله تعالى ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37 ص ) ، وبعد انتهاء المهمة ، يستعجل العودة إلى وطنه ، فيأمر الريح لتجري بقوة وسرعة إلى الأرض المباركة ، بدلالة قوله تعالى ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82 الأنبياء ) ، وأما الغاية من القيام بالرحلات البحرية ، فهي السياحة واستخراج كنوز البحر وجلبها لمملكته ، ويؤيد ما ذهبت إليه ، ذكر الغوص ، الذي كانت تقوم به الشياطين ، مباشرة بعد ذكر الريح في الآيات السابقة ، والغوص عادة لا يكون إلا في المياه العميقة ، وكانت مدة كل رحلة من رحلاته شهرين ، شهر في الذهاب وشهر في العودة ، بدلالة قوله تعالى ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ (12سبأ ) ، والله أعلم . سليمان هو أول من بنى المسجد الأقصى : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثَةً ، سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ ، أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ ، أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) رواه النسائي وأحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانيدهم ، وصححه الألباني . هذا الحديث يؤكد : 1. أن مملكة داود وسليمان ، أي مملكة بني إسرائيل الأولى ، كانت في فلسطين . 2. أن سليمان عليه السلام ، بنى مدينة بيت المقدس . 3. أن سليمان عليه السلام ، هو أول من بنى المسجد الأقصى . وأما التسمية بالمسجد فهي التسمية الإسلامية له ، وجاءت بعد حادثة الإسراء ، وأما في عهد سليمان عليه السلام ، فقد جاءت تسميته في القرآن بالصرح ، ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ) ، وأما الترجمة العربية للتوراة فأعطته اسم الهيكل ، والمعنى لكلتا التسميتين واحد ، وهو البناء الضخم المرتفع . وعلى كل الأحوال فإن المسجد الأقصى القائم حاليا ، يجثم في نفس المكان الذي أقيم فيه صرح سليمان ، والغريب أن الكثير من أئمة المسلمين وعامتهم ، ينكرون هذه الحقيقة ، ربما ظنا منهم أن اعترافهم بها ، يعطي الصهاينة حقا في هدم المسجد ، وبناء هيكلهم مكانه ، ويُسقط أحقيّة المسلمين فيه ، ويُضعف موقفهم في الدفاع عنه ، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى مخالفة النص القرآني ، وإنكار حتى تواجدهم في الأرض المقدسة جملة وتفصيلا . قبلة اليهود هي الصخرة المشرّفة : جاء في البداية والنهاية لابن كثير ، ما نصّه " قال الإمام احمد ، حدثنا اسود بن عامر ، ثنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عبيد بن آدم ، وأبي مريم وأبي شعيب : أن عمر بن الخطاب ، كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس ، قال : قال ابن سلمة ، فحدثني أبو سنان ، عن عبيد بن آدم سمعت عمر يقول لكعب : " أين ترى أن أصلي " ، قال : " إن أخذت عني صليت خلف الصخرة ، وكانت القدس كلها بين يديك " ، فقال عمر : " ضاهيت اليهودية . لا ، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط ردائه ، وكنس الكناسة في ردائه ، وكنس الناس . وهذا إسناد جيد ، اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي ، في كتابه المستخرج " . وجاء في تاريخ الطبري في رواية أخرى ، أن عمر أجاب كعب بقوله : " فإنا لم نؤمر بالصخرة ولكنّا أُمرنا بالكعبة " . ونقول أن مفاد الرواية أن كعب ، لما أشار على عمر بالصلاة خلف الصخرة ، أراد منه أن يجمع القبلتين في صلاته ، فأبى عمر وصلى ، جاعلا وجه تلقاء الكعبة ، والصخرة من وراء ظهره . الصلاة في الشريعة الموسوية : لنوضح الأمر ، نحتاج إلى معرفة طبيعة العبادة في شريعة موسى عليه السلام ، فالصلاة لديهم كانت تؤدّى بشكل فردي في البيت أو فيما يُسمّى بالمحراب ، في المعبد المقدس ( أي الهيكل ) ، ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ ، أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87 يونس ) ، والمحراب عبارة عن غرفة صغيرة منعزلة ، مخصّصة للصلاة والدعاء والذكر ، والأغلب أنها كانت تقام مرتفعة عن الأرض ، وهي أشبه ما يكون بالعليّة أو السدّة ، وقد ارتبط ذكر المحراب في القرآن ، بأنبياء بني إسرائيل الأوائل في فلسطين داود وسليمان ، ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21 ص ) ، وبآخر أنبيائهم زكريا ويحيى ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ (39 آل عمران ) . الصرح أو الهيكل ، كيفية بناءه وصفته وموقعه : أما الصرح فعلى ما يبدو أنه كان أعجوبة من أعاجيب الزمان ، وأن من قام ببنائه وصناعة محتوياته هم الجن والشياطين ، وأن مادة البناء كانت من النحاس والزجاج ومواد أخرى ما عدا الحجارة ، وأنه اشتمل على المحاريب والتماثيل والأواني النحاسية الصغيرة ، والأحواض أو البرك المائية الضخمة المصنوعة من النحاس ، والجواهر والكنوز من لؤلؤ ومرجان وغيرها ، مما كانت تستخرجه الشياطين من أعماق البحار . قال تعالى ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37 ص ) وقال أيضا ( وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ، وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ ، وَتَمَاثِيلَ ، وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ، وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ، اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ (13 سبأ ) . وأستطيع وصف هذا الصرح بأنه بناء ضخم ومرتفع ، كانت الصخرة تقع في مركزه ، تحيط بها ساحة واسعة ، أرضيتها من الزجاج المصقول ، يُرى من خلالها ماء يجري أسفل منها ، أو ماء راكد في أحواض مائية ، وضع فيها ما استجلبه سليمان من المناظر والمشاهد البحرية ، مما استخرجته له الشياطين من أعماق البحر ، وعلى أطراف تلك الساحة أقيمت المحاريب العديدة للعبادة من كل جانب . والله أعلم . وقد سمعت من زميل لي زار المسجد وتجوّل فيه ، أن هناك آبارا وأحواضا مائية ، تحت ساحة المسجد الأقصى مباشرة ، فإذا كان ذلك صحيحا ، ومع علمنا بأن المسجد الأقصى بُني في نفس موقع المسجد السابق ، وأن الصخرة هي القبلة الفعلية لليهود ، فهذا الأمر يُؤكد ، أن الصرح الذي كان قد بُني في عهد سليمان عليه السلام ، هو المسجد الذي دخله أولئك المبعوثين أول مرة ، وخرّبوه ونهبوا محتوياته ، فلم يبق له أثر يُذكر ، وعدم وجود آثار له ، يُؤكد أن هذا الصرح ، لم يتم بناءه بالطرق المألوفة ، سواء بهندسة البناء أو بالمواد المستخدمة ، فبُناته هم الجن والشياطين ، وبالتأكيد طريقتهم في البناء تختلف عن طريقة البشر ، وطبيعة المواد المستخدمة تختلف عما يستخدمه البشر ، وربما يكون هذا الصرح الخرافي ، هو ما دفع نبوخذ نصر صاحب حدائق بابل المعلّقة ، للإغارة على بني إسرائيل في المرة الأولى ، لنهب محتوياته . حكمة سليمان عليه السلام وخرافات ألف ليلة وليلة : الروايات الموجودة في كتب التفسير ، عن قصة سليمان وحبه لملكة سبأ ، ورغبته في الزواج منها ، وإدخالها إلى الصرح لرؤية ساقيها ، فيما إذا كان عليهما شعر ، أو أن قدميها كحوافر الحمار ، لأن أبوها أو أمها من الجن … إلى آخره . مما ليس له أصل حتى في التوراة ، جردّت سليمان عليه السلام من حكمته ، في الدعوة إلى الله ، وجعلت منه رجلا مزواجا شهوانيا ، كما أراد له أعداء الله وأعداء أنبياؤه أن يكون . حكمة الهدهد : ولكي نفهم ما جرى من حوار وأحداث ، بين سليمان وملكة سبأ ، دعنا نتمعن قليلا في قول الهدهد ( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ، فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ ، فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24 النمل ) ، يقول الهدهد أنه وجدها هي وقومها ، يعبدون الشمس من دون الله ، ويعلّل ذلك بقوله أن الشيطان زيّن لهم أعمالهم ، بمعنى أن الشيطان فتنهم وأوهمهم ، وزيّن لهم الباطل على أنه الحق ، وعمّى سمعهم وأبصارهم ، فعطّل عقولهم عن تمييز الحقيقة من الوهم ، فحرمهم القدرة على الحكم على معتقداهم ، أهي خطا أم صواب ، فعبدوا الشمس على أنها ربهم ، وبذلك صدّهم عن السبيل ، أي منعهم من الوصول إلى الحقيقة ، وهي أن الله هو ربهم ، فما دامت أبصارهم قد عميت ، ويعتقدون بصوابية عبادة الشمس ، فمن أين لهم الهداية ، وهم على حالهم تلك . والرسالة التي وجّهها الهدهد لسليمان ، من خلال هذا القول ، هي أنهم بحاجة لمن يهديهم ، ويُزيل الغشاوة عن أبصارهم . فتكفّل سليمان عليه السلام بهدايتهم ، وبإزالة هذه الغشاوة ، لعلهم يُبصرون ومن ثم يهتدون ، بما أوتي من علم وحكمة ، بعد أن شرَّحَ الهدهد ، وشخَّصَ حالتهم المرضية ، وأعطى سليمان مفاتيح الحل ، والآن دعنا نتعلم منه عليه السلام ، هذا الدرس العملي في الدعوة إلى الله . الدعوة إلى الله : كان أول خطاب وجهه سليمان لملكة سبأ وقومها ، هو قوله ( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) ، خطابا حازما واثقا قويا ومزلزلا ، وكانت هذه هي الضربة الأولى ، في جدار معتقداتهم الوثنية المتأصلة في نفوسهم ، فقد كانت هي وقومها يعبدون الشمس ، ولم يكن لديهم علم بوجود إله آخر ، أولى بالعبادة من غيره ، ولكن هل أطاعت ؟ بالطبع لا ، فتغيير معتقدات البشر عملية صعبة جدا ، وتحتاج إلى أكثر من ذلك ، وتحتاج إلى علم وحكمة وصبر – وانظر في سيرة نبي الهدى عليه الصلاة والسلام مع كفار قريش لتحويلهم من عبادة إلى الأصنام إلى عبادة الله - ولكن هل تأثرت بذلك العرض القوي ؟ بالطبع نعم ، فردت بالهدية – وكان بإمكانها عدم الرد – وذلك لتتأكد من جديّة سليمان عليه السلام ، ولتَعرِف مع من تتعامل ، فهي ذكية وحكيمة أيضا ، وتعي موقعها وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقها ، بعكس ملأها ذوي القوة والبأس الشديد ، ودلالة ذلك ( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فأعاد الهدية ، ووجه لها تهديدا صارما وحازما وأخيرا ، ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) ، فاستوعبت الرسالة ، وهي أن ما لدى سليمان ، خير مما لديها ، وأن هذا التهديد ، لا يصدر إلا عمّن يعلم حجم قوتها ، ولديه من القوة أضعاف ما تملك ، وأن ما يريده لأجلها شيئا آخر . الإتيان بالعرش وتنكيره : لذلك حملت قومها وأتته على جناح من السرعة ، وفي طريقها إليه ، كان عليه السلام يُعدّ لها الضربة الثانية ، فطلب عرشها وأمر بتنكيره ، وعلّة ذلك كانت ( نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) ، لاختبار مدى استعدادها للهداية للدين الجديد ، وليس المقصود هو اهتدائها إلى العرش . كان همّه عليه السلام هدايتها وقومها ، وليس الزواج منها ، كما صوّرته بعض الروايات في كتب التفسير . وكان جلب العرش بحدّ ذاته ، كفيلا بتحطيم ذلك الجدار الذي تمترست خلفه . وقد تحطّم بداخلها فعلا عندما رأته وعرفته ، لكنها أضمرت ذلك وتمالكت نفسها . ولما سُئلت عنه ، لم تُثبِت ولم تَنفِ ، وكان بمقدورها أن تعترف بأنّه عرشها ، وأن تُسلم على الفور ولكنها أجّلت ذلك . والسبب هو ذلك الجدار نفسه ( وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ، أي الغشاوة التي أعمت بصرها وبصيرتها ، وخوفها من قومها أيضا ، فقالت ( كَأَنَّهُ هُوَ ) ، وحتى لو أُجريَ على متاعك ، الكثير من التعديلات ، فستبقى أشياء كثيرة تدلك عليه ، فكانت إجابتها حكيمة وغاية في التعقل ، فلم تثبت وتسلم أسلحتها الواهية من الوهلة الأولى ، محافظة منها على كبريائها كملكة ، ولم تنف ، لأنها تعلم وقومها ويعلم سليمان وقومه علم اليقين ، أنه هو ب رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
ELSHARIF بتاريخ: 9 مارس 2005 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 9 مارس 2005 كانت تعلم بحكمتها أن هناك شيئا آخر ينتظرها ، سيأتي أوانه بعد حين ، فكشفت بهذه الإجابة لسليمان عن استعدادها للهداية ، فيما لو عرض عليها برهانا دامغا وقاطعا . ولكن ما الذي فعله سليمان حقيقة في هذا الموقف ؟ كان إحضار عرشها ، لإظهار مدى عظم ملكه الموهوب له من قبل ربه ، وكان تنكير العرش لإيقاظ حاسة البصر فيها ودقة الملاحظة ، وتحفيزا لعقلها وقلبها ، ولما اهتدت إلى إنه عرشها ، أخذتها العزة بالإثم شيئا قليلا ، فكابرت حتى حين . دخول الصرح : فكانت الضربة الثالثة والأخيرة ، أي القاضية التي سوّت ذلك الجدار بالأرض ، ولم تترك له أثرا ، ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ) ، فما الذي كان في الصرح ؟ كانت أرضية الصرح من زجاج مصقول ، ومن تحت الزجاج ماء ، وعندما شاهدت الماء ، رفعت ثوبها خوفا من البلل ، وهمّت بالمشي فيه ، ( فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ) فتبسم سليمان وكأنه خاطبها ضاحكا : لقد كنت واهمة ، فلن يصل الماء إلى ثوبك فأنزليه وتقدمي ، فهذا ( صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ) فأنزلته ودخلت ، ولما لامست قدميها الزجاج تبين لها بطلان ما اعتقدت . وهنا مربط الفرس ، فما كان منها إلا أن خجلت ، من وهمها وانعدام بصيرتها ، وذهاب عقلها وحكمتها وضلالها في تلك اللحظة ، إذ لم تستطع تمييز الزجاج من الماء ، فاستوعبت على الفور ، مضمون الرسالة التي وجهها لها سليمان . العبرة : فقد يظنّ الإنسان بجهله أنه على حقّ ، بينما يكون في الحقيقة على باطل ، وهذا هو حالها وقومها بعبادة الشمس من دون الله ، وأنه دعاها إلى الحق عن علم ، فتمسّكت بالباطل عن جهل ، فتبينت بالتجربة والبرهان بطلان معتقدها ، وأن الحقّ مع سليمان ، فاستجابت على الفور لدعوة سليمان الأولى ، قائلة ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) باتباع الباطل عن غير علم ، ( وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44 النمل ) ، فما كان من قومها إلا أن تبعوها ، وعادت إلى مملكتها لهداية قومها ، وأُرجّح أن سليمان لم يتزوجها ، والله أعلم ، ودانت بعد ذلك مملكتها لسليمان دينيا ، وليس عسكريا ، وبقيت العلاقات والمصالح التجارية وغيرها قائمة بين الدولتين ، مرورا بجزيرة العرب ، لفترة طويلة ، حسبما تثبته سورة سبأ (15 – 20) ، وفيما بعد كفر قوم سبأ إلا قليل منهم ، ومع تقادم الزمن انقطعت تلك العلاقة . بنو إسرائيل في عصر سليمان : أما بني إسرائيل في عصر سليمان ، فلم يختلفوا كثيرا عما كانوا عليه ، في عصر موسى وداود ، حيث كانوا على الدوام فاسدين كأفراد ، إلا من رحم الله ، وما اختلف عليهم في عصر سليمان ، أن سليمان ساسهم بالقوة والسلطان ، وكان يأخذهم إلى القتال ، وهم بطبيعتهم له كارهون ، قال تعالى ( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17 النمل ) ، وحشر أي جُمع ، ويوزعون أي يساقون بانضباط ، ولا يتقدم آخرهم على أولهم . هل تحقّق العلو الأول لبني إسرائيل في فلسطين ؟ وأما سبق دخولهم للأرض المقدسة ، فقد قال فيه سبحانه ، على لسان موسى عليه السلام ، ( يَقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ (21 المائدة ) أي كُتب لبني إسرائيل دخولها ، وقال سبحانه ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (137 الأعراف ) أي ملكوها وسكنوها ، وذلك بعد انقضاء سنوات التحريم والتيه الأربعين . والأرض المبارك فيها هي فلسطين ، ومشارقها ومغاربها أي كلها ، من النهر إلى البحر ، وهذه هي حدود الأرض المقدّسة والمباركة ، وحدود مملكة اليهود القديمة . لنخلص إلى أن الأرض المقدّسة والمباركة هي فلسطين فقط ، وليس بلاد الشام عامة . إذ أن موسى عليه السلام ، كان يتواجد وقومه شرقي نهر الأردن ، ولو كان شرق النهر أرضا مقدّسة ، لما قال ادخلوا الأرض المقدسة وهو بداخلها أصلا . وشرق النهر لم يورّث لبني إسرائيل ، وإنما أقاموا فيه فترة الغضب الإلهي عليهم ، ومن ثم تركوها وارتحلوا إلى فلسطين . وصلنا إلى مرحلة تحقق العلو ، بوحي من الله وقيادة أنبياؤه وملوكه ، وكان هذا هو العلو الأول لبني إسرائيل ، وأما الإفساد فلم يكن قد وقع منهم بعد ، كون الملك اقترن بالنبوة ، وما كان للأنبياء عليهم السلام أن يفسدوا في الأرض ، ونجد أن النبي التالي لسليمان في الذكر ، من أنبياء بني إسرائيل في القرآن ، هو زكريا ومن بعده يحيى ، وكان آخرهم عيسى عليهم السلام جميعا . وقد بعث الثلاثة بالتتابع وعاصر بعضهم بعضا ، وكان ذلك بعد فترة طويلة من وفاة سليمان ، وبعد عيسى لم يُبعث فيهم أنبياء ، ويقدّر المؤرخون بأن المدة ما بين سليمان وعيسى ، بأكثر من 900 سنة . وما كان بعث عيسى عليه السلام بالإنجيل ، إلا لتجديد الشريعة التي جاء بها موسى ، بعد أن أضاع بنو إسرائيل التوراة واختلفوا في أمرها . قال تعالى ( وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63 الزخرف ) . ويُثبت التاريخ أن بعث عيسى عليه السلام ، كان في زمن الحكم الروماني للمنطقة ، مما يعني أن هذا العلو الذي تحصّل عليه بنو إسرائيل قد زال واندثر . مما يترتب عليه أن الإفساد قد وقع ، وأن البعث قد تحقق ، في الفترة الممتدة ما بين سليمان وعيسى عليهما السلام ، في زمن أقرب إلى حكم سليمان منه إلى بعث عيسى . المملكة اليهودية بعد سليمان : وليس من المعقول أن نجزم بأن مملكة سليمان انهارت بموته . وبما أن نظام الحكم ، كان ملكيا وراثيا كما أقرّه القرآن ، فلا بد أن يكون الملك ، قد انتقل إلى أحد أبناء سليمان ، الذين لم يكونوا أنبياء في واقع الحال ، فالنبوة آنذاك خرجت من الملك ، وأصبحت في عامة الشعب ، وهنا تحرّر العصاة والمعتدين من اليهود ، من عبدة المال والسلطة تجارا ومرابين ، من حكم وملك الأنبياء ، حيث كان الوحي يقف سدّا منيعا ، أمام طموحاتهم وأحلامهم ، في نهب ثروات البلاد والعباد ، فهم أبناء الذين قال فيهم تعالى ( قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79 القصص ) . وعلى مر السنين تغيّرت الأحوال ، وتغلغل المرابين والتجار في أوساط الحكم ، وتبادلوا المصالح والمنافع ، وأصبحوا من علية القوم ، ليفرضوا على الملوك ، ما شاءوا من سياسات تخدم مصالحهم . ولو راجعت التوراة المؤرخ الوحيد لتلك الفترة ، لوجدت أن عدد الملوك الذين تعاقبوا على الحكم ، على مدى 300 سنة تقريبا ، هو 22 ملكا ، وهو عدد كبير نسبيا ، بمعدل 14 سنة حكم لكل ملك . وذلك لكثرة الاغتيالات ، التي كان يدبّرها ويوقعها فيهم علية القوم ، ومن والاهم من الكهنة والأحبار ، سواء من صلح أو فسد ، من هؤلاء الملوك . والملاحظ أيضا أن معظم ملوكهم ، كانوا صغارا في السن ، وربما كان ذلك هو الغاية من قتل آبائهم ، فوجود ملك صغير السن ، يسهل عليهم السيطرة على شؤون الحكم ، ليكونوا هم خبرائه ومستشاريه ، وهذه هي سياستهم في العصر الحالي ، في شتى بقاع الأرض . وعلى الجانب الآخر كان هناك الأنبياء ، الذين لم ينقطع بعثهم في بني إسرائيل ، ليعيدوا أولئك العصاة إلى حظيرة الإيمان ، بدعوتهم إلى العودة إلى شرع الله ، وتذكيرهم وتحذيرهم بما قضاه الله عليهم إن أفسدوا في الأرض . تخبرنا كثير من الآيات القرآنية عن إفساد بني إسرائيل ، حيث الشرك بالله ، وتكذيب فريق من الأنبياء ، وقتل فريق آخر ، وقتل أولياء الله من الناس ، وسفك دماء فريقا من قومهم وإخراجهم من ديارهم ، وتحريف الكهنة والأحبار ، لكتاب الله ليوافق أهواء علية القوم ، والاعتداء على حدود الله ، وعصيان أوامره ، وأكلهم الربا وأموال الناس بالباطل … إلى آخره . ومجمل هذه الآيات تخاطب بني إسرائيل كأمة . فأين ومتى وقع منهم هذا الإفساد الأممي … ؟! وهل تحقّق الإفساد الأول ؟ قال تعالى ( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87 البقرة ) ، والخطاب هنا موجه لمن يملك سلطة القتل ، وهم سادة الحكم وعلية القوم ، فتارة كانوا يكذّبون الأنبياء وأولياء الله ، الذين بُعثوا من قبله سبحانه للإصلاح ، وتارة يقتلونهم ، بدفع من الكهنة والأحبار والتجار ، ، لتعارض ذلك مع رغباتهم وأهوائهم ، ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21 آل عمران ) ، فلا أشدّ وأعظم إفسادا في الأرض عند الله ، من قتل الناس وسفك دمائهم بغير حق ، فما بالك إذا كان القتل في أنبياء الله وأولياءه الصالحين ، فهذا قمّة في الإجرام والإسراف والعصيان والتمرد والعدوان ، ولا أظنّ أن هناك إفساد في الأرض ، يُقارن بهذا الإفساد ، فلم يسبق لقوم من الأقوام السابقين واللاحقين ، أن قتلوا أنبياءهم سوى بني إسرائيل ، وما إفسادهم الحالي في دولتهم الحالية ، إلا صورة طبق الأصل عن الإفساد الأول في دولتهم الأولى ، ولو بُعث فيهم أنبياء في هذا العصر لقتلوهم بلا شك ، فقد قتلوا رئيس وزرائهم ( رابين ) ، بدفع وتحريض من الحاخامات ، كونه لبس ثوب الصلاح فقط ، بإظهاره شيئا من اللين مع الفلسطينين ، لا لأنه مُصلح . قال تعالى ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ (85 البقرة ) . توحي هاتين الآيتين ، أن سادة الحكم كانوا يستضعفون طائفة من قومهم ، ظلما وعلوا بغير وجه حق – وهذا نفس فعل فرعون - فأوقعوا فيهم القتل ، والنهب والسلب ، وأخرجوهم من ديارهم واستولوا عليها . فاضطروا إلى اللجوء إلى أرض أعدائهم ، وعلى ما يبدو أنهم كانوا يُجبرون على خوض المعارك ، إلى جانب أعداء مملكة بني إسرائيل ، وعند وقوع المعركة ، كان هؤلاء المستضعفين يُحجمون عن قتال بني جلدتهم ، ويقومون بتسليم أنفسهم ، ظنّا منهم بأن أبناء جلدتهم ، سيتركونهم ليعودوا إلى أهليهم بعد انتهاء المعركة ، فما كان من أولئك الظلمة ، إلا أن عاملوهم كأسرى العدو ، فحبسوهم وطالبوا ذويهم بالفدية . وأما مظاهر الإفساد الأخرى فمنها : 1. الشرك بالله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ (51 النساء ) ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60 المائدة ) ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31 التوبة ) 2. نقض الميثاق وكتمان كلام الله وإخفائه وتحريفه : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13 المائدة ) ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187 آل عمران ) 3. عبادة الجن والشياطين وتعلم السحر وممارسته : ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100 الأنعام ) ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (102 البقرة ) 4. الربا والسرقة والاحتيال : ( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161 النساء ) ( وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62 المائدة ) 5. ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ( كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79 المائدة ) 6. نقض العهود والمواثيق : ( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وهكذا نستطيع القول ، بأن العلو الأول والإفساد الأول لبني إسرائيل ، قد تحقّقا في الأرض المقدّسة . وكانت بداية علوهم بملك داود ، ووصل إلى أقصى مداه ، في عصر سليمان عليه السلام . وأما الإفساد فكانت بدايته بعد وفاة سليمان عليه السلام … والسؤال الآن هل تبخّر هذا الملك وهذه المملكة في الهواء … ؟! وهل مرّ ذلك الإفساد دون عقاب … ؟! وهل تحقق البعث الأول ؟ قال تعالى ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ (( أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ )) ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، (( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا )) ، أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33 المائدة ) وقال أيضا في نفس السورة ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ … (( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا )) ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64 المائدة ) وانظر ما كتبه الله عليهم ، في الآية الأولى ، وما عقب به في الآية الثانية ، حيث أعطى أربع خيارات ، لمجازاة من يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا . والذين لهم دأب على محاربة الله ورسوله بأقوالهم وأفعالهم ، والذين يسعون في الأرض فسادا ، هم اليهود لا غيرهم ، وهذا ما تُقرّره الآية الثالثة . وهذا هو الحكم المُسبق الذي أصدره أحكم الحاكمين ، وأوكل أصحاب البعث الأول ، لتنفيذ خياراته الأربعة مجتمعة فيهم ، بإذن الله . وقال تعالى ( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26 الأحزاب ) ، وهذا ما حُكم به على يهود بني قريظة بعد هزيمة الأحزاب ، بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال . وبما أن الإفساد المقترن بالعلو قد تحصّل ، ومن ثم زال ، فلا بد أن يكون أولئك العباد قد بُعثوا عليهم ، فجاسوا خلال ديارهم وخربوها ، وأوقعوا في حكامهم ورؤسائهم وكهنتهم وأحبارهم القتل والتنكيل ، وهدموا المسجد ( الهيكل ) ونهبوا محتوياته من كنوز وأموال ، وسبوا نسائهم وأطفالهم ، وأصبحت بيت المقدس أطلالا تعوي فيها الثعالب ، فحل بهم الخزي والذلّ والعار ، بعد أن رفعه الله عنهم بمنّه وكرمه ، فخانوا ميثاق ربهم ونقضوا عهده ، استكبارا وعلوا في الأرض بغير الحق . حيث كان ذلك حكم الله الذي أنجزه في أسلافهم ، على أيدي أولئك العباد ، فيما يُسمى بالسبي البابلي الموصوف بالتوراة بإسهاب ، والذي يؤكد نفاذ هذا الحكم فيهم ، كما جاء في الآية الكريمة أعلاه . لذلك عقّب سبحانه بعد ذكر الوعد الأول ، بقوله ( وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً (5 الإسراء ) . بعض الأحكام التي صدرت في حقهم فيما سبق نزول القرآن : قال تعالى ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169 الأعراف ) . وقال أيضا ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64 المائدة ) . وهذه الأحكام هي : 1. استضعافهم واضطهادهم وتعذيبهم من قبل الآخرين ، أينما حلوا وأينما ارتحلوا إلى يوم القيامة . وهذا حكم عامّ ، وأما عقابهم عند مجيء الوعدين ، فهو حكم خاص مستثنى من هذا الحكم . 2. نفيهم من فلسطين وشتاتهم في كافة أرجاء الأرض . مما يؤكد زوال مملكتهم الأولى ، ويهيئ لقيام الدولة الثانية مستقبلا . 3. إلقاء العداوة والبغضاء فيما بينهم إلى يوم القيامة . وإطفاء الحروب التي يُشعلوها ، وإفشال مخططاتهم الساعية إلى الإفساد . وهل دخلوا الأرض المقدّسة ؟ لو عدنا إلى زمن موسى عليه السلام ، بعد أن وصل وقومه إلى مشارف الأرض والمقدسة ، حيث قال لقومه ( يَقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21 المائدة ) ، والأرض المقدسة هي فلسطين ، ولم تقدّس في القرآن أرض غيرها . وقد وردت هذه العبارة في القرآن مرة واحدة فقط ، وكان بنو إسرائيل آنذاك أمة واحدة ، فامتنعوا عن الدخول إليها ، فحُرموا من دخولها أربعين سنة ، ولم يكن التيه بضياعهم وتشرذمهم في الأرض ، كما قد يتوهم البعض ، وإنما بحرمانهم من الهداية والقيادة برفع النبوة والوحي ، وهذا يؤكد أن موسى عليه السلام ، انتقل إلى جوار ربه قبل أو بداية سنوات التحريم ، ولذلك تجلّت الحكمة الإلهية ، باختيار النقباء الإثني عشر وأخذ الميثاق منهم مسبقا ، لعلمه المسبق بما سيكون منهم . وتُرك أمر بني إسرائيل لأولئك النقباء ، كلٌ حسب السبط الذي ينتمي إليه ، لقيادتهم والفصل بينهم في الأحوال المدنية والشرعية . وفي نهاية الأربعين سنة ، وصل الله ما كان قد قطعه ، فبعث فيهم نبيا ، ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (246 البقرة ) ، وكلمة ( الملأ ) تعني علية القوم ، وطلب القتال كان لدخول الأرض المقدسة ، التي كان قد كُتب لهم دخولها ، على لسان موسى في الآية السابقة ، وعندما أذن الله لهم بدخولها ، بعد قتال جالوت وجنوده والانتصار عليهم ، بقتل داود عليه السلام لجالوت ، دخلوها مجتمعين كأمة أيضا ، فأقام لهم داود وسليمان عليهما ، دولتهم الأولى وعلوهم الأول . حصر الفترة الزمنية للإفساد المُذكور في القرآن : والآن لننتقل إلى الكريمة التي تقول ( وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ، (( وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ )) ، وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ، وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ . أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ ، بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ ، اسْتَكْبَرْتُمْ ، فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87 البقرة ) ، قلنا أن قمة الإفساد هي قتل الأنفس بغير حق ، وأعظمها قتل الرسل والأنبياء ، ولاحظ قوله سبحانه ( تقتلون ) حيث تفيد صيغة المضارع ، الاستمرارية والكثرة في القتل ، وقد ذُكر قتلهم للرسل والأنبياء ( 7 ) مرات ، في مواضع متفرقة من القرآن ، وقد حُصر وقوع هذا القتل منهم في هذه الآية ، بين موسى وعيسى عليهما السلام ، وإذا علمنا أن بني إسرائيل ، كانوا بحاجة إلى الأنبياء ( حبل الله ) لدخول الأرض المقدسة ، لإقامة دولتهم فيها ، ولم يكن فيهم أنبياء في سنوات التحريم ، غير ذلك النبي الذي بُعث عند انقضائها ، والذي توجهوا إليه لطلب المساعدة والنصرة من الله ، لتبين لنا أن قتل الأنبياء ، قد تحصّل منهم ، قبل بعث عيسى عليه السلام ، وهو آخر أنبيائهم ، وبعد وفاة سليمان عليه السلام ، آخر الأنبياء الملوك ، حيث لم تعد بهم حاجة للأنبياء ، ليذكّروهم بشرع الله والالتزام به ، بعد أن أمسى لهم الملك والعلو في الأرض ، فأهواء ورغبات وأطماع ، الذين ( أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) ، والذين ( قست قلوبهم فهي كالحجارة أو شد قسوة ) ، لا تتفق وشرع الله . نهاية المملكة وخروجهم من فلسطين : ولو نظرنا في قوله تعالى ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ) ، أي فرقّناهم ، نجد أنه سبحانه أثبت خروجهم ونفيهم من الأرض المقدسة ، وشتاتهم في الأرض على عمومها ، على الأقل قبل بعث محمد عليه الصلاة والسلام بالقرآن ، فهل يُعقل أن أمة بأسرها ، تقوم بالتخلي عن مُلكها وترك أرضها من تلقاء نفسها ورغبة عنها ؟!!! أم أن هناك أمر عظيم نزل بها ، فتركت أرضها قسرا وقهرا ، بعد أن أُزيل ملكها وأفل نجمها ؟!!! وقد ورد ذكر هذا الحدث في القرآن بصيغة الماضي ، بقوله تعالى ( فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ – وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5 الإسراء ) . وبما أن تلك العبارة أثبتت شتاتهم بعد أن كانوا أمة واحدة ، والعبارة ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104الإسراء ) ، تشترط مجيئهم من الشتات والتجمّع في فلسطين ، ولم يرد نص في القرآن ، يُثبت مجيئهم وتجمّعهم من الشتات قبل الإسلام ، لإقامة علوهم الثاني . نستطيع الجزم بأن وعد الأولى ، بقيام المملكة الأولى وزوالها ، قد تحقق ، وأن المرة الثانية قد تحقّقت بمجيئهم وتجمّعهم من الشتات ، لإقامة دولتهم الحالية . إثبات تواجد اليهود في بابل : قال تعالى ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ، (1) نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ، كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) (2)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ـ ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) ـ (3)يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ( بِبَابِلَ ) هَارُوتَ وَمَارُوتَ ـ ( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ، حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلَا تَكْفُرْ ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) ـ (4)وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ ، وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ، مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102 البقرة ) موضوع الحديث ما قبل هاتين الآيتين ، وما بعدهما ، هم اليهود إجمالا . بينما تتعرض الآيتان أعلاه ، لموقف فئة من اليهود المعاصرين لرسالة الإسلام ، من بعث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، حيث قام هؤلاء وما زالوا يقومون بثلاثة أفعال : 1. عند مجيء رسول الله عليه الصلاة والسلام ، بصفة مطابقة لما كان بين يديهم من التوراة ، ومجيئه بما يتفق مع ما جاء به أنبياؤهم ، أزاحوا التوراة من عقولهم وقلوبهم وأنكروا ما فيها ، وكتموا ما أخبرت عنه وجاءت به عن الناس ، وأظهروا عدم معرفتهم وعلمهم بأمر هذا النبي ، وعوضا عن اتباعهم لهذا النبي عليه الصلاة والسلام ، كما تأمرهم التوراة : 2. قاموا باتباع ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وحقيقة ما اتبعوه يُبيّنه سبحانه ، بالجملة المعترضة ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) أي الكفريّات التي ما زالت تتلوها الشياطين على ملك سليمان ، ومجيء الفعل ( تتلوا ) بصيغة المضارع ، يُفيد بأنهم على اتّصال دائم بالشياطين ، وأن الشياطين ما زالت تتحدّث إليهم ، بكفريّات تنسبها إلى سليمان عليه السلام ، يُبرأه سبحانه منها بقوله ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، وعوضا عن تعليم الناس تعاليم التوراة : 3. كانوا وما زالوا ، يُعلمون الناس السحر ، ويعلّمونهم أيضا نوعا آخرا من السحر ، كانوا قد تعلّموه أثناء تواجدهم في بابل ، هو ما أُنزل على الملكين هاروت وماروت ، اللذان لم يُعلّما أحدا من الناس ، إلا وقالا له ، ( إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلَا تَكْفُرْ ) وحقيقة ما كان يتعلّمه الناس من الملكين في بابل ، يُبيّنه سبحانه بالجملة المعترضة ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) . 4. ويُعقّب سبحانه على ما قامت به تلك الفئة بقوله ( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ … إلى آخر الآية ) . وهذا ما يقومون به لغاية الآن ، في محافلهم الماسونية ومدارسهم الدينية ، حيث يُمارسون ويُعلّمون منتسبيهم وتلاميذهم ، طقوس عبادة الشياطين ، وفنون السحر والشعوذة . عقوبتهم في الجزيرة العربية كانت جلاءً وليس عذابا : وأما عند مجيء الإسلام ، كان جزء منهم متواجد في الجزيرة العربية ، وأخرجوا منها زمن عمر رضي الله عنه ، قال تعالى ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ (2 الحشر ) ، والحشر معناه الجمع ، والجمع يختلف عن الجميع ، وقوله ( لأول الحشر ) أي بداية الجمع ، والجمع يكون عادة بعد التشرّد والشتات ، والمقصود هنا الجمع في الدنيا ، وليس الحشر بعد الموت والبعث ، حيث كانت وجهتهم عند الخروج إلى بلاد الشام ، وأما الجلاء الذي حكم الله به عليهم ، في زمن الرسول عليه السلام وصحبه الكرام ، لم يكن عذابا كالموصوف في سورة الإسراء ، لا في الوعد الأول ، ولا في الوعد الثاني ، فكيفية العقاب في المرتين متطابقة ، كما أوضحنا سابقا ، وهذا ما يقرره سبحانه في الآية التالية ( وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3 الحشر ) ، وقوله تعالى ( لعذّبهم ) ، يفيد بأن الجلاء لم يُعتبر عذابا بمعنى الكلمة ، أما قتل وسبي يهود بني قريظة ، فهو استثناء حصل لخطورة ما قاموا به من خيانة ، في أحرج لحظة ، في تاريخ الأمة الإسلامية . وإن لم يكن ما تقدّم مقنعا بما فيه الكفاية ، فانظر إلى قوله تعالى ( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7 الإسراء ) ، فأي مسجد الذي دخله المسلمون على اليهود آنذاك ، وما هو المسجد المقصود أصلا في هذه الآية ؟! وما صفة العلو الذي كان لهم آنذاك ؟! ، وأما فسادهم وإفسادهم في الجزيرة وغيرها من الأماكن ، فهو مشمول في الآية الكريمة ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64 المائدة ) ، ولاحظ قوله تعالى ( ويسعون ) ، حيث تفيد الاستمرارية والمثابرة ، على الإفساد في الأرض على عمومها ، وهذا هو ديدنهم على مر العصور ، لذلك كانوا عرضة للقتل والتنكيل ، أو النهب والسلب ، أو الطرد والنفي ، أينما حلوا وأينما ارتحلوا ، فطافوا معظم أرجاء من المعمورة وتواجدوا في كل قاراتها ، منذ 3 آلاف سنة واستمر حالهم هذا على مر العصور ، وهذا ما لم يقع في أي شعب من شعوب الأرض ، وكان الاستثناء الوحيد ، هو حصولهم على الدولة في القدس مرتين فقط . وبعد شتاتهم في المرة الأولى ، لم يكن لهم علو ، ولم يكن لهم جمع من الشتات ، الذي هو أحد شروط ومواصفات تحقق الوعد الثاني ، إلا ما نُشاهده الآن على أرض الواقع ، من علوا ظاهر مقترن بالفساد والإفساد ، في الأرض المُقدّسة فلسطين . -------------------------------------- الأخوة الكرام في الحلقة القادمة نعرض بعون الله : تاريخ اليهود في التوراة والتلمود هذا و بالله التوفيق أخوكم الشريف رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
ELSHARIF بتاريخ: 13 مارس 2005 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 13 مارس 2005 تاريخ اليهود في التوراة والتلمود ماهية التوراة : التوراة في ( لسان العرب ) : نجد أن هذه الكلمة ذات أصل عربي " ومصدرها وَرِيَ ، والوراء هو ولد الولد ، والواري هو السمين من كل شيء ، ووَرِيَ المخ يَرِي إذا اكتنز ، وناقة وارية أي سمينة ، وورَيْتُ النار توريةً ، إذا استخرجتها ، قال واستوريت فلانا رأيا ، أي سألته أن يستخرج لي رأيا ، ووريت الشيء وواريته أخفيته ، واستوريت فلانا رأيا أي طلبت إليه أن ينظر في أمري ، فيستخرج رأيا أمضي عليه ، ووريت الخبر ، أُورِيه توريةً ، إذا سترته وأظهرت غيره ، وكأنه مأخوذ من وراء الإنسان ، لأنه إذا قال وَرَيْته ، فكأنه يجعله وراءه حيث لا يظهر ، والتورية هي السَتْر " . ولو تدبرّنا كل المعاني السابقة ، لوجدنا أن هذ التسمية ( التوارة ، التورية حسب الرسم القرآني لها ) ، جاءت لتصف بدقة وبشمولية ، حال الكتاب الموجود بين أيدي اليهود ، منذ وفاة زكريا عليه السلام ، ولغاية الآن ، ولتصف الكيفية التي يتعامل بها اليهود مع هذا الكتاب ، فكتابهم في الواقع مكتنز وسمين ، فهو يحوي بين دفتيه ( 39 ) سفرا ، وإحدى نسخه المترجمة ، فيها ما يزيد عن 1128 صفحة ، بمعدل 380 كلمة لكل صفحة ، أي ما يفوق القرآن من حيث عدد الكلمات ، بِ (6) مرات تقريبا ، جُمع فيه ما أُنزل على أنبياء بني إسرائيل المتعاقبين تباعا ، من شرائع وأخبار ونبوءات غيبية ، وتاريخ وأساطير وخرافات ، وعلى فترات متباعدة ومتتالية ، ولمدة لا تقل عن ألف وخمسمائة سنة . التوراة لم تنزّل على موسى وكتابه جزء منها : وحسب النص القرآني ، في الآية ( يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65 آل عمران ) ، والآية ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ (46 المائدة ) ، نجد أن نزول التوراة ، حُصر في الفترة الزمنية الواقعة بين ، وفاة إبراهيم ونبوّة عيسى عليهما السلام ، ومن قوله تعالى ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ (44 المائدة ) ، نجد أنها أنزلت كمرجع لبني إسرائيل ( بني يعقوب عليه السلام ) ، لاستنباط واستخراج الأحكام الشرعية منها ، وفي قوله تعالى ( يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ (15المائدة ) وقوله ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187 آل عمران ) نجد وصفا لحال اليهود معها وما كان منهم ، في إخفائها وكتمانها وتحريفها ، وإظهار غير ما جاء فيها ، وكل ما قيل فيها من معاني في المعجم ، ينسجم مع واقع التوراة الحالي ، وليس على كتاب موسى فقط ، والذي هو في الأصل جزء منها ، وما كان الفصل بينها وبين موسى عليه السلام في القران ، إلا ليؤكد هذه الحقيقة . ولو تمعنّا في هذه الآية ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ - إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ - مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ - قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93 آل عمران ) ، وانظر قوله تعالى ( تُنَزَّلَ ) ، ولم يقل ( تُنْزَلَ ) ، والتنزيل غير الإنزال ، فالأول على مراحل ، والثاني لمرة واحدة ، ومن ثم انتقلنا إلى سورة الأنعام ، وتدبرنا الآيات ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ … (151) … (152) … (153) = ثُمَّ = آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154 الأنعام ) لوجدنا أن هذه الآيات توضح ، ما كان قد حُرّم عليهم في التوراة ، وأن مجيء أداة العطف ( ثُمَّ ) ، بعد ذكر ما جاء في التوراة مباشرة ، والتي تفيد لغةً ، الترتيب والتراخي في الزمن ، ومجيء العبارة ( آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) بعدها ، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أمرين ؛ الأول : أن التوراة شيء يختلف عن كتاب موسى عليه السلام ، والثاني : أنها سبقت كتاب موسى عليه السلام في النزول . التوراة كتاب يضمّ بين دفتيه جميع ما أُنزل على أنبياء بني إسرائيل : والأرجح أنها أُنزلت مفرّقة بدءاً من يعقوب أو إسحاق ، وانتهاءً بزكريا عليهم السلام ، وأنها مجمل ما أُنزل على أنبياء بني إسرائيل من كتب ، ومن ضمنها ما أُنزل على يعقوب ويوسف ، وموسى وداود وسليمان وزكريا ، وبقية أنبيائهم ، ممن لم تذكر أسمائهم ، في القرآن عليهم السلام أجمعين ، قال تعالى ( وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136 البقرة ) ولاحظ أن ترتيب أسماء الأنبياء ، في هذه الآية جاء متعاقبا حسب الترتيب الزمني ، ولاحظ أيضا أنّ الإنزال ، شمل كل من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وتوقف . وأفرد موسى وعيسى مع أنهم من الأسباط وخصّهما بالإيتاء ، وأفرد النبيين من غير ذرية إبراهيم بالإيتاء أيضا ، والظاهر أن هناك فرق بين الإنزال والإيتاء ، وأما ماهية الأسباط فسنبينها في فصل آخر . ولو اطلعت على مجمل النصوص القرآنية ، لوجدت أن ما نُسب إلى موسى عليه السلام بالإيتاء ، هو الكتاب والفرقان والهدى وضياء وذكر والألواح والصحف ، وأن التوراة لم تنسب نصّا إلى موسى عليه السلام ، في أي موضع من المواضع ال (18) في القرآن ، وهي ( 6 مرات في آل عمران ، و7 مرات في المائدة ، ومرة واحدة في كلٍ من ، الأعراف والتوبة والفتح والصف والجمعة ) ، وخلاصة القول ، أن ذكر التوراة في القران ، يُقصد به مجموع ما أُنزل على أنبياء بني إسرائيل ، أي الكتاب الذي كان بأيدي اليهود زمن نزول القرآن ، وحتى عصرنا هذا ، وأن ذكر الكتاب ، يقصد به ما أُنزل على موسى لوحده ، والله أعلم . وأما ما يُنسب إلى موسى عليه السلام في التوراة الحالية ، فهي الأسفار الخمسة الأولى من مجموع أسفارها ، وهي أسفار التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية ، وعلى الأرجح أن بعض هذه الأسفار ، كسفر التكوين ، كان موجودا قبل موسى عليه السلام ، ومن المحتمل أن يكون هذا السفر ، هو مجموع صحف إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام . حقيقة التوراة على لسان المقدسي : جاء في كتاب ( البدء والتاريخ ) للمقدسيّ ، ما نصه : " وذلك أن ( بختنصر ) ، لما خرب بيت المقدس وأحرق التورية ، وساق بني إسرائيل إلى أرض بابل ، ذهبت التوراة من أيديهم ، حتى جدّدها لهم عزير فيما يحكون ، والمحفوظ عن أهل المعرفة بالتواريخ والقصص ، أن عزيرا ( عزرا الكاتب ) أملى التوراة في آخر عمره ، ولم يلبث بعدها أن مات ، ودفعها إلى تلميذ من تلامذته ، وأمره بأن يقرأها على الناس بعد وفاته ، فعن ذلك التلميذ أخذوها ودونوها ، وزعموا أن التلميذ ، هو الذي أفسدها وزاد فيها وحرفها ، فمن ثم وقع التحريف والفساد في الكتاب ، وبُدّلت ألفاظ التوراة ، لأنها من تأليف إنسان بعد موسى ، لأنه يخبر فيها ، عما كان من أمر موسى عليه السلام ، وكيف كان موته ووصيته إلى يوشع بن نون ، وحزن بني إسرائيل وبكاؤهم عليه ، وغير ذلك مما لا يشكل على عاقل ، أنه ليس من كلام الله عز وجل ، ولا من كلام موسى ، وفي أيدي السامرة توراة ، مخالفة للتوراة التي في أيدي سائر اليهود ، في التواريخ والأعياد وذكر الأنبياء ، وعند النصارى توراة منسوبة إلى اليونانية ، فيها زيادة في تواريخ السنين على التورية العبرانية ، بألف وأربع مائة سنة ونيف ، وهذا كله يدل على تحريفهم وتبديلهم ، إذ ليس يجوز وجود التضاد فيها من عند الله " . أما ما دفعني للبحث في أمر التوراة في البداية ، هو رغبتي في استخراج نص النبوءة منها ، ومقارنته مع نص سورة الإسراء ، واستقراء تاريخهم حسب ما يروونه هم بأنفسهم ، فيما إذا كان هناك ما يفيد تحقق الوعد الأول ، من خلال البحث في التوراة الحالية ، والموجودة تحت اسم العهد القديم ، في الكتاب المقدس الخاص بالنصارى ، حيث توفرت لديّ نسختين عنه ، باسم (كتاب الحياة / ترجمة تفسيرية / ط2 1988 / جي سي سنتر القاهرة ) ، وتقع في (1128) صفحة ، والأخرى باسم ( الكتاب المقدس / دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط ) وتقع في ( 1358 ) صفحة ، مترجمة عن التوراة اليونانية ، وبما أن عدد الصفحات كبير جدا ، ومن المؤكد أن هذا النص ، قد اعتراه الكثير من التحريف والتزوير من إضافة ونقص ، فهو يحتاج إلى قراءة مركزة ومتأنية ، من الألف إلى الياء ، مما يتطلب الكثير من الوقت والجهد ، فضلا عما تُصاب به من دوار ، كلما حاولت أن تستجمع ما ورد فيها ، من أفكار مشتتة ومضلِّلة ، ولما فيها من إسهاب وإطالة وتكرار ، لذلك كان لا بد لي ، من تحديد على من أُنزلت هذه النبوة ، وما هو المقصود بقوله سبحانه ( في الكتاب ) على وجه الدقة ، وفي أي فترة زمنية أُنزلت ، لتكون عملية البحث فيها أقل جهدا ، وعند بحثي عنها فيما نُسب إلى موسى عليه السلام من أسفار ، وجدتها في سفر التثنية ، وقد اعتراها الكثير من التشويه من حذف وإضافة ، وفيما يلي بعض من بقايا نصوصها التي توزعت على مدى ( 18 صفحة ) : سفر التثنية آخر الأسفار المنسوبة لموسى ، ويضم في ثناياه نصوص النبوءة : ملاحظة : النص مأخوذ من نسخة ( كتاب الحياة ) حيث أن التركيب اللغوي فيها ، أكثر قوة وتعبيرا ، إلا في مواضع نادرة ، نلجأ فيها للأخذ من النسخة الأخرى ( الكتاب المقدس ) وهو ما يرد بين [ … ] ، وما يرد بين ( … ) فهو تعقيب من المؤلف . ( وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2 الإسراء ) " إصحاح 26: آية 16: لقد أمركم الرب إلهكم هذا اليوم ، أن تعملوا بهذه الفرائض والأحكام ، فأطيعوا واعملوا بها من كل قلوبكم ومن كل نفوسكم ، 17: … وأن عليكم طاعة جميع وصاياه ،19: فيجعلكم أسمى من كل الأمم [ مستعليا على جميع القبائل ] التي خلقها في الثناء والشرف والمجد ، ( العلو ) ، … " . إخبار موسى عليه السلام بنص النبوءة ، كان قبل دخولهم إلى الأرض المقدسة : 27: 1-9: " وأوصى موسى وشيوخ إسرائيل الشعب قائلين : أطيعوا جميع الوصايا التي أنا أمركم بها اليوم . فعندما تجتازون نهر الأردن ، إلى الأرض التي يهبها الرب إلهكم لكم ، تنصبوا لأنفسكم حجارة كبيرة ، … وتكتبون عليها جميع كلمات هذه الشريعة ، … ثم قال موسى والكهنة واللاويون لجميع شعب إسرائيل " : سفر الخروج : " 20 : 2: أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر ديار عبوديتك ، 3: لا يكن لك آلهة أخرى سواي ، 4: لا تنحت لك تمثالا ولا صورة ، … ، 5: لا تسجد لهن ولا تعبدهن ، … ، 7: لا تنطق باسم الرب باطلا ، … ، 12: أكرم أباك وأمك ، … ، 13: لا تقتل ، 14: لا تزن ، 15: لا تسرق ، 16: لا تشهد على قريبك شهادة زور ، 17: لا تشته بيت جارك ، … ، ولا شيئا مما له " . وهذا ما يُسمّونه بالوصايا العشر ، واخترت النص من سفر الخروج ، كونه أكثر وضوحا ومطابقة للقرآن ، حيث ورد نص الميثاق والوصايا في ( البقرة 83 – 84 ) ، ( والأنعام 151 – 153 ) ، ( والإسراء 22 – 39 ) . ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4 الإسراء ) " 31: 16-21: و قال الرب لموسى : ما إن تموت وتلحق بآبائك ( مستقبلا ) … حالما أدخلهم إلى الأرض التي تفيض لبنا وعسلا ، … ، فيأكلون ويشبعون ويسمنون ، فإنهم يسعون وراء آلهة أخرى ، ويعبدونها ويزدرون بي ، وينكثون عهدي . فيحتدم غضبي عليهم في ذلك اليوم ، وأنبذهم وأحجب وجهي عنهم ، فيكونوا فريسة ، … ،: فمتى حلّت بهم شرور كثيرة ، ومصائب جمّة ، يشهد هذا النشيد عليهم ، لأنه سيظل يتردّد على أفواه ذريّتهم ، إذ أنني عالم بخواطرهم التي تدور بخلدهم الآن ، قبل أن أُدخلهم إلى الأرض كما [ أقسمت ] " . ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ (7 الإسراء ) " 28: 1-13: وإن أطعتم صوت الرب طاعة تامة ،حرصا منكم على تنفيذ جميع وصاياه فإن الرب إلهكم يجعلكم أسمى من جميع أمم الأرض . وإذا سمعتم لصوت الرب إلهكم ، فإن جميع هذه البركات تنسكب عليكم وتلازمكم ، … ، كما تتبارك ذُرّيّتكم ، وغلّات أرضكم ، ونتاج بهائمكم ، ويهزم الرب أمامكم أعدائكم القائمين عليكم ، فيقبلون عليكم في طريق واحدة ، ولكنّهم يُولّون الأدبار في سبع طُرق ، فيفتح الرب كنوز سمائه الصالحة ، فيمطر على أرضكم في مواسمها ، ويُبارك كل ما تنتجه أيديكم ، … ، فإنّه يجعلكم رؤوسا لا أذنابا ، متسامين دائما ( علو ) ، ولا يُدرككم انحطاط أبدا ( ذلّة ) … " . ( وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا (7 الإسراء ) " 28: 15 ولكن إن عصيتم صوت الرب إلهكم ، ولم تحرصوا على العمل بجميع وصاياه وفرائضه ، التي أنا آمركم اليوم بها ، فإن جميع هذه اللعنات تحل بكم وتلازمكم ، … ، وتحلّ اللعنة بأبنائكم ، وغلّات أرضكم ، ونتاج بهائمكم ، ويصبّ الربّ عليكم اللعنة والفوضى والفشل ، حتى تهلكوا وتفنوا سريعا لسوء أفعالكم ، إذ تركتموني ، ويتفشى بينكم الوباء حتى يُبيدكم ، وتصبح السماء من فوقكم كالنحاس ، والأرض من تحتكم كالحديد ، 25: ويهزمكم الربُّ أمام أعدائكم ، فتقبلون عليهم في طريق واحدة ، وتولون الأدبار أمامهم متفرقين في سبع طرق ، وتصبحون عبرة لجميع ممالك الأرض ، 26: وتكون جثتكم طعاما ، لجميع طيور السماء ووحوش الأرض ، ولا يطردها أحد [ وليس من يزعجها ] ، 28: ويبتليكم الرب بالجنون والعمى وارتباك الفكر [ وحيرة القلب ] ، 29: فتتحسّسون طرقكم في الظهر ، كما يتحسّس الأعمى في الظلام ، وتبوء طرقكم بالإخفاق ، ولا تكونون إلا مظلومين مغصوبين كل الأيام ، 32: يساق أولادكم وبناتكم إلى أمة أخرى … وما في أيديكم حيلة ، … ، 36: ينفيكم الرب أنتم ومَلِككم إلى أمة أخرى ، لا تعرفونها أنتم ولا آباؤكم ، … ، 37: وتصبحون مثار دهشة وسخرية وعبرة في نظر جميع الشعوب ، … ، 43: [ الغريب الذي في وسطك ، يستعلي عليك متصاعدا ، وأنت تنحط متنازلا ] ( عودة الذل وزوال العلو ) ، 44: … ، وهم يكونون رؤوساً وأنتم تكونون ذنبا " . النصوص الخاصة بالمرة الأولى : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ … (5 الإسراء ) " 28: 49 ويجلب الرب عليكم أمة من بعيد ، من أقصى الأرض ، فتنقضّ عليكم كالنسر ، 50: أمّة [ جافية الوجه ] يثير منظرها الرعب ، لا تهاب الشيخ ولا ترأف بالطفل ، 51: فتستولي على نتاج بهائمكم ، وتلتهم غلات أرضكم حتى تفنوا ، ولا تُبقِ لك قمحا ولا خمرا ولا زيتا ، … حتى تفنيك ، 52: وتحاصركم في جميع مدنكم ، حتى تتهدم أسواركم الشامخة الحصينة ، التي وثقتم بمناعتها ، … ، 58: فإن لم تحرصوا على العمل بجميع كلمات هذا الشريعة المكتوبة في هذا الكتاب ، … ، 59: فإن الرب يجعل الضربات النازلة بكم وبذرّيتكم ، ضربات مخيفة وكوارث رهيبة دائمة ، … ، 63: وكما سُرّ الرب بكم ، فأحسن إليكم وكثّركم ، فإنه سيُسرّ بأن يفنيكم ويهلككم فتنقرضون [ فتستأصلون ] من الأرض ، التي أنتم ماضون إلى امتلاكها ، 64: ويشتّتكم [ ويبددكم ] الرب بين جميع الأمم ،من أقصى الأرض الى أقصاها ، … ، 65: ولا تجدون بين تلك الأمم اطمئنانا ، ولا مقرّا لقدم ، بل يعطيكم الرب قلبا هلعا ، وعيونا أوهنها الترقب ، ونفوسا يائسة ( الذلة والمسكنة بين الأمم ) ، 66: و تعيشون حياة مفعمة بالتوتر ، مليئة بالرعب ليلا و نهارا . النبوءة جاءت بِقَسَم ولمرتين ( تكرار للنص السابق مع الإسهاب ) : 29: 1 وهذه هي نصوص العهد ، الذي أمر الرب موسى ، أن يقطعه مع بني إسرائيل في سهول موآب ، فضلا عن العهد الذي قطعه معهم في حوريب ، 2: ودعا موسى جميع إسرائيل ، … ، 29: 4 و لكن الرب لم يعطكم حتى الآن ، قلوبا لتعوا [ لتفهموا ] وعيونا لتبصروا و أذانا لتسمعوا ، … ، 9: فأطيعوا نصوص هذا العهد واعملوا بها ، [ لكي تفلحوا في كل ما تفعلون ] ، … ، 14: ولست أقطع هذا العهد وهذا القسم معكم وحدكم ، 15: بل … أُبرمه أيضا مع الأجيال القادمة ( حيث سيقع منهم الإفساد مرّتين مستقبلا ) ، … ، 18: فاحرصوا أن لا يكون بينكم ، من تأصّل فيه الشرّ ، فيحمل ثمرا علقما سامّا ، 19: فإن سمعَ كلام هذا القَسم يستمطر بركة على نفسه ( أي يزكّي نفسه ) قائلا : سأكون آمنا ، حتى ولو أصررت على الاستمرار في سلوك طريقي ( الإصرار على المعصية ) ، إن هذا يُفضي إلى فناء الأخضر واليابس ، على حد سواء ، 20: إن الرب لا يشاء الرفق بمثل هذا الإنسان ، بل يحتدم غضبه وغيرته عليه ، فتنزل به كل اللعنات المدوّنة في هذا الكتاب ، ويمحو اسمه من تحت السماء ، 22: فيشاهد أبناؤكم من الأجيال القادمة ، والغرباء الوافدون من أرض بعيدة ، بلايا تلك الأرض ، … ، 23: إذ تصبح جميع الأرض كبريتا محترقة لا زرع فيها ، … ، كانقلاب سدوم ( قوم لوط ) ، التي قلبها الرب من جراء غضبه وسخطه ، … ، 28: واجتثّهم من أرضهم ، بغضبٍ وسخطٍ وغيظٍ عظيم ، وطوّح بهم إلى أرض أخرى ( السبي والشتات ) ، … " . النصوص الخاصة بالمرة الثانية : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104 الإسراء ) 30: 1 وعندما تحلّ بكم هذه البركات واللعنات ( تحقق الوعد الأول من علو وإفساد وعقاب ) كلها التي وضعتها نُصب أعينكم ، وردّدتموها في قلوبكم بين الأمم ، حيث شتّتكم الرب إلهكم ، 2: ورجعتم إلى الرب إلهكم أنتم وبنوكم ، … ، 3: فإن الرب إلهكم يردّ سبيكم ويرحمكم ، ويلّم شتاتكم من بين جميع الشعوب ، التي نفاكم الرب إلهكم إليها ، … ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6 الإسراء ) 30: 5: ويعيدكم إلى الأرض التي امتلكها آباؤكم فتمتلكونها ، ويحسن إليكم ويكثّركم أكثر من آبائكم ، 30: 7: و يُحوّل الرب إلهكم كل هذه اللعنات ( العقاب الذي سيكون قد نزل بهم في المرة الأولى ) على أعدائكم ، وعلى مبغضيكم الذين طردوكم ( الذين أنزلوا بهم العقاب الإلهي في المرة الأولى ) ،30: 8 و أما أنتم فتطيعون صوت الرب من جديد ( في المرة الثانية ) ، وتعملون بجميع وصاياه التي أنا أوصيكم بها اليوم ، 9: فيفيض الرب عليكم خيرا ، في كل عمل ما تنتجه أيدكم ، ويكثّر ثمرة أحشائكم ، ونتاج بهائمكم ، أرضكم ، … ( وكل ما تقدم مشروط بالإحسان ) ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( 7 الإسراء ) ( تكرار ) 30: 10: هذا إن سمعتم لصوت الرب إلهكم ، وحفظتم وصاياه وفرائضه المدوّنة في كتاب الشريعة هذا ، ( أي تعاليم شريعة موسى في التوراة ، وليس تعاليم التلمود التي خطّها أحبارهم وكهنتهم ) ، وإن رجعتم إلى الرب إلهكم ، من كل قلوبكم ومن كل نفوسكم ، 11: إن ما أوصيكم به اليوم من وصايا ، ليست متعذّرة عليكم ولا بعيدة المنال ، … ، 15: انظروا : ها أنا قد وضعت أمامكم اليوم ، الحياة والخير والموت والشر ، 16: … أوصيتكم اليوم أن تُحبّوا الرب إلهكم ، وأن تسلكوا في طرقه ، وتطيعوا وصاياه وفرائضه وأحكامه ، لكي تحيوا وتنمو ، فيبارككم الرب ، في الأرض التي أنتم ماضون إليها لامتلاكها ، 17: ولكن إن تحوّلت قلوبكم ولم تطيعوا ، بل غويتم وسجدتم لآلهة أخرى وعبدتموها ، 18: فإني أنذركم [ أُنبّئكم ] اليوم أنكم لا محالة هالكون ، ولا تطول الأيام على الأرض ( أي مقامكم ) التي أنت عابر ( نهر ) الأردن لتدخلها وتمتلكها … 19: ها أنا أُشهد عليكم اليوم السماء والأرض ، قد وضعت أمامكم الحياة والموت ( أي وضحت لكم طريق النجاة وطريق الهلاك ، واستبدالها بكلمتي الحياة والموت من خلال النقل أو التحريف ، ترتّب عليه إنكار الحياة الآخرة ، واليوم الآخر من بعث وحساب ، فالجزاء عندهم دنيوي فقط ، فالثواب هو إطالة الحياة ، والعقاب هو قصرها ) ، البركة واللعنة ( أي الجزاء في الدنيا ) ، فاختاروا الحياة ( أي الشريعة ) لتحيوا ( لتنجوا من عذاب الدنيا والآخرة ) أنتم ونسلكم ، 20: إذ تحبّون الرب إلهكم و تطيعون صوته ، وتتمسّكون به لأنه هو حياتكم ( أي نجاتكم ) والذي يُطيل أيامكم لتستوطنوا [ لكي تسكنوا ] الأرض التي حلف الرب لآبائك ، إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لكم . الدخول أول مرة كان بحبل من الله : 31: 1: ومضى موسى يقول لبني إسرائيل : 2: … وقد قال لي الرب : لن تعبر هذا الأردن ، 3: ولكن الرب إلهكم هو عابر أمامكم ، وهو يبيد تلك الأمم من قدّامكم فترثونهم ، … ، 6: [ تشدّدوا ] وتشجّعوا ، لا تخشونهم ولا تجزعوا منهم ، لأن الرب إلهكم سائر معكم ، لا يهملكم ولا يترككم . حتمية إفسادهم وعقابهم في المرة الثانية : 31: 28 اجمعوا إليّ جميع شيوخ أسباطكم و عرفاءكم ( النقباء ) ، لأتلو على مسامعهم هذه الكلمات ، وأشهد عليهم السماء والأرض ، 29: لأنني واثق أنكم بعد موتي ، تفسدون وتضلون عن الطريق الذي أوصيتكم بها ، فيصيبكم الشرّ في آخر الأيام ( المرة الثانية تكون آخر الزمان ) ، لأنكم تقترفون الشر أمام الرب ، حتى تثيروا غيظه بما تجنيه أيديكم ، 30: فتلا موسى في مسامع كل جماعة إسرائيل [ بكلمات ] هذا النشيد ، … ( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2 الإسراء ) 32: 3: باسم الرب أدعو فمجّدوا عظمة إلهنا ، 4: هو الصخر ( الوكيل ) [ الكامل صنيعه ] ، سبله جميعها عدل ، هو إله أمانة لا يرتكب جورا ، صديق وعادل هو ، 5: لقد اقترفوا الفساد أمامه ، ولم يعودوا له أبناء ، بل لطخة عار ، إنهم جيل أعوج وملتو ، 6: أبهذا تكافئون الرب ، أيها الشعب الأحمق الغبيّ ، أليس هو أباكم وخالقكم ، الذي عملكم وخلقكم ، 7: اذكروا الأيام الغابرة ، وتأملوا في سنوات الأجيال الماضية ، اسألوا آبائكم فينبئوكم ، وشيوخكم فيخبروكم ، 10: وَجَدَهم في أرض قفرٍ وفي خلاء موحشٍ ، فأحاط بهم ورعاهم وصانهم ، 12: … وحده قاد شعبه ، وليس معه إله غريب ( أي آخر ) ، 13: أصعدهم على هضاب الأرض ، فأكلوا ثمار الصحراء ، وغذّاهم بعسل من حجر ، وزيتا من حجر الصوّان ، و … و … الدخول الثاني كان بحبل من الناس ، إذ لا حاجة بهم إلى الله : 15: فسمن بنو إسرائيل ورفسوا ، سمنوا وغلظوا واكتسوا شحما ( كناية عن الترف ) ، فرفضوا الإله صانعهم وتنكّروا لصخرة خلاصهم ، 16: أثاروا غيرته بآلهتهم الغريبة ، وأغاظوه بأصنامهم الرجسة ، 17: لآلهة غريبة لم يعرفوها بل ظهرت حديثا ( المال والقوة والناس ) ، آلهة لم يرهبها آباؤهم من قبل ، 18: لقد نبذتم الصخر الذي أنجبكم ونسيتم الله الذي أنشأكم ( وهذا حالهم وحال دولتهم الحالية ) . ( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ … (7 الإسراء ) 19: فرأى الرب ذلك ورذلهم ، إذ أثار أبناؤه وبناته غيظه ، 20: وقال : سأحجب وجهي عنهم فأرى ماذا سيكون مصيرهم ؟ إنهم جيل متقلب وأولادُ خونة ، 21: … ، لذلك سأثير غيرتهم بشعب متوحش ( أولي بأس شديد ) ، وأغيظهم بأمة حمقاء [ أمة لا تفهمون لغتها ] 22: فها قد أضرم غضبي نارا ، تُحرق حتى الهاوية السفلى ، وتأكل الأرض وغلّاتها ، وتحرق أسس الجبال ، 23: أجمع عليهم شرورا ، وأُنفذ سهامي فيهم ، 24: أجعل أنياب الوحوش ، مع حمّة زواحف الأرض تنشب فيهم ، 25: يثكلهم سيف العدو في الطريق ، ويستولي عليهم الرعب داخل الخدور ، فيهلك الفتى مع الفتاة ، والرضيع مع الشيخ ، 26: قلت : أشتّتهم في زوايا الأرض ، وأمحو من بين الناس ذكرهم ( أي في المرة الأولى ) ، 27: لولا خوفي من تبجح العدو ، إذ يظنون قائلين : إن يدنا قد عَظُمت ( أعداء بني إسرائيل ) ، وليس ما جرى من فِعل الرب . ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ (7 الإسراء ) 32: 28 إن بني إسرائيل أمة غبية ولا بصيرة فيهم (لا يعقلون ولا يفقهون ) ، 29: لو عقلوا لفطنوا لمآلهم وتأملوا في مصيرهم ، 32: إذ أن كرمتهم من كرمة سدوم ، ومن حقول عمورة ، ( تشيه إفسادهم وإصرارهم ، بإفساد قوم لوط وإصرارهم ) وعنبهم ينضح سمّا ، وعناقيدهم تفيض مرارة ، 33: خمرهم حمّة الأفاعي ، وسمُ الثعابين المميت 32: 34 أليس ذلك مدخرا عندي ، مختوما عليه في خزائني ، 35: لي النقمة وأنا أُجازي ، في الوقت المعين ( مجيء الوعد ) ، تزلّ أقدامهم ، فيوم هلاكهم بات وشيكا ، ومصيرهم المحتوم يُسرع إليهم ، ( كلما أمعنوا في الإفساد كلما اقترب موعد هلاكهم ) . ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ … ( 8 الإسراء ) " 36: لأن الرب يدين شعبه ( بني إسرائيل ) ويرأف بعبيده ، عندما يرى أن قوّتهم قد اضمحلت ( زالت ، بعد المرة الثانية ) … " . ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56 الإسراء ) " 32: 37 عندئذ يسأل الرب : أين آلهتهم ؟ أين الصخرة التي التجأوا إليها ؟ 38: لتهبّ لمساعدتكم ، وتبسط عليكم حمايتها ، 39: انظروا الآن : إني أنا هو وليس إله معي ، أنا أميت وأحيي ، أسحق وأشفي ، ولا منقذ من يدي ، … ، 41: إذا سننت سيفي البارق ، وأمسكتْ به يدي للقضاء ، فإني أنتقم من أعدائي وأجازي مبغضيّ ، 42: أُسكر سهامي بالدم ويلتهم سيفي لحما ، بدم القتلى والسبايا ، ومن رؤوس قواد العدو ( قادة إسرائيل ) ، … " . موسى عليه السلام يُخبر بنص النبوءة قبل موته : " 32: 45 وعندما انتهى موسى ، من تلاوة جميع كلمات هذا النشيد على الإسرائيليين ، 46: قال لهم : تأمّلوا بقلوبكم في جميع الكلمات ، التي أنا أشهد عليكم بها اليوم ، لكي توصوا بها أولادكم ، ليحرصوا على العمل بكلمات هذه التوراة كلها ، 47: لأنها ليست كلمات لا جدوى لكم منها ، إنها حياتكم وبها تعيشون طويلا ، في الأرض التي أنتم عابرون نهر الأردن إليها لترثوها … 34: 5: فمات موسى عبد الرب ، في أرض موآب [حسب ] قول الرب " . نلاحظ هنا أن النبوءة ، اعتراها بعض التشويه من حذف أو إضافة أو تبديل ، ولكنها حافظت على خطوطها العريضة ، ونلاحظ أيضا أنها فصلت المرتين كل منهما على حدة . حيثيات نفاذ الوعد الأول في الأسفار الآخرى التوراة كمرجع تاريخي غير موثوق به : يرجّح كثير من الناقدين والباحثين الغربيون ، من الذين وضعوا التوراة تحت المجهر ، كونها العهد القديم من كتابهم المقدس ، أنها كتبت بأيدي بشر ، وذلك لما تحفل به من خرافات وأساطير ، ولتناقضها مع العهد الجديد ( الإنجيل ) ، وتناقضها مع المنطق والواقع ، وتناقضها أيضا ، مع المصادر التاريخية الأخرى في مواضع عديدة ، ويُجمع الكثير منهم أن كتابتها وجمعها ، قد تم بعد السبي البابلي ، وجاء القرآن ليكشف الكثير من أكاذيبها وافتراءاتها ، ومن خلال اطّلاعي عليها ، تبين لي أن من قام بإعادة كتابة التوراة ، هم أشخاص مشبعون بمشاعر الحقد والقهر والنقمة والرغبة في الانتقام ، وكل هذه المشاعر ، موجهة بالترتيب نحو : 1. رب العزة جلّ وعلا ، ( يقولون أن يعقوب عليه السلام صرع الله في البرية ، واستطاع الله النجاة بعضّ يعقوب في فخذه ، فسبب له عرق النساء ، ومن أجل ذلك لا يأكل اليهود عرق النساء الذي في الفخذ ، سفر التكوين 32: 24-32 ، ويقولون عنه سبحانه أنه كثير البكاء وكثير الندم على ما أنزله بشعبه المقدس ، ولذلك كانوا وما زالوا يعتقدون ، أن الله سيصلح خطأه معهم ، بإعادتهم إلى وطنهم ، الذي طُردوا منه بلا ذنب أو خطيئة ، فالخطأ منسوب إلى الله ورسله وملائكته والشعوب المجاورة ، أما شعب الله المقدّس ، فليس له خطيئة فهو حمل وديع ، وهذا نوع من الإسقاط النفسي ، لعظم الخطيئة ، وفداحة العقاب الذي وقع منهم وبهم ) . 2. الرسل والأنبياء ، ( يقولون أن موسى وهارون خانا الرب وسط الشعب التثنية ؛ 32: 50-51 ، وهارون هو الذي صنع العجل الذهبي ، الخروج 32: 1-6 ، وداود ارتكب خطيئة الزنا مع زوجة الجندي ؛ صموئيل الثاني ، 11: 1-27 ، وسليمان عبد آلهة أخرى ، وفعل الشرّ في عيني الرب ، كما فعل أبوه ؛ ملوك أول 11: 1-8 ) . 3. الكنعانيون القدماء وورثتهم الجدد ( الفلسطينيون ) ، ( سفر التكوين 9: 20-27: واشتغل نوح بالفلاحة وغرس كرما ، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خيمته ، فشاهد حام أبو الكنعانيين عُريّ أبيه ، فخرج وأخبر أخويه اللذين كانا في الخارج ، فأخذ سام ويافث ، رداءً ووضعاه على أكتافهما ، ومشيا القهقرى إلى داخل الخيمة ، وسترا عورة أبيهما من غير أن يستديرا بوجهيهما نحوه فيُبصرا عورته . وعندم أفاق نوح من سكره ، وعلم ما فعله ابنه الصغير ، قال : ليكن كنعان ملعونا ، وليكن عبد العبيد لأخوته ، ثم قال : تبارك الله إله سام ، وليكن كنعان عبدا له ، ليوسع الله ليافث ، وليكن كنعان عبدا له ) . 4. الكلدانيون في بابل ، وورثتهم الجدد ( العراقيون ) ، ( وأحقادهم على بابل وأهلها ، أُفرد الحديث عنها في موضع آخر ) . 5. جميع شعوب الأرض ما عدا اليهودي الصرف . ( والأمثلة على ذلك موجودة في أسفار موسى ، ونصوص التلمود ) . 6. سبط بنيامين الأخ الشقيق ليوسف عليه السلام . وكل مشاعر الحقد والرغبة في الانتقام ممن ذُكروا أعلاه ، أفرغها الكتبة ( الكهنة والحكماء ) في كتابهم المقدس ( التوراة ) ، فأعادوا جمعها ونسخها ، تحت وطأة انفعالات نفسية رهيبة ، وفبركة جميع أسفارها ، بما يتناسب مع تلك المشاعر ، بعد السبي البابلي ، أكبر فاجعة أُصيب بها بنو إسرائيل والأكثر إيلاما على مرّ التاريخ . وتبين لي أن هناك تطويل وتكرار غير مبرر ، لنفس الحدث أو الموضوع ، وأحيانا يكون هذا التكرار ، لنفس السفر كاملا تحت مسميين ، مثل أسفار أخبار الأيام وأخبار الملوك ، مع اختلاف بسيط ، وأحيانا لنفس الفقرة في نفس السفر ، وهذا التكرار يدل على أن نصوص التوراة جُمعت ، على الأقل من مصدرين مختلفين ، وأُخذت النصوص منهما ، وجُمعت في كتاب واحد ، دون تفضيل نص على آخر ، فالحدث الواحد أحيانا يتكرّر مرتين وثلاثة ، دون وجود فارق جوهري في المضمون . وبعد أن قمت بمطالعة التوراة بشكل مُتكرّر ، تأكدت من هذه الحقيقة ، التي لم يكن قد تنبّه لها الباحثون والناقدون من قبل ، وهي أن التوراة قد جمعت فعلا ، من نسختين مُختلفين ، وأن إحدى النسختين حُرّفت أكثر من الأخرى ، وأن لغة كل منهما تختلف عن الأخرى ، فغالبا ما يكون هناك مُسمّين لنفس الشخص أو المكان ، حتى يخال للقارئ أنها أسماء لشخوص أو أماكن مختلفة ، وكمثال على ذلك إبرام وإبراهيم ، وساراي وسارة ، وصحراء سين وصحراء سيناء ، ومملكة يهوذا ومملكة إسرائيل ، والسبي البابلي والسبي الآشوري . وهذا الارتباك الذي وقع فيه مؤلفو التوراة المتأخرون ، أثناء محاولة التوفيق بجمع ما جاء في النسختين ، تسبب في هذا العرض التأريخي المشوّه للوقائع ، مما أفقد التوراة مصداقيتها حتى للكثير من الباحثين اليهود أنفسهم ، ولكل من بحث من علماء التنقيب والآثار . ولكنها بقيت المرجع التاريخي الوحيد لتاريخ بني إسرائيل . وفي كثير من الأحيان ، تشعر بسخافة كتابها ، من سخافة أفكارها وأخبارها ، وسخافة تبريرها وتعليلها ، كقصة عرق النساء وصراع يعقوب مع الله ، وفبركة قصة نوح وأولاده أعلاه ، ناهيك عن ألفاظها البذيئة ، التي أحيانا تترفع عن كتابتها حتى الروايات الهابطة ، ورائحة اللحوم والدماء ، والخمور والمشاوي والهش والنش … إلى آخره ، وما يربط التوراة بالوحي ، هو ما يظهر في ثناياها من خطوط عريضة ، هي البقية الباقية التي سلمت من أيديهم ، رغما عن أنوفهم ، وهذا لا يعني ألا نقرأ هذا الكتاب ، بل على العكس تماما ، توّجب على المسلمين قراءته ، وقراءة التلمود أيضا منذ أمد بعيد ، وقراءة ما كُتب فيهما من مؤلفات ناقدة ، لمعرفة العقلية التي يفكر بها هؤلاء ، ولمعرفة ما يطمحون إليه ، والحقيقة أني ما كنت لأقرأها ، وأقرأ ما كُتب فيها من مؤلفات عديدة ، لولا هذا البحث . مملكة شمالية ومملكة جنوبية : تقول الأسفار التاريخية في التوراة ، بأن مملكة سليمان ، انقسمت بعد موته إلى مملكتين ، جنوبية في القدس واسمها يهوذا ( القدس ) وهي الأصل ، وشمالية واسمها إسرائيل ( نابلس ) وهي المنشقة . وصف فساد المملكة الشمالية : يذكر كتبة التوراة ، أن المملكة الشمالية فسدت وأفسدت ، ( ملوك أول :12 :25-33 ) " وحصّن يربعام ( ملك الشمالية ) مدينة شكيم ( نابلس ) ، في جبل أفرايم وأقام فيها ، … ، وبعد المشاورة سبك الملك عجليّ ذهب ، وقال للشعب : إن الذهاب إلى أورشليم للعبادة ، يعرضّكم لمشقة عظيمة ، فها هي آلهتك يا إسرائيل ، التي أخرجتك من ديار مصر " . وأما إفسادهم حسب ما يروونه هم عن أنفسهم ، فقد جاء في سفر الملوك الثاني ما نصه ، " 17: 9: وارتكب بنو إسرائيل في الخفاء المعاصي ، في حقّ الرب إلههم ، … 11: واقترفوا الموبقات لإغاظة الرب ، عابدين الأصنام التي حذّرهم ونهاهم الربّ عنها ، … 13: قائلا : ارجعوا عن طرقكم الأثيمة ، وأطيعوا وصاياي وفرائضي بمقتضى ، التي أوصيت آبائكم بتطبيقها ، … على لسان عبيدي الأنبياء ، 14: لكنهم أصمّوا آذانهم ، وأغلظوا قلوبهم كآبائهم ، … 16: ونبذوا جميع وصايا الرب ، 17: … ، وتعاطوا العرافة والفأل ( السحر والكهانة ) ، … 22: ولم يعدل الإسرائيليون عن ارتكاب جميع خطايا يربعام ، بل أمعنوا في اقترافها ، 23: فنفى الرب إسرائيل من حضرته ،كما نطق على لسان جميع الأنبياء ، فسبي الإسرائيليون إلى أشور ، إلى هذا اليوم " ( أي اليوم الذي كتبوا فيه هذا النص بعد السبي بمدة طويلة ) . وصف فساد المملكة الجنوبية : وأما ما يُنسب من إفساد إلى ملوك المملكة الجنوبية ، فقد جاء في نفس السفر ما نصه ، " 21: 2: وارتكب الشرّ في عينيّ الربّ ، مقترفا رجاسات الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل ، 3: … ، وأقام مذابح البعل ، ونصب تماثيل عشتاروت ( مدينة بابلية ) ، وسجد لكواكب السماء وعبدها ، 6: ولجأ إلى أصحاب الجانّ والعرّافين ، وأوغل في ارتكاب الشرّ ، … 10: ثم قال الرب على لسان عبيده الأنبياء : لأن منسّى ملك يهوذا اقترف جميع هذه الموبقات ، وأضلّ يهوذا … ، 12: … ، ها أنا أجلب شرا على أورشليم ويهوذا ، 13: … ، وأمسح أورشليم كما يّمسح الطبق من بقايا الطعام ، 14: وأنبذ شعبي وأسلمهم إلى أيدي أعدائهم ، فيصبحون غنيمة وأسرى لهم ، 15: لأنهم ارتكبوا الشرّ في عيني ، … 16: وزاد منسّى فسفك دم أبرياء كثيرين ، حتى ملأ أورشليم من أقصاها إلى أقصاها ، فضلا عن خطيئته التي استغوى بها يهوذا ، … " . وتخبر التوراة أن الحروب استمرت بين المملكتين ، واستعانة المغلوب بالأقوام المجاورة على الآخر ، إلى أن جاء الغزو الآشوري ، وسبى المملكة الشمالية 721 ق.م . وتتابعَ الملوك الجنوبيون في ارتكاب الشرّ في عينيّ الرب ( حسب قولهم ) ، وفي عهد الملك يهوياقيم ، هاجم نبوخذ نصر ( بختنصر ) مملكة يهوذا وخضعت له ثلاث سنوات ، ثم تمردّ عليه ( يهوياقيم ) ، " 24: 2: فأرسل الرب غزاة من كلدانيين وأراميين وموآبيين وعمّونيين ( سكان العراق والأردن القدماء ) ، للإغارة على مملكة يهوذا وإبادتها ، بموجب ما قضى به الرب ، على لسان عبيده الأنبياء ، 4: وانتقاما للدم البريء الذي سفكه ( منسّى ) ، إذ أنه ملأ أورشليم بدم الأبرياء ، … " . وفي عهد الملك ( يهوياكين ) " 24: 10: … زحف قادة نبوخذ نصر ملك بابل على أورشليم ، وحاصروا المدينة ، ثم جاء نبوخذ نصر بنفسه وتسلّم زمام القيادة ، فاستسلم ( يهوياكين ) … واستولى على جميع ما في خزائن الهيكل والقصر ، … ، تماما كما قضى الرب ، 14: وسبى نبوخذ نصر أهل أورشليم ، " ( وكما يقولون أنه ولّى ابن عم الملك خلفا له ، وسمّاه صدقيّا ، وبعد سنوات ارتكب صدقيّا الشر في عيني الرب كالعادة ، وتمرّد على ملك بابل ، وآنذاك ) ، " 25: 1: زحف نبوخذ نصر ملك بابل ، بكامل جيشه على أورشليم وحاصرها ، … ، 3: تفاقمت المجاعة في المدينة ، حتى لم يجد أهلها خبزا يأكلونه ، 6: فأسروا الملك ( الذي كان ينوي الهرب ) واقتادوه إلى ملك بابل ، … ، ثمّ قتلوا أبناء صدقيّا على مرأى منه ، وقلعوا عينيه ، وساقوه إلى بابل ، … ، 9: وأحرق الهيكل وقصر الملك وسائر بيوت أورشليم ، وسبى نبوزرادان ( قائد الحرس الملكي ) بقية الشعب … ، 121 ، ولكنه ترك فيها فقراء الأرض المساكين . 13: وحطم الكلدانيون أعمدة النحاس وبركة النحاس … إلى آخره ، ( كل محتويات الهيكل ونقلوها إلى بابل ) ، 18: وسبى رئيس الحرس الملكي ( سرايا رئيس الكهنة وأعوانه وقادة الجيش وندماء الملك ، وفي المجمل هم علية القوم وزمرة الفساد والإفساد في الأرض ) فقتلهم ملك بابل في المعسكر في أرض حماة ( المدينة السورية ) ، وهكذا سُبي شعب يهوذا من أرضه " . فما أطول باله هذا النبوخذ نصر ، حتى يزحف عليهم مرارا وتكرارا . والحقيقة أنه زحف عليهم مرة واحدة ، وبشكل مفاجئ فأباد مملكتهم ، وما هذا التطويل والتطويل والتكرار ، إلا من صنع أيدي الكتبة ، وما ( يهوياقيم ) و( يهوياكين ) ، إلا تسميتين لنفس الملك الذي حصل في عصره السبي البابلي . مملكة واحدة وبعث واحد : ما تقدم من نصوص ، كان من الأسفار ، التي يُسمّونها الأسفار التاريخية ، التي أرخّت لعصر الملوك ، ابتداءً من طالوت وداود وسليمان ، وانتهاءً بيهوياكين الذي وقع السبي البابلي في عصره . والحقيقة أنه لم يكن هناك مملكتين ، ولم يكن هناك سبيين ، وإنما مملكة واحدة وسبي واحد . ولكن نتيجة كتابة التوراة بتلك الطريقة المزدوجة ، أصبحت المملكة مملكتين ، وأصبح الزحف البابلي زحفين ، ولحل الإشكال قولبوه في زمانين مختلفين . أما إدّعاء انقسام المملكة ، فالقرآن أثبت بطلانه في موضعين ، أولا ؛ ذُكر العلو مرتين كأمة في زمانين مختلفين ، ثانيا ؛ الآية التي تتحدث عن سفكهم دمائهم وإخراجهم أنفسهم ، تؤكد أن ذلك لم يكن انشقاق في الحقيقة ، بل كان ذلك قتل وإخراج وسلب ، لطائفة مستضعفة من قومهم ، وفي الحقيقة ، وقع هذا الفعل ، في سبط الأخ الشقيق ليوسف عليه السلام ، الذي تُسميه التوراة ( ببنيامين ) ، وما كان بإمكان هؤلاء ، إقامة دولة في أراضي الكنعانيين المجاورة ، التي لجأوا إليها ، وما كانت حروبهم مع المملكة الأم ، إلا ضمن جيوش الكنعانيين وهو الأرجح ، أو كثوّار لاسترداد أسلابهم وديارهم . وربما أن بعضهم استنجد بالبابليين ، كنوع من الانتقام ، ( بأسهم بينهم شديد ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى ) فاستجابوا لهم ، وربما كان ذلك طمعا في كنوز هيكل سليمان ، والله أعلم . حيث لم يأتي أي ذكر في التاريخ للسبي الآشوري ، لعشرة أسباط ( قبائل ) من المملكة الشمالية ، حسب ما يدّعي مؤلفو التوراة ، حتى أن بعض الباحثون الذين صدّقوا التوراة ، يتساءلون عن كيفية اختفاء تلك القبائل ، التي سُبيت إلى مدينة أشور برمتها ، ومن المرجّح أن اختراع قصة المملكة الثانية وسبيها ، هو أحد مظاهر الإسقاط النفسي ، لمن عوقبوا ، على الذين لم يُعاقبوا ، من الذين أُخرجوا من ديارهم رغم أنوفهم ، تجنبا وتخفيفا للشعور بالألم ، كلما طرأ على مخيلتهم تلك الذكرى الأليمة ، ويحصل هذا عادة على المستوى الشخصي ، فور تعرض الشخص لحادثة مؤلمة ، فيعزو الأخطاء التي تسببت في الحادثة إلى الآخرين . تحذيرات الأنبياء من الإفساد جاء التحذير من الاستهانة بنص النبوءة ، ومغبة الإفساد عند العلو ، والتخويف من العقاب ، التي كانت بدايتها نصا في كتاب موسى عليه السلام ، وعلى لسان كل الأنبياء المتعاقبين ، داعين إلى الالتزام بشريعة موسى ، ومحذّرين من تركها ومخالفتها على مدى عمر مملكتهم ، بدءا من سليمان عليه السلام ، وانتهاءً بإشعياء وإرمياء عليهما السلام ، إن كانوا أنبياء . وهذا هو التحذير الذي جاء على لسان سليمان ، بعد انتهاءه من بناء الهيكل ، الأيام الثاني : " 7: 19: ولكن إن انحرفتم ونبذتم فرائضي التي شرعتها لكم ، وضللتم وراء آلهة أخرى وعبدتموها وسجدتم لها ، 20: فإني أستأصلكم من أرضي التي وهبتها لكم ، وأنبذ هذا الهيكل الذي قدّسته لاسمي ( جعلته قائما لذكري ) ، وأجعله مثلا ومثار هُزءٍ لجميع الأمم ، 21: ويغدو هذا الهيكل الذي كان شامخا ، عبرة يُثير عجب كل من يمرّ به " . وبالإضافة إلى ما تقدم ، هذا عرض لجزء يسير ، من النصوص الكثيرة والمطوّلة والمكرّرة ، لما جاء في أسفار بعض أنبيائهم ( الكبار ) ، اخترناها لتكتمل معالم الصورة من الجانب الآخر . تحذيرات إشعياء : إشعياء هو أول الأنبياء الكبار وهم أربعة ، ويُقال أنه بُعث في فترة ، بلغ فيه إفساد بني إسرائيل الذروة ، قبل وقوع السبي البابلي ، حيث أن سفره ، جاء حافلا بالتقريع والتوبيخ والتحذير والإنذار ، والتذكير بنص النبوءة الذي جاء به موسى ، ويروى أنه من الأنبياء الذين قُتلوا ( التعريف بأصحاب الأسفار من الأنبياء ، مستقاة من مقدمة المترجم لكل سفر ) : 1: 4: ويل للأمة الخاطئة ، الشعب المثقل بالإثم ، ذرية مرتكبي الشرّ ، أبناء الفساد . 10: اسمعوا كلمة الرب يا حكام سدوم ( قرية لوط ) ، … 15: عندما تبسطون نحوي أيديكم أحجب وجهي عنكم ، وإن أكثرتم الصلاة لا أستجيب ، لأن أيديكم مملوءة دما ، 16: اغتسلوا ، تطهّروا ، أزيلوا شرّ أعمالكم من أمام عيني ، كفوا عن اقتراف الإثم ، 17: وتعلّموا الإحسان ، انْشدوا الحقّ ، انصفوا المظلوم ، اقضوا لليتيم ، ودافعوا عن الأرملة ، … 19: إن شئتم وأطعتم ، تتمتعون بخيرات الأرض ، وإن أبيتم وتمرّدتم فالسيف يلتهمكم ، لأنّ فم الربّ قد تكلّم " ( ويستطرد واصفا حال المدينة آنذاك ) ، " 21: … كانت تفيض حقّا ، ويأوي إليها العدل ، فأصبحت وكرا للمجرمين ، 22: صارت فضّتك مزيّفة ، وخمرك مغشوشة بماء ، 23: أصبح رؤساءك عصاة ، وشركاء لصوص ، يُولعون بالرشوة ويسعون وراء الهبات ، لا يدافعون عن اليتيم ، ولا تُرفع إليهم دعوى الأرملة " . " 3: 8: قد كَبَت ( وقعت ) أورشليم ، انهارت يهوذا ( المملكة ) ، لأنهما أساءتا بالقول والفعل إلى الرب ، وتمرّدتا على سلطانه ، 9: ملامح وجوههم تشهد عليهم ، إذ يجاهرون بخطيئتهم كسدوم ولا يسترونها ، فويل للذين جلبوا على أنفسهم شرّا ، 10: ولكن بشّروا الصدّيقين بالخير ، لأنهم سيتمتعون بثواب أعمالهم ، 11: أمّا الشرّير فويل له وبئس المصير ، 12: … إن قادتكم يُضلّونكم ويقتادونكم في مسالك منحرفة … " . " 4: 11: ويل لمن … يسعون وراء المُسْكِر … ، 12: يتلهّون في مآدبهم بالعود والرباب والدف والناي والخمر ، غير مكترثين بأعمال الربّ ، … 13: لذلك يُسبى شعبي لأنهم لا يعرفون ، ويموت عُظماؤهم جوعا ، وتهلك العامة عطشا ، … 15: ويُذلّ الإنسان ويُخفض الناس ويُحطُّ كل متشامخ فيها ، ( الذل بعد العلو ) … 18: ويل لمن يجرّون الإثم بحبال الباطل ، … 19: ويقولون ليُسرع ويُعجّل بعقابه حتى نراه ( انظر الآيات 92،99 الإسراء و58،59 الكهف ) ، ليُنفذ مقدّس إسرائيل مآربه فينا ، فندرك حقيقة ما يفعله بنا ، 21: ويل للحكماء في أعين أنفسهم ، والأذكياء في نظر ذواتهم ، … 25: لذلك احتدم غضب الرب ضدّ شعبه ، فمدّ يده عليهم وضربهم ، فارتعشت الجبال ، وأصبحت جثث موتاهم كالقاذورات في الشوارع ، ومع ذلك لم يرتدّ غضبه ، ولم تبرح يده ممدودة بالعقاب ، 26: فيرفع راية لأمم بعيدة ، ويصفر لمن في أطراف الأرض ، فيقبلون مُسرعين ، 27: دون أن يكلّوا أو يتعثروا أو يعتريهم نُعاس أو نوم ، … 28: سهامهم مسنونة ، وقسيّهم مشدودة ، حوافر خيلهم كأنها صوّان ، عجلات مركباتهم مندفعة كالإعصار ، 29: زئيرهم كأنه زئير أسد ، يزمجر وينقض على فريسته ، ويحملها وليس من منقذ ، 30: يُزمجرون … كهدير البحر ، وإن جاس أحدهم في البلاد متفرسا ، لا يرى سوى الظلمة والضيق ، حتى الضوء قد احتجب وراء سحبه .. " . 10: 1: ويل للذين يسنّون شرائع ظلم ، وللكتبة الذين يسجّلون أحكام جور ، 2: ليصدّوا البائسين عن العدل ، ويسلبوا مساكين شعبي حقّهم ، لتكون الأرامل مغنما لهم ، وينهبوا اليتامى ، 3: فماذا تصنعون في يوم العقاب ، عندما تقبل الكارثة من بعيد ! إلى من تلجئون طلبا للعون ؟ وأين تودعون ثروتكم ؟ لم يبقى شيء سوى أن تجثوا بين الأسرى ، وتسقطوا بين القتلى ، … 21: وترجع بقية ذرية يعقوب إلى الرب القدير ، مع أن شعبك يا إسرائيل ، فإن بقية فقط ترجع ، لأن الله قضى بفنائهم ، وقضاؤه عادل " . " 46: 8: اذكروا هذا واتعظوا ، انقشوه في آذانكم أيها العصاة ، تذكّروا الأمور الغابرة القديمة ، لأني أنا الله وليس إله آخر ، 10: وقد أنبأت بالنهاية منذ البداية ، وأخبرت منذ القدم ، بأمور لم تكن قد حدثت بعد ، قائلا : مقاصدي لا بد أن تتم ، ومشيئتي لا بد أن تتحقق ، 11: أدعوا من المشرق الطائر الجارح ، ومن الأرض البعيدة برجل مشورتي ، قد نطقت بقضائي ، ولا بد أن أُجريه ، … 12: أصغوا إليّ يا غلاظ القلوب ، أيها البعيدون عن البرّ ، 13: لقد جعلت أوان برّي قريبا ، لم يعد بعيدا ، وخلاصي لا يُبطئ … 30: 15-17: لأنه هكذا قال الرب ، قدّوس إسرائيل : إنّ خلاصكم مرهون بالتوبة والركون إليّ ، وقوّتكم في الطمأنينة والثقة بي ، لكنكم أبيتم ذلك ، وقلتم : لا بل نهرب على الخيل ، أنتم حقّا تهربون ، لهذا فإن مطارديكم يُسرعون في تعقّبكم ، يهرب منكم ألف من زجرة واحد ، وتتشتّتون جميعا من زجرة خمسة ، حتى تُتركوا كسارية على رأس جبل … نلاحظ أن إشعياء يدعوا إلى التوبة والإصلاح ، ويصف ما وصل ببني إسرائيل من إفساد ، ويذّكرهم ويحذّرهم ، ويعيد إلى أذهانهم ، مضمون تلك النبوءة ، التي جاءت في أسفار موسى ، ونصوص إشعياء لم تحمل في طياتها تصريح عن ماهية المبعوثين ، سوى أن الفقرة الأخيرة ، ذكرت جهة مخرج البعث ، وربما يكون ذلك إضافة من مؤلفي التوراة . تحذيرات ارميا : ارميا هو ثاني الأنبياء الكبار ، ويُقال أن هذا النبي ، عاش في الفترة ما قبل وما بعد ، التي وقع فيها السبي البابلي ، وكان فحوى رسالته : دعوة قومه إلى التوبة والعودة إلى الله ، والتخلي عن الأوهام ، وتقدير الله حقّ قدره ، فلا ملجأ منه إلا إليه ، ولا يردّ غضبه قوة أو مال أو جاه . وقد وُصف هذا النبي ( بالنبي البكّاء ) ، من كثرة بكاءه على قومه ، بعد وقوع الكارثة التي طالما حذّرهم منها ، فلم يستجيبوا له . " 7: 2: اسمعوا كلام الرب … 3: قوّموا طرقكم وأعمالكم فأُسكنكم في هذا الموضع ، 4: لا تتكلّوا على أقوال الكذب ( النفاق ) ، 5: لكن إن قوّمتم حقّاً طرقكم وأعمالكم ، وأجريتم قضاءً عادلا فيما بينكم ، 6: إن لم تجوروا على الغريب واليتيم والأرملة ، ولم تسفكوا دما بريئا … وإن لم تضلّوا وراء الأوثان ، 7: عندئذ أُسكنكم في هذا الموضع … إلى الأبد 8: ها أنتم قد اتكلتم على أقوال الكذب ( نافقتم ) ، ولكن من غير جدوى ، 9: أتسرقون وتقتلون وتزنون ، وتحلفون زورا وتبخّرون للبعل ( الصنم ) ، 10: ثم تمثلون في حضرتي …هل أصبح هذا الهيكل ( الذي أُقيم لذكري ) مغارة لصوص ؟! … 20: لذلك يُعلن الرب : ها غضبي وسخطي ينصبّان على هذا الموضع … " 8: 7: إن اللقلق في السماء يعرف ميعاد هجرته ، وكذلك … ، أمّا شعبي فلا يعرف قضاء الرب ! 8: كيف تدّعون أنكم حكماء ، ولديكم شريعة الرب ، بينما حولها قلم الكتبة المخادع إلى أُكذوبة ؟! سيلحق الخزي بالحكماء ، ويعتريهم الفزع والذهول ، لأنهم رفضوا كلمة الرب ، إذ أي حكمة فيهم ؟! لذلك أُعطي نسائهم لآخرين ، وحقولهم للوارثين القاهرين ، لأنهم جميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم مولعون بالربح ، حتى النبي والكاهن يرتكبان الزور في أعمالهما ، ويعالجون جراح شعبي باستخفاف ، قائلين : سلامٌ ، سلامٌ ، في حين لا يوجد سلام ، هل خجلوا عندما ارتكبوا الرجس ؟! كلّا ! لم يخزوا قطّ ، ولم يعرفوا الخجل ، لذلك سيسقطون بين الساقطين ، وحين أُعاقبهم يُطوّح بهم ، يقول الرب " . " 10: 22: اسمعوا ، ها أخبار تتواتر عن جيش عظيم ، مقبل من الشمال ، ليحوّل مدن يهوذا ، إلى خرائب ومأوى لبنات آوى " . " 6: 22: انظروا ، ها شعبٌ زاحف من الشمال ، وأمّة عظيمة تهبّ من أقاصي الأرض ، تسلّحتْ بالقوس والرمح ، وهي قاسية لا ترحم ، جلبتها كهدير البحر ، وهي مقبلة على صهوات الخيل ، قد اصطفّت كإنسان واحد ، لمحاربتك يا أورشليم ، سمعنا أخبارهم المرعبة فدبّ الوهن في أيدينا ، وتوّلانا كرب وألم ، كألم امرأة تعاني المخاض ، لا تخرجوا إلى الحقل ، ولا تمشوا في الطريق ، فللعدوّ سيف ، والهول مُحدّق من كل جهة ، فيا أورشليم ارتدي المسوح ، وتمرّغي في الرماد ، ونوحي كمن ينوح على وحيده ، وانتحبي نحيبا مرا ، لأن المُدمِّر ينقض علينا فجأة ، إني أقمتك مُمتَحنا للمعدن ( إقامة مملكتهم كان لامتحانهم ) ، وجعلت شعبي مادةً خام ، لكي تعرف طرقهم وتفحصها ، فكلّهم عصاة متمرّدون ساعون في النميمة ، هم نحاس وحديد ، كلهم فاسدون " . " 23: 3: وأجمع شتات غنمي من جميع الأراضي ، التي أجليتها إليها ، وأردّها إلى مراعيها ، فتنموا وتتكاثر ، وأُقيم عليها رعاة يتعهّدونها ، فلا يعتريها خوف من بعد ، ولا ترتعد ولا تضل ، ها أيام مقبلة أُقيم فيها لداود ذريّة بِرّ ، ملكا يسود بحكمة ، ويجري في الأرض عدلا وحقّا ، في عهده يتمّ خلاص شعب يهوذا ، ويسكن شعب إسرائيل آمنا " . " 30: 3: ها أيام مقبلة أردّ فيها سبي شعبي … ، وأعيدهم إلى الأرض التي أعطيتها لآبائهم فيرثونها ، ( ثم يقول ) : سمعنا صراخ رعب ، عم الفزع وانقرض السلام ، … ، ما أرهب ذلك اليوم ، إذ لا مثيل له ، هو زمن ضيق على ذرية يعقوب ، ولكنها ستنجوا ، في ذلك اليوم ، يقول الرب القدير : أُحطّم أنيار أعناقهم وأقطع رُبطَهم ( أي أرفع قيود العبودية والذل عنهم ) فلا يستعبدهم غريب فيما بعد ، بل يعبدون الرب إلههم ، وداود ملكهم الذي أُقيمه عليهم ( شرك بالله ) ، … فيرجع نسل إسرائيل ، ويطمئنُّ ويستريح ، من غير أن يُضايقه أحد ، … ، فأُبيدُ جميع الأمم التي شتَّتكَ بينها ، أمّ أنت فلا أُفنيك أُودّبك بالحق ، ولا أُبرّئك تبرئة كاملة ، … ، ( الخطاب موجّه لأورشليم ) إن جرحك لا شفاء له ، وضربتك لا علاج لها ، إذ لا يوجد من يدافع عن دعواك ، … ، قد نسيك محبّوك ، وأهملوك إهمالا ، لأني ضربتك كما يَضربُ عدوّ ، وعاقبتكِ عقابَ مبغضٍ قاسٍ ، لأن إثمك عظيمٌ وخطاياك متكاثرة ، … ، لهذا أوقعتك بالمحن ، ولكن سيأتي يوم يُفترس فيه جميع مُفترسيك ، ويذهب جميع مضايقيك إلى السبي ، ويصبح ناهبيك منهوبين ، لأني أردّ لك عافيتك وأُبرئ جراحك " . النصوص الأخيرة أعلاه ، من النصوص المضلّلة ، التي شكّلت قناعات ومعتقدات ، عامّة اليهود حكماءً ومغفلين ، وملخصها أنهم في المرة الثانية ، سيقيمون لهم دولة في أرض الميعاد ، ويُبعث لهم ملكا من نسل داود عليه السلام ، يحكم الأرض كلها بالحق والعدل ، وليس فلسطين فقط ، ففلسطين لا تتسع لأحلامهم وأوهامهم وهلاوسهم وأمانيّهم ، وينعم اليهود تحت حكمه ، بالسلام والأمن إلى الأبد ( فلا بعثا ولا نشورا ) ، ويكون فيها اليهود أسيادا ، وباقي خلق الله عبيدا تحت أقدامهم . لقد أضاع كتبة التوراة الحقيقة ، وظلموا أجيالهم القادمة من حيث لا يعلمون ، فكذبوا الكذبة وصدّقها أبنائهم ، وأصبحت من صميم معتقداتهم ، فالمعاصرين من اليهود والنصارى ، يتعاملون مع كل نصوص التوراة ، بغثها وسمينها ، على أنها من عند الله ، ولا مجال لتكذيبها . يقولون أن النص التالي ، هو رسالة من إرمياء إلى المسبيين في بابل ، يُخبرهم فيها أن مقامهم هناك سيكون طويلا ، وينصحهم فيها بأن يُقيموا فيها ويبنوا بيوتا ، ويتزوجوا ويتكاثروا ، وهذا جزء من نصها : " 29: 10: ولكن بعد انقضاء سبعين سنة عليكم في بابل ، ألتفت إليكم وأفي لكم بوعودي الصالحة ، بردِّكم إلى هذا الموضع ، لأني عرفت ما رسمته لكم ، إنها خطط سلام لا شرّ ، لأمنحكم مستقبلا ورجاء ، … ، وحين تجدونني ، أردُّ سبيكم ، وأجمعكم من بين جميع الأمم ، ومن جميع الأماكن التي شتّتكم إليها ، … " . في الحقيقة أن كتبة التوراة ، كانوا يعتقدون أن عودتهم الجزئية ، من بابل إلى أورشليم ، بعد (70) سنة من السبي ، في عهد كورش الفارسي كما يُروون ، هي العودة الثانية التي سيتحقق فيها ، النصف الثاني من نبوءة موسى وإشعياء وارميا ، ومنذ ذلك اليوم وهم ينتظرون ، أن يُبعث فيهم ( الملك الإله ) ليُقيم لهم دولة في القدس ، فلم يكن لهم ذلك ، ويروى أن الذين رجعوا من بابل ، أعادوا بناء الهيكل ، مع معارضة المقيمين . وطال انتظارهم ، وبين عاميّ ( 37ق.م – 70م ) أي مائة سنة تقريبا ، حصلوا على حكم ذاتي محدود ( المملكة الهيرودية ، وكان الملك من أصل يهودي آرامي ) ، تحت التاج الروماني ، وفي زمانهم تواجد زكريا ويحيى ، وبُعث إليهم عيسى عليه السلام ، فتآمروا عليه ودفعوه إلى الرومان ، لقتله وصلبه ، حيث كانت سلطة القتل في أيدي الرومان الوثنيون . وبعد زوال مملكتهم على يد ( نبوخذ نصر ) البابلي عام 586م ، وحتى تشتّتهم النهائي على يد ( هادريان ) الروماني عام 135م ، أُخرج أغلبية اليهود منها ، ولم تقم لليهود في فلسطين قائمة ، وأقصى ما استطاعوا الحصول عليه ، هو ذلك الحكم الذاتي ، في بداية الحكم الروماني لبلاد الشام ، حيث قضى هذا الإمبراطور ، على أي أمل لهم ، في إعادة إقامة دولتهم الثانية ، فكان إنتشارهم في كافة أرجاء العالم . ( ولنكمل النصوص من سفر ارميا ) ، " 31: 8: ها آتي بهم من بلاد الشمال ، وأجمعهم من أقصي أطراف الأرض ، وفيهم الأعمى والأعرج ، الحبلى والماخض ، فيرجع حشد عظيم إلى هنا " " 31: 27: ها أيام مقبلة ، يقول الرب ، أُكثّر فيها ذرية إسرائيل ويهوذا ، وأُضاعف نتاج بهائمهم أضعافا ، وكما تربّصت بهم لأستأصل ، وأهدم وأنقُض وأُهلك وأُسيء ، كذلك أسهر عليكم لأبنيكم وأغرسكم " . " 31: 33: سأجعل شريعتي في دواخلهم ، … ، وأكون لهم إلها ويكونون لي شعبا ، لأني سأصفح عن إثمهم ، ولن أذكر خطاياهم من بعد " . ( وهذا محض افتراء وتحريف ، وتتبع هذه الأكذوبة عبارات مبهمة ، ومن ثم تُفاجأ بهذه العبارة التي تقول ) : " عندئذ أَنبذ ذرية إسرائبل من أجل كل ما ارتكبوه " ، ( لتفهم أن العبارات المبهمة ، كانت بدلا من عبارات حذفوها ، وهي عبارات مفادها اشتراط الإحسان للثواب والإفساد للعقاب ) . "31: 38: ها أيام مقبلة ، يُعاد فيها بناء هذه المدينة للرب ، … ، ولن تستأصل أو تُهدم إلى الأبد " . بالنظر في قولهم هذا ، وخاصة العبارة الأخيرة ، نجد أن مؤلفي التوراة ، قضوا على أي أمل لليهود ، في الصلاح الإصلاح في دولتهم الحالية ، حيث أنه شرط أساسيّ في استمرار وجودهم ، فمؤدّى هذه العبارة ، أنهم سيقيمون فيها إلى الأبد ، بغض النظر عن إصلاحهم أو إفسادهم فيها ، لتصبح نهاية دولتهم حتمية في الموعد المحدّد ، وقد لاحظت من خلال تتبعي ، لما جاء في المرة الثانية ، أنهم بعد كل عقاب مأساوي يحل بهم ، يبدءون بذكر العودة والجمع من الشتات ، والبركة والكثرة ، ويفيضون فيها وصفا وشرحا ، والنتيجة تكون على الدوام هي ، انتصار ربهم على أعدائهم ومحقهم عن بكرة أبيهم ، وجعل أرضهم صحراء قاحلة ، أما هم فيعشون جنة ونعيما ، ويكون لهم الملك في الأرض إلى الأبد ، بعد أن رضيَ عنهم ربهم ورضوا عنه . ( وانظر إلى هذه النبوءة في المرة الثانية على لسان الرب ) "42: 10: إن أقمتم في هذه الأرض ، فإني أبنيكم ولا أهدمكم ، وأغرسكم ولا أستأصلكم ، لأني أسفت على الشرّ الذي ألحقته بكم ( ربهم يأسف ) ، لا تخشوا ملك بابل ، الذي أنتم منه خائفون ، فإني معكم لأخلصكم وأنجيكم من يده ( بلا قيد أو شرط ) ، وأُنعم عليكم ، فيرحمكم ويردّكم إلى أرضكم " ، ( فربهم يأسف ، ويحضّهم على عدم الخشية من ملك بابل ) . السبي البابلي : هذا الحدث المشهور تاريخيا والمعروف ( بالسبي البابلي ) ، هو أول وأقسى وأفظع حدث ، وقع في تاريخ اليهود كأمة ، أثناء تواجدهم في فلسطين ، من حيث الأذى الجسدي والنفسي ، وكان له أبلغ الأثر ، في وجدان وفكر الشعب اليهودي ، وليس أدل على ذلك ، من أن عدد الصفحات ، التي تتطرّق إلى ذكر متعلّقات هذا الحدث ، وتفصّله من جميع جوانبه ، هو (350 – 400) صفحة ، أي ما يُعادل ثلث التوراة . وقد جاء في كتاب ( الاختراق الصهيوني للمسيحية ) للقس إكرام لمعي ، ونقلا عن كتاب ( تاريخ اليهود ) للكاتب ( بول جونسون ) ما نصه : " وفي بابل لم يعامل اليهود معاملة سيئة ، فقد وجدت مخطوطات بجوار عشتاروت – أقدم مدن بابل – وجد فيها قائمة بأسماء المسبيين ، ونشاطهم في بابل ، وكان بها اسم ( يهوياكين ) ملك يهوذا ، وبعض الأسماء الأخرى ، وموضح بها أن اليهود عملوا بالتجارة ، واكتسبوا أموالا كثيرة ، وكانت لهم أوضاعهم المتميزة إلى حدّ ما " . وأما أشور فيشير نفس الكاتب ، إلى عدم وجود أي دليل من ذكر أو أثر ، يؤكد رواية سبيهم إليها . رواية التلمود عن تدمير الهيكل : نص منقول عن كتاب ( التلمود تاريخه وتعاليمه ) لظفر الإسلام خان : " عندما بلغت ذنوب إسرائيل مبلغها ، وفاقت حدود ما يُطيقه الإله العظيم ، وعندما رفضوا أن يُنصتوا لكلمات وتحذيرات ارميا ، ترك النبي أورشليم وسافر إلى بلاد بنيامين ، وطالما كان النبي لا يزال في المدينة المقدّسة ، كان يدعو لها بالرحمة فنجت ، ولكنه عندما هجرها إلى بلاد بنيامين ، دمّر نبوخذ نصر بلاد إسرائيل ، وحطّم الهيكل المقدّس ، ونهب مجوهراته ، وتركه فريسة للنيران الملتهبة ، وكان نبورذدان الذي آثر البقاء في ريبله ( منطقة سورية بالقرب من حماة ) ، قد أرسل نبوخذ نصر لتدمير أورشليم " . " وقبل أن يبدأ نبوخذ نصر حملته العسكرية ، سعى لمعرفة نتائج الحملة ، بواسطة الإشارات نظرا لذهوله ، فرمى من قوسه نحو المغرب ، فسارت باتجاه أورشليم ، ثم رمى مرة أخرى نحو الشرق ، لكن السهم اتجهت نحو أورشليم ، ثم رمى مرة أخرى ، ليتأكد من محل وقوع المدينة المُذنبة ، التي وجب تطهيرها من الأرض ، وللمرة الثالثة اتجهت سهمه نحو أورشليم ، وبعد أن استولى نبوخذ نصر على المدينة ، توجّه مع أُمرائه وضباط جيشه ، إلى داخل الهيكل ، وصاح ساخرا مخاطبا إله إسرائيل : وهل أنت الإله العظيم الذي يرتعد أمامه العالم ؟ ها نحن في مدينتك ومعبدك ! " . " ووجد نبوخذ علامة لرأس سهم ، على أحد جدران الهيكل ، كأن أحدا قُتل أو أُصيب بها ، فسأل : من قُتل هنا ؟ فأجاب الشعب : ( زكريا بن يهوياداه ) كبير الكهنة ، لقد كان يُحذّرنا في كل ساعة من حساب اعتداءاتنا ، وقد سئمنا من كلماته ، فانتهينا منه . فذبح جنود نبوخذ نصر سكان أورشليم ، كهنتها وشعبها ، كهولها وشبابها ونسائها وأطفالها ، وعندما شاهد كبير الكهنة هذا المنظر ، ألقى بنفسه بالنار ، التي أشعلها نبوخذ نصر في الهيكل ، وتبعه بقية الكهنة مع عودهم وآلاتهم الموسيقية الأخرى ، ثم ضرب جنود نبوخذ نصر السلاسل الحديدية ، في أيدي باقي الإسرائيليين " . " ورجع ارميا النبي إلى أورشليم ، وصحب إخوانه البؤساء ، الذين خرجوا عرايا ، وعند وصولهم إلى مدينة ، تُسمى بيت كورو ، هيّأ لهم ملابس جيدة ، وتكلّم مع نبوخذ نصر والكلدانيين ، قائلا لهم : لا تظن ، أنك بقوتك وحدها ، استطعت أن تتغلّب على شعب الرب المُختار ، إنها ذنوبهم الفاجرة ، التي ساقتهم إلى هذا العذاب " . نجد أن رواية التلمود أكثر وضوحا من رواية التوراة ، حيث أنها لم تذكر مملكتين ، وتؤكد أن اسم المملكة الجنوبية ، المقام فيها الهيكل هو إسرائيل ، وليس يهوذا كما ذُكر في التوراة . وأن من أسقطوا عليهم اسم إسرائيل والمملكة الشمالية ، هم الذين أُخرجوا من ديارهم ، ولم يقع فيهم السبي الآشوري المزعوم ، وبقوا على حالهم خارج حدود المملكة ، حيث يذكر النص التلمودي أن ارميا النبي لجأ إليهم " ترك النبي أورشليم وسافر إلى بلاد بنيامين " . وبنيامين حسب التوراة ، هو الأخ الشقيق ليوسف عليه السلام ، وهذا يوحي أن الحقد القديم بين الأخوة الآباء ، توارثه الأبناء على مرّ العصور ، وبأن الأسباط الأخرى القوية ، أخرجت سبط بنيامين المستضعف ، عندما سيطرت على مقاليد الحكم ، بعد سليمان عليه السلام . وبالتالي يُثبت هذا النص وقوع السبي البابلي ، وينفي وقوع السبي المسمى بالآشوري . وأن أشور وبابل آنذاك ، تسميتان لمملكة واحدة ، عند كتبة التوراة ، وأن أحد مصادر التوراة ذكر على أنه بابلي ، والأخر ذكره على أنه آشوري ، وأما نبوخذ نصر ، فتجده أحيانا ملكا ، وأحيانا وزيرا أو قائدا للجيش ، أو قائدا للحرس . مقتطفات من رثاء ارميا لشعبه ولأورشيلم بعد السبي البابلي : ( من كتاب مراثي ارميا في نهاية سفره ) : " 1: كيف أصبحت المدينة الآهلة بالسكان مهجورة وحيدة ؟! هذه التي كانت عظيمة بين الأمم ، صارت كأرملة ! صارت السيدة بين المدن تحت الجزية ! تبكي في الليل بمرارة ، وتنهمر دموعها على خدّيها ، لا مُعزّي لها بين مُحبيها ، غدر بها جميع خلّانها ، وأصبحوا أعداءً لها ، سُبيت يهوذا إلى المنفى ، … ، فأقامت شقية بين الأمم ، … ، تهدّمت جميع أبوابها ، … ، ارتكبت أورشليم خطيئة نكراء فأصبحت نجسة ، … ، لم تذكر آخرتها لهذا كان سقوطها رهيبا ، … ، بدّد الربّ جميع جبابرتي في وسطي ، وألّبَ عليّ حشدا من أعدائي ليسحقوا شُبّاني ، داس الربّ العذراء بنت صهيون ، كما يُداس العنب في المعصرة ، … ، الربّ عادل حقا ، وقد تمرّدت على أمره ، فاستمعوا يا جميع الشعوب ، واشهدوا وجعي ، قد ذهب عذارايَ وشبّاني إلى السبي ، … ، فَنِيَ كهنتي وشيوخي في المدينة ، … ، ها السيف يثكل في الخارج ، ويسود الموت في البيت … " . " 2: قد هدم الربّ بلا رحمة ، جميع مساكن يعقوب ، … ، وألحق العار بالمملكة وحكّامها ، إذ سوّاها بالأرض ، … ، وتّر قوسه كعدوّ ، نصب يمينه كمُبْغِض ، ذبح بقسوة كلّ عزيز في عيوننا ، … ، وهدم جميع قصورها ودمّر حصونها ، … ، جلس شيوخ ابنة صهيون على الأرض صامتين ، عفّروا رؤوسهم بالرماد ، وارتدوا المسوح ، وطأطأت عذارى أورشليم رؤوسهن إلى الأرض ، كلّت عيناي من البكاء ، … ، نفّذ الرب قضاءه ، وحقق وعيده الذي حكم به منذ الحقب السالفة ، هدم ولم يرأف ، فأشمت بك الخصوم ، وعظّم قوة عدوك ، … ، انظر يا ربّ وتأمّل ، … ، قد انطرح الصبيان والشيوخ في غبار الطرقات ، سقط عذارايَ وشُبّاني بالسيف ، قد قتلتهم في يوم غضبك ، ونحرتهم من غير رحمة … " " 3: أنا هو الرجل الذي شهد البلية ، التي أنزلها قضيب سخطه ، … ، ولكن هذا ما أُناجي به نفسي ، لذلك يغمرني الرجاء ، من إحسانات الرب ، أننا لم نفنَ ، لأن مراحمه لا تزول ، … ، فلماذا يشتكي الإنسان حين يُعاقب على خطاياه ؟ … ، لنفحص طرقنا ونختبرها ، ونرجع إلى الرب ، لنرفع أيدينا وقلوبنا إلى الله في السماوات ، … " " 4: … ، لأن عقاب إثم ابنة شعبي ، أعظم من عقاب خطيئة سدوم ، التي انقلبت في لحظة ، من غير أن تمتدّ إليها يد إنسان ، كان نُبلاؤها ، أنقى من الثلج ، وأنصع من اللبن ، أجسادهم أكثر حمرة من المرجان ، وقاماتهم كالياقوت الأزرق ، فأصبحت صورتهم أكثر سوادا من الفحم ، فلم يُعرفوا في الشوارع ، … ، نفث الربّ كامل سخطه ، وصبّ حموّ غضبه ، وأضرم نارا في صهيون ، فالتهمت أُسسها ، … ، عقابا لها على خطايا أنبيائها ، وآثام كهنتها ، الذين سفكوا في وسطها دماء الصدّيقين ، … ، آذنت نهايتنا ، وتمّت أيامنا ، وأزِفت خاتمتنا ، كان مُطاردونا أسرع من نسور السماء ، تعقّبونا على الجبال ، وتربّصوا بنا في الصحراء ، … " " 5: اذكر يا ربّ ما أصابنا ، انظر وعاين عارنا ، قد تحوّل ميراثنا إلى الغرباء ، وبيوتنا إلى الأجانب ، أصبحنا أيتاما لا أب لنا ، وأمهاتنا كالأرامل ، … ، داس مُضطهدونا أعناقنا ، أُعيينا ولم نجد راحة ، خضعنا باسطين أيدينا إلى أشور ومصر ، لنشبع خبزا ، … ، تسلّط علينا عبيد ، وليس من يُنقذنا من أيديهم ، … ، اغتصبوا النساء في صهيون ، والعذارى في مُدن يهوذا ، عُلّقَ النبلاء من أيديهم ، ولم يوقّروا الشيوخ ( كبار القوم ) . سخّروا الشُبّان للطحن ، وهوى الصبيان تحت الحطب ، هجر الشيوخ ( كبار السن ) بوّابات المدينة ، وكفّ الشبّان عن غنائهم ، انقطع فرح قلوبنا ، وتحوّل رقصنا إلى نوح ، تهاوت أكاليل رؤوسنا ، فويل لنا لأننا قد أخطأنا ، لهذا غُشِي على قلوبنا ، وأظلمت عيوننا ، لأن جبل صهيون أصبح أطلالا ، ترتع فيه الثعالب " . ---------------------------------------------------- هذا و بالله التوفيق في الحلقة القادمة نعرض لفلسطين عبر التاريخ منذ نشأة مملكة اليهود الأولى ، وحتى نشأة دولتهم الثانية ---------------------------------------------------- الشريف رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
ELSHARIF بتاريخ: 25 مارس 2005 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 25 مارس 2005 فلسطين عبر التاريخ منذ نشأة مملكة اليهود الأولى ، وحتى نشأة دولتهم الثانية تاريخ ما قبل الميلاد : طالوت ( شاول ) ملكاً على اليهود . 1020 ق.م عصر الملك سليمان وبناء الهيكل في القدس . 965 – 928 ق.م تقسيم دولة إسرائيل الى مملكة إسرائيل ( شمالية ) ويهودا ( جنوبية ) . 928 ق.م فلسطين تحت الحكم الآشوري . 732 ق.م فتح الآشوريون لمملكة إسرائيل ، ونهاية مملكة إسرائيل ( الشمالية ) . 721 ق.م انتصار البابليين بقيادة " نبوخذ نصر" على مملكة يهودا ( في القدس ) ، وتدمير الهيكل ، وترحيل سكانها إلى بابل . 586 ق.م الاسكندر يهزم الفرس ، وتصبح فلسطين تحت الحكم اليوناني . 333 ق.م موت الاسكندر يؤدي لتغيير الحكم الى البطالسة ( في مصر ) والسالوقيين ( في سوريا ) . 323 ق.م بداية حكم البطالسة . 301 ق.م تمرّد المكابيين ( اليهود ) ضد الحكم السالوقي ، للعمل على إنشاء دولة يهودية مستقلة . 165 ق.م فلسطين ضمن الإمبراطورية الرومانية ( بعد استيلاء الرومان عليها ) . 63 ق.م استيلاء الفرس على فلسطين . 40 ق.م عودة الحكم الروماني الوثني للمنطقة . 38 ق.م القضاء على المكابيين وابتداء حكم الهرادسة في فلسطين . 37 ق.م تاريخ ما بعد الميلاد : تدمير الهيكل الثاني على يد الإمبراطور الروماني ( تيطس أو تايتوس ) . 70م إخماد ثورة ( باركوبا ) اليهودي ضد الرومان ، وإبعاد بقية اليهود عن القدس ، على يد الإمبراطور ( هادريان ) . 132- 135م فلسطين تحت الحكم البيزنطي ( نسبة إلى بيزنطة ) . 313 – 638م ( في عام 330م أسّس الإمبراطور قسطنطين ، الذي جعل المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية ، عاصمة جديدة للنصف الشرقي في بيزنطة عُرفت بالقسطنطينية . وفي عام 395م انقسمت الإمبراطورية الرومانية ، إلى قسمين : شرقية عاصمتها بيزنطة ( القسطنطينية ) وغربية وعاصمتها روما ، ومع اتخاذ المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية ، بدأ عصر الاضطهاد المسيحي لليهود ، واستمرّ حتى منتصف القرن الماضي ) العرب المسلمون يفتحون فلسطين ، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب . 638م فلسطين تحت الحكم الإسلامي ( الأمويون ، العباسيون ، الفاطميون ، السلاجقة ) . 638 - 1099م الصليبيون يقيمون المملكة اللاتينية في القدس . 1099 - 1187م صلاح الدين الأيوبي يهزم الصليبيين في معركة حطين . 1187م فلسطين تحت حكم المماليك بعد هزيمة المغول فى موقعة عين جالوت . 1220م فلسطين جزء من الإمبراطورية العثمانية وعاصمتها استنبول ( القسطنطينية ) . 1516 - 1917م تاريخ فلسطين الحديث : إنشاء أول مستوطنة زراعية صهيونية ( بتاح تكفا ) في فلسطين . 1878م البارون ( ادموند دورتشلد ) ، يبدأ دعمه المالي للمستوطنات اليهودية . 1882م أول موجة من 25 ألف مهاجر صهيوني تدخل فلسطين ، وغالبيتهم من أوروبا الشرقية . 1882 – 1903م ينعقد المؤتمر الصهيوني الاول " في بال بسويسرا " ويصدر " برنامج بال " الذي يدعو إلى إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين ، ويقرر إنشاء ( المنظمة الصهيونية العالمية WZO ) ، للعمل من أجل هذا الهدف . 1897م إنشاء أول كيبوتز على قاعدة العمل اليهودي ، إنشاء قاعدة تل أبيب شمالي يافا . 1909م بداية الحرب العالمية الأولى . 1914م المراسلات بين الشريف حسين (شريف مكة وقائد الثورة العربية ضد العثمانيون ) ، وبين سير هنري مكماهون ( المندوب السامي في مصر ) ، تنتهي إلى اتفاق استقلال ووحدة البلاد العربية ، تحت الحكم العربي بعد انتهاء الحرب . 3/1/1916م اتفاقية ( سايكس بيكو ) السرية ، لتقسيم البلاد العربية ، التي كانت تحت الحكم العثماني بين بريطانيا وفرنسا . 16/5/1916م ( وقد كشف البلاشفة ( الروس ) النقاب عنها في تشرين أول 1917م ) الشريف حسين يعلن استقلال العرب ، عن الحكم العثماني ، وبداية الثورة العربية . 1916م وزير الخارجية البريطاني ( بلفور ) ، يتعهد بالدعم البريطاني ، لوطن قومي لليهود في فلسطين . 2/11/1917م قوات الحلفاء بقيادة الجنرال اللنبي البريطاني تحتل فلسطين . -/9/1917م نهاية الحرب العالمية الأولى . 30/10/1918م المجلس الأعلى لمؤتمر السلام سان ريمو يعطي بريطانيا الانتداب على فلسطين . 25/4/1920م المندوب السامي سير هربرت صموئيل السياسي اليهودي الإنجليزي يدشن " الإدارة المدنية البريطانية " . 1/7/1920م عصبة الأمم تقرّ الانتداب على فلسطين . 24/7/1921م بداية الحرب العالمية الثانية . 1/9/1938م اللجنة الأمريكية – الإنجليزية لتقصي الحقائق ، تصل إلى فلسطين . 6/3/1946م تقرير اللجنة الأمريكية الإنجليزية يقدر حجم القوات المسلحة اليهودية ( 61 - 69 ) ألف فرد ، ويوصي بقبول 100.000 يهودي في فلسطين ، وفلسطين تضرب احتجاجا . ( هنا تدخل العناية الأمريكية ) . -/5/1946م لجنة الأمم المتحدة الخاصة تقترح خطة للتقسيم ، والجامعة العربية ترفضها . 8/9/1947 م بريطانيا تعلن أنها ستغادر فلسطين خلال ستة شهور إذا لم يتم التوصل الى تسوية . 29/10/1947م الجمعية العامة للأمم المتحدة ، توصي بتقسيم فلسطين بنسبة 56.5% لدولة يهودية ، ونسبة 43% للدولة الفلسطينية ، ومنطقة دولية حول القدس . 29/11/1947م الجامعة العربية تنظم جيش الإنقاذ العربي ( قوة متطوعين بقيادة فوزي القاوقجي ، لمساعدة الفلسطينيين في مقاومة التقسيم ) . -/12/1947م بريطانيا توصي الأمم المتحدة ، بإنشاء دولتين يهودية وفلسطينية ، بعد أسبوعين من انتهاء الانتداب . 8/12/1947م جيش الإنقاذ العربي يشن هجمات ناجحة على المستعمرات الإسرائيلية شمالي بيسان . 16/2/1948م القاوقجي يدخل فلسطين ويقود وحدات جيش الإنقاذ في مثلث جنين – نابلس- طولكرم . 5-7/3/1948م الرئيس الأمريكي ( ترومان ) يدعو الى هدنة فورية للقتال . 25/3/1948م عصابة شتيرن ترتكب مذبحة في دير ياسين بالقرب من القدس تسفر عن مقتل اكثر من 250 شخصاً . 9/4/1948م قرار لمجلس الأمن يدعو إلى هدنة . 17/4/1948م نهاية الانتداب البريطاني ، وإعلان الدولة الإسرائيلية من تل أبيب . 15/5/1948م القوات اللبنانية تعبر الحدود وتستعيد مؤقتا قرى المالكية وقدس من الهاجاناة . 15- 17/5/1948م القوات الأردنية تعبر نهر الأردن ، وتتحرك صوب القدس ، وتسيطر على الشيخ جراح والحي اليهودي ، في المدينة القديمة . 15- 28/5/1948م الوحدات العراقية تعبر نهر الأردن ، وتتحرك نحو مثلث نابلس ، جنين ، طولكرم . 15/5 – 4/6/1948م القوات المصرية تعبر الحدود ، وتتحرك عبر الساحل إلى اسدود . 15/5 – 7/6/19489م تقدم الطوابير السورية عبر الشمال . 16/5- 10/6/1948م مجلس الأمن الدولي يعين الكونت ( فولك برنادوت ) كوسيط دولي في فلسطين . 20/5/1948م قرار مجلس الأمن الدولي ، بوقف إطلاق النار . 22/5/ 1948م الهدنة الأولى . 11/6- 8/7/1948م الهدنة الثانية . 18/7- 15/10/1948م تقرير الوسيط الدولي ( برنادوت ) يقترح تقسيم فلسطين الى دولتين ؛ عربية وإسرائيلية ، مع بقاء القدس منطقة دولية ، وتُرفض من العرب وإسرائيل . 16/9/1948م اغتيال الوسيط الدولي ( برنادوت ) في القدس ، بواسطة عصابة شتيرن ، ويخلفه نائبه الأمريكي ( رالف باتش ) . عام 1949م : توقيع اتفاقيات الهدنة من قبل الدول العربية التي شاركت في حرب 48 باستثناء العراق : 24/2 الهدنة المصرية – الإسرائيلية . 23/3 الهدنة اللبنانية – الإسرائيلية . 3/4 الهدنة الأردنية - الإسرائيلية . 20/5 الهدنة السورية – الإسرائيلية . المراحل الزمنية في تاريخ اليهود حسب ما جاءت في سورة الإسراء توضح الآيات من ( 4 – 8 ) من سورة الإسراء ، خمس مراحل زمنية ، من تاريخ بني إسرائيل ، وهي : • المرحلة الأولى : ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَــابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) ( زمن موسى عليه السلام ، حيث أوحى إليه ربه عز وجل ، فيما أنزل إليه من الكتاب نص هذه النبوءة ، والأرجح أنها أنزلت في بداية فترة التيه قبل أربعين عاما ، من دخولهم الأول للأرض المقدسة ) . • المرحلة الثانية : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا ………………… …… …… وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ( منذ نهاية فترة التيه … بدء حرب الملك طالوت ، لدخول الأرض المقدسة …مُلك ونبوّة داود وسليمان عليهما السلام … مُلك مُتوارث بدون نبوّة : فساد وإفساد … حتى السبي البابلي سنة 586 قبل الميلاد ) . • المرحلة الثالثة : ( … ثُمَّ … (6) ( منذ السبي البابلي … بعث عيسى عليه السلام … نزول سورة الإسراء بنص هذه النبوءة سنة 621م … إلى ما قبل حرب 1948م ) . • المرحلة الرابعة : ( رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ … … … … … وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) ( منذ قيام دولة إسرائيل ( 15/5/1948م ) … وانتصار الجيش إسرائيلي في حروبه … ووصول الدولة إلى قمة مجدها … حتى نهايتها ) . • المرحلة الخامسة : ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا … ( 8) ( منذ نهاية إسرائيل … قيام الدولة العربية المتحدة في بلاد الشام والعراق … الحرب العالمية النووية الثالثة … ظهور المهدي … معارك المهدي … قيام الإمبراطورية الإسلامية وعاصمتها القدس … خروج الدجال … نزول عيسى عليه السلام … هروب الدجال وأتباعه إلى فلسطين … قتل الدجال … نطق الحجر والشجر … حتى الذبح النهائي لبني إسرائيل على أرض فلسطين ) . [ نهاية الجزء الأول ] --------------------------------------------------------------------------- في الجزء الثاني إن شاء الله سوف نعرض لهذه الموضوعات: الجزء الثاني الفصل الأول : المؤامرة اليهودية على العالم الفصل الثاني : النبوءات التوراتية بين الماضي والمستقبل الفصل الثالث : النبوءات الإنجيلية بين الماضي والمستقبل الفصل الرابع : الغربيون وهوس النبوءات التوراتية والإنجيلية الفصل الخامس : السياسة الأمريكية ونبوءات التوراة والإنجيل الفصل السادس : الكتب المقدّسة تأمر اليهود بتدمير أصحاب البعث ______________________________ هذا و بالله التوفيق الشريف رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
تصحيح بتاريخ: 26 مارس 2005 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 26 مارس 2005 الاخ الفاضل ELSHARIF قرأت هذا الكتاب منذ ثلاث سنوات تقريبا .. الكتاب طويل جدا و فيه خلط ما بين الواقع و التمني أو الاحلام .. المنتديات لها طابع تفاعلي .. بمعني مناقشة فكرة أو رأي .. و انصح بان تضع رابط تنزيل الكتاب لمن يهتم و يستطيع قراء 400 صفحة .. ثم تقطتف أجزاء للمناقشة مثل تقارير مراكز الدراسات الامريكية و ما هو موثق و يعتني بالحاضر و خطط المستقبل .. حيث لاحظت اثناء قراءة الكتاب محاولة تأصيل ثقافة الانتظار أو ما تراه صالح للنقاش لتوليد تفاعل مع الموضوع و لكم الحرية فيما تري و شكرا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
ELSHARIF بتاريخ: 26 مارس 2005 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 26 مارس 2005 الاخ الفاضل: تصحيح السلام عليكم و رحمة الله شكراً لمداخلتك و كنت أحب أن أستفيد من رأيك أو رأي الزملاء مع بداية الكتابة في الموضوع و كما ترى أنا حديث العهد بالكتابة في هذا المنتدى و لست متمرس على الكتابات التفاعلية ولكني قد لاحظت ان الأعضاء يقرأون الموضوع بصورة متزايدة إلى أن وصل عدد القراء إلى 206 ولذلك إعتقدت أن هذا مؤشر جيد و أن الموضوع قد لاقى شئ من الإستحسان لدى البعض من الزوار و الأعضاء..... و لذلك إستمريت بالنقل من باب أن ( السكوت علامة الرضا) و أن الناس تقرأ ولا تعترض ... ولا أدري لماذا يقرأ الناس ولا يتفاعلوا - رغم أن المنتدى تفاعلي ....... و رغم أن الموضوع يمسنا كلنا كمسلمين أو عرب في قضية الصراع العربي الإسرائيلي.. للأسف لا أعرف الرابط الخاص بالموضوع - حيث أن الموضوع عندي على وورد فايل- ولو كنت أعرف الرابط كنت وفرت الكثير من الوقت و الجهد و أخيرا يا أخي (تصحيح) أشكر لك نصيحتك و تعليقك و جزاكم الله خير الجزاء أخوكم: الشريف رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
هندى بتاريخ: 26 مارس 2005 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 26 مارس 2005 تسجيل متابعة وشكر إلى الأخ الفاضل الشريف على هذا الجهد الكبير... فى إنتظار التكملة :blink: رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
تصحيح بتاريخ: 27 مارس 2005 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 27 مارس 2005 الروابط اتنزيل الكتاب http://www.go.ae/kalwid/index.htm http://kalwid.freeservers.com/ketab.htm فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان