اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

تاريخ العمليات الإنتحارية


عادل أبوزيد

Recommended Posts

في جذور العمليات الانتحارية

بيار كونيسا*

Pierre CONESA

"ليس أمامنا خيارٌ آخر، فنحن لا نملك القنابل ولا المدرعات ولا الصواريخ ولا الطائرات ولا الهليكوبتر"، هذا ما صرح به الشيخ عبد الله الشامي، قائد حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، مبرراً العمليات الانتحارية في مقابلته مع صحيفة "آي.بي.سي." في 21 آب/أغسطس عام 2001. لكن هل أن هذا الإعلان عن حرب غير متكافئة يفسر التنامي الخطير للعمليات الانتحارية بالرغم من التراجع في عدد الاعتداءات الإرهابية؟ هذا ما ليس أكيداً. فخلال سنوات أصبح "الكاميكاز" القنبلة الموجهة والرخيصة في يد الجيل الجديد من الإرهاب الذي تفرزه إيديولوجيا وتقنية إعداد يسهل تنقلها وتصديرها.

فالعملية الانتحارية هي عبارة عن فعل عملاني عنيف لا يبالي بالضحايا المدنيين، ونجاحها مشروط إلى حد بعيد بموت الإرهابي أو الإرهابيين. وفي السعي إلى فهم هذه الظاهرة الجديدة يجب التخلي عن التمثل المعهود بـ"الكاميكاز" اليابانيين الذين أرادوا فرض أنفسهم كمقاتلين يهاجمون أهدافاً عسكرية. ففرادة الظاهرة الحالية تعود بالأحرى إلى المبالغة في السلوك الاستشهادي في سياق تتزايد فيه أكثر فأكثر النواحي الخرافية.

وحتى يومنا هذا، هناك ما يزيد على أربع وثلاثين دولة أو منطقة أزمات[1] شهدت عمليات انتحارية. كما أن اثنتين وأربعين دولة استهدفت العمليات مصالحها في الخارج[2]. وبعد أن كانت وتيرة العمليات بمعدل ست عشرة اعتداء ما بين العامين 1982، تاريخ ظهور هذا النوع من الأعمال، ونيسان/أبريل عام 2000، ارتفعت وتيرة الاعتداءات مذاك إلى معدل تسع وثلاثين عملية سنويا.

قام مفهوم العملية الانتحارية في الأساس على أنه نهج قتالي ضد المحتل الإسرائيلي ثم ضد "قوات الأمم المتحدة" في لبنان في العام 1982[3] ثم في سريلانكا في العام 1987 ثم في فلسطين في العام 1994 بعد مجزرة المسجد الأقصى، ثم في تركيا في العام 1995 وكشمير في تموز/يوليو عام 1999 وفي الشيشان في العام 2000 لتمتد إلى روسيا في العام 2002 والى العراق في العام 2003. وقد تحول هذا النوع طريقة إرهابية "غير مباشرة" ضد الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا في العام 2001، وضد فرنسا في باكستان وضد أستراليا في اندونيسيا في العام 2003، ويصل إلى المغرب في نيسان/أبريل وأيار/مايو عام 2002. كما شكل وسيلة قتالية في الحروب الأهلية أو بين أبناء الديانة الواحدة في السعودية أو في باكستان منذ سنوات عديدة وفي العراق منذ العام 2003. كما يمكن أن يستخدم كوسيلة للتملص من "اتفاقات" على غرار اغتيال الجنرال مسعود. كما أنه أصبح معولماً، ففي الاعتداء على مركز التجارة العالمي اشترك انتحاريون من ست جنسيات (ما يزيد على خمسة عشر مع اللوجستيين)، وحيث كان الضحايا من حوالى مئة جنسية مختلفة.

أما المواقع المستهدفة فقد تنوعت بشكل عجيب، من مكاتب الأمم المتحدة إلى السياح في الفنادق (مومباسا في كينيا) إلى النوادي الليلية (بالي) إلى معابد اليهود (الكنيس في بوينوس أيرس أو جربة) إلى المجمعات السكنية للشرق أوسطيين (في السعودية) إلى المصارف (في اسطنبول) إلى البوارج البحرية (يو.أس.أس. كول) أو حاملات النفط (لينبورغ)... مع العدد الهائل من الضحايا التي سقطت على "هامش" هذه العمليات.

وقد توسعت الاعتداءات جغرافياً من أراضي العدو العسكري (إسرائيل أو سريلانكا) لتطال نظاماً مستكرهاً (الولايات المتحدة) أو دولاً مسلمة (تونس والمغرب) وحتى إسلامية (مثل الحكومة التركية الحالية أو السعودية). فإلى حد بعيد تعولمت أيضاً الجغرافيا السياسية للعمليات الانتحارية بعد أن كانت تنفذ في بعض مناطق الأزمات المستعصية.

والظاهرة هي إلى حد بعيد ذات منشأ إسلامي لكنها ليست محصورة فيه. فمنذ 9 تموز/يوليو عام 1987 بدا أن نمور التاميل[4]، وهم من الهندوس قد أتقنوا هذه التقنية المنقولة عن "حزب الله" الشيعي اللبناني، وذلك لدى تنفيذهم الاعتداء الذي قضى فيه أربعون جندياً سريلانكياً. وقد سجل لهم حوالى مئتي عملية انتحارية أي أكثر مما قام به الفلسطينيون. كما لجأ إلى هذا الأسلوب حزب العمال الكردستاني، مع أنه علماني ولينيني، في مراحل من الضعف العسكري وذلك من أجل إعادة تعبئة مجموعاته. وفي هذا الأسلوب، من التقليد التمثّلي بقدر ما فيه من الديني. وهناك أكثر من عشر سنوات تفصل ما بين العمليات الانتحارية التي نفذها حزب الله اللبناني (في العام 1982) وبين أولى العمليات الانتحارية الفلسطينية (1994)، مروراً بمنعطف سريلانكا.

أما في ما يتعلق بشخصية منفذ العملية الانتحارية فهي ليست دائماً شخصية ذاك الشاب المتحمس الخاضع لتأثير ما ولا حتى المخدرات والمتحدر من بيئة معدومة. فمنفذو عمليات 11 أيلول/سبتمبر كانوا من حملة الإجازات، ويتحدرون من الطبقات الوسطى وليس لهم لا تاريخ ولا ماضٍ نضالي. ويمكن عزو بعض الحالات إلى الدوافع الشخصية كما في حالة هنادي تيسير جرادات، المحامي الفلسطيني الشاب الذي أراد أن يثأر لشقيقه وخطيبته في جنين في تشرين الأول/أكتوبر عام 2003، لكن ليست هذه حالة الانتحاريين الآتين من "المدارس" الباكستانية لتنفيذ الاعتداءات في كشمير[5]، ولا هي حتى حالة الإسلاميين الاندونيسيين الذي اختاروا قتل السياح الاستراليين في بالي.

إن تضاعف هذا النوع من الاعتداءات يجد تفسيره أولاً في فشل سائر الأشكال الإرهابية. فما بين العامين 2000 و2002، شكلت الهجومات الانتحارية واحداً في المئة من العمليات الفلسطينية، لكنها أوقعت 44 في المئة من القتلى. وقد شهدت إسرائيل في العام 2003 تسعة وخمسين عملية من هذا النوع أي ما يعادل عدد العمليات خلال السنوات الثماني السابقة (62 عملية). لكن بالرغم من أن الانتحاري يمثل الشكل الأكثر "فعالية" من القنابل الإرهابية، كونه قادراً على اختيار اللحظة الفضلى والمكان الأفضل، إلا أن قيمته العسكرية ليست مؤكدة دائماً.

فالعملية الانتحارية هي بالأحرى الخيار السهل، ذاك أنها لا تفرض وضع خطة فرار، وفي حال الفشل يرتضي الإرهابي أحياناً الانتحار كما عناصر التامول المزودون حبة سيانور. وبحسب دراسة لمؤسسة "راند" فإنها تتسبب بسقوط الضحايا بنسبة تزيد أربعة أضعاف على العمليات الإرهابية الكلاسيكية[6]. وأخيراً فان هذه العمليات تسمح بتوجيه الضربة مباشرة في الأماكن الأكثر تأثيراً داخل أراضي العدو، كما في نيويورك وواشنطن وتل أبيب وموسكو، وضد شخصيات يصعب الوصول إليها مثل رؤساء الحكومات أو رؤساء الجمهوريات.

أما كلفة الإعداد فهي زهيدة، تبلغ بحسب الحسابات الإسرائيلية حوالى 150 دولارا. فنسبة كلفة الإعداد/الأضرار في اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 بدت لافتة جداً إذ انه مقابل مصاريف لم تتعدَّ مليون دولار بلغت مجمل الخسائر الاقتصادية المقدرة للولايات المتحدة حوالى 40 مليار دولار.

وخلال سنوات تم الانتقال من العمليات المنفذة على يد إرهابي واحد إلى العمليات الجماعية، فكان هناك 11إرهابياً في المغرب و19 في اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر و14 تامولياً في الهجوم على القاعدة الجوية العسكرية في كولومبو في 24 تموز/يوليو عام 2001.

وتدريجياً تحول الأمر إلى تقنية إرهابية على درجة رهيبة من الابتذال، إذ يمكن التمييز بين نمطين من هذا النوع: العمليات المرتبطة بأزمات مزمنة، وتلك المرتبطة بعدو معلن من جهة واحدة يتخذ طابع الشمولية (الغرب، اليهود...)

قد انتشر النمط الأول في مناطق أزمات، وليد سياقات سياسية وثقافية متشابهة، وثمرة ماضٍ أليم امتد على مدى أجيال كما هي الحال في فلسطين وسريلانكا وكشمير والشيشان. الشيشانيون الذين نقلهم ستالين بدعوى التعاون، أو الفلسطينيون الذين هم ضحايا "النكبة"[7] أو التامول الذي نقل البريطانيون قسما منهم إلى المزارع، ففقدوا الجنسية بعد الاستقلال، وجرى تطبيعهم كسنغاليين ثم أعيدت إليهم جزئياً صفة "المواطنية" الهندية. أما الانتحاري فيكون من أبناء الجيل الثاني أو الثالث من المأساة الأساسية، أي من الأجيال التي لا تفهم لماذا لم يتحقق الأمل بعد.

وإلى حد بعيد تفرض ثقافة العنف والموت نفسها. وتشكيل الصورة المكونة عن الشهيد التي تحل تدريجياً مكان صورة المقاتل هو أمر ضروري من أجل تحضير الأرض. فأجواء التضحية المتولدة عن عنف القوات المحتلة وعن تمجيد المقاومين تحضر للتضحية الأسمى المفترض أنها أفضل من الحياة على هذه الأرض. وفي هذا المجال تبدو الدراسة التي قام بها السيد إياد سراج، الطبيب النفساني الفلسطيني ومؤسس برنامج غزة للصحة النفسية[8]، مذهلة جداً. فربع شباب غزة يتوقون إلى الموت كشهداء، وبعضهم يرفض الذهاب إلى المدرسة خشية أن يعودوا ليجدوا أهلهم قد اعتقلوا أو قتلوا وأن منازلهم دمرت. ويوضح قائلاً: "في الانتفاضة الأولى كان الخطر محصوراً في الأماكن التي تواجه فيها الجنود مع قاذفي الحجارة[9]. أما اليوم فان الموت يهبط من السماء، إذ قد يتأذى أي كان وفي أي وقت. وهذا ما يولد حالة رعب مزمنة." فبعض الذين شاهدوا آباءهم أو إخوتهم يتعرضون للإذلال يفضلون أن يحسدوا الجندي الإسرائيلي في لعبتهم.

إنها "العقلانية الهاذية" كما يقول جاك سيمولان عن أعمال الابادات الجماعية[10]، لكنها عقلانية في مطلق الأحوال. فالانتحار الانتقامي يبدو غيرياً بحسب تصنيف إميل دوركهايم. فالانتحاري يقدم حياته من أجل جماعة محددة ذات بنية سياسية من النسق الاتني القومي مطالبة بأرض لها. ومما يسهل عملية التجنيد هو الشعور بالخيانة في أوساط النخب الشابة من حملة الإجازات الذين "ينجحون" في مغادرة منطقة العنف والمعاناة، ما يحملهم على العودة فجأة للتضحية بأنفسهم[11]. أما الهدف النهائي للنضال فانه يعود إلى الحقل السياسي حتى وإن كان يضمر تبريراً دينياً. وتبقى العلاقة بين الأهل والجماعة نوعاً من عيد من طبيعة حفل الزفاف الذي يحتفل به بعد الاستشهاد.

وحتى وإن كان الانتحاري يدخل في عزلة في المرحلة التحضيرية للعملية فانه يتوجه إلى عائلته، وهو ما لم يفعله منفذو عمليات 11 أيلول/سبتمبر. وهذا يتضح مما قاله محمود أحمد مرمش (منفذ العملية الانتحارية في ناتانيا في أيار/مايو عام 2001): "لقد أردت الثأر لدماء الفلسطينيين، وخصوصاً دماء النساء والعجزة والأولاد، وعلى الأخص دم الطفل حمام حاجو الذي جرحني مقتله في الصميم... واني أهدي عملية الاستشهاد هذه إلى المؤمنين المسلمين الذين يجلون الشهداء ويعملون من أجل قضيتهم...

وتولد الشعور بالوصول إلى الحائط المسدود بعد مراحل عدة من مفاوضات فاشلة أو معتبرة تضليلية. فقد بدأت عمليات منظمة حماس الأولى في إسرائيل بعد مسار أوسلو وقد أرادت بذلك أن تغطي عليه بعد استئناف بناء المستوطنات الإسرائيلية على أراضٍ كان من المفترض أن تعاد إلى الفلسطينيين، وفجرت تلك العمليات، مجزرة المسجد الأقصى في شباط/فبراير عام 1994 التي سقط فيها حوالى ثلاثين من المصلين المسلمين وذلك على يد المستوطن باروش غولدشتاين. وكثيراً ما يكون السبب أزمة التمثيل السياسي التقليدي سواء أكان عشائرياً (كما في الشيشان) أم حزبياً (منظمة التحرير الفلسطينية أو جبهة تحرير كشمير) (JKLF)[12]. وبشكل أوسع فان عجز النخب القائمة عن تغيير نظام هذه الدنيا الدنسة يدفع في اتجاه خيار حل تقدسه الشهادة. ثم أن التنافس بين الأحزاب أو المجموعات التقليدية (كما في أوساط الفلسطينيين أو التاميل) يفقد هذه الأحزاب مصداقيتها أكثر فأكثر. وهكذا نجد أن نمور التاميل قد صفت جسدياً أعضاء منظمة تحرير إيلام التامولية(TELO) في العام 1985، ثم أعضاء جبهة التحرير الثورية الشعبية في إيلام (EPLRF) في العامين 1986-1987، وهما حزبان منافسان لها.

واللجوء إلى العمليات الانتحارية هو أيضاً شهادة على أن لا نفع من هذه الحياة. وعندها تعاش الشرعية الدينية أو الاستشهادية على أنها أسمى من الشرعية الأبوية. "القرآن في مواجهة الأب"، الوهابية في مواجهة الجمعيات الصوفية كما لحظت الاختصاصية بينيلوب لارزيار. وإن يكن الدين هنا عاملاً مشجعاً إلا أنه قد يكفي قيام جو استشهادي حول فكرة الموت.

وتحتل المرأة مركزاً متقدماً أكثر فأكثر لدى الفلسطينيين، كما في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أشرك خمس نساء في اثنتي عشرة عملية انتحارية، أو لدى منظمة نمور التاميل التي شكلت كتيبة لها من النساء المتطوعات تحت اسم "النمرات السود". فعملية اغتصاب على يد جنود الاحتلال قد تفجر اتخاذ القرار لدى المرأة التي تعرضت للإذلال بشكل مزدوج، أي من جانب الاحتلال وفي نظر مجتمعها. فيبدو الدافع الشخصي خليطاً غريباً من مقاومة المحتل ومن ردة الفعل على النزعة الذكورية في المجتمع المحلي[13]. فوفاء ادريس، الانتحارية الفلسطينية الأولى التي كان زوجها قد طلقها بسبب عدم إنجابها وقد اضطرت إلى العودة عند عائلتها فاقدة شرفها، لم تجد وسيلة لغسل العار إلا الاستشهاد السامي الكفيل قلب النظام الاجتماعي. وليست هذه حالة فريدة كما يتبين من نماذج أحلام عارف تميمي، منفذة عملية 9 آب/أغسطس عام 2001، والتاميلية دهانوي التي اغتالت راجيف غاندي، وكلتاهما قد ارتكبتا "المعصية" وحملتا سفاحاً. فقد اعترفت فاطمة السعيد التي أوقفت بعد اغتيالها جنديين إسرائيليين قائلة: "كانت هذه عملية ضد قوات الاحتلال، إنما أيضاً وسيلة لأبرهن لأهلي أنني لا أقل قيمة عن أخوتي الذين كان يحق لهم الذهاب إلى الجامعة في حين أني منعت من ذلك"[14].

لكن ما يثير الجدل هو الرغبة في عدم إيذاء الضحايا البريئة. فالرئيس الشيشاني أصلان ماسخادوف دان الاعتداءات على الضحايا المدنية وكذلك فعل مفتي السعودية الأكبر الشيخ عبد العزيز الشيخ أو المفتي محمد سيد طنطاوي، شيخ جامعة الأزهر في مصر.

وبشكل عام فان هذه العمليات، وبالرغم من طابعها الديني، تدخل ضمن منطق سياسي بشكل أساسي، وما يمكن أن يوقفها هو فقط مسار تفاوضي جدي. وقد تبين أن استخدام العنف ضد الإرهاب القائم على مفهوم العقوبة الجماعية قد باء بالفشل. فقد أكد أحد ضباط الجيش الإسرائيلي: "سوف ننقل الحرب إلى مناطقهم، وهكذا سيضطرون إلى خوض الحرب بين منازلهم وليس في منازلنا. نحن نقاتل على أراضيهم ونتفوق عليهم في ذلك"[15]. لكن، منذ قيام الانتفاضة الثانية سقط من الفلسطينيين ما يعادل ثلاثة أضعاف الإسرائيليين، إلا أن سياسة القوة التي يعتمدها السيد أرييل شارون لا تحمي إسرائيل إذ بلغ عدد الضحايا الإسرائيليين ثلاثة أضعاف ما كان عليه منذ عشرين عاماً.

وهذه الأساليب تطور الأرضية التي يبرز فيها المتطوع للانتحار. وما له دلالته هو عند قيام عمليات انتحارية في الجزائر[16]، ولا يكفي لتفسير ذلك القول بحداثة النزاع بالرغم من العنف المعتمد في الحرب الأهلية منذ العام 1991.

لكن الأكثر إثارة للمخاوف هي تلك الفئة الثانية من العمليات الانتحارية التي تجسدت في الهجوم على مركز التجارة العالمي، حيث تحول العدو تشكيلة شمولية وخيالية من "يهود وصليبيين ومنافقين"، بحسب تعابير السيد بن لادن الذي جمع بذلك أهدافاً متنافرة كيفما كان، دونما الاهتمام بأي ديانة من ديانات الضحايا غير المقصودة. ففي 21 أيار/مايو بثت قناة "الجزيرة" تسجيلاً دعا فيه الرجل الثاني في "القاعدة"، السيد أيمن الظواهري، المسلمين إلى "مقاتلة الأميركيين"... ويحضهم على "طرد الغربيين من الجزيرة العربية "أرض الإسلام"، لأن "الصليبيين واليهود لا يفهمون إلا بلغة القتل وحمامات الدم والأبراج المحترقة". وأضاف: "يا أيها المسلمون، خذوا قراركم واضربوا سفارات الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا والنروج (كذا)، وشركاتهم وموظفيهم".

وتتشكل هذه الشبكات التي تنسب إليها عادة هذه العمليات الانتحارية من ثلاث عينات من الأجيال: جيل قدامى المحاربين "الأفغان" الذين قاتلوا الروس مثل السادة بن لادن والتركي عدنان أرسوز أو أبو قتادة في لندن. ثم الجيل الأصغر من مقاتلي "البوسنة والشيشان" مثل السيد أزاد إيكينغ، التركي الذي نفذ عمليات اسطنبول، والأخوين دافيد وجيروم كورتايي أو السيد ميناد بن شلالي، الشاب من ليون الذي كان يعد لعملية بالمواد الكيميائية على السفارة الروسية في باريس. ويضاف إليهم جيل ثالث من العشرينيين، من المعجبين بهؤلاء المقاتلين السابقين، مثل السيد ريتشارد ريد، صاحب الحذاء المفخخ الذي ارتضى الشهادة من أجل قضية وهمية تقول بنصر الإسلام واستعادة الخلافة وتجديد الوحدة بين المسلمين. ويشكل هؤلاء الشبان "زمراً صغيرة لا تحمل اسماً" بحسب تعبير راسن كاكان، الاختصاصي التركي في الحركات الإسلامية، راسخة في عقلية انحرافية مقدسة استناداً إلى إيديولوجيا تعصبية واستشهادية. وعندهم يسقط اعتبار الزمن بمرجعيتهم الوهمية التي تعود إلى عصر الإسلام الذهبي (السلفية).

والايديولوجيا الاحترابية تسهل عملية تحديد "صيغة" عدو تنفي عنه كل قيمة وتتجسد فيه جميع الشرور وكل الاضطرابات (الأميركيون والإسرائيليون، والفرنسيون في نظر المغاربة...). ولم يعد هناك مطالبة بهوية وطنية وإنما بنوع من هوية "أممية" تتمثل في "الأمة" (جماعة المؤمنين). كما أن المسجد ومقاهي الانترنت أصبحت هي أماكن الاجتماعات الفعلية. وهؤلاء المتطوعون للانتحار، المتحدرون في الغالب من عائلات متعددة الثقافات أو منتزعة من جذورها، والذين يحملون أحياناً جنسيات متعددة، يبدون مقتنعين بجغرافيا رمزية ترى أن أرض الإسلام هي حيث يوجدون وحيث يمكنهم "شرعاً" تنفيذ عملياتهم.

وفي هذا شيء من المؤثرات المفاجئة لـ"المحلّوية الشاملة"، فأشكال التضامن هي محلية تتشكل انطلاقاً من الحي نفسه أو من المدينة نفسها، كما هو وضع العصابات، أما عملاء الاتصال "أدوات الربط" مثل السيد جمال بيغال فإنهم عالميون ويقيمون أكثر ما يمكن من الحواجز بين المجموعات. فالمجموعة الإسلامية المغربية "الصراط المستقيم" التي خرج منها ثمانية من الإرهابيين الأربعة عشر هي خليط من المذاهب ومن زمر الأحياء في ضاحية سيدي مؤمن الشعبية، بينما قدم الإمام من فرنسا.

أما الغربيون المهتدون أو "المولودون مجدداً في الإسلام"[17] (“ reborn in Islam”) فيمكنهم أن يلعبوا دور المستكشفين للأهداف المرتقبة (مثل ريتشارد رايد في إسرائيل) ويؤمنون جوازات السفر المزورة التي يتم الإعلان عن فقدانها ويجددونها عند الطلب كما فعل زكريا موسوي. وتكثر الزيارات إلى باكستان أو كشمير أو أفغانستان. كما يتوافر المال بكل سهولة. فبحسب سكوتلانديارد فإن شبكة من 4000 جمعية إسلامية و50 مصرفاً تسمح بإعادة توزيع الثلاثة ملايين ليرة إسترلينية من أموال الزكاة سنوياً. هذه التنقلات المستمرة تساهم في عدم حصر المعركة وكذلك التواصل بواسطة الانترنت بأرض محددة.

وينطبع المشهد بأجواء الإماتة، كما في وضع "مجاهدي" الشعب الإيرانيين التي أحرق بعض أعضائها أنفسهم حيث قامت إدارة مراقبة الأراضي الوطنية الفرنسية(DST) بوضع السيدة مريم رجوي تحت المراقبة، وهو ما يعتبر نموذجاً مهماً عن الأجواء الوهمية التي تجعل المناضلين مستعدين للاستشهاد حتى من أجل سبب تافه. كما أن هناك ظواهر مشابهة مثل الانتحارات الجماعية برزت في آنٍ معاً في أوساط مساجين حزب العمال الكردستاني ولدى بعض الطوائف الرؤيوية التي ترى أنها أسيرة عالم اللاتفاهم والعدائية (انتحار غويانا مع ديفيد كورش مثلاً أو أصحاب العبادة الشمسية في فرنسا).

وإضفاء الصفة المركزية على "الشيخ المرشد/الزعيم/الأمير هو أمر أساسي من أجل تجسيد الوعد بـ"غد" أفضل سواء في هذا العالم عند انتصار القضية أم في السماء. وغالباً ما يعين هذا الزعيم نفسه مثل ريشار روبير "الإمام ذي العينين الزرقاوين" مدبر اعتداءات المغرب، وهو من مواليد مدينة سانت اتيان الفرنسية. إن عبادة الشخص تقوي الانضمام شبه الديني إلى الرئيس الذي يجب التضحية من أجله سواء بالنسبة إلى السيدة مريم رجوي أو إلى السيدين بن لادن أو عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، أو رضوان عصام الدين المعروف بالحنبلي الزعيم العملاني للجماعة الإسلامية الاندونيسية. أما زعيم منظمة نمور التاميل، فالوبيلاي برابهاكاران، وهو لا يزال يعيش في الخفاء فإنه يمنح كمكافأة أخيرة للاستشهادي العتيد عشاء أو صورة معه.

أما الأهداف فإنها ذات صفة عالمية (الأمم المتحدة، الصليب الأحمر، مركز التجارة العالمي، المصارف...)، والأساليب عشوائية أكثر فأكثر دونما اهتمام للأضرار الجانبية، كما أن الحرب على مسلمين آخرين غير محظورة. وهذا التشريع ناتج من أعمال القدح الموجهة ضد "المنافقين" سواء أكانوا من الشيعة المنعوتين بأنهم "أنصاف يهود" أو من المؤمنين الفاسدين المتهمين بعيش حياة فاسقة على الطريقة "الغربية". فالاعتداء على مجمع المحيا السكني في الرياض، في 8 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2003، سقط فيه قتلى من تسع عشرة جنسية، شرق أوسطية بنوع خاص، لم يكن بينهم أي غربي. والاعتداء على الكنيس اليهودي في اسطنبول قتل خمسة يهود أتراك من أصل تسع عشرة ضحية. وقد أصبح تنظيم القاعدة، الذي باتت واشنطن ترى بصماته في كل مكان قد أصبح "العدو الأسطوري" كما يلحظ، وعن وجه حق، ريشار لابوفيار.

وفي عملية اسطنبول دلالات على حالة القطيعة مع الإسلام السياسي التقليدي، فمؤسس "حزب الله" التركي هو السيد عدنان أرسوز وهو "أفغاني". أما الجيل الثاني، جيل محاربي البوسنة والشيشان، فإنهم يلتقون حول أزاد إيكنغ، الذي جند وأعد الشبان الانتحاريين من العشرينيين الذين يترددون إلى مقاهي الانترنت في بنغول. وقد استهدفت هذه العمليات الانتحارية دولة رفضت تقديم المساعدة إلى الأميركيين خلال حربهم على العراق ويحكمها حزب سياسي يؤكد انتمائه إلى الإسلام السياسي.، هو حزب العدالة والتطور الذي صرح زعيمه رئيس الحكومة قائلاً: "إن الاعتداء على هؤلاء المواطنين اليهود هو اعتداء على تركيا!". فهذه الاعتداءات شكلت خطاً فاصلاً بين الإسلام السياسي "الدستوري" الذي اختار طريق الانتخابات كما شهدنا في ثمانينات القرن الماضي وبين المجموعات الصغيرة المتبعثرة التي جند منها انتحاريو الجيل الجديد.

وطبعاً إن هذين النوعين من الانتحاريين ليسا مستقلين أحدهما عن الآخر. فالأوائل يلعبون دور المرجعية الرمزية للآخرين في ميثولوجيا الإسلام الضحية. لكنهم يعتمدون معاملات مختلفة. ولذلك فإن مفهوم "الحرب العالمية على الإرهاب" هو خطأ سياسي لأنه يضع في سلة واحدة مجموعات ونشاطات متباينة. فخيار الحل السياسي عبر المفاوضات هو الحل الوحيد في حالات المسلكيات الانتحارية الاتنية القومية القائمة على أسس دينية كما هي الحال في الشيشان وفي فلسطين وغيرهما. وهكذا نجد أن انسحاب القوات الاسرائيلية من لبنان قد عزز القرار الذي اتخذه "حزب الله"، ومنذ سنوات الاحتلال الأخيرة، بوقف العمليات الانتحارية، والتي لم تكن تستهدف أساساً إلا أهدافاً عسكرية وليس مدنية.

ثم أن وحشية قوى الاحتلال الهندية أو الروسية أو السريلانكية أو الإسرائيلية تتسبب بسقوط عدد من الضحايا أكبر مما تتسبب به العمليات الانتحارية. وهو ما يستخدم ذريعة لتشريع العمل الإرهابي كسلاح غير متكافئ ولنفي صفة الضحايا البريئة عن السكان المدنيين، وذلك إما لأن هؤلاء السكان هم أيضاً مسلحون ( المستوطنون الإسرائيليون) وإما لأنهم يبدون تجاهلاً إزاء المجازر المرتكبة (الشعب الروسي). وأخيراً فإنها تؤمن دعم السكان وتغذي الأرضية الحاضنة حيث يمكن تجنيد الانتحاريين العتيدين.

وهذه الفئة الثانية من العمليات الانتحارية قد ضربت العدد الأكبر من الدول وهي لا تزال تتوسع، وليس بإمكان أي دولة أوروبية أن تعتقد أنها في مأمن من مثل تلك الأعمال.

* موظف كبير، باريس.

مواطنين لا متفرجين


رابط هذا التعليق
شارك

رابط المقال عاليه هو :

http://www.mondiploar.com/jun04/articles/cone.htm

المقال يحوي سرد تاريخي عن العمليات الانتحارية.

مواطنين لا متفرجين


رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...