اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

الماركسية والدين


ماركيز

Recommended Posts

مايكل لوفي/ ترجمة: بشير السباعي


إن من شأن قراءة متأنية لمجمل فقرة ماركس التي يظهر فيها تعبير "الدين أفيون الشعوب" أن تبين أن كاتبها أكثر إدراكا لدرجات الألوان مما هو شائع عنه. فهو يأخذ في اعتباره الطابع المزدوج للدين: "إن الهم الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن هم واقعي واحتجاج على هم واقعي. إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة، هو قلب عالم لا قلب له، مثلما هو روح وضع بلا روح. إنه أفيون الشعب". وإذا ما قرأنا مجمل البحث الذي ترد فيه هذه الفقرة- والذي يحمل عنوان "نحو نقد لفلسفة الحق الهيجيلية" والمكتوب في عام 1844- فسوف يتكشف لنا بوضوح أن رأي ماركس يدين للهيجيلية الجديدة اليسارية، التي اعتبرت الدين اغترابا للجوهر الإنساني، بأكثر مما يدين لفلسفة التنوير التي ترجع إلى القرن الثامن عشر والتي أدانت الدين بوصفه مؤامرة إكليركية لا أكثر ولا اقل.
والواقع أن ماركس عندما كتب الفقرة الآنفة كان لا يزال تلميذا لفيورباخ، هيجيليا جديدا. ومن ثم فإن تحليله للدين كان "قبل ماركسي" لا يتميز بأية إحالة طبقية على أنه مع ذلك جدليا لأنه قد استوعب الطابع المتناقض للظاهرة الدينية: فهي في بعض الأحيان تمثل إضفاء للشرعية على المجتمع القائم وهي في بعض الأحيان تمثل احتجاجا عليه. ولم تبدأ الدراسة الماركسية المحددة للدين بوصفه علاقة اجتماعية وتاريخية إلا فيما بعد - خاصة مع مخطوط "الأيديولوجية الألمانية" ( 1846).

وقد تضمنت تلك الدراسة تحليلا للدين بوصفه أحد الأشكال الكثيرة للإيديولوجية، الإنتاج الروحي لشعب ما، إنتاج الأفكار والتمثيلات والوعي - والتي تعتبر كلها بالضرورة مشروطة بالإنتاج المادي والعلاقات الاجتماعية المتناسبة معه، على أن ماركس، منذ تلك اللحظة فصاعدا، لم يول اهتماما كبيرا للدين بصفته هذه، أي بصفته كونا ثقافيا/أيديولوجيا نوعيا للمعنى.

وأبدى فريدريك أنجلز اهتماما بالظاهرة الدينية وبدورها التاريخي يفوق اهتمام ماركس بهما بكثير. وتتمثل مساهمة أنجلز الرئيسية التي قدمها إلى الدراسة الماركسية للأديان في تحليله لعلاقة التمثيلات الدينية بالصراع الطبقي.
وفيما وراء المناظرة الفلسفية (المادية ضد المثالية) حاول فهم وتفسير التجليات الاجتماعية الملموسة للأديان. فالمسيحية لم تبد في نظره (مثلما كانت تبدو في نظر فيورباخ) بوصفها "جوهرا" منفصلا عن الزمن، بل هي تبدو بوصفها شكلا ثقافيا يتعرض لتحولات في العصور التاريخية المختلفة: فهي تبدو في البداية بوصفها ديانة للعبيد، ثم بوصفها أيديولوجية ملائمة للهيراركية الإقطاعية وأخيرا بوصفها أيديولوجية تتميز بالتكيف مع المجتمع البرجوازي.

وهي تظهر من ثم بوصفها فضاء رمزيا تتنازع عليه قوى اجتماعية متناحرة:
اللاهوت الإقطاعي والبروتستانتية والبرجوازية والهرطقات الشعبية. وفي بعض الأحيان كان تحليله يزل في اتجاه تفسير نفعي، ذرائعي، بشكل ضيق للحركات الدينية: ".... وإن كل طبقة من الطبقات المختلفة تستخدم الدين الملائم لها... ولا أهمية تذكر لما إذا كان هؤلاء السادة يؤمنون بالأديان التي يتبناها كل منهم أم لا "ويبدو أن أنجلز لا يرى في صور الإيمان المختلفة غير"الستار الديني" للمصالح الطبقية.

لكن أنجلز بفضل منهجه الذي يؤكد على الصراع الطبقي كان قد أدرك - خلافا لفلاسفة التنوير- أن النزاع بين المادية والدين لا يتطابق دائما مع الصراع بين الثورة والرجعية. فنحن نجد، على سبيل المثال، في إنجلترا في القرن الثامن عشر، أن المادية ممثلة في شخص هوبز قد دافعت عن الملكية المطلقة في حين أن الشيع البروتستانتية قد استخدمت الدين كراية لها في النضال الثوري ضد آل ستيوارت.

وبالشكل نفسه، بدلا من اعتبار الكنيسة كلا متجانسا من الناحية الاجتماعية نقدم تحليلا رائعا يبين كيف أن الكنيسة قد انقسمت في بعض المنعطفات التاريخية بحسب تركيبها الطبقي. وهكذا فخلال زمن الإصلاح، كان على أحد الجانبين كبار رجال الدين، القمة الإقطاعية للهيراركية، وكان على الجانب الآخر صغار رجال الدين، الذين جاء من بين صفوفهم إيديولوجيو الإصلاح وإيديولوجيو الحركة الفلاحية الثورية. ومع كون أنجلز ماديا "ملحدا" وعدوا لدودا للدين، فإنه قد أدرك، شأنه في ذلك شأن ماركس الشاب، الطابع المزدوج للظاهرة الدينية: دورها في إضفاء الشرعية على النظام القائم، ولكن أيضا، تبعا للظروف الاجتماعية، دورها الانتقادي والاحتجاجي، بل والثوري.

وعلاوة على ذلك فإن معظم الدراسات الملموسة التي كتبها قد ركزت على هذا الجانب الثاني: حيث تركزت، بالدرجة الأولى، على المسيحية البدائية، ديانة الفقراء والمنبوذين والمهانين والمضطهدين والمقهورين.

فقد جاء المسيحيون الأوائل من أدنى مستويات المجتمع: العبيد، الأحرار الذين حرموا من حقوقهم، وصغار الفلاحين الذين نزحوا تحت نير الديون
بل إن إنجلز قد مضى إلى حد رسم تواز مثير بين هذه المسيحية البدائية والاشتراكية الحديثة:

( أ ) إن الحركتين الكبيرتين ليستا من عمل زعماء وأنبياء- مع أن الأنبياء ليسوا بالمرة قليلين في أي منهما- بل هما حركتان جماهيريتان.

( ب ) إن كليهما حركات مضطهدين، يعانون من القهر والمنتمون إليهما يتعرضون للتشريد والملاحقة من جانب السلطات الحاكمة.

( ج ) إن كليهما يدعوان إلى تحرر وشيك من العبودية والبؤس. وسعيا إلى زخرفة مقارنته، نجد أن إنجلز يتجه، بشكل مثير إلى حد ما، إلى الاستشهاد بقول مأثور للمؤرخ الفرنسي رينان: "إذا أردتم تكوين فكرة عما كانت عليه حال الجماعات المسيحية الأولى، انظروا إلى شعبة محلية لرابطة العمال الأممية" ويرى إنجلز أن الفارق بين الحركتين يتمثل في أن المسيحيين الأوائل قد نقلوا الخلاص إلى الآخرة بينما تتصوره الاشتراكية في هذا العالم الدنيوي. ولكن هل يعتبر هذا الفارق واضحا بالدرجة التي يبدو بها للوهلة الأولى؟

يبدو أنه قد أصبح مطموسا في دراسة إنجلز للحركة المسيحية الكبرى الثانية - "حرب الفلاحين في ألمانيا" - فتوماس مونزر، لاهوتي وقائد الفلاحين الثوريين والعوام الهراطقة في القرن السادس عشر كان يريد تجسيدا فوريا على الأرض لمملكة الرب، مملكة الأنبياء الألفية السعيدة. ويرى إنجلز أن مملكة الرب كانت بالنسبة لمونزر مجتمعا لا يعرف الفوارق الطبقية ولا الملكية الخاصة ولا سلطة دولة مستقلة عن أفراد ذلك المجتمع وغريبة عنه.

على أن إنجلز كان ما يزال ميالا إلى اختزال الدين إلى مستوى حيلة: فقد تحدث عن "صيغ" مونزر "الكلامية" المسيحية وعن "ستاره" الإنجيلي ويبدو أنه قد غاب عن باله البعد الديني المحدد للنزعة الألفية المونزرية، قوتها الروحية والأدبية، وعمقها الصوفي المعيش معايشة صادقة. وأيا كان الأمر، فإن إنجلز، بتحليله الظاهرة الدينية من منظور الصراع الطبقي، قد أبرز القوة الاحتجاجية للدين وشق الطريق لنهج جديد - متميز عن كل من الفلسفة التنويرية التي ترجع إلى القرن الثامن عشر والهيجلية الجديدة الألمانية - لتناول العلاقة بين الدين والمجتمع.

ومعظم الدراسات الماركسية في القرن العشرين عن الدين تقتصر إما على تفسير أو تطوير للأفكار التي عرضها ماركس وإنجلز أو على تطبيقها على واقع محدد.

كاوتسكي ولينين ولوكسمبورج
تلك هي الحالة مثلا مع دراسات كارل كاوتسكي التاريخية عن المسيحية البدائية، والهرطقات التي عرفتها العصور الوسطى، وعن توماس مور وتوماس مونزر. وبينما يقدم لنا كاوتسكي نظرات ثاقبة وتفصيلات مهمة عن الأسس الاجتماعية والاقتصادية لهذه الحركات وعن طموحاتها المشاعية، فإنه عادة ما يختزل معتقداتها الدينية إلى مستوى مجرد "قشرة" أو"حلة" "تخفي" محتواها الاجتماعي. وفي كتابه عن الإصلاح الألماني، لا يبدد أي وقت في تناول البعد الديني للنزاع بين الكاثوليك واللوثريين والقائلين بتجديد العماد:
واحتقارا منه لـ "المشاجرات اللاهوتية" بين هذه الحركة الدينية، يرى أن
المهمة الوحيدة للمؤرخ هي "إرجاع نزاعات تلك الأزمنة إلى تناقضات المصالح المادية". وكان كثيرون من الماركسيين في الحركة العمالية الأوربية معادين بشكل جذري للدين لكنهم كانوا يرون أن المعركة الإلحادية ضد الأيديولوجية الدينية يجب أن تخضع للضرورات الملموسة للنظام الطبقي، الذي يتطلب الوحدة بين العمال الذين يؤمنون بالرب وأولئك الذين لا يؤمنون به.

ولينين نفسه - الذي غالبا ما شجب الدين باعتباره "ضبابا صوفيا"- يؤكد في مقاله الذي يحمل عنوان "الاشتراكية والدين" ( 1905 ) على أن الإلحاد لا يجب أن يكون جزءا من برنامج الحزب لأن "الوحدة" في النضال الثوري الذي تخوضه الطبقة المقهورة من أجل خلق فردوس على الأرض أهم بالنسبة لنا بكثير من وحدة الرأي البروليتاري حول الموقف من فكرة الفردوس في السماء.

وقد تقاسمت روزا لوكسمبورج هذا الرأي، لكنها طورت نهجا مختلفا وأكثر مرونة فعلى الرغم من أنها كانت هي نفسها ملحدة، فقد هاجمت في كتاباتها السياسة الرجعية للكنيسة - باسم تراثها - بأكثر مما هاجمت الدين. وفي بحث كتب في عام 1905، (الكنيسة والاشتراكية) قالت أن الاشتراكيين الجدد أكثر إخلاصا للمبادئ الأصلية للمسيحية من رجال الدين المحافظين المعاصرين.

وبما أن الاشتراكيين يناضلون من أجل نظام اجتماعي يتميز بالمساواة والحرية والإخاء، فإن القساوسة، إذا كانوا يريدون مخلصين أن يطبقوا في حياة البشرية المبدأ المسيحي الذي يدعو إلى أن يحب المرء جاره حبه لنفسه، يجب أن يرحبوا بالحركة الاشتراكية.
فعندما يؤيد رجال الدين الأغنياء، الذين يستغلون ويضطهدون الفقراء، فإنهم يكونون في تناقض سافر مع التعاليم المسيحية: إنهم يخدمون العجل الذهبي لا المسيح. وكان رسل المسيحية الأوائل مشاعيين متحمسين وقد حجب آباء الكنيسة (مثل بازيل الأكبر ويوحنا كريسوستوم) الظلم الاجتماعي وهذه القضية تتولاها اليوم الحركة الاشتراكية التي تحمل إلى الفقراء إنجيل الإخاء والمساواة، وتدعو الشعب إلى إنشاء مملكة الحرية وحب الجار على الأرض. وبدلا من خوض معركة فلسفية باسم المادية، تحاول روزا لوكسمبورج استنقاذ البعد الاجتماعي للتراث المسيحي لحساب الحركة العمالية. وكان الماركسيون النمساويون، اوتو باور وماكس أدلر، الخ، أقل عداوة للدين بكثير من زملائهم الألمان والروس. ويبدو أنهم قد اعتبروا الماركسية متمشية مع شكل ما للدين، لكن ذلك يشير أساسا إلى الدين بوصفه "عقيدة فلسفية" (ذات إلهام كانطي جديد) وليس إلى تقاليد دينية تاريخية ملموسة. الأممية الشيوعية لم يول اهتمام كبير للدين في الأممية الشيوعية. وقد انضم عدد هام من المسيحيين إلى الحركة، وخلال العشرينات، نجد أن قسا بروتستانتيا سويسرا سابقا، هو جول أمبير - دروز، قد أصبح واحدا من قادة الكومنترن (الأممية الشيوعية) الرئيسيين. وكانت الفكرة السائدة بين الماركسيين آنذاك هي أن المسيحي الذي صار اشتراكيا أو شيوعيا إنما يعتبر بالضرورة متخليا عن معتقداته الدينية "اللاعلمية" و "المثالية" السابقة.

وعمل برتولد بريشت المسرحي الجميل الذي يحمل عنوان "جان الجزارات" ( 1932 ) هو مثال جيد لهذا النوع من التناول التبسيطي لتحول المسيحيين إلى النضال من أجل التحرر البروليتاري. ويصف بريشت بشكل بالغ الذكاء العملية التي تكتشف عبرها جان، وهي قائدة لجيش الخلاص، حقيقة الاستغلال والظلم الاجتماعي وتموت متنكرة لمعتقداتها السابقة. إلا أنه لابد من أن توجد بالنسبة له قطيعة مطلقة وكاملة بين إيمانها المسيحي السابق وإيمانها الجديد بالنضال الثوري.

وقبيل موتها مباشرة تقول جان للشعب: "إن جاءكم أحد يوما ما ليقول أن هناك ربا، وإن كانت لا تدركه الأبصار، يمكنكم انتظار عونه، ارجموه بحجر على رأسه دون رحمه إلى أن يموت".

وفي هذا النوع من المنظورات "المادية" الفجة - وغير المتسامحة بالمرة - ضاعت بصيرة روزا لوكسمبورج النافذة، التي رأت أن بوسع المرء النضال من أجل القيم الحقيقية للمسيحية الأصلية.

والواقع أنه قد ظهرت في فرنسا ( 1936 - 1938 )، بعد سنوات قليلة من كتابة بريشت لهذه المسرحية، حركة للمسحيين الثوريين تجمع عدة آلاف من المناضلين الذين ساندوا الحركة العمالية بنشاط، خاصة جناحها الأكثر جذرية (جناح الاشتراكيين اليساريين الذين تزعمهم مارس بيفير). وكان شعارهم الرئيسي "نحن اشتراكيون لأننا مسيحيون".

جرامشي

من بين زعماء ومفكري الحركة الشيوعية، من الأرجح أن جرامشي هو الوحيد الذي أبدى الاهتمام الأكبر بالمسائل الدينية.

كما أنه أحد الماركسيين الأوائل الذين حاولوا فهم الدور المعاصر للكنيسة الكاثوليكية وثقل الثقافة الدينية بين الجماهير الشعبية وملاحظاته عن الدين التي سجلها في "دفاتر السجن" ذات طابع متناثر ومبعثر وتلميحي، لكنها في الوقت نفسه جد نافذة.

والواقع أن نقده الحاد الساخر لأشكال الدين المحافظة - خاصة النوع اليسوعي من الكاثوليكية، الذي كان يمقته من صميم فؤاده - لم يحل بينه وبين أن يدرك أيضا البعد الطوباوي للأفكار الدينية ".... أن الدين هو أضخم "ميتافيزيقيا" عرفها التاريخ حتى الآن، لأنه أضخم محاولة للتوفيق، في شكل ميثولوجي، بين التناقضات الفعلية للحياة التاريخية. فالواقع أنه يؤكد أن البشرية لها "طبيعة" واحدة، أن الإنسان ... بقدر ما أنه قد خلقه الرب، ابن الرب، هو من ثم أخ للبشر الآخرين ومثلهم ...، لكنه يؤكد أيضا أن ذلك كله لا ينتمي إلى هذا العالم، بل إلى عالم آخر (اليوتوبيا). وهكذا فإن أفكار المساواة والإخاء، والحرية تنبجس بين البشر... وهكذا فإن هذه المطالب قد طرحت دائما في كل تحرك جذري للجماهير، على نحو آخر، بأشكال خاصة وبأيديولوجيات خاصة "كما أكد على التمايزات الداخلية للكنيسة وفقا للتوجهات الإيديولوجية - تيارات ليبرالية ويسوعية وأصولية داخل الثقافة الكاثوليكية – ووفقا للطبقات الاجتماعية المختلفة:

"إن كل دين... هو في الواقع عديد من الأديان المختلفة والمتناقضة غالبا:
فهناك كاثوليكية للفلاحين وكاثوليكية للبرجوازية الصغيرة وعمال المدن وكاثوليكية للمرأة وكاثوليكية للمثقفين.... "وتتصل معظم ملاحظاته بتاريخ ودور الكنيسة الكاثوليكية الحالي في إيطاليا: تعبيرها الاجتماعي والسياسي من خلال جماعة العمل الكاثوليكي وحزب الشعب، وعلاقتها بالدولة وبالطبقات التابعة، الخ. وقد اهتم على نحو خاص بأسلوب تجنيد المثقفين التقليديين واستخدامهم كأدوات للهيمنة من جانب الكنيسة: "مع أنها قد نظمت آلية مثيرة للاختيار "الديمقراطي" لمثقفيها، فإنهم قد اختيروا كأفراد فرادى وليس كتعبير تمثيلي عن الجماعات الشعبية".

بلوخ

إن تحليلات جرامشي ثرية ومحركة للتأمل، لكنها، في التحليل الأخير، لا تجدد في منهج تناول الدين. وأرنست بلوخ هو الكاتب الماركسي الأول الذي غير الإطار النظري جذريا دون أن يتخلي عن المنظور الماركسي والثوري.

وبأسلوب مماثل لأسلوب أنجلز، ميز بين تيارين متعارضين من الناحية الاجتماعية: من جهة، دين الكنائس الرسمية الثيوقراطي، أفيون الشعب، جهاز تضليلي يخدم الأقوياء، ومن الجهة الأخرى، الدين السري، الهدام والخارج الذي عرفه الألبيجينسيون (شعبة دينية ظهرت في فرنسا بين عامي 1029- 1250، وتعرضت للقمع بتهمة الهرطقة - المترجم) والهوسيون (أتباع يان هوس ( 1369- 1415 ) المصلح الديني في بوهيميا، والذي أحرق بتهمة الهرطقة - المترجم) ويواكيم الفلوري وتوماس مونزر
وفرانتس فون بادر، وفيلهيلم فايتلينج وليو تولستوي.

على أن بلوخ، خلافا لإنجلز، رفض اعتبار الدين مجرد "ستار" لمصالح طبقية - وقد انتقد هذا المفهوم بشكل صريح، وإن كان قد رده إلى كاوتسكي وحده... فالدين في أشكاله الاحتجاجية والمتمردة هو أحد أهم أشكال الوعي الطوباوي، أحد أغنى التعبيرات عن مبدأ الأمل.

واللاهوت اليهودي - المسيحي عن الموت والخلود - الكون الديني الأثير لدى بلوخ - إنما يرمز، من خلال قدرته على التوقع الإبداعي، إلى الفضاء الخيالي لما لم يأتي بعد.
واستنادا إلى هذه التصورات، يطور بلوخ تفسيرا غير أرثوذكسي وخارجا على الأعراف التقليدية للكتاب المقدس - بعهديه القديم والجديد - مقدما إنجيل الفقراء، الذي يدين الفراعنة ويدعو الجميع إلى الاختيار بين قيصر والمسيح. والواقع أن بلوخ وهو ملحد ديني - إنه يرى أن الملحد هو وحده الذي يمكنه أن يصبح مسيحيا صالحا وأن المسيحي الصالح وحده هو الذي يمكنه أن يصبح ملحدا - ولاهوتي للثورة، لم يقدم مجرد قراءة ماركسية للنزعة الألفية (مقتفيا أثر أنجلز في ذلك) بل قدم أيضا - وهذا هو الجديد ، تفسيرا ألفيا للماركسية، حيث يجرى اعتبار النضال الاشتراكي من أجل مملكة الحرية وريثا مباشرا لهرطقات الماضي الأخروية والجماعية.

وبطبيعة الحال فإن بلوخ، شأنه في ذلك شأن ماركس الشاب الذي كتب فقرة 1844 الشهيرة، وقد ميز الطابع المزدوج للظاهرة الدينية، جانبها القهري وكذلك قدرتها على التمرد.

ويتطلب الجانب الأول استخدام ما يسميه بـ "تيار الماركسية البارد": التحليل المادي الذي لا يكل للأيديولوجيات والأوثان والوثنيات.

على أن الجانب الثاني يتطلب "تيار الماركسية الدافق" الذي يسعى إلى استنقاذ الفائض الثقافي الطوباوي في الدين، قوته الانتقادية والتوقعية. وبعيدا عن أي "حوار" كان بلوخ يحلم باتحاد حقيقي بين المسيحية والثورة مثلما حدث في حرب الفلاحين في القرن السادس عشر . وإلى حد ما، كان بعض أعضاء مدرسة فرانكفورت يتقاسمون أراء بلوخ. فقد رأى ماكس هوركهايمر أن "الدين هو سجل رغبات وأشواق واحتجاجات أجيال لا حصر لها وفي كتابه " عقيدة المسيح" ( 1930 )، استخدم أيريك فروم الماركسية والتحليل النفسي لتوضيح جوهر المسيحية البدائية الخلاصي والشعبي والمساواتي والمعادي للتسلط، وقد حاول فالتر بنيامين أن يؤلف، في تركيب فريد وأصيل، بين اللاهوت والماركسية، بين الخلاصية اليهودية والمادية التاريخية.

جولدمان

ويعتبر عمل لوسيان جولدمان محاولة رائدة أخرى لتجديد التناول الماركسي للدين ومع أن مصادر إلهام جولدمان تختلف اختلافا بينا عن مصادر إلهام بلوخ، إلا أنه قد اهتم هو بإيضاح يرد الاعتبار إلى القيمة الأخلاقية والإنسانية للتراث الديني.

وقد طور في كتابه "الرب المحتجب" ( 1955 ) تحليلا سوسيولوجيا جد مرهف ومبتكر للهرطقة اليانسنية (بما في ذلك مسرح راسين وفلسفة باسكال) بوصفها فلسفة مأساوية، تعبر عن الوضع الخاص لشريحة اجتماعية (نبلاء الرداء) في فرنسا في القرن السابع عشر.

على أن الجزء الأكثر إثارة للدهشة والأكثر أصالة في هذا العمل هو المحاولة الرامية إلى المقارنة بين الإيمان الديني والإيمان الماركسي - دون دمجهما: فكلاهما يرفضان النزعة الفردية الخالصة (العقلانية أو التجريبية) وكلاهما يؤمنان بقيم فوق فردية - الرب بالنسبة للدين والجماعة الإنسانية بالنسبة للاشتراكية.

ويوجد تناظر مماثل بين الرهان الباسكالي على وجود الرب والرهان الماركسي على تحرر الإنسانية: إن كليهما يفترضان المجازفة، وخطر الفشل وأمل النجاح.
وكليهما ينطويان على إيمان أساسي معين لا يمكن إثباته على مستوى الأحكام الواقعية وحده. وبطبيعة الحال فإن ما يفصل بينهما هو الطابع فوق الطبيعي أو فوق التاريخي للتسامي الديني ودون أن يهدف بآية حال "إضفاء طابع مسيحي على الماركسية" أدخل جولدمان أسلوبا جديدا للنظر إلى العلاقة الصراعية بين الإيمان الديني والإلحاد الماركسي.

لقد رأى ماركس وأنجلز أن الدور الانتقادي الذي لعبة الدين هو شيء ينتمي إلى الماضي، لم تعد له أية أهمية في عصر الصراع الطبقي الحديث.
وقد تأكد هذا التوقع من الناحية التاريخية إلى هذا الحد أو ذاك على مدار قرن - فيما عدا استثناءات هامة قليلة (خاصة في فرنسا): حركة الاشتراكيين المسيحيين في الثلاثينيات، حركة القساوسة العمال في الأربعينيات، يسار النقابات المسيحية الاتحاد الفرنسي للعمال المسيحيين في الخمسينيات، الخ. إلا أنه لفهم ما كان يحدث خلال السنوات الثلاثين الماضية في أمريكا اللاتينية - وفي الفلبين أيضا وبدرجة أقل في قارات أخرى - فإننا بحاجة إلى أن ندمج في تحليلنا رؤى بلوخ (وجولمان) الثاقبة حول الطاقة الطوباوية للتراث اليهودي-المسيحي.

كثيرون هم الذين اتخذوا من الاوهام

والمعجزات الزائفة وخداع البشر تجارة لهم

الجهل يعمي أبصارنا ويضللنا

أيها البشر الفانون ! افتحوا أعينكم !

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...