محمد عبد المجيد بتاريخ: 21 مارس 2006 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 21 مارس 2006 هذا المقال نشرته منذ عشر سنوات بمناسبة انتقال الشيخ محمد الغزالي إلى الرفيق الأعلى مصحوبا بدعوات الملايين أن يسكنه الله فسيح جناته مع الصديقين والأبرار والشهداء. أعيد نشره لعل القاريء الكريم يجد فيه بعضا مما يبحث عنه. المرة الأولى التي وجدت نفسي فيها وجها لوجه أمام هذا الأزهري المجدد الكبير، كانت في أوائل عام1968، وكان الشيخ الغزالي يشترك في محاضرة بكلية التجارة، جامعة الإسكندرية عن " القرآن والفضاء" مع الدكتور محمد جمال الدين الفندي، رحمهما الله. وكنت قد بلغت عامي العشرين أو بعده بقليل، لكن علاقتي بكتب الغزالي سبقت تلهفي على المحاضرة المذكورة بخمس سنوات أو يزيد. وكنت في ذلك الوقت متأثرا بالفكر الديني، ومنفتحا في الوقت عينه على قراءات مختلفةة تنتقل ما بين " الحب والحضارة" لهربرت ماركوز، إلى "اللامنتمي" لكولن ولسون، ومرورا بفلسفة ول ديورانت. قرأت مؤلفات سيد قطب، ومحمد قطب، وأبي الأعلى المودودي، والإمام حسن البنا، ومالك بن نبي، والشيخ محمد الغزالي، ومحمد أسد وغيرهم. وكانت كتب مثل " معالم في الطريق" لسيد قطب، و " جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب و" الحجاب" لأبي الأعلى المودودي، تمنحني وأنا شاب صغير مشاعر مزيفة من الاستعلاء الفكري الديني، الذي يرى العالم كله من خلال كوة صغيرة جدا، لا تتسع إلا لمشهد أو اثنين. والحمد لله أن هذه المرحلة مرت بسلام بفضل التنوع في القراءة، وقربي الفكري الشديد من الأربعة الذين عادوا بي إلى الإسلام المشرق الجميل، الذي يسع الفكر الإنساني برمته مالم تنبذه فطرة سليمة. كان أول الأربعة هو أديب العربية مصطفى صادق الرافعي، الذي كنت أحفظ عن ظهر قلب بعض كتاباته، ولاسيما" رسائل الأحزان" و " أوراق الورد" ومتفرقات من " وحي القلم"، فتعلمت من الرافعي أن المسلم ذا الفكر العاشق هو الأقرب إلى صحيح الإسلام. ولم أكن أجد غضاضة في قراءة ما تيسر من القرآن الكريم، ويعقب ذلك فورا استمتاعي بقصيدة غزل، فالمسلم العاشق – كما تعلمت من الرافعي – يقترب أكثر من روح الإسلام، فيشاهد الورد يتفتح، ويستمع إلى النغمة الجميلة، ويستمتع بالقصيدة، ويرى إبداع خلق الله في الوجه الحسن، ويؤمن أن الحب هو القيمة الكبرى التي ترفع الإنسان من الطين إلى السماء. وأما الثاني فهو المهندس والمفكر الجزائري مالك بن نبي، والذي تعلمت من كتاباته كيفية قراءة السطور وما خلفها، وتعرفت على طرق مواجهة الفكر الاستعماري، واقتربت كثيرا من روح الإسلام العملية والعلمية، وأحسب أن أكثر الكتب تأثيرا في نفسي هو " الصراع الفكري في البلاد المستعمرة "، ومن صفحاته تعرفت لأول مرة بفكرة القابلية للاستعمار. وكان ثالثهم النمساوي المسلم محمد أسد( ليوبولد فايس قبل اعتناقه الإسلام)، ولعله السبب الرئيسي في اختمار فكرة الرحيل والمغامرة والدخول في عالم غريب يساهم في إعادة ترتيب البيت الفكري الإيماني الداخلي. ولو كانت الهجرة جملة في كتاب، فإن" الماء الجاري أكثر نظافة وطهارة من الماء الراكد" لمحمد أسد هي التي حققت حلم الهجرة لدىَّ قبل السفر بوقت طويل. ولكن يبقى الشيخ الغزالي أستاذي بدون منازع. فبعد المحاضرة بأقل من عامين توجهت إليه من الإسكندرية إلى مكتبه بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في عاصمة المعز لدين الله الفاطمي. شاب في الثانية والعشرين من عمره يطرق باب أحد العلماء. إنه شيء يحدث في كل مكان، ولقاء يومي لا يخلو منه معهد علمي أو مسجد أو مكتب أو مكتبة أو معمل أو مستشفى أو حتى دار للآثار. وطرقت باب مكتبه على استحياء شديد، فلما رآني وسماعة الهاتف في يده أشار إلي بالدخول، ثم أنهى الحديث الهاتفي بصوت حاسم وآمر ولكن ليس فيه غضب. بادرني ـ رحمه الله ـ وقبل أن يتعرف علي، قائلا: هل تعرف من الذي كان يحادثني؟ قلت: لا أعرف يا فضيلة الشيخ. قال: إنه ( واحد من إياهم)! زادت حيرتي وسكت لساني، فأردف قائلا: إنه واحد من رجال الأمن يسألني عن كيفية الحصول على كتاب" الإسلام في وجه الزحف الأحمر". لكنني قمت بتهريب الكتاب وطبعه في الخارج! كانت المفاجأة كبيرة، فالشيخ الغزالي حدثني عن أمر خاص وخطير قبل أن يتعرف علىّ. قمت بتقديم نفسي، ورحب بي بتواضعه الجم ترحيبا دافئا ثم قال:"إني، أخي الصغير، كرسي يجلس على كرسي(!!) أعني أنني مُراقِب عام الدعوة بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، لكنني أيضا مُراقَب ". وسألني عن سبب زيارتي، فقلت له إنني انتهيت من كتابة ثلاثة فصول عن المقارنة بين الإسلام والمسيحية، فناقشني في فحواها وسألني عن المراجع، واستفسر مني عن مدى عمق معرفتي بالقرآن الكريم والعهدين القديم والجديد، وعن رؤيتي لكتابه" التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام". ثم حدثته حديثا خاصا جدا لا مجال له الآن عن التبشير وبعض الجمعيات المشبوهة..إلخ. كانت سعادتي آنئذ تمنحني القدرة على أن أعود إلى الإسكندرية طائرا بدون أجنحة، وكانت مباركة الشيخ الغزالي لي والدعاء الذي ودعني به كفيلين بأن أمتلك الدنيا وما فيها. ومرت الأيام والسنوات، ولأن سنة الله في خلقه هي التطور والتغيير، فقد انتقلت من مرحلة فكرية إلى ثانية فثالثة وهكذا..ولم يخرج الكتاب للنور لأنه تقاطع وتصادم مع إحدى مراحل فكري فتراجع تراجعا شديدا. في نهاية عام 1973، وبعد شهرين من إقامتي في جنيف بسويسرا( والتي امتدت إلى أربع سنوات)، ذهبت للقاء سعيد رمضان في المركز الثقافي الإسلامي، وكان اللقاء الأول والأخير. وابتعدت عن فكر الإخوان وبدأت مرحلة جديدة في حياتي، ترى العالم الذي خلقه الله تعالى أكثر اتساعا وإنسانية ورحمة وتسامحا، في الوقت الذي استقبلت مرحبا الفكر القومي غير الحزبي الذي لم يؤثر مطلقا في الجذور الدينية المتسامحة. ومرت عدة سنوات ووجدت نفسي في طريق يختلف ويتصادم بشدة مع الفكر الديني الذي يمثله سيد قطب ومحمد قطب و المودودي. ولكن ظلت علاقتي بآراء وأفكار وتوجهات الأربعة الكبار كما هي، وفي كل المراحل الفكرية والوجدانية والثقافية والدينية التي مرت بي أو مررت بها ظلت محبتي وتقديري واحترامي وتأثري بمالك بن نبي ومصطفى صادق الرافعي والشيخ محمد الغزالي ومحمد أسد كما هي، بل ربما تزداد وتتأصل وتمد جذورها في الجانب الأكثر عمقا. وجاءت مرحلة تلامذة الفكر القطبي، وبدأ الإرهاب والمزايدة والتكفير، فوجدت نفسي كارها لفتوات الفكر الديني وبلطجية الصحوة، وتجار الكلمات والمخدرات، خاصة أنني تعرفت خلال ربع قرن على عدد هائل منهم، والأكثرية كانت تحتل مراكز هامة في المراكز الإسلامية التي خرج منها مؤيدون للهلوسة الإيرانية، وراقصون على جثث المسلمين الكويتيين عندما غدر بهم صدام حسين، ومؤيدون لقتل الإبداع، ورافعو أعلام حسن الترابي والتميمي والنميري والبشير وضياء الحق وعلي بلحاج. ولكن ظل الشيخ الغزالي كما هو، إشراقة نور في ظلمات الجهل، وفكر مستنير يدعو لأن يعتنق المسلمون الإسلام من جديد على أسس واعية ومتسامحة وعقلانية وموضوعية. مرة واحدة حزنت لأن الشيخ الغزالي أجاب عن سؤال يتعلق بقتل المرتد، وكانت إجابته كأنها صك براءة لقتلة الدكتور فرج فودة، رحمه الله. لكن الغزالي بفطنته وحسه الإسلامي الصادق تراجع بعد ذلك وشرح أسباب وملابسات استدعاء القضاء له، وطرح السؤال بطريقة لا تحتمل إلا جوابا واحدا صب في صالح القوى الإرهابية. عندما قام الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي لشؤون المساجد عبد الله العقيل بزيارة للعاصمة النرويجية، قضيت معه يومين كاملين نتحدث في الشعر والنثر والفكر والعشق والدين، وكانت المفاجأة أن الأستاذ عبد الله العقيل كان يحفظ عن ظهر قلب فصولا كاملة من كتب إمام المسلمين الشيخ محمد الغزالي. الحديث يطول عن معلم الأجيال وداعية الاستنارة وعدو الجهل، وعاشق الدنيا والآخرة. كانت حربه المعلنة ـ رحمه الله ـ ضد الجهل والتشدد والتعصب والتطرف بشتى صوره. رحم الله إمام المسلمين الشيخ محمد الغزالي، وأسكنه فسيح جناته ونفعنا بعلمه وتراثه العظيم. محمد عبد المجيد رئيس تحرير طائر الشمال عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين http://www.tearalshmal1984.com Taeralshmal@gawab.com Taeralshmal@hotmail.com Fax: 0047+ 22492563 رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان