اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

مذبحة الإسكندرية


mhesham

Recommended Posts

مذبحة الإسكندرية

الثلاثاء 6 يونيو 1882

مر علىَّ فى الثامنة صباحا القنصل السويسري و اصطحبنى معه فى عربة القنصلية. طالعت وجهه فى نظرة خاطفة و رأيت التوجس و القلق باديا عليه. سألته عن طبيعة الاجتماع الذى دعانا إليه على عجل المستر "كوكسن" قنصل إنجلترا فى الإسكندرية ، فقال :

- لا أعرف التفاصيل و لكن المستر "كوكسن" شدد على سرية الاجتماع و على ضرورة عدم تسريب خبره إلى المصريين.

- هل تعتقد أن الاجتماع له علاقة بالأسطول الإنجليزى المرابط بالإسكندرية منذ ثلاثة أسابيع ؟

- ربما ، الإشاعات و الظنون تملأ الدوائر الدبلوماسية.

شعرت أن الرجل لا يرغب فى مزيد من الكلام و أن القلق يمنعه من التركيز فلذت بالصمت و أطلقت نظرى للطريق الممتد أمامنا من المنشية باتجاه رأس التين. كانت الشمس فى هذه الساعة المبكرة زاهية و فتية كعادتها. من أحلى الأشياء التى تربطنى بمصر هذه الحرارة حتى فى شهور الصيف. لا أمل أبدا من دفء حرارتها. لأول مرة الآن طوال هذه السنوات أرى أن إقامتى فى مصر ربما تكون قد اقتربت من نهايتها. الأجواء مشحونة جدا فى الإسكندرية و مع مطلع الأسبوع الماضى توافد على الإسكندرية مئات الأوروبيين من القاهرة و القناة.

منذ أسبوع أرسل الأميرال سيمور قائد الأسطول الإنجليزى المرابط كالشبح أمام بوغاز الإسكندرية رسالة إلى حكومته يشتكى أن المصريين قد نصبوا بطاريات صواريخ تجاه البوارج الإنجليزية مما يمثل تهديدا خطيرا لها. توجست جميع القنصليات الأجنبية شرا بخبر هذه الرسالة و قد خمنت أن سيمور قد بالغ فى رسالته لنية سياسية مبيتة. و مع هذا أصطحبنى أمس بعض الضباط المصريين فى جولة على القلاع المختلفة و رأيت أن الصواريخ المركبة عليها كما هى لم تتغير منذ عشرات السنين سوى بعض الترميمات. هذه الأحداث المتلاحقة جعلتنى أفكر لأول مرة منذ هجرتى لمصر أن أيامى ربما تكون معدودة هنا.

مشاعر عجيبة بدأت تنتابنى ، لفتنى كآبة كلما تذكرت جنيف و لأول مرة أشعر بخوف حقيقى على مصر و أهلها الذين لا يدركون حقيقة ما يدور الآن ، و حتى ساستهم لا يقدرون حجم الأحداث و تداعياتها. رأيت أحمد عرابى باشا منذ ثلاثة أيام و اندهشت لتأكيده أن البوارج الإنجليزية مجرد استعراض للقوة و للتهديد و لكنها لن تقوم بأى عمل عسكرى و أنها أمة محبة للسلام و أن فرنسا لن تسمح لها على أى حال.

لقد بدأت أرى فى عيون العامة و الرعاع نظرات جديدة تجاهنا فيها غيظ و حنق ، و هى انفعالات فطرية و كأن لديهم حاسة سادسة تفوق معارف ساستهم و قادتهم.

توقفت الخيل التى تجر عربتنا و صدر عنها زفير طويل يؤذن بوصولنا إلى القنصلية الإنجليزية ،استقبلنا المستر كوكسن على باب الشرفة الأمامية و رحب بنا و لم تظهر عليه دهشة لرؤيتى برغم أنى لست موظفا رسميا و لكنه تعود على رؤيتى فالسويسريون يعتبروننى عميدا لجاليتهم فى مصر.

اجتزنا الحديقة الأمامية و داعبت رائحة الفل الرائعة أنوفنا قبل أن ندلف إلى البهو الرئيسى و وجدنا كل مندوبى القنصليات قد حضروا قبلنا ، تناولنا الشاى وقوفا ، و حاول كوكسن أن يبدد جو التوتر و الترقب البادى على الجميع و أخذ يحكى أقوالا غير مأثورة عن رئيس حكومته ويليام جلادستون (اذا كنت بردانا ، فإن الشاي سوف يدفئك .. واذا كنت تعاني من الحر وجسمك ساخن فإن الشاي يلطف جسمك.. واذا كنت مكتئبا فإن الشاي سوف يبهجك .. واذا كنت منهكا ، فإن الشاي يريحك ويهدئك. ). و ضحك وحده.

و قف كوكسن إلى جوار نافذة صغيرة و تعلقت العيون به ، أخذ فى البداية يلقى علينا محاضرة طويلة حول الارتباك الحادث فى مصر و ضعف الخديوى توفيق و تكالب العرابيين عليه ، و كيف أن حتى إقالة وزارة البارودى و تولى الخديوى بنفسة رئاسة الوزارة لم يغير من الأمر شيئا. و أن الإضطراب الأمنى فى مصر يهدد مصالح بلاده و ديونها و أن عدم التزام مصر بتعهداتها يخرق النظام العالمى و يشيع عدم الثقة بين الدول. ظل يدندن حول هذه المعانى حوالى نصف ساعة و الكل يترقب ماذا بعد هذا التمهيد ، أما أنا فكنت طول الوقت أتعجب من قدرة الرجل أن يتكلم بغير ما يريد و فى لحظات انفعالاته القليلة بدا لى أنه يصدق نفسه و تنطلى عليه أكاذيبه.

بدأ بعد ذلك يكلمنا عن المخاطر الشديدة التى تتهددنا – نحن الأوروبيين - فى مصر و تهدد ممتلكاتنا و أعمالنا و أموالنا ، مررت بعينى سريعا على الحاضرين و تأكد لى أنهم يشاركوننى فى عدم التأثر بادعاءات كوكسن و لكن الجميع لزم الصمت بانتظار المطلوب من هذا الاجتماع السرى ، و لا أعرف كيف سيبقى سريا و قد حضره حوالى ثلاثون موظفا من بضع جنسيات.

فى اللحظة التى ظننا أنه لن ينتهى ، فاجأنا كوكسن بطلب محدد : ( إننى أطلب من حضراتكم الموافقة على تكوين تحالف دولى ضد مصرلحماية مصالح الرعايا الأوروبيين فى مصر و أن تتكون قوة دفاع أوروبية مشتركة لهذا الغرض .. ).

علت همهمات من كل نواحى البهو و انكب موظفو كل قنصلية على أنفسهم يتشاورون و قد صفعتهم مفاجأة الطلب. نظر إلى القنصل السويسرى و سألنى بعينيه كيف نرد على هذا الاقتراح المجنون؟ ، شعرت فجأة أننى ينبغى أن أسارع بالرد قبل أى قنصلية أخرى و حسبت أن الوقت ليس فى صالح الإنجليز لهذه المناورة المكشوفة. قلت ( فكرة صائبة ، و لكنها ستحتاج لأسابيع للموافقة عليها من قبل القادة السياسيين لحكوماتنا .. ) ، ساد صمت للحظات ثم تعالت أصوات عديدة تؤيد رأيى الذى يبدو أنه أراحهم من عناء الصدام مع الاقتراح. تميز كوكسن غيظا و تبادل نظرة سريعة مع القنصل الفرنسى الذى لم تبد عليه أى علامات تأييد أو اعتراض.

فى طريق العودة ، تسارعت الأفكار و تأكد لى أن صفحة عاتية من التاريخ على وشك أن تفتح.

الأحد 11 يونيو

أحب كل أحد قضاء النهار كله فى بيتى أتصفح جرائد الأحد الماضى التى تصلنا عادة ليلة السبت التالى مع بريد القنصلية ، لم أجد فى الجرائد الانجليزية شيئا يذكر عن الأحداث فى مصر ، فتشت فى كل الصفحات الداخلية و لم أجد أى توقع لاضطرابات فى الحالة المصرية. تذكرت أن العواصف عادة يسبقها هدوء مماثل. فجأة وجدت خادمى " سليمان " يندفع داخلا و هو يلهث ( مسيو ، أرجوك لا تغادر مكانك ، هناك اطلاق نار عشوائى فى المكس و الكورنيش و سمعت أن قتلى كثيرين سقطوا ... ) ، أسرعت إلى سطح البيت و تلفت فى كل اتجاه ، لم أر شيئا و لكن صيحات كانت تتعالى من على بعد ميلين تقريبا. فكرت فى النزول للشارع لكن غموض ما يجرى حجزنى ، و لأول مرة لا أشعر بالأمان على حياتى فى مصر.

بعد ساعة بدأ بعض الأصدقاء يتوافدون إلى بيتى بروايات متضاربة عن قتال دار بين مصريين و أجانب و طال حياة العشرات و لم يعرف سببه. تنوعت التفسيرات للحادث و لكن المعلومات الدقيقة كانت شحيحة.

فى التاسعة مساء جاءنى ضابط أرسله محافظ الإسكندرية " عمر بك لطفى " يطلب منى الحضور فى الصباح للمحافظة للحضور شاهدا للتحقيقات فى أحداث اليوم.

علمت من سفارتنا أيضا أن اجتماعا عاجلا عقد فى المساء و حضره القناصل فى الأسكندرية و كبار ضباط الجيش و أنهم تعهدوا بإعادة الأمن و النظام للإسكندرية بشرط عدم تدخل الأسطولين الإنجليزى و الفرنسى فى الأحداث. فطالب القناصل قائدى الأسطولين بألا تكون لهما تدابير قوة ظاهرة. و شددوا فى نفس الوقت من لهجة التهديد لضباط الجيش المصريين.

الاثنين 12 يونيو :

توجهت فى الثامنة صباحا لمبنى المحافظة و أنا أقلب فى رأسى الأسباب المختلفة وراء دعوتى لحضور التحقيقات ، السبب الأكثر وجاهة هو إعطاء مصداقية أكبر للتحقيقات فى وجود شاهد أجنبى محايد مثلى ، و لكن تسارع الأحداث و ضعف خبرة المحافظ عمر لطفى السياسية جعلتنى أرتاب فى انتباهه لهذه اللفتة الدقيقة وسط هذا الحادث العاصف. ثم إن الرجل عموما يثير الريبة بشكل ملفت و لا أثق فى وظيفته الظاهرة.

استقبلنى عمر لطفى بحفاوة شديدة ، و اصطحبنى مباشرة إلى مكتب بالدور العلوى حيث احتشد عدد كبير من الضباط و الجنود ، و رأيت حوالى عشرة من الأهالى واضح عليهم أنهم جاءوا إلى هنا بالإكراه و رأيت مندوبا عن القنصلية البريطانية و آخر عن القنصلية اليونانية و التى كان قنصلها قد أصيب فى الأحداث مع المستر كوكسن القنصل البريطانى الذى أصيب أيضا بضربة عصا فشجت رأسه.

و قد تعين لمباشرة التحقيق بطرس باشا غالى و وكيل وزارة الجهادية يعقوب باشا سامى. بعد ساعة من سماع أقوال الشهود و بعض المتهمين ، ظهر أن الحادث بدأ بنزاع بسيط بين مالطى استأجر حمارا من مصرى و لما أعاده فى منتصف النهار و دفع أجرته وقع خلاف حول الأجرة انتهى بأن طعن المالطى بسكين صاحب الحمار فأرداه قتيلا و فر و احتمى بمبنى قريب يقطنه يونانيون و مالطيون و هاج المصريون و توجهوا لذلك المبنى الذى سرعان ما انطلقت منه طلقات نارية غزيرة و تسارع الهياج إلى المناطق المجاورة و استعر القتل فى الطرقات. و تبين أن 75 أوروبيا قد لقوا مصرعهم و 163 من الأهالى ، و بلغ عدد الجرحى عدة مئات.

بعد قليل وصل المالطى الذى فجر شرارة الأحداث فى حراسة انجليزية مشددة ، و أخذت أقواله التى ادعى قيها أن المصرى هو الذى بدأ بضربه. استمرت التحقيقات المملة طوال النهار ، و لم يلفت نظرى إلا خبر تغيب السيد بك قنديل رئيس الشرطة بالإسكندرية عن عمله أمس حيث أبلغ المحافظ بأنه كان مريضا.

انتهت التحقيقات قرب الغروب ، و انتابنى شعور بأننى موجود فى المكان الخطأ ، و أن ثمة قرارات تتخذ فى مكان آخر حول هذه الأحداث الدامية.

الثلاثاء 13 يونيو

فوجئنا عند الظهر بدعوتنا لاستقبال الخديوى الذى وصل فجأة للإسكندرية للاصطياف السنوى !. حضر الاستقبال جميع القناصل الأجانب ما عدا القنصلين الإنجليزى و الفرنسى اللذين فضلا المكث فى القاهرة. تكلم الخديوى كلمة مقتضبة عبر فيها عن أسفه الشديد لأحداث أمس الأول ، و تعهد ببذل كل جهد لاستتباب الأمن ، و أنه أتى خصيصا للإسكندرية لتهدئة مشاعر الأهالى و ليكون بجانبهم فى هذه الأوقات العصيبة. و عندما قال هذه الجملة الأخيرة ، تبادل عدة قناصل نظرات سريعة أفصحت عن يقينهم بأن الخديوى قد أتى فجأة ليكون قريبا من الأسطولين الإنجليزى و الفرنسى.

الخميس 15 يونيو

ارتفعت اليوم منشورات مطبوعة ألصقت فى الشوارع الرئيسية بالإسكندرية و جاء فيها ما نصه :

" ناظر الجهادية أحمد باشا عرابى يعلن كل سكان القطر المصرى من المصريين و الأوروبيين رسميا أن الحضرة الخديوية الفخيمة كفلت الأمن و الراحة فى جميع جهات القطر أمام حضرات قناصل الدول المتحابة و تكفل ناظر الجهادية أيضا بصيانة الأرواح و الأموال و حفظ سكان البلاد على اختلاف طبقاتهم و معتقداتهم و تابعيتهم و قد انتقل الجناب الخديوى إلى إسكندرية بعائلته لدفع الأوهام من الأفكار و اطمئنان القلوب و بقيت أنا بمصر لمراقبة الأحوال و السهر على حفظ الأمن و صيانة النفوس "

حتى الآن لا أفهم طبيعة العلاقة بين الخديوى و عرابى باشا ، لقد تصورت بعد حادث عابدين الشهير العام الماضى و الموقف الثورى لعرابى أمام الخديوى و على الملأ الشعبى ، تصورت أن عرابى لابد و أن يكون محتقنا و حانقا على الخديوى و فى المرات القليلة التى التقيته وجدته راضيا و مستسلما لسلطة الخديوى بالكامل ، و حتى هذا المنشور الذى كتبه فى هذا الوقت يصعب على فهمه ، خاصة و أن الرأى السائد الآن فى الإسكندرية أن أحداث 11 يونيو كانت طعنة موجهة لعرابى ليفقد مصداقيته و صلاحيته للقيادة و الوزراة. من الواضح أن عرابى باشا و رفاقه لم يقرأوا كثيرا عن الثورة الانجليزية و الفرنسية. لو سمع الليبراليون الأوروبيون عن الثوريين المصريين و علاقتهم بالخديوى لظنوا أنها دعابة سخيفة.

الجمعة 16 يونيو

سرت إشاعة قوية اليوم أن الخديوى قد أفصح للسير أوكلان كولفن المراقب العمومى الإنجليزى أنه يرى ضرورة وجود جنود انجليز للتأكد من حفظ الأمن فى البلاد. و قد أهاجت هذه الإشاعة مشاعر الأوروبيين و المصريين على السواء ، و بدأ نزوح الكثيرين صوب الإسكندرية.

تشكلت اليوم وزارة جديدة برئاسة اسماعيل راغب باشا و احتفظ عرابى باشا بحقيبة الجهادية ( الجيش ) و البحرية.

كيف يمكن لهذه الوزارات أن تقوم بأعبائها و هى تتغير خلال أسابيع قليلة ؟!

الأحد 25 يونيو

وصلنا تلغراف اليوم يشرح ما تم التوصل إليه فى مؤتمر عقد أمس بالآستانة و صدر عنه قرار مذيل بتوقيعات قناصل انجلترا و إيطاليا و النمسا و روسيا و ألمانيا و فرنسا المعتمدين لدى الباب العالى ، و قد اتفقوا على التعهد بعدم اغتنام أى أرض مصرية أو الحصول على أى امتيازات تجارية لأى دولة بشكل منفرد.

تعجبت من موافقة قنصل انجلترا على هذه الصيغة ، و اعتقدت أنه قبل بها لكسب الوقت ليس إلا. و عندما عرضت الآستانة إرسال قوات لضمان حفظ الأمن فى مصر ، سارعت انجاترا لاشتراط أن تكون هذه القوات تحت إمرة قائد انجليزى ، الأمر الذى لم يكن بوسع الباب العالى قبوله. لقد استفحلت الآن علامات الشيخوخة فى جسد الدولة العثمانية و ربما توارى التراب قريبا. و انجلترا و فرنسا ليستا فى عجلة من أمرهما و يفضلان ترك الآستانة للوفاة الطبيعية ريثما تتمكنان من تقسيم تركتها.

الخميس 29 يونيو

وصلتنا بالتلغراف صورة من خطاب القائم بأعمال القنصل العام الانجليزى مستر كارتريت إلى وزير الخارجية الانجليزى اللورد جرنفيل يبالغ فيها فى حجم التوتر الذى تشهده مصر و انفلات الأمن فيها.

الجمعة 7 يوليو

اطلعت على صورة خطاب سفيرنا لدى الباب العالى التى وجهها لحكومتنا يخبرهم فيها باقتراح المؤتمر الدولى فى الآستانة على تركيا بإرسال قوات لمصر لحفظ الأمن.

مشاورات مكثفة لعقد اجتماع صباح الغد يضم جميع القناصل الأجانب فى الإسكندرية.

اصطحبت زوجتى فى المساء و مشينا بموازاة الكورنيش و أضطررت أن أبوح لها بمخاوفى و توقعى للأسوأ خلال الأيام المقبلة. استقبلت كلامى بهدوء و قالت ( أرى أن نعيش بقية حياتنا هنا فى مصر مهما كانت الأحوال ... ). لقد تعلقت مثلى بهذه البلاد. طمأننى هدوءها برغم أنه هدوء لا يستند إلى أسباب سياسية أو عقلية. فى أزماتنا نحتاج كثيرا إلى مشاعر انسانية من هذا النوع.

زخات و رشاش الماء اللطيف كانت تقذف بها الأمواج و تتهادى فى الهواء حتى تصلنا و تداعب وجوهنا و تستروح لها نفوسنا ، فظللنا فى مشينا إلى بعد منتصف الليل.

السبت 8 يوليو

المخاوف من هجوم انجليزى وشيك تخيم على البلاد ، و الاجتماع المقتضب للقناصل خرج برسالة موجهة للأميرال سيمور قائد الأسطول الإنجليزى يحذرونه من مغبة شن هجوم على الإسكندرية و أن ذلك من شأنه أن يلحق الضرر بأرواح و أموال و ممتلكات الأجانب فى مصر.

لا أعتقد أن القائد الانجليزى سيعير هذه المخاوف أى انتباه.

الأحد 9 يوليو

وصول تلغراف من الآستانة للخديوى توفيق يبلغه أن " باشكاتب السفارة الانجليزية حضر إلى الباب العالى و أخبره أن القوات المصرية تهدد الأساطيل الانجليزية فى ثغر الإسكندرية بتحصين القلاع و إقامة الحصون و أنها إن لم تتوقف فورا عن هذه الأعمال العدوانية فسيضطر الأميرال سيمور إلى اطلاق مدافعه على الإسكندرية فيدكها دكا و يهدمها عن آخرها ".

لغة الاستكبار فى الرسالة أزعجتنى و توجهت فور معرفتى بشأن هذا التلغراف إلى بيت طلبة باشا عصمت قومندان الإسكندرية الذى أكد لى أن هذه الاتهامات محض أكاذيب و أن كل ما جرى بالقلاع ترميمات سنوية معتادة ، و أخبرنى بأن عرابى باشا أجاب الخديوى على برقية الآستانة بنفس المعنى و تعجب أن الباب العالى لم يجبهم بهذا مباشرة. و اتفقت مع طلبة باشا عصمت أن يصطحبنى فى الصباح الباكر لتفقد هذه المواقع بنفسى..

توجه المستر كارتريت الليلة إلى الخديوى فى قصره برأس التين و أبلغه صراحة أن الأسطول الإنجليزى سيضرب الإسكندرية صباح بعد غد 11 يوليو و نصحه بأن ينتقل فورا إلى قصره فى سراى الرمل ليكون قريبا من الحماية الانجليزية و قد أبرق كارتريت لحكومته فى لندن بأنه " لا خوف على حياة الخديوى ... ".

كنت أحمل قدرا و لو ضئيلا من الاحترام الشخصى للخديوى و أرى فيه عاملا لاستقرار البلاد و قد دار بينى و بينه حديث طويل – و كانت معه زوجته أمينة هانم – و لمست فيه ثقافة عالية و كأنى التقطت من كلامه حبا لهذه البلاد و فى نفس الوقت لم أر أنه يملك شعورا بالانتماء لمصر. و لكن ما أراه الآن – على أى حال - من استجابته لتوجيهات القنصلية الانجليزية فى شأنه الشخصى سيجعل منه لقمة سائغة للنهم الانجليزى.

وصل رد من الأميرال سيمور على رسالة القناصل الأجانب يطمأنهم فيها و أنه لا ينوى إلا ضرب القلاع و الاستحكامات العسكرية و أنه لا خوف من انهدام منازل الأوروبيين. كان من الواضح أن ألفاظ الرسالة تقصد تخدير مخاوف الأوروبيين و لكن لم تفلح فى الحقيقة فى تهدئة المخاوف و اكتظت الطرقات ليلا فى الإسكندرية بالأجانب النازحين إلى القاهرة و ملأوا محطة السكك الحديدية الرئيسية فى المدينة ، بينما توجه عدد غير قليل لبعض السفن الراسية فى المرفأ.

الاثنين 10 يوليو

وصل إنذار فى الصباح الباكر من الأميرال سيمور إلى قائد الإسكندرية طلبة باشا يخبره أنه سيدك الإسكندرية صباح الغد ما لم يقم بإنزال كافة المدافع و هدم جميع الاستحكامات. وصلت للقاء طلبة باشا فوجدته فى غاية الانزعاج ، و ما هى إلا لحظات حتى دخل عرابى باشا بوجه متجهم ، و قرأ الإنذار على عجل و قال إن اجتماعا سيعقد بعد قليل للوزارة للرد على هذا الإنذار و سيترأس الخديوى الاجتماع و سيحضره درويش باشا المندوب السلطانى.

التمست العذر لطلبة باشا أن يتخلف عن موعده لى بتفقد مواقع الاستحكامات و لكنه أصر على القيام بها برغم الخوف المسيطر على المدينة الوادعة فأرسل معى ضابطين للقيام بهذه الجولة. اتجهنا أولا إلى باب العرب و قد وجدنا الطابية المركبة فيها غاية فى التهالك و قد بدا على حاميتها الصغيرة كل علامات الترقب و القلق. توجهنا بعد ذلك لطابية المكس ثم العجمى و قلعة السلسلة و لم نر فيها أى تجديدات مؤثرة ، و كان من الواضح أن القول بتهديد هذه الاستحكامات العتيقة للأسطول الانجليزى مثيرا للضحك لولا أنه يقال على أعتاب الحرب.

عدت إلى بيتى بعد الظهر و مرورا بمكتب طلبة باشا و كان قد رجع من اجتماع الوزراة و أبلغنى أنهم قد رفضوا الإنذار الانجليزى و أنهم رأوا فى الاستجابة لهذا الإنذار إهانة و ذلا لا يمكنهم قبوله ، و أنهم أسفوا لقطع انجلترا للعلاقات الدبلوماسية و أن الحكومة المصرية كبادرة صلح ستقوم بإنزال المدافع من ثلاثة مواقع هى المكس و صالح و برج السلسلة. و أن وفدا برئاسة عبد الرحمن بك رشدى وزير المالية سيتوجه الآن إلى الأميرال سيمور يبلغه رد الحكومة المصرية . آثرت الانتظار عند طلبة باشا لأعرف الرد الانجليزى الذى لا أشك فى رفضه و أن الحكومة المصرية حتى لو استجابت لكل طلبات سيمور فلن يوقف هذا نيته على ضرب الإسكندرية.

أخبرنى طلبة باشا أن هذا الاجتماع الوزارى الأخير قبل الحرب كان عاصفا ، و أراد الخديوى فى بدايته عرض اتفاقية للصلح مع انجلترا و لكن هذا الرأى أثار درويش باشا المندوب السلطانى الذى ضرب طاولة الاجتماع بقبضته و قال ( تسليم الحصون أمر يكسو المسلمين ثوب الخزى و العار ) و ابتلع الخديوى الإهانة و لم يشارك بعدها بفاعلية فى المناقشات. و قد اقترح محمد المرعشلى باشا - مدير عام التحصينات السابق سحب قوات الطوابى لأن تحصيناتهم لن تقاوم المدفعية الانجليزية أكثر من ساعات معدودة ، و أنه ينبغى التركيز على قوات المشاة بحيث تمنع أى انزال برى للقوات الانجليزية. و يبدو أن هذا الرأى على وجاهته الظاهرة قد تجاهله المجلس المتوتر بلا مبرر. من المؤسف أن المجلس لم يعر اقتراح المرعشلى باشا الاهتمام الكافى. إن أصوات عقلاء الأمة كثيرا ما تنزوى فى أوقات الهياج السياسى.

و لقد عجبت غاية العجب أن ينعقد مثل هذا المجلس قبل ساعات من الحرب ليناقشوا خطة الدفاع عن البلاد !. مع أن الأسطول الانجليزى مرابط أمام السواحل المصرية منذ حوالى شهرين ، و من الواضح أنه قد أتى فى مهمة جادة و ليس لاستعراض القوة أو التهديد.

إننى دائما أوقن أن الجيش لا ينبغى أن يتدخل فى السياسة ، و أن القادة العسكريين إذا انشغلوا بالسياسة خسرنا مرتين. مرة لقصور مداركهم السياسية و مرة لانشغالهم عن مهامهم الأصلية ، و هو ما أراه الآن بوضوح فى شخص عرابى باشا. و ربما نلتمس له العذر فى أن قدر البلاد و انصراف ساسة البلاد عن الدفاع عن مصالحها الوطنية ، كل هذا دفع عرابى إلى عالم السياسة.

بعد ساعتين عرفنا أن سيمور لم يقبل الرد المصرى و زاد فى طلباته أمرين جديدين:

- أنه فى حالة انزال المدافع المصرية من كافة الاستحكامات فعلى الجنود المصريين هدم هذه المواقع بأيديهم.

- و أن يتم تسليم مواقع المكس و العجمى و ما وراءها من الأراضى لاتخاذها معسكرات دائمة للقوات الانجليزية.

زادت طلبات سيمور من الازدراء للمصريين الذين تلقوا هذه الطلبات الجديدة بمزيد من الشعور بالمذلة و الهوان. أمر عرابى باشا قواده و طلبة باشا بالاجتماع فورا ليسهروا طوال الليل لينظروا فى الاجراءات التى سيتخذونها للدفاع عن البلاد. تركت المكان و توجهت لقنصليتنا فى رأس الرمل حيث وجدت القنصل مجتمعا بكل موظفيه و كانوا يستعرضون تلغرافا برسالة وجهها وزير الخارجية الانجليزى اللورد جرنفيل وجهها للباب العالى بإنذار نهائى بضرب الإسكندرية خلال أربع و عشرين ساعة إذا لم يكف المصريون عن التظاهر بالعدوان ..

استمعت لنص الرسالة و صور الجنود المصريين التى شاهدتها منذ ساعات ماثلة فى ذهنى بأجسامهم النحيلة و وجوههم البائسة و أسلحتهم العتيقة المتهالكة. و كنت قد رأيت العديد من هؤلاء الجنود من الأنفار الذين تم تدريبهم على عجل و انضموا بصورة متسرعة لصفوف الجيش. و برغم شعورى المحايد دائما ، إلا أن شرارة الغضب بدأت تتقد فى صدرى لهذا الظلم البين و هذه الأكاذيب المذهلة. و لقد أدهشنى حجم الدهاء فى سياسة الانجليز بما تتضمنته رسالة اللورد جرنفيل عن أن المصريين يهددون الأسطول الانجليزى خلافا لرغبة الخديو الذى يرفض هذه الاجراءات و الاستحكامات العسكرية. و لا أعرف إن كان هذا الدهاء قد حرض الباب العالى على الوطنيين المصريين مع أن خاتم الخديوى لم يجف بعد على رسالته التى رفض فيها الإنذار الانجليزى.

أخذ قنصلنا فى مشاورات طويلة حول أنسب الأماكن التى يلجأ إليها الرعايا السويسريون أثناء القتال غدا. لم أجد لنفسى مكانا مناسبا فيما عرضه القنصل ، و اجتاحتنى رغبة عارمة أن أكون غدا فى العراء مع المصريين أشهد و قائع الحرب و لعلى أكون الأوروبى الوحيد الذى يخرج من حياده و ينحاز للمظلومين.

الثلاثاء 11 يوليو

لم يغمض لى جفن الليلة الماضية.

أخذت أقلب الاحتمالات المختلفة فى ذهنى و أنا بين همين ، همى الشخصى و هل ستستمر حياتى هنا فى مصر ، و هم أعم فى هذه المأساة التى أشهدها تتفتح صفحاتها أمامى و لا أستطيع دفعها أو التأثير فى مجراها. لقد كنت خلال السنوات القليلة الماضية أعلق آمالا على الحكومة الانجليزية الجديدة باعتبارها أول حكومة ليبرالية و كنت أتصور رئيسها ويليام جلادستون سيكون معبرا عن الأفكار الليبرالية التى كانت تمثل لى آمال الطبقة المتوسطة التى أنتمى إليها و التى تصورت أن صراعها الأساسى سيكون مع السلطة الملكية المطلقة والأرستقراطية الفاحشة من ملاك الأراضي فإذا بى أشهد صراعا غير متكافئ بين جيوش هذه الحكومة الليبرالية و بين أمة مستضعفة مسالمة تظهر كل علامات الود و المسالمة حتى مع من يتربصون بها الدوائر. عندما أرى الآن الاستكبار يقطر من كلمات الساسة الذين تطير أسلاك التلغراف كلماتهم شرقا و غربا ، لا أستطيع أن أتفهم علاقته بالليبرالى الذى يعنى التفتح و يعنى رحابة الأفق الفكرى و يعنى قبل هذا و بعده الحرية و الاختيار للشعوب. و ها هى اجلترا قد رمت بثقلها السياسى و العسكرى خلف سلطة ملكية مطلقة و ناصبت العداء لحركة وطنية تسعى لاسترداد حق الشعب فى اختيار مصيره و قادته. لقد أصابنى ما أرى الآن بالإحباط و الارتباك الفكرى و لم أجد له إلا تفسيرا واحدا مقبولا و هو أن هؤلاء الليبرالييين عندما يكونون فى موقع السلطة يكيلون بمكيالين ، مكيال لأنفسهم و شعوبهم و مكيال لغيرهم من شعوب الأرض. و لو صح هذا التفسير فبئس الفكر السياسى و بئست الإنسانية.

عزمت أمرى على التجول فى الإسكندرية هذا الصباح إلا أنى سمعت دوى تفجيرات هائلة من جهة غرب المدينة فى السابعة صباحا فنزلت و ركبت عربتى بعد تلكؤ سائقها الذى حاول نصحى بعدم مغادرة البيت ، كان صدى خطوات الفرس التى تجر عربتنا يعكس خلو الطرقات تماما من المارة بعد أن استولى الخوف على الأهالى و على البقية القليلة من الأجانب التى ظلت فى المدينة. كان صوت الانفجارات مستمرا و كلما اقتربنا من جهة الغرب أحسست أن القذائف يزداد تركيزها. سألت نفسى مرة بعد مرة : ما هى الدواعى الانسانية التى تبرر نقل الخراب و الدمار إلى هذه المدينة الجميلة الوادعة.

كان من الواضح لى أن الأميرال سيمور قد شن هجومه أولا على غرب المدينة حيث توجد أقوى الاستحكامات العسكرية فى حصن مريوط و المكس و الفنار و رأس التين ، و فى كل من هذه الحصون توجد مدافع " آرمسترونج " و هى المدافع الوحيدة التى يمكن لنيرانها أن تصل إلى البوارج الانجليزية. أما سائر المدافع فكانت مدافع صغيرة و مدافع هاون لا يمكن أن تؤثر فى دروع السفن الانجليزية.

وصلت إلى العجمى فى حوالى الثامنة و النصف و صدمنى هول ما رأيت من أشلاء عشرة من الجنود على الأقل على قواعد المدافع. كانت القذائف قد هدأت ثم لم تلبث أن وصل دويها من شرق المدينة. تلطخت سلالم البطاريات بدماء القتلى و الجرحى و رأيت نفرا من الأهالى بينهم بعض النساء يسعفون المرضى و يحملونهم إلى مستشفى قريب. أحاطت بى نظرات غاضبة و ساخطة و اندفع أحد الجنود و جمع قميصى فى قبضته و انتهرنى : ماذا تريد ؟ . سارع أحد الضباط – و كان يعرفنى – و صاح : هذا المسيو صديق المصريين.

نزلت صيحة الضابط على قلبى بردا و سلاما ، و تركنى الجندى و تراجع إلى مكانه. أقبلت على هذا الضابط متسائلا : ماذا حدث ؟

قال : كما ترى. حجم النيران أكبر بكثير من قدراتنا. حتى مدفع الآرمسترونج غير مجهز بالمسطرة اللازمة لتحديد مرماه. لقد تم احضار مسطرة أمس فقط من القاهرة و أرسلت إلى حصن الفنار. عندى هنا خمسة و سبعون رجلا ، قتل منهم هذا الصباح أربعة عشرا و حوالى ثلاثين جريحا. لو استمر هذا القصف بهذه الكثافة فسيقضى بالكامل على حامية السواحل كلها و عددهم سبعمائة رجل. لو كنا بدأنا القصف ربما قللنا بعض الخسائر ، لكن كانت عندنا أوامر صارمة بألا نرد على نيران العدو قبل أن تصلنا ثلاث دورات من قذائفهم.

رأيت خارج الحصن عشرات من جنود المشاة الذين تم توزيعهم على الحصون للمساعدة. و ظهر أنهم لا حاجة لهم فى هذا التبادل المدفعى. كان يوجد بالإسكندرية اثنى عشر ألفا من جنود المشاة و لكن هذا النوع من القتال لم يسمح لهم بأى دور. و لم أفهم سبب تفريقهم و بعثرتهم على هذه الصورة و نزول القوات الانجليزية إلى البر لا شك فيه.

عرفت أن عرابى باشا و باقى الوزراء موجودون فى طابية كوم الدماس للاشراف على مواقع القتال. توجهت إلى هناك و مررت فى الطريق بعدة مبانى قد تهدمت ، كما شاهدت سحب الدخان تتعالى من جهة رأس التين و التى يبدو أن مبان فيها قد اشتعلت فيها نيران كثيفة. و وصلت فى حدود الساعة الثانية عشرة ظهرا. كانت الكآبة تعلو وجوه جميع المسئولين. كان حجم الدمار أقل من العجمى و لكن عددا من القتلى و الجرحى غطى المكان. كان من بين الجرحى سليمان أباظة باشا وزير التعليم و قد أشفقت عليه و الدماء تنزف من ساقه و قد تخطى الستين من عمره.

رأيت عرابى باشا يغطيه الخجل و الاحساس بالفشل ، رغم أن كل الوزراء كانوا يلتمسون له العذر فى تفوق الأسطول الانجليزى الظاهر. عندما حانت لى فرصة للحديث مع عرابى باشا سألته عن السر وراء الأوامر الصارمة للحصون بعدم الرد إلا بعض أن تصلها بعض إصابات البوارج الانجليزية فقال : أردنا ألا يشاع عنا أننا بدأنا بالعدوان. سألته عن تصوره للأيام القادمة فقال : سنستمر فى أداء واجبنا. رأيت أن الرجل لا يملك رؤية سياسية تتناسب مع حماسته الوطنية.

فى الثالثة عصرا وصل مندوب للخديوى يأمر الوزراء بالحضور إلى سراى الرمل للاجتماع به و بدرويش باشا المندوب السلطانى و أن ينشر راغب باشا رئيس الوزراء أوامره باعلان الأحكام العرفية فى البلاد. قبل أن ينصرف الحضور ، وصل محمود سامى البارودى باشا من القاهرة ليشد من أزر اخوانه.

بعد انصراف الوزراء بقليل ، عادت القذائف لتمطر الحصن المتهالك و ظل هذا القصف بلا انقطاع حتى الساعة الخامسة ثم سكت فجأة و سكتت معه جميع أصوات الانفجارات التى كانت تصل إلى مسامعنا من أرجاء المدينة. اتضح أن أوامر قد صدرت للأسطول الانجليزى بإنهاء العمليات على الأقل لهذا اليوم.

خرجت إلى الشارع هائما على وجهى لا أقصد مكانا محددا. و اختلط فى فلبى الحزن بالغضب بالارتباك فى تفسير ما يحدث.

لقد كانت مجزرة وحشية لا موجب لها و لا مبرر و لم يكن الهدف منها إلا الشهوة الوحشية المتعطشة للدماء و من ورائها الرغبة الاستعمارية العارية من المشاعر الانسانية. و كنت أتوق إلى أن أسأل أولئك الذين كانوا يدكون المدينة و يطلقون مدافعهم هل يستطيعون حين يعودون إلى بلادهم و يتحلقون حول موائد الشاى فى بيوتهم أن يتحدثوا إلى ذويهم عن تلك المجزرة البشرية من الفتك و التخريب و الدمار ؟ فأية إهانة تلحق اليوم بالأمة الانجليزية حين تثأر من مصر على هذه الصورة الفظيعة ؟

ما أروع منظر الرماة المصريين بأجسامهم النحيلة و سواعدهم المنهكة و هم خلف مدافعهم المكشوفة و كأنهم فى استعراض حربى لا يخافون الموت الذى يحيط بهم و قد رأيت معظم الحصون بلا حواجز تحميها و بلا متاريس و مع هذا فقد رأيت هؤلاء البواسل من أبناء النيل خلال الدخان الكثيف الذى لف رأس التين و من بعده طوابى المكس و قايتباى و السلسلة ، رأيتهم و كأنهم أرواح الأبطال الذين سقطوا فى ساحة الموت و كأنهم قد بعثوا من جديد ليناضلوا و يواجهوا نيران المدفعية.

و قد مر معى بعض قادة الحامية مع عرابى باشا يستحثون الرجال و قد أدى الجميع واجبهم و لم تكن ثمة أوسمة أو مكافآت تستحث أولئك البسطاء من الجنود و الأنفار و الفلاحين على أداء واجبهم و إنما كانت تستحثهم العاطفة الوطنية الدافقة و الثورة على الفظائع التى استهدفتهم بها البوارج الانجليزية.

لم أعد إلى بيتى إلا بعد أن انتصف الليل ، و علمت لدى عودتى أن الخديوى و وزارته قرروا عدم الرد على النيران الانجليزية فى صباح الغد و أن ترفع الحصون الرايات البيضاء علامة الاستسلام و كطلب مباشر للكف عن القتال بعد أن تحقق لسيمور غرضه فى تخريب الاستحكامات و تعطيل المدافع.

عندما سمعت بهذا التنازل عرفت أن سيمور لن يقبله ، و أنه سيتمادى فى غطرسته و سيطالب بالمزيد. لم أستطع أن أقاوم النوم أكثر من هذا.

الأربعاء 12 يوليو

استيقظت فى السابعة صباحا على أصوات دورة جديدة من القذائف التى أمطرت كل نواحى الإسكندرية و تساقط العديد منها على المبانى السكنية المجاورة لنا مباشرة.

لما خفت حدة القصف فى الحادية عشرة خرجت باتجاه الباب الشرقى و وجدت ازدحاما شديدا بالأهالى الذين يحاولون الفرار من الإسكندرية و رأيت فيهم بعض الجنود الفارين الذين هدهم الفشل عندما رأوا الأمر برفع الرايات البيضاء و الكف عن القتال ، و مع هذا رأوا استمرار القصف فوق روؤسهم.

توجهت بعد ذلك مشيا إلى مبنى المحافظة و وجدت هناك طلبة باشا عصمت و قد عاد لتوه مما كلف به بمقابلة سيمور و طلب كف القتال منه بعد رفع الرايات البيضاء إلا أن سيمور رفض طلب الحكومة المصرية و أصر على مواصلة القصف ، بل و رفض حتى مقابلة الوفد الحكومى و سمح لمساعد له بمقابلته و إبلاغهم بقرار الرفض.

فى هذه الليلة أعتمت الدنيا فى قلبى و قلوب المصريين.

الخميس 13 يوليو

جمع عرابى باشا بقايا قواته و توجه بهم صوب كفر الدوار أملا فى إعادة تجميع جيشه و اتخاذ حصون و متاريس على الأرض تمنع الانجليز من الوصول إلى عاصمة البلاد. فكرت طويلا أن ألحق بعرابى باشا لأحذره من هذا الخطأ الجسيم بالانسحاب بلا أى داعى و ترك الإسكندرية للانجليز ليستولوا عليها بدون أدنى مقاومة. ترددت و آثرت ألا أقوم بهذا نظرا لوضعى الحساس فى جالية بلادى. و لكنى شعرت بالغضب الشديد لهذه الخطوة المتعجلة و لهذا الانهيار السريع الذى لن يصدقه الانجليز أنفسهم.

كما أرسل عرابى باشا قطار الخديوى ليحمله و أسرته و حاشيته إلى القاهرة إلا أن الخديوى رفض و قرر العودة إلى سراى رأس التين و التى كانت سبقته إليها قوة صغيرة من الشرطة العسكرية الانجليزية لتقوم على حمايته.

سقطت مصر اليوم فعليا فى أحضان و أنياب الاستعمار الانجليزى.

السبت 15 يوليو

اجتمع بنا قنصلنا و قرر بقاء القنصلية على ما هى عليه و أن تبدأ فى التعامل مع الواقع الجديد ، و قررت الاتصال بالأميرال سيمور لاستطلاع نوايا الانجليز فى مصر.

قررت لنفسى أن أعيش فى مصر ما تبقى لى من عمر.

فى المساء بلغنا خبر مؤسف للغاية بأن الخديوى اكتشف قطارا محملا بالدقيق من مخابز منطقة القبارى متوجها للجيش فى كفر الدوار فاحتجزه و قرر صرفه للجنود الانجليز فى الإسكندرية.

الأحد 16 يوليو

طالعت الصحف الصادرة الأحد الماضى فى انجلترا و فرنسا فلم أجد أى اشارة و لو من بعيد عن احتمالات غزو مصر. تمنيت أن لو بإمكانى مطالعة الصحف التى صدرت اليوم فى أوروبا و التى لن تصلنا هنا قبل مساء السبت القادم.

بلغنا أن عرابى باشا ناشد الأهالى بالتبرع للجيش المصرى و بفرض ضريبة مؤقتة ، و اندهشت للأخبار التى تواردت بوفود آلاف الأهالى على كفر الدوار و القاهرة بالتبرعات من الأغنياء و البسطاء ، و منهم أم الخديوى الراحل اسماعيل التى تبرعت بجميع خيول عرباتها و تبرع الأهالى بالأقمشة و الأطعمة و أظهرت لونا فريدا من النخوة و الشهامة الفطرية.

السبت 22يوليو

تفاقمت الأزمة اليوم بين الخديوى و عرابى و بلغت آفاقا جديدة فقد عُقِد اجتماع في وزارة الداخلية، حضره نحو أربعمائة من الأعضاء، يتقدمهم شيخ الأزهر وقاضي قضاة مصر ومُفتيها، ونقيب الأشراف، كما حضره أيضا بطريرك الأقباط، وحاخام اليهود والنواب والقضاة والمفتشون، ومديرو المديريات، وكبار الأعيان وكثير من العمد، فضلا عن ثلاثة من أمراء الأسرة الحاكمة. و نظرة سريعة على الحضور تبين أنهم يمثلون تقريبا كل طوائف الشعب المصرى. ترأس الاجتماع وكيل وزارة الداخلية.

وفي هذا الاجتماع الغير مسبوق أصدر كبار شيوخ الأزهر قرارا دينيا ( فتوى ) باعتبار الخديوى مارقا من الدين و ذلك لانحيازه إلى الجيش الانجليزى المحارب لبلاده و قد وقع على هذا المرسوم الدينى الشيخ "محمد عليش" و"حسن العدوي"، و"الخلفاوي" و هم قادة الأزهر كما أصدر المجتمعون قرارا بعدم عزل عرابي عن منصبه، ووقف أوامر الخديوي ونظّاره وعدم تنفيذها؛ لخروجه عن الشرع الحنيف والقانون المنيف. و اتفق الحاضرون على إرسال لجنة يترأسها على باشا مبارك إلى الإسكندرية ليبلغ الخديوى بقرارات هذه " اللجنة العرفية " ، و لترى اللجنة إن كان الخديوى و الوزراء أحرارا من سيطرة الإنجليز فليأتوا إلى القاهرة.

عندما جرت عيناى على محضر الاجتماع فوجئت بانتهاء الكلام. أعدت القراءة مرة أخرى فلم أجد ما كنت أتوقعه من عزل الخديوى و اعلان عرابى – أو غيره – حاكما للبلاد. كنت أتصور أن هذه خطوة طبيعية جدا بعد كل هذه القرارات ، لكن توقف المجتمعون عند هذا الحد لسبب لا أفهمه ، و لا أتوقع أن أفهمه فى المستقبل. و لقد حاورت عرابى منذ شهرين تقريبا عن علاقته بالخيوى ، فوجدته حانقا على تصرفات الخديوى و شاكا فى ولائه لمصلحة البلاد ، و لكنه عنده حاجز نفسى لا يستطيع أن يتخطاه فى مهابة الخديوى و توقيره و من ثم طاعته.

أنصاف الحلول دائما أسوأ من الحلول الخاطئة. إننا الآن نرى فى مصر سلطتين و معسكرين و حكومتين. إن هذه وصفة لفوضى عارمة ستضر بالبلاد و هى فى ذاتها أسوأ من الاحتلال الإنجليزى القادم لا محالة.

كذلك لم أجد معنى لغياب عرابى باشا عن هذا الاجتماع الخطيرو عدم انتقاله من كفر الدوار للأسبوعين الماضيين. إن فكرة الحصول على تفويض شعبى فكرة ممتازة ، و لكن ترك المجتمعين هكذا بصورة كاملة سيبعد عرابى عن دقة و حقيقة ما يدور بالقاهرة. لعله أراد أن يبعد عن نفسه شبهة الضغط و التأثير على رأى اللجنة العرفية و لكن هذا أيضا خطأ ، لأن عرابى قرر الانفراد بالموقف السياسى و العسكرى عن الخديوى فلابد أن يمضى فى هذا الطريق إلى نهايته.

الجمعة 28 يوليو

زارنى عصر اليوم على باشا مبارك رئيس اللجنة التى أتت من القاهرة لابلاغ الخديوى و رئيس الوزراء بقرارات اللجنة العرفية الشعبية. و كان على باشا مبارك قد مر فى طريقه إلى هنا بكفر الدوار و حاول اقناع عرابى باشا بالاستقالة درءا للفتنة و توحيدا لكلمة البلاد على أن تحفظ كل حقوقه و رتبه و نياشينه و احترامه لكن عرابى رفض بشدة و لكن بعد مداولات طويلة لمس فيه بعض اللين. و أخبرنى على باشا مبارك عن لقائه أمس بالخديوى و وجده ثائرا على هذه اللجنة العرفية التى انتزعت منه سلطاته بغير حق و أخبره أنه لن يقبل بأقل من كف عرابى باشا عن كل الاستعدادات الحربية و إذعانه لسلطة الخديوى.

أخبرنى أيضا بشعوره بالاحباط لتباعد موقفى الطرفين و أن هذا سيتسبب فى حالة فوضى فى البلاد و أنه يشك كثيرا فى قدرات الجيش المصرى و تدريبه و سألنى نصيحتى عن استمراره فى مهمته أم يتوقف و هل يعود للقاهرة أم ينحاز للسلطة "الشرعية" للبلاد ؟.

قلبت معه الأمور على كافة وجوهها ، و قد بهرنى عقل الرجل و حسن سياسته و رأيت أنى أجلس مع أحد عقلاء الأمة و وجدته على وعى سياسى رفيع و دراية بالتاريخ و الجغرافيا تعطيه عمقا فى التعامل مع هذا الموقف المتأزم فى مصر و قد انشقت إلى سلطتين و إلى دولة داخل الدولة.

و برغم عاطفتى الشديدة مع عرابى باشا إلا أنى نصحت على باشا مبارك فى نهاية الأمر أن يبقى هنا فى الإسكندرية و ظننت أن وجود هذا الرجل قريبا من الخديوى ستكون له آثار مفيدة.

الأحد 3 أغسطس

قرأت اليوم لدى قنصليتنا موجزا لبوادر فتنة مصرية مصرية. إذ جمع السكرتير العام للقنصلية بعض خطب أئمة المسلمين فى صلاة الجمعة الفائتة ، و قد تباينت جدا و تراوحت بين وصف عرابى باشا بأنه خائن للأمة مضيع لدماء المصريين عاص لحاكم مصر الخديوى توفيق و خارج على السلطان العثمانى و حتى أنشد بعضهم فى مساجد الإسكندرية :

تبين عقبى غيه كل معتدى ....... و أمسى العرابى و هو بالذل مرتدى

بينما انتصر فريق آخر من مشايخ المسلمين لعرابى باشا و رأوا فيه منقذ البلاد من الهلاك و الدمار و رأى بعضهم أنه الموعود الإلهى الذى يرسل على رأس كل مائة سنة ليجدد لأمة المسلمين دينهم. و رأى بعضهم فيه باعثا للأمة قامعا للفساد ، و لم ينقصهم الشعر أيضا ، و هناك عشرات القصائد التى تدندن حول هذه المعانى ، كقول أحدهم :

إذا ما راية رفعت لمجد ....... تلقاها عرابينا يمينا

و قول آخر :

يا صاح قم و أشكر إلهك و احمدِ ... فالدين منصور على يد أحمدِ

و لم يتأكد لى هل هذا التباين نابع فعلا عن قناعات فكرية ، أم أنه يعكس تدهور الوعى السياسى فى هذا الخطاب الدينى المتشنج. و الأمر جديد بالنسبة لى ، فقد نشأت فى بلاد لا علاقة للكنيسة فيها البته بالأحوال السياسية فى أوروبا.

السبت 19 أغسطس

بلغنا اليوم أن القوات الإنجليزية انقضت على قناة السويس و قامت بقطع أسلاك الاتصال التلغرافى بين بورسعيد و السويس و لم تلتفت إلى اعتراضات المسيو ديليسبس مدير الشركة الفرنسية التى تدير القناة بضرورة احترام حياد القناة كمرفأ عالمى لطرق التجارة.

انجلترا الآن تنفرد بالتهام مصر و تضرب بالاعتراضات الأوروبية عرض الحائط.

الثلاثاء 29 أغسطس

كان أمس يوما حزينا آخر فى التاريخ المصرى الحديث. فقد وقعت مذبحة شنيعة أمس فى منطقة القصاصين قام بها الجنرال جراهام الذى حاصرت الأهالى قواته غرب الاسماعيلية فطلب إمدادات و ذخائر فوصلته على وجه السرعة مساء أمس مما مكنه من إعمال القتل فى الأهالى فسقط العشرات منهم قتلى فى ساعة زمان.

أعتقد أن هذه الأنباء المأساوية ستزيد من عزيمة عرابى و جيشه الذين يتمركزون الآن فى التل الكبير لمنع القوات الانجليزية من التوجه للقاهرة.

الأحد 3 سبتمبر

قرأت اليوم عشرات المقالات فى الصحف الأوروبية الصادرة الأحد الماضى و قد أذهلتنى مقالات انجليزية عديدة تبرر السياسة الانجليزية لأنها فى النهاية تصب فى جعل المصريين أكثر تحضرا و تمدينا.

ألاحظ مما أرى - أن الدول الليبرالية الكبرى فى الغرب - التى يعد التصرف فيها ضد الإرادة الجماهيرية أمراً خطيراً ومتهوراً و رجعيا - قد ارتكبت خطأ جسيماً بمعاملة مصر التى ادعت أنها تعمل على تمدينها وتحريرها - كسكان من العبيد غير القادرين على اختيار الرئيس الذى يناسبهم .. و أتساءل عما ستفعله القوى الدستورية الكبرى التى ارتكبت خطأ إغفال شعور الأمة المصرية أمام ذلك التعبير عن الإرادة الشعبية

إن ما أعاينه الآن هو طبائع الاستبداد و لكن على الطريقة الأوروبية الحديثة.

الأربعاء 13 سبتمبر

استيقظت اليوم على خبر تلغراف عاجل وصل قنصليتنا يفيد بهزيمة الجيش المصرى قبل فجر اليوم فى معركة خاطفة فاجأ فيها الجنرال جارنت ولسلي قائد القوات البريطانية المصريين أثناء نومهم و هزموهم فى خلال ساعة واحدة و أن عرابى باشا – على غير المتوقع – قد فر مع عدد كبير من الجنود إلى القاهرة.

لم أكن أتوقع أن تصمد قوات المصريين طويلا أما الزحف الانجليزى الذى يفوقها فى كل شيئ ، لكن لم أتوقع أن يتم الأمر بهذه السرعة. لا أعرف ما الذى حدث بالضبط ، لكن من المؤكد أن تهاونا ما فى قيادة القوات هناك قد بلغ حدا مهينا.

الخميس 14 سبتمبر

قررت صباح اليوم السفر للقاهرة. لن أرضى بعد اليوم بالاكتفاء بموقع المشاهد و المتابع و المراقب. سأحاول الوصول لعرابى باشا و أساعده فى القرارات الصعبة المقبلة.

لحقت بقطار التاسعة صباحا ، و لفت نظرى قلة الركاب و قلة المنتظرين للقادمين من القاهرة. يبدو أن تتابع الأحداث قد جعل الناس فى حيرة يترقبون على أى وجه ستنتهى قبل أن يقرروا الجهة التى يستقرون فيها.

وصلت القاهرة و توجهت رأسا إلى بيت طلبة باشا و وجدته فى حالة يرثى لها من الإحباط و الخوف. طلبت منه أن أذهب لعرابى باشا فأخبرنى أنه ينتظره الآن فى أى لحظة. حدثنى طلبة باشا عن المجزرة التى تعرض لها الجيش فى التل الكبير و أن حوالى ألفين قد لقوا مصرعهم فى معركة استمرت ساعة واحدة.

وصل عرابى باشا فى حوالى السابعة مساء منهكا مكدودا قد انطفأ لمعان عينيه الذى تعودت أن أراه فيه. شعرت بارتياحه لرؤيتى. رمى بنفسه على أقرب مقعد و أخذ نفسا عميقا و قال ( انتهى كل شيئ .... المجلس العرفى اختار استمرار المقاومة و لكنى عجزت عن جمع ألف جندى فرجعت إليهم بالخبر فقررنا جميعا التسليم للقوات الانجليزية و بإرسال التماس بالعفو للخديوى توفيق.... ).

كنت أتوقع هذه النهاية المؤسفة منذ رأيت الأداء السيئ و الأخطاء السياسية و العسكرية البالغة بعد مذبحة الإسكندرية .. و مع ذلك جرحتنى كلمات عرابى باشا لأنى رأيت فيها النهاية السعيدة للظالمين المغتصبين.

قلت :

- لماذا الاستسلام بهذه السرعة ؟ لديك قوات لم تمس فى كفر الدوار و القاهرة و دمياط ؟

- طلبة عصمت قائد كفر الدوار - كما ترى - أضطر للحضور إلى القاهرة و القوات هناك ضباطا و جنودا بلا قيادة.

- بلغنا أن عبد العال باشا حلمى قائد دمياط رفض التسليم و صمم على المقاومة ، أعتقد أن الفرصة ما زالت متاحة للمقاومة و يمكنكم أن تنحازوا للصعيد فالمؤن و الذخيرة و الأسلحة متوفرة.

- انتهى كل شيئ و سأبلغ الجنرال ولسلى باستسلامنا.

أعدت الضغط على عرابى باشا لعله يتماسك و يرى أن هذا الانسحاب المتتابع سياسة خاطئة و التسليم بهذه السرعة لن ينفعه ، و لكن كان الإحباط السياسى قد بلغ مداه. و قد رأيت ما تفعله السياسة بالرجال. فعرابى باشا مر بتجارب سابقة أكثر مرارة و خطورة و قد حكى لى منذ سنتين ما حدث له فى حملة الحبشة عام 1876 و التى كان مسئولا فيها عن الإمداد و التموين و قد عاين هزيمة منكرة للجيش المصرى على يد قبائل مدينة مصوع و رأى بعض زملائه و قد ذبحوا و مثل بجثثهم و من نجا منهم من القتل قطعت مذاكيرهم بقسوة بالغة ، و مع ذلك أدى ما عليه و تماسك و تعامل باحتراف عسكرى مع تلك الهزيمة.

لما يأست من اقناعه قلت :

- إذا كنت مصرا فأرى أن تسارع بتسليم نفسك كأسير حرب ، فإن هذا سيوفر لك حدا أدنى من حسن المعاملة كمحارب تم أسره و إلا فسيتم معاملتك كخائن للبلاد و عاص للسلطان العثمانى ..

أشحت بوجهى و لم أستطع مطالعة الأسى و الفشل و الانكسار فى وجه عرابى باشا. و اعتقدت أنى أراه الآن للمرة الأخيرة.

نبتت دمعة أو دمعتان فى محاجر عينى التى لم تعرف الدمع منذ سنوات بعيدة ، و لكن سرعان ما ارتشفتها.

الجمعة 15 سبتمبر

نهاية حقبة فى تاريخ مصر و بداية أخرى.

دخلت القوات الانجليزية صباح اليوم القاهرة ، و استسلمت عاصمة البلاد بلا أدنى مقاومة ، و قام عرابى باشا بتسليم نفسه طواعية للانجليز.

عدت فى قطار السادسة مساء إلى الإسكندرية و الدوار يصيب رأسى. سمعت بعض النكات المريرة من بعض المصريين فى القطار و هى أقرب ما تكون من فن الكوميديا السوداء الذى بدأ يظهر فى فرنسا.

الأربعاء 11 أكتوبر

بدأت اليوم التحقيقات الصورية الهزلية لعرابى ، بعد أن انتهت مع رفاقه من العسكريين و الوزراء السابقين و مشائخ الأزهر وغيرهم ممن اكتظت بهم سجون العاصمة. و قد تعمد المحققون أن يؤخروا عرابى بعد كل المتهمين الآخرين حتى يواجهوه بأقوالهم و يصطنعوا من ذلك عرائض اتهام ضده.

تابعت أخبار التحقيقات بضيق شديد ، و فضلت البقاء فى الإسكندرية حتى لا أرى هذه المهزلة و لا أشهد انكسار الحق و انتفاش الظلم.

الأحد 21 أكتوبر

طالعت اليوم فى الجرائد الانجليزية تفاصيل جلسة مجلس العموم الصاخبة و التى أكد فيها رئيس الوزراء ويليام جلادستون مرة بعد مرة أن قوات بلاده لا تنوى احتلال مصر و أنها فى مهمة محددة لاعادة السلطة " الشرعية " للخديوى و استتباب الأمن فى مصر. تعالت صيحات بعض نواب المحافظين : كذاب كذاب.

فى نفس الجلسة طلب جلادستون من مجلس العموم الموافقة على تخصيص مليونين و نصف مليون جنيه استرلينى لتغطية الحملة العسكرية فى مصر.

الخميس 9 نوفمبر

بلغتنا أخبار اليوم من قنصليتنا أن اتفاقا تم سرا بين الانجليز بمباركة وزير خارجيتهم و عرابى باشا بأن يعترف بعصيانه للخديوى و أن ينفى "بكرامة" إلى خارج البلاد.

الأحد 3 ديسمبر

صدر اليوم الحكم بإعدام عرابى ثم خفف فى الحال بعفو من الخديوى إلى النفى الدائم إلى جزيرة سيلان و أن تصرف له ألفان من الجنيهات سنويا طيلة عمره و لأولاده من بعده.

أنتهت المسرحية القضائية الهزلية.

الإثنين 25 ديسمبر

تم تجريد عرابى و رفاقه اليوم من رتبهم العسكرية تمهيدا لنفيهم.

أورطة الجنود الذين اصطفوا أمام مراسم التجريد لم يتمالكوا أنفسهم و انخرطوا فى البكاء.

الأربعاء 27 ديسمبر

لم أشأ رؤية الأسد الجريح. سافر اليوم عرابى و رفاقه و أسرهم و خدمهم إلى جزيرة سيلان جنوب شبه القارة الهندية فى نهاية مؤلمة لمحاولة بعث الشخصية الوطنية فى مصر.

الأحد 21 يناير 1883

قرأت اليوم تقريرا آخر بجلسة مجلس العموم البريطانى و فيه تأكيدات أخرى من وزير الخارجية بأن أجل القوات الانجليزية فى مصر محدود للغاية.

يونيو 1883

قرأت تقريرا فى جريد التايمز الصادرة الأحد الماضى ، عن جلسة برلمانية أخرى ساخنة فى لندن شن فيها زعيم المعارضة من حزب المحافظين اللورد راندلف تشرشل هجوما قاسيا على رئيس الوزراء المستر جلادستون اتهمه فيها صراحة أنه يحمى خديوى مصر مع أن يديه ملطخة بدماء الأوربيين و المصريين الذين قضوا حياتهم فى أحداث 11 يونيو العام الماضى و التى قام الخديوى بتدبيرها مع عمر لطفى محافظ الإسكندرية. و كشف النقاب عن برقية أرسل بها الخديوى إلى عمر لطفى جاء فيها ( .. لقد ضمن عرابى الأمن العام و نشر ذلك فى الجرائد و قد تحمل مسئولية ذلك أمام القناصل فإذا نجح فى مهمته و ضمانه ، فإن الدول سوف تثق به و سوف نفقد بذلك اعتبارنا يضاف إلى ذلك أن أساطيل الدول فى مياه الإسكندرية و أن عقول الناس فى هياج و أن الحرب وشيكة الوقوع بين الأوروبيين و غيرهم ... و الآن فاختر لنفسك هل تخدم عرابيا فى ضمانه أم تخدمنا ؟ ).

لم ينس جلادستون التأكيد على أن قوات بلاده " لن تمكث لحظة واحدة بعد استتباب الأمن فى مصر ".

لقد رأيت عمر لطفى منذ أيام – و هو الآن وزير الجيش و البحرية – يتهكم على عرابى باشا فى عشاء جمع قناصل الدول فى الإسكندرية.

أول يناير 1887

فى الخطاب السنوى للملكة فيكتوريا ، أعلنت أن شرف بريطانيا العظمى يأبى أن تكون نية بلادها احتلال مصر. و أنها ستأمر قوات بلادها بمغادرة مصر فور التأكد من تمكن أبناء البلاد من حفظ أمنها و الالتزام بتعهداتها الدولية.

د. محمد هشام راغب

" و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون "

رابط هذا التعليق
شارك

ما اشبه اليوم بالبارحة

معلومات جيدة وسرد جميل

شكرا

تم تعديل بواسطة Blue_mind

ومـا مــِن كاتبٍ إلا سيَفْنَى ....... ويُبقي اللهُ مــا كتبت يـداهُ

فلا تكتُب بخطِك غير شيءٍ ....... يسُرك في القيامةٍ أن تراهُ

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 2 أسابيع...

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...