اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

مقديشيو .. 1992 - 2006


علاء زين الدين

Recommended Posts

كانت الصومال في أوائل التسعينيات غارقة في حروب أهلية بعد انهيار الدولة وانفلات زمام الأمن.

في نفس الوقت كان الجفاف والمجاعة يجتاحان أفريقيا ما دون الصحراء الكبرى. وكانت الصومال من أكثر بلدان أفريقية المتأثرة بالجفاف. وإلى حد كبير كان العالم العربي كعادته، والذي تعد الصومال جزء منه على الأقل بناءً على عضويتها في جامعة الدول العربية، كان كعادته يقف موقف المتفرج لأسباب يضيق المكان عن ذكرها، ومنها بالطبع ضرورة أن يكون مصدر المعونات هو الغرب أو على الأقل تكون تحت تحكم الغرب عن طريق منظمات مثل الأمم المتحدة.

وسط الفوضى التي منعت تنقل المواد الغذائية والمعونات من الموانئ وبين المدن ووسط ضياع الأمن والآمان بدأت ظاهرة صحية وسط الخطوب.

ارتضى حكماء القبائل والأهالي في إحدى المدن الساحلية في جنوب البلاد أن تنشأ محكمة شرعية يحتكم إليها الناس في خصوماتهم وتقيم الحدود حسب الشريعة. ومكنت القبائل المحلية لهذه المحكمة التي ارتضتها قوة تساندها في تطبيق الأحكام التي تصدر عنها. كانت النتيجة أن ساد الأمان في هذا الميناء الصغير. أصبحت هذه البلدة واحة آمان وسط الغابة الصومالية، وبدأ الناس يرحلون إلى هذه المدينة من المناطق المجاورة.

بعد ثبوت هذه الظاهرة في المدينة بدأت القبائل تعمل على توسيع رقعة العمل بنظام المحاكم الشرعية في المساحات المجاورة للمدينة. كل هذا بلا دولة ولا حكومة في البلاد، إنما كان حلاً محلياً أثبت فاعليته ووفر للأهالي الأمن حين كان الناس في سائر البلاد فريسة لقطاع الطرق وأمراء الحرب. بدأت رقعة العمل بالمحاكم الشرعية تتسع قليلاً، وكان الأهالي يرحبون بهذا النظام أينما حل. لكنه حتى ذلك الوقت لم يتعد رقعة إقليمية محدودة من البلاد.

الموقف الدولي في ذلك الوقت كان يشهد أكبر تغيرات على الساحة العالمية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. أذكر منها هنا على سبيل المثال انتهاء الحرب الباردة وصعود الحركة الإسلامية في فلسطين وصدور البحث الذي صار كتاباً بعد ذلك باسم "صدام الحضارات" لصاحبه صموئيل هنتجدون. وكنت قرأت في ذلك الوقت مقالاً في جريدة النيويورك تايمز لوزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت (1) إسحاق رابين يقول فيه "إن إسرائيل كانت في طليعة كفاح العالم الحر ضد الشيوعية وستكون إسرائيل في طليعة كفاح العالم الحر ضد العدو الجديد وهو الإرهاب الإسلامي". كان ذلك قبيل إدراج حماس في قائمة المنظمات الإرهابية بوزارة الخارجية الأمريكية. كما كانت رحى حرب البوسنة تدور وكانت حرب الشيشان الثانية بدأت في نفس الوقت. وكلها نزاعات متعلقة بالإسلام.

أدت هذه المتغيرات التي ذكرنا بعضها أن تحولت أنظار أصحاب القرار السياسي في واشنطن إلى صعود الحركات الإسلامية الإصلاحية في بلاد الإسلام. وقد كان الإسلام كحركة إصلاحية غائبا حتى ذلك الوقت من القرن الإفريقي.

كان القليلون في العالم يعرفون أي شيء عن المحاكم الشرعية، وما كانت متابعتي لتقدمهم إلا من خلال الصفحات الداخلية المتخصصة في جريدة النيويورك تايمز وغير ذلك من المصادر الإعلامية المتخصصة. ولكن العالم كله كان يتابع الفوضى والمجاعة في الصومال. وفي ذلك الوقت أعلن الرئيس بيل كلنتون عملية "إعادة الأمل" Restore Hope، بدعوى وقف نشاط كل أمراء الحرب وتأمين وصول المعونات للأهالي، ثم دعوة الأمم المتحدة لإعادة بناء الدولة الصومالية. ونحن نعلم الآن من تجارب البوسنة والعراق وأفغانستان كيف تعيد أمريكا بناء الدول. تغنى العالم كله بإنسانية الغرب وقدرته على استجماع قوى الخير وقت الخطوب، كما ظهر للناس تخاذل المسلمين في نصرة بني دينهم.

أمام هذا التطور تراجعت الحركة الإسلامية الصومالية التي قامت حول نظام المحاكم الشرعية حيث لم يكن لها قبل بمواجهة القوات الأجنبية. كما كانت لهذه القوات واجهة إنسانية يصعب معها كشف النوايا الحقيقية. وقد كانت حتى ذلك الوقت مقصورة على إقليم صغيرة ولم يكن باستطاعتها إثبات وجودها على الصعيد القومي أو منافسة القوات الدولية. ويضاف إلى ذلك أن أهداف هذه الحركة كانت مبنية على إشاعة الأمن فآثرت في ظل هذه الظروف الإنزواء إلى الظل.

نعلم ما جرى بعد ذلك للقوات الأمريكية وانسحابها على عجل. ثم تردي الأوضاع في الصومال حيث ظلت الفوضى تسود كما كانت من قبل. وبدأت تظهر حركة المحاكم من جديد كبديل للفوضى في بعض أماكن البلاد، وعادت تتسع رقعة تطبيق هذا النظام.

ورغم أن القوات الأمريكية لم تعود إلى الصومال، لكنها بدأت في استخدام استراتيجيات جديدة تحت ما يسمى بالحرب على الإرهاب. فتقوم قوات خاصة أمريكية تابعة للمارينز والمتمركزة في سفنها الحربية في البحر الأحمر بالنزول في مهام خاصة إلى أرض الصومال بعد التنسيق مع عملاء لها. فيدهمون المنازل ويخطفون رجال الحركة الإسلامية من بيوتهم ثم يعودون بهم إلى سفنهم. لكن يبدو أن الريح ظلت تجري بما لا تشتهي السفن، فأخذ نظام المحاكم الشرعية الذي ارتضاه الأهالي يزداد قوة وانتشاراً رغم تنصيب حكومة هزيلة لا تحكم ولا تمثل أحداً، ورغم تسليح واشنطن لمليشيات أمراء الحرب الذين جاءت بدعوى القضاء عليهم من قبل ليواجهوا صعود المحاكم الشرعية.

والعجيب أن هذا التحالف بين أمراء الحرب وقطاع الطرق الذين أضاعوا الأمن وشرذموا البلاد ما يقرب من عشرين عاماً أصبح يسمى "تحالف إرساء السلم ومكافحة الإرهاب". وذلك بالطبع لأنه الحلف الذي تدعمه واشنطن ويواجه حركة إسلامية.

ثم بدأت الصومال تظهر على نشرات الأخبار من جديد لما دخلت القوات التي تدعم المحاكم الشرعية العاصمة مقديشو وأصبحت تسيطر على 80 % منها.

وبالتأكيد سنسمع في الإعلام عما قريب عن أهوال المحاكم الشرعية وتطرفها واضطهادها للمرأة وعدم قبولها للآخر وتخلفها ومحاولتها جر البلاد إلى العصور الوسطى !!

___

(1) كل ما كتبت من الذاكرة هو بناءً على قراءات في وقت الأحداث. أعتذر أن الوقت لا يسعني للبحث والتنقيب عن الوثائق.

تم تعديل بواسطة علاء زين الدين

أيام الصَّـبر:

http://ayamalsabr.blogspot.com/

رابط هذا التعليق
شارك

موضوع هام للغاية و للاسف نعاني من نقص في المعلومات وتجاهل اجهزة الاعلام لمثل هذه الكوراث..

هل من مزيد من المعلومات؟

كيف انهارت الدولة في الصومال؟

و لك الشكر

أبو العبد الفلسطيني

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...