أسامة الكباريتي بتاريخ: 4 أغسطس 2006 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 4 أغسطس 2006 مذكراتها قطعة ادبية نادرة الاسيرة اللبنانية المحررة سهى بشارة تروي مذكراتها الحلقة الاولى الاحد ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٢ تمهيد لم أكن لأتخيل ما حييت مكاناً أصغر من ذلك الذي كنت فيه. وإذ وجدتني ثانية أمام الزنزانة رقم 7، طال بي الزمن حتى استوعبتُ أنني عشتُ حقاً هنا، بين هذه الجدران الضيقة للغاية. وأنني أمضيتُ في هذا المعتقل عشرة أعوام من حياتي، ثلث أيامي، وثلث ليالي. ها أنني أعودُ اليوم الى معتقل الخيام، في جنوب لبنان، وسط خضم الجموع الغفيرة التي تحث الخطى إليه. وها أن المعتقل الذي طالما أرهب الناس، بات اليوم محجة لهم. وكان قبل اليوم، وإبان سنوات الاحتلال الإسرائيلي السوداء، أشد الرموز إيلاماً للوطنيين. فرأيت جمهرة الزوار وهي تروح وتجيء في قاعات التعذيب والاستجواب داخل السجون المقززة، حيث مر الكثير الكثير من الرجال والنساء، رأيت هذه الجمهرة تنظر ولا تصدق أبصارها، وتروح تخمن، في ما ترى، العذابات التي كيلت لكل سجين وسجينة فيه. كان التاريخ قد توالت أيامه، قبيل أسبوع من هذا الحدث، على نحو مفاجئ. ففي الثاني والعشرين من أيار / مايو من العام 2000، سرّع الإسرائيليون انسحابهم من المنطقة التي كانوا يحتلونها منذ العام 1978، في جنوب لبنان، رغماً عنهم. لما أدركت الميليشيات اللبنانية، المرتزقة لدى إسرائيل إنه لم يعد لها أي حظ في البقاء، وأنها صارت في حكم المتروكة لمصيرها، في أجل قريب، أخذ أفرادها يسلمون أنفسهم الى حزب الله، الذي بات بدوره، رأس الحربة لمقاومة هذا الاحتلال. وحيال هذا الأمر، حين وجدت الفرق الإسرائيلية أن الدرع التي طالما كانت تحميها من المقاومين انهارت، أدركت أن لحظة الانسحاب حانت، قبل أن تتحمل تبعات بقائها في لبنان وخروجها منه بأثمان باهظة. ولم تنقض ثمان وأربعون ساعة، حتى وجدت الإسرائيليين يسارعون الى إخلاء مواقعهم، بعد أن يدمروا دُشمهم، وينكفئون الى داخل فلسطين المحتلة، من دون خسائر. وفيما كانوا يعودون القهقرى، رأى الإسرائيليون رجلاً قدم لتوه، ليعاين الكارثة التي حلت بأتباعه، وكان الرجل المذكور عائداً من إقامة طويلة له في فرنسا، حيث رتب لعائلته العيش الدائم، بعد يقينه من عجزه عن عرقلة الانهيار الذي بات محتوماً. أنطوان لحد، قائد الجنود اللبنانيين الملتحقين بإسرائيل، قائد الجيش الميت هذا، جيش لبنان الجنوبي، رأيته، في هذه الأثناء، يرغي ويزبد "للخيانة" التي طعنه بها حماته القدامى، ولتركهم المئات عرضة للإهانة والاعتقال في أرض مكشوفة، وكانوا طالما قاتلوا لصالح بلد ليس بلدهم، وضحوا في الغالب بأرواحهم في سبيله. وشاءت الأقدار أن يرتبط مصيري بمصير ذلك الرجل، لاثنتي عشرة سنة خلتْ. لما كنت طالبة شيوعية، ومتحدرة من عائلة مسيحية أرثوذكسية إلا أنها لبنانية بالصميم، ألفيتُني منخرطة في الحرب، منذ مراهقتي المبكرة، ضد كل ما يجسد هذا الوجود الغريب في أرضي، ودفعت من حريتي ثمناً لخوضي هذه الحرب، إذ أودعت في الزنزانة بلا محاكمة، ومن دون أن يتسنى لي معرفة سنوات العقوبة المفروضة علي. عشر سنوات سُلخت من حياتي ومنذ أن تحررت، لم يكن ليغيب من خاطري، ولو يوماً واحداً، ما عشته في معتقل الخيام، وما كانت لتمحى من مخيلتي صُور الذين كانوا لا يزالون يعانون القهر والعذاب فيه. وما فتئت ذكريات الأيام التي قضيتها في معتقل الخيام تعاودني، وتأخذني أحياناً على غفلة مني. ذات صباح، وأنا مقيمة في باريس، مكان إقامتي المؤقتة، تلقيت رزمة مرسلة الى عنواني من لبنان. حللتُ الرزمة فوجدت في داخلها ما يشبه المخدة. فسارعت الى إخراجها من علبتها ووضعتها على مكتبي. ورحت أنظر اليها دون أن تراودني أدنى فكرة عما يمكن أن تكون. إنها مجرد هدية. وطال بي الزمن وأنا أحاول إدراك سر تلك الهدية، حتى التمع في ذهني بارق ففهمت. حللت حبكة المخدة، فوجدت في داخلها قصاصات من الورق كتب عليها جميعاً بخطٍ عرفت صاحبه للتو. كان ذلك الخط خطي. ابتلت عيناي بالدموع، وجعلت أرتب هذه الكنوز فوق سريري، وسرعان ما مضت بي اللقيا الى هنالك، فخالطت نفسي روائح الخيام، وأنوارها وضوضاءها، على السواء. وتبين لي ، فيما بعد، أن إحدى المحررات حديثاً من معتقل الخيام، شاءت أن تحمل في طوايا ثوبها هذا الجزء الصغير من ذاتي الذي كان لا يزال سجيناً هنالك، عنيت قصائدي التي نظمتها في المعتقل خلسة، ولم يكن بوسعي حملها، حين انفتحت لي بوابات المعتقل، على نحو مباغت. ولولاها لكان قد قدر لذاكرتي أن تظل أسيرة في المعتقل. وما كلمات هذا الكتاب إلا استكمالاً لها، اليوم. دير ميماس عود لي الى دير ميماس دير ميماس هي قريتي في جنوب لبنان، قرية وادعة، لا أبسط مع بيوتها المئة، ذات الأسطح المتربة، والقائمة على سفح جبل، وفيها ثلاث كنائس، وتحيط بها أشجار الزيتون من كل ناحية. أما منزل عائلتنا فيقوم على طرف القرية قليلاً، وعلى مطلٍ منها، غير أنه كان يكفي لأحد منا أن يهبط المنحدر حتى يجد نفسه، وبطرفة عين، في ظلال الأجراس. وكان جدي، لأبي، "حنا"، عمّره، مكعباً من الإسمنت والحجارة الشقراء، وقد نفذت منها أبواب ونوافذ، مزدرعاً وسط خضرة الجنائن، تحيط بها أشجار الرمان. وكانت شجرة تين عملاقة تنبت قرب المنزل، مانحة إيانا ثمارها على مدار السنة. وكان المنزل مؤلفاً من ثلاث غرف وشرفة واحدة. وكان لأبناء جدي الخمسة، ومنهم والدي، أن يكبروا بين جدرانها هذه، غير بعيد عن منزل آخر أليف لنا، هو منزل عائلة أمي. ها هنا أمضيت كل العطل الصيفية، زمن طفولتي وفتوّتي. لعبت، ركضت مع أترابي وأبناء عمومتي في الأزقة، وأعنت أمي في أعمال الحقل. وسبحتُ في النهر، الى أسف الوادي. تسلقت قمة الجبل لأرى جيداً، وعلى ذروة الجبل المقابل، قلعة الشقيف التي أحكم الصليبيون بناءها على الطريق المؤدي الى القدس، والتي كانت لا تزال في عهدة الجيش اللبناني. وهكذا، تسنى لي أن أعرف بلدة الخيام، خلال إحدى نزهاتي الكثيرة، وهي الواقعة على بعد كيلومترات عديدة من بلدتنا. كان يقوم في البلدة معسكر، مثله مثل أي معسكر آخر، وكان بمثابة حامية قديمة من إرث الاستعمار الفرنسي، وثكنة منشأة على تلة مشرفة، وسط شجر الصنوبر، وتمد سلطانها على النواحي. وكان خراج بلدة الخيام الأوسع امتداداً لقرى الجوار، حيث تترامى أرجاؤها إلا أنها تلبث تحت إشراف المعسكر ونظره. ولا أزال أذكر هؤلاء الجنود الشبان الذين كانوا يقومون بحراسته، حين تبادلنا وإياهم بعض الكلمات. ولم يكن ثمة ظرف معين يحكم تلك الصدفة، في حينه. وما كنت لأتخيل الصورة التي سوف يؤول إليها ذلك الحصن المسور بعد مضي خمسة عشر عاماً على الصدفة المذكورة . نعم، على هذا النحو انقضت صيفيات طفولتي، في دير ميماس، الى أن حدث الاجتياح الإسرائيلي. قريتنا مسيحية، وعائلتنا من الطائفة الأرثوذكسية، واسم عائلتنا العربي، ينبئ بالبشارة التي أعلنها الملاك لمريم العذراء. وقد اتفق أهلونا على أن تعنى العمة "أدلاهيت" بتربيتنا المسيحية. وكادت هذه العمة، لكثرة تقواها أن تدخل سلك الرهبنة. ولئن انصرفت آخر الأمر، الى التعليم، فإنها قد ظلت تلك "الراهبة التقية" في نظر العائلة كلها. وبغض النظر عن كوني غير ممارسة لطقوس الديانة، وجدت أنها كانت خير مثال وصورة عن الدين، هنية، ومسالمة، ومنفتحة الروح. وكلما حان موعد ذهابنا الى الكنيسة يوم الأحد، همت الأخت "أدلاهيت" لتمضي بنا الى كنيسة الكاثوليك، ما دامت رعيتهم في جوارنا. بيد أني، في أيام فتوتي هذه، كنت أنظر الىالدين على أنه الأعياد الدينية، ليس إلا. ففي الخامس عشر من أيلول / سبتمبر، من كل سنة، كان الناس في قريتي، يحتفلون بعيد مار "ماما"، شفيع قريتنا، وكان ناسكاً متعبداً لله. ما كنا لنفوّت هذا العيد، أياً كانت اهتماماتنا. ففي ذلك اليوم، تجد كل أبناء القرية، ممن كانوا في بيروت للعمل أو الدراسة، قد عادوا إليها، علىوجه السرعة. وكان آل "بشارة"، شأن العائلات الأخرى في القرية، أُثِرَ عنهم حبهم للسمر والتسلية. حتى إذا حل الليل، رأيتنا منصرفين الى الطعام، والرقص، وإرسال الأنغام، وسط الحوش داخل دير أنشئ على ذلك الإسم، "دير ماما"، والذي بدا رغم انعزاله عن القرية قليلاً، غارقاً وسط غابات الزيتون الدهرية. ولا تلبث فرحة العيد أن تعم الحاضرين. في حين ترى الرجال يشربون العرق حتى يجانبوا التعقل أحياناً، ولا تعف النساء عن دموع العذراء. وإذا انقضى الليل، على هذا المنوال وأقبل الصباح، هُيئت النفوس للاحتفال بالطقوس الملائمة وللزياح. والحال أن الديانة والاحتفالات غالباً ما كانت تسير جنبا الى جنب، متآخية ولا سيما في الأعراس. وقد يحدث أن تتواصل الاحتفالات لسبعة أيام بلياليها، ويشارك فيها أبناء القرية جميعهم، لمناسبة زواج، كما جرى لزواج قريبيّ ميشال وكاترين. وقد عُد ذلك حدثاً فائق العادة! وكان ذلك العرس، في العام 1976. ففي طوايا الذاكرة الجماعية، كان ينبغي للاحتفال، أي احتفال، أن ينال من التعظيم ما يناله العرس القروي الطنان، ما دام الإثنان ينتميان الى العصر الذهبي ذاته الذي حطمته الحرب، بعد أن باعدت بين الناس وبددتهم في جهات الوطن ومخابئه ومنافيه. وكان جدي يجسد، وحده، هذا العالم التقليدي، وقد ذهب صيته، في دير ميماس لأمد بعيد – فصُور للناس، عن حق، رجلاً عادلاً وشديد القسوة في آن، حتى الفظاظة. ذات يوم، وبينما كان عمي "نايف" يمازحني بأن أجلسني، أنا إبنة الأربعة أعوام، على طاولة المطبخ، وأخذ يدعوني الى الرقص ويجعلني أتمزز قليلاً من العرق من كأسه، وكنت أحب العرق، رغم كونه مشروب الكبار ممنوعاً على الأطفال، إذ دخل جدي على حين غرة، مفاجئاً عمي وممازحته، فما كان منه إلا أن وجه له ضربة موجعة، وهشّم قدح العرق أرضاً، ولم يزل حتى صفعني، بدوري. وظل في نفسي خوفٌ منه، على الدوام، ولم أكن استثناءً في العائلة. ذلك أن جدي نشأ على هذا النحو، متجرئاً على ضرب من يشاء من أبنائه، سواء أكانوا فتياناً أو فتيات. وما كانت كنائنه بمنأى، على الدوام، من إحدى لطماته العنيفة. ولما كان فلاحاً، في أغلب سنوات عمره، ورث في أيام شيخوخته مهنة رآها على قرد طباعه: ناطور الكروم منعاً من السرقة. ولم يجرؤ أحد من القرية على الشك بتيقظه الدائم وسهره على ما ائتمن عليه. وإذ كان قد ولد في أوائل القرن العشرين، أدرك جدي عصر الانتداب الفرنسي على لبنان، وما بين الحربين العالميتين. وظل يحتفظ، في أغوار صندوقه حيث وثائقه، بشهادة ولاء عزيزة للسلطات المحتلة إبان خدمته العسكرية. وبقدر ما كانت جدتي، سليمة، تبدي امتعاضاً وتذمراً من هذا الحزب أو ذاك، لفرط ما كانت السياسة آخذة بلبها، بقدر ذلك رأيت جدي واقفاً على الحياد. وكأنما بغير مبالاة من السياسة. مع ذلك، نشأت بين الجدين منازعات. وكانت هذه الأخيرة تحملها على الاختلاف الحاد. ففي الماضي البعيد، كان "حنا" يبدي تقديراً بالغاً للنائب، أحمد بك الأسعد، وهو كبير إقطاعيي الجنوب، وكان عرضة للسخرية من زوجته سليمة التي كانت لا تزال تذكر ذلك الجواب المتعجرف الذي أجاب به النائب الشهيرر المذكور معترضاً به على مطلب الفلاحين بضرورة افتتاح مدرسة في القرية، وهم مقبلون على انتخابه "إن ابني كامل، يدرس، وهذا يكفينا". ومرت السنوات الطويلة، وظلت جدتي تؤدي لنا هذا المشهد، بنبرة الاستنكار نفسها، لأمد بعيد. لم تطل إقامة والدي في بيت أبيه، فترك القرية الى المدينة. وحين أجول في دير ميماس وأُسأل عمن أكون، وابنة أي "بشارة" أكون، أرد بأني ابنة "فواز"، فلا أجد في قسمات السائل ما ينم عن معرفته صاحب الاسم. ونادراً ما زار أقاربه، على عكس والدتي "نجاة"، التي ظلت على صلات وثيقة بأقاربها وبأصدقائها. صلات كانت تجهد في تمتينها كلما تسنى لها ذلك، أيام العطل. إنما يجدر بنا القول إنه أتيح لها التردد الى القرية أكثر مما تسنى لوالدي، بكثير، ذلك أنه كان مضطراً للبقاء في بيروت لأجل العمل، كلما هممنا، أنا وأخواتي وأختي الأكبر مني سناً، بمغادرة المدينة الى القرية. ولعل هذه الانطلاقات التي كنا نيمم بها شطر دير ميماس، كانت لنا بمثابة رحلات طويلة، حتى ولو كان ذلك في بلد صغير كلبنان، حيث المسافات بين المدينة والقرية لا تتعدى، إلا في النادر، الخمسين أو السبعين كيلومتراً. ولما كنا لا نملك سيارة، بالطبع، كنا نجول وفي أيدينا حقائبنا، تقلنا السرفيسات التي كانت تجوب البلاد، الى مقصدنا. وكانت لنا رحلاتنا هذه، صيفاً شتاءً، وفي الميلاد كما في عيد الفصح، مثابة أوذيسة عظيمة التشويق. وكان يلزمنا ثلاث ساعات أحياناً لنبلغ قريتنا، مع ما تقتضيه الطريق من محطات إلزامية نقف عندها، ومن دروب كثيرة التعرج، كلما بلغنا نتوءات شديدة الانحدار في أعالي الجبال. ففي صيدا، كنا نستوقف السرفيس لنشتري الحلوى، وفي النبطية، وقفة ثانية لشراء اللحم، ونكون قد حملنا معنا الخبز من بيروت، وكان خبزاً "عصرياً"، إذا صح التعبير، وكنت أستلذه أضعاف ما يستلذ أهلي الرغيف الذي كان يخبز لدى جدي، هذه المعجنات أو "الطلامي" الضخمة التي تشوى على الصاج الذي أوقدت ناره بزبل البقر الجاف. إلا أننا، والحق يقال، لم نكن نعود الى بيروت، من دير ميماس، فارغي الأيدي، ولا سيما في نهاية فصل الصيف. ففي أيام الصيف الطويلة، كنا نزرع، وفي أواخرها تحصد الأيدي ما زرعت من خضرة وفواكه على أنواعها، مما كانت زراعته شائعة، وكان استهلاكه محلياً. ولم يكن أي بيت في القرية مهما صغر، معدوماً من قطعة أرض مستغلة للزراعة. والأرض معطاء، وكل نبتٍ يلقى منها قبولاً وحياة: الذرة، والبندورة، والباذنجان، والكوسى، والبصل، والصعتر. بيد أن صيت دير ميماس الزراعي جار على جودة زيتونها. الى اللقاء في الحلقة القادمة يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
أسامة الكباريتي بتاريخ: 5 أغسطس 2006 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 5 أغسطس 2006 (معدل) الحلقة الثانية - العائلـــة ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢ أتراه ليوم مولدنا الأثر الكبير على حياتنا، أنا المولودة في الخامس عشر من حزيران / يونيو 1967؟ أو يسعني أن أطرح السؤال؟ في هذا اليوم، كانت الجيوش المصرية، والأردنية والسورية، تجرجر أذيال الهزيمة على يد الجيش الإسرائيلي. وكان جمال عبد الناصر في هذه اللحظة بالذات، ومن القاهرة يقدم استقالته الى شعب مصاب بذهول من رؤية رئيسه الأسطوري يتهاوى. ولئن كنت ولدت في يوم هزيمة للعالم العربي، فإني فضلا عن ذلك، آخر المولودين في عائلتي. تزوج والداي عام 1958، وكان كل منهما في العشرين من عمره. فكان أن ولد أخي عدنان في السنة التي تلت زواجهما، ثم أبصرت النور أختي حنان، وفيما بعد ولد أخي عمر، وفي آخر العنقود كنت أنا أخيراً. ولربما أتت تسميتي "سهى"، - وتعني النجمة – تيمناً وطلباً للأمل. أما الرجل السياسي الأثير لدي، في لبنان، فلم يكن إلا والدي . فهو الشيوعي والنقابي، منذ مراهقته الأولى، بلا شك. أكتب "بلا شك"، لأنه لا يسعني القول إنه صم آذاننا، صبح مساء، بالتزامه. إنما على العكس من ذلك. ولما كان والدي مستعداً، أتم الاستعداد، للانخراط في أية قضية حق، فقد بدا صموتاً، غير محب للضجيج. ولطالما رأيته مشاركاً العائلة في كل الأعياد الدينية التي يحسن الاحتفال بها في القرية احتراماً لأفراد عائلته الكبيرة، ولم أكتشف انتماءه الى الحزب الشيوعي اللبناني إلا مؤخراً، حين بلغت العمر المناسب الذي يؤهلني للانخراط في صفوفه. ولم أجرؤ قط على سؤال أبي عن دوافع التزامه هذا. بالتأكيد، كان أُثر عن قريتنا، دير ميماس، ولزمن بعيد خلى، كونها قلعة من قلاع اليسار – أقله الى ما قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1978. قلعة لليسار، بيد أنها كانت ، كذلك، تلك البلدة التي دفعت أبناءها أشواطاً بعيدة في التعلم. وكانت النتائج الباهرة لتلامذة دير ميماس أرقى ما كانت تبلغه في بلدات الجوار، قاطبة. وكان والدي، الذي اضطر اضطراراً الى التوقف عن الدراسة، إثر حادثة جرت له مع جندي، لا يزال يبدي شغفاً بالكتب وبالدارسة. ولما كانت الأوساط المثقفة من الحزب قد استهوته، ولا سيما في نهاية الخمسينيات، أخمن أنه انتسب، بملء خاطره، الى خطابها الذي يعلي من شأن المواطنية على حساب الانتماء الطائفي. ومنذ أن وعيت الأمور، كان والدي يعمل في مجال النشر بمثابة عامل في المطبعة، يصف الحروف أو يطبعها طبعاً. ولا يزال الى يومنا هذا، وعلى الرغم من استحقاقه تقاعداً، بعد كل سنوات النار والبارود، يمضي كل صباح الى عمله، فما كان يهمه من الحياة، هو أن ينال كفاف عيشه، ولا تزال صورته في ذاكرتي رجلاً استأثرت به مهنته كلياً. ما كنت لأراه يوم الأحد حين كنا اعتدنا الخروج بأفراد عائلتنا، ونمضي مرات الى شاطئ البحر، أو غالباً الى أقاربنا. وحين باتت هذه النزهات مستحيلة بفعل اندلاع الحرب الأهلية والانفجارات، وجدت التزامه وعمله مختلطين تماماً، وعلى نحو مباغت. ولما كانت مطبعة الحدث دُمرت في بداية العمليات القتالية، فلقد عمل في مطبعة أخرى للحزب، وهي مطبعة "الأمل"، والتي استمرت بالعمل، رغم كل الظروف التي عاناها القيمون عليها خلال الحرب كلها، وبذلك أمكن طباعة الجريدة الناطقة بلسان الشيوعيين، عنيت بها جريدة "النداء"، وحين عادت المعارك لتطردنا خارجاً من منزلنا ودمرته من ثم، اضطررنا الى النزول في أحد الأبنية العائدة الى هذه المطبعة، حيث أقمنا نهائياً. أما والدتي، ذات الشخصية القوية، فكانت مدبرة منزلنا الصغير، فلها كل القرارات التي تتعلق بالأبناء، ولما كانت تعترض، مثلاً، على أن أمضي برفقة أصدقائي الكشافة في إحدى الرحلات، كان يتوجب علي أن أتحين غيابها عن المنزل لأستأذن والدي الذي ما كان ليرفض طلباً. ولقد حبت الطبيعة والدي طباعاً يغلب عليها الفرح، فبدت لنا سريعة البديهة، تروي الحكايا، أو ترمي بالدعابات، حيناً بعد حين. ولم تتذمر يوماً من مخاطر الحرب ولا من انقطاعات المياه والكهرباء، التي كانت تضاعف من مصاعب الحياة، في ما حولنا، ولا كانت تتأفف من موجات القصف المتلاحقة علينا. وبخلاف والدي، لم تكن أمي تهتم للسياسة، وعرفت فيما بعد أنها أدلت بصوتها في انتخابات العام 1971، لصالح اليسار، قبيل الحرب الأهلية، بيد أن ذلك لم يكن عن قناعة راسخة لديها، بقدر ما كان إرضاءً لزوجها. والحال أن والدتي أدركت باكراً أن للحزب الشيوعي طغياناً على زوجها. فهي لم تكد تنزع عنها ثوب العرس، حتى أشار إليها والدي بأن ترتب الحقائب لتلحق به الى سوريا، حيث أرسل سراً بمهمة برفقة عمي، إلا أن أمراً معاكساً صدر للتو آمراً بموجبه المناضلين بالعودة، على جناح السرعة الى بيروت، وبالتخلي الفوري عن زوجتيهما اللتين لم يمض على إنجابهما بكريهما سوى أيام معدودات. وظلت والدتي، على كر الأيام، تزداد غيظاً من تلك السياسة، وشاءت أن تدفعها دفعاً عن منزلها. وللأسف، كان صيت عائلتنا الحزبية أسبق منها، وأرسخ من إرادتها. وإبان انتخاب بشير الجميل رئيساً للبلاد عام 1982، قدم الى الحي مقاتلون كتائبيون وأخذوا يرسلون في حقنا الكلام النابي، مزدرين محقرين، مرسلين زعيقهم من تحت نوافذ بيتنا الجبلي، حيث كنا، مرددين: "بشر، بشر، بشوره، بيت بشارة مقهورة". والحق أن الحظوة السياسية، التي كان ينالها أحد المرشحين عن اليمين الماروني، كان يمثل انتكاسة للشيوعيين. منذ بداية الحرب الأهلية، وجدت أهلي يقيسون المخاطر التي تنجم عن الالتزام السياسي. وقد بدأت خيوط الأحداث تتوالى منذ أن أطلق أول قناص، كامن في تسقيفة أحد البيوت القريبة من منزلنا الأول، طلقات على ما سمي بخط الجبهة، وذلك في الثالث عشر من نيسان / أبريل. وكان ذلك القناص كتائبياً، أحد جيراننا المعروفين، ويدعى "عيسى"، قد زرع الرعب في الحي بأسره. وأصابت رصاصاته بالمقتل أشخاصاً كثيرين، وبات من المؤكد، حيال مخاطر المرور من أمام ذلك القناص، أن تتوقف السكة الحديد عن العمل، وبالفعل كفت سكة الحديد عن العمل، منذ ذلك الحين. وخلال شهر بأيامه، جهدت الميليشيات الموالية لسوريا في طرد ذلك القناص، وجعلت تمشط الحي تمشيطاً دقيقاً، وبسرية تامة. وفي هذه المناسبة، تنبه أهلي أننا العائلة الوحيدة التي تملك سلاحاً، سواء أكان مسدساً أم بندقية صيد. حتى كان اعتقال عيسى. ولسوف يعدم لاحقاً. وقد رسمت في خيالي سيناريو لطريقة إعدامه لا تتفق مع ما حصل. كنت أعتقد أنه أعدم شنقاً في حيه، الموضع الذي شهد طفولته، ليكون مثالاً وعبرة لمن يعتبر، وفي جميع الأحوال. فقد كنا لا نزال ملتجئين في دير ميماس. ولم تمض أيام حتى أتانا واحد من معارفنا الكتائبيين لينذر والدي: فهو على وشك أن يقتل في إحدى عمليات الثأر. علماً أن الثأر إن هو إلا عملية اغتيال منظم، يقوم مقام الرمز. وهكذا، بقي والدي شهرين كاملين محجوزاً في المطبعة ويحوط به رجال من أتباع كميل شمعون، وهو ثاني قائد في حركة اليمين المسيحية المارونية، حتى تمكن، مالك المطبعة، سليم اللوزي من إخراجه بسيارة تعود الى رئاسة الجمهورية اللبنانية. وكان والدي محظوظاً لنجاته. في حين لقي أحد أقاربه مصرعه في الفترة العصيبة نفسها، وهو كان يعمل، كوالدي، في المطبعة. ولطالما كانت أمي مصرة على أن يكون أبناؤها خارج المنزل كلما التقى والدي بأخوته وأخذوا يتداولون في شؤون السياسة. غير أن هذا الحرص بدا لا طائل منه، أقله في ما خص أخي الأكبر، وما خصني. ذات يوم ، وقبيل اندلاع الحرب الأهلية، أقدم مدير المدرسة، الكتائبي بدوره، على توجيه صفعة لأخي عدنان، ولم يكن قد بلغ الثانية عشر من عمره، لأقوال نميت الى أهل اليسار، على حد ما وصفها المدير. وكانت هذه الحادثة شأناً عائلياً يتوزع الجميع تبعاته. ولم يكن والدي وحده مسؤولاً عما جرى لابنه، إنما كان عمه "نايف" الشيوعي، بدوره، مشاركاً في قسط من المسؤولية. ومع كونه أصغر عمراً من والدي، فقد كان يعمل في المطبعة، شأنه. أما إذا شئت أن تصف الأجواء في عائلة عملي فقل إنها مختلفة عما في عائلتنا اختلافاً شديداً. فأنت ترى كل فرد من عائلته ملتزم بالحزب الشيوعي. فضلاً عن كون عمي محازباً، بالطبع، فأنت تجد امرأته "نوال" مناضلة في الاتحاد النسائي، وهي ورثت الانتماء الى الحزب وراثة، وكان لي أن أكتشف هذا العالم في نهاية السبعينيات. إذ قضيت معظم صيفياتي، خلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي للجنبو، في كنف ذلك المنزل. وكان عمي يأتي لاصطحابي الى القرية حالما ترمي المدرسة بهمومها، فأروح أتقلب معه في عالم آخر، وفي حياة ملؤها الاضطرات حيث يسعني أن أهتم لكل الشؤون، كان منزل عمي مكاناً تعقد فيه اللقاءات والاجتماعات، ويتواعد فيه الناس على التعارف والحديث. وغالباً ما كنت ألتقي بعمي داود الذي كان مناضلاً في الحزب، بدوره، تشاركه امرأته جمليه الالتزام عينه. وفيه كنت أسر بسماع جدتي وهي تروي لنا زفاف ابنها داود بجميلة، والعرس الأسطوري الذي أعد لهما: يوم نزلت العائلة من القرية لتطلب يد "جميلة"، وكانت الأخيرة تقضي ليلتها الأولى في السجن لاشتراكها في إحدى المظاهرات. وهكذا، أتاحت لي الصلة بنايف، المناضل، وبنوال نصيرة المرأة، وفي خضم الحرب، أن أكتشف ماهية الجدال، والمثل العليا، ومفهوم الالتزام. لئلا أندم على ما أقوم به لاحقاً. وإذا ما كنت استمددت من أبي ذلك الشغف الذي عملت على ترسيخه لدى أخيه، فإني اعتدت منه، وفي زمن مبكر، حس الكتمان. وكانت ذكرى، من ذكريات طفولتي، طبعتني جيداً. كنت ذات يوم، في قاعة الجلوس برفقة أخي عمر وإحدى بنات عمي، وكان الاثنان يعلبان ويضجان، فإذا بأحد الأحذية يطير ويرتطم بزجاج النافذة فيحدث ارتطامه وتحطم الزجاج ضوضاء عالية. فما كان مني إلا أن اندفعت والإثارة تقطع أنفاسي، ومضيت الى والدتي التي كانت في زيارة لها الى إحدى جاراتها، وقاطعت أحاديثهما، ورحت أروي لها تفاصيل الحادثة، من دون أن تند عني أية حركة، أو تصدر أي نأمة، ولم أتوقف إلا حين ذكرت لها الفاعل. لم تبد أمي أي اعتراض على ما قلت، ودعتني الى انتظارها في البيت. فجلست والخيبة تلازمني، وأنا صامتة. وعندما بلغت والدتي عتبة المنزل، أمرتني بالركوع في الحمام. لساعتين كانتا لي بمثابة دهر، ورحت أسائل النفس عما إذا كان ما فعلته يستحق هذا العقاب الشديد، ولدى وصول والدي، أجهشت بالبكاء. فبادر، للحال، الى رفع القصاص عني، وبالمقابل دعاني الى سؤال أمي عن الدوافع التي حملتها على ذلك العقاب. فتوجهت لها ثانية، وأكدت لها أني لست المذنبة، مما أغاظها شديد الغيظ، فخلصت الى إفهامي بأنه ينبغي لي ألا أروي حكاياتي التافهة لكل الناس، كما ينبغي لي بالمقام الأول، ألا أشي بأحد. لا يسعني أن أقيس بالتحديد مدى تأثير ذلك الحادث في، بيد أني قررت ألا أبوح بأسراري ومشاعري الأكثر حميمية وعمقاً، لأهلي، ولا لإخوتي، ولا لأختي، رغم عاطفة الأخوة والمحبة التي تجمع بين روحينا. فإذا صح أننا أبناء عائلة بشارة، وُسمنا جميعاً بالحيوية، فإنه كان لكل منا طباعه وشخصيته. كان أخي "عدنان" لا يزال مراهقاً حين انجرف لبنان الى هاوية الحرب الأهلية، التي عاش أدق أهوالها حتى لحظة سفره في العام 1978. فلما كان والداي يصران على عدم إبقاء بكرهما في خضم الصراعات، استجاب "عدنان" للأمر وغادر البلاد لمتابعة دروسه الجامعية، في جو من الأمان، داخل الاتحاد السوفياتي في حينه، في مدينة خاركوف. فنظراً لمداخيلنا المتواضعة، لم يكن حسباننا إرساله الى فرنسا، أو أقله الى الولايات المتحدة الأميركية. ومع أن العيش في الاتحاد السوفياتي كان أرخص مما في غيره من البلدان، إلا أن أخي كان يفضله على ما عداه، يقيناً منه بصواب اختياره وتوجهه. الى ذلك، فنحن ندين لنقابة الاتحاد العمالي التي كان والدي عضواً فيها، بفضل تأمينها منحة لأخي. والحال أن هذا السفر كان كفيلاً بتفريقنا لسنوات طويلة. وفي مدينة خاركوف، التقى عدنان بامرأة شابة، تدعى "تاسولا"، وهي قبرصية يونانية، أحبها فتزوجا. وإثر تخرجهما مهندسين بالالكترونيك عاد الزوجان الى قبرص. ومن ثم، سعى أخي الى عمل له في لبنان، غير أن عودته تزامنت مع مقتل اثنين من أصدقائه، ما حمله على العودة الى قبرص والإقامة في موطن امرأته، نهائياً. وكل هذه الأمور وكثير غيرها، ما كنت لأعرفها إلا فيما بعد، إثر خروجي من المعتقل. وأختي حنان تتميز بشخصية مختلفة عني تماماً . ومع أنها كانت طالبة مثابرة في علمها، فقد بدت كتومة للغاية. لم تلتزم بالسياسة، شأني وشأن أخيها. ولطالما كنت حافظة أسرارها، وأحياناً كنت أسد غيبتها لدى أهلي، كلما رغبت في الخروج مع صديقاتها وكانت والدتي حازمة في منعها. فكان يزيد في اطمئنان والدتي عليها أنني كنت أرافقها، أو أدعي بأني ماضية معها. ثم أني كلما ظننت أنه بوسعي خدمتها، واجهت والدتي بالقول إني موافقة على رأي أختي. أتراها تلك كانت حقيقة أمرينا؟ ذلك هو سرنا. خلال سنوات الحرب الأهلية، استمرت الحياة كيفما اتفق، وعاشت حنان قصة حب مع أحد جيراننا ويدعى بيار. وكان الأخير يجهد في إعطاء إنطباع عن نفسه بأنه غريب الأطوار بعض الشيء. وما كان صيته، الآنف، ليخدمه لدى والديّ، غير أن جلسات العاشقين، والناس نيام، كانت تطول، وكلمات البوح بالحب تبلغ شرفتنا من شرفة بيته. وظل الحال على هذه الصورة أشهراً طويلة، الى أن تسنى لهما الخروج من خفائهما، وتزوجا. غير أني، لم أكن هنا لأشهد زواجهما. كنت في معتقل الخيام. أما أخي الثاني عمر فكان محباً للحياة. إذ قرر التوقف عن الدراسة باكراً، بعد نيله شهادة الباكالوريا، قائلاً أنه يفضل العمل. فاختار، شأن والدي مهنة الطباعة، حتى صار مختصاً بالتنقيحات اللازمة للصور. غير أن تم تعديل 5 أغسطس 2006 بواسطة أسامة الكباريتي يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
أسامة الكباريتي بتاريخ: 7 أغسطس 2006 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 7 أغسطس 2006 الحلقة الثالثة - الحـــــرب الجمعة ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٢ عرفتُ الحرب وأنا في السادسة. أما الآن، وقد ذهبت من عيني التماعات الطفولة، فلا أزال أحمل في خاطري ذكرى اندلاعها الدقيق والعصي على التصديق. كنتُ في دير ميماس. وكان أوان العطلة الصيفية. كان ذلك في الخامس عشر من أيلول / سبتمبر عام 1973، وهو يوم الاحتفالات بعيد مار ماما. وكالعادة، كنا نتوزع غرف البيت الكبير، نحن وجميع أبناء عمومتي وجداي. وكان في المنزل خمس نساء وخمسة وعشرون ولداً، يعمرون البيت بضحكهم وغنائهم المتواصلين. بينما كان آباؤنا جميعهم يعملون في بيروت. وكان يفترض بنا أن نلقاهم في اليوم التالي، بعد رحلتنا البرية المعتادة. غير أن هذه الليلة، كانت لنا محض صخب وقصف. ولا أزال أذكر أنه تناهى الى سمعي كلمتان: "غارات"، و "إسرائيليون". وتبين لنا أن الطيران الإسرائيلي مضى يكيل ضربة قاسية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تقيم مخيمات في الجوار، وراحت الطائرات تغير على دفعات، موجهة حممها الى جوار البلدة، وعلى مدار اثنتي عشرة ساعة. وكان يستحيل أن يغمض لنا جفن لشدة التوتر الذي كنا فيه. وحيال هذا الأمر سعت والدتي وعماتي الى إلهائنا، بأن جعلن يخبزن على التنور. وأُعدت المونة لعودتنا الى بيروت. إلا أننا التهمناها في أثناء ليلتنا الليلاء. وفي الغد، حين تسلقنا متن السرفيس، أعلمنا السائق أن الطريق الرئيسية المفضية الى بيروت باتت مقطوعة، على بعد عشرين دقيقة من القرية. إذ أصابت القنابل الإسرائيلية جسر الخردلي الذي يربط المنطقة بسائر أجزاء البلاد. ولم يكن هذا الجسر الذي يمر نهر الليطاني تحته شأن كل الجسور. كان جسراً خشبياً، وكانت السيارات التي تعبرُه تحدث لدى مُرورها صدىً وأصواتاً لا يمكن أن يلقاها المرء في أي جسر آخر. لا يزال صوت ذلك العبور في أذني. وهو يشكل جزءاً من آلاف الإشارات الطريقية التي تمثل لنا على امتداد تلك المسيرة المألوفة. ولما كان الجسر مدمراً، بات لزاماً علينا أن نسلك طريق البقاع، القائمة الى الشرق. عطفة طويلة كان لها أن تستغرق منا ساعتين لنبلغ بعدهما الى بيروت، أخيراً. وظل جسر الخردلي مدمراً. ولسوف يكون علينا أن نتعرف الى طرق جديدة، كلما عزمنا على العودة الى دير ميماس، غير أن هذا الفراغ لن يجد له إشباعاً أبداً. وكان مقدراً لي أن ألاقي الحرب، بعد سنتين من ذلك الزمن، وسط قريتي. والى المعارك شبه اليومية ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين أضيفت المعارك بين اللبنانيين أنفسهم. وكانت أول ليلة مشهودة بالقصف باغتتنا ونحن لا نزال في المنزل. كان الوقت بلا شك، في الثالث عشر من نيسان / أبريل عام 1975، وهو تاريخ بات متعارفاً عليه لكونه يؤرخ لبداية الحرب الأهلية. كنا نقيم في منزلنا الأول، الكائن في حي غاليري سمعان قرب الشياح. فأجبرتنا الإنفجارات على اللجوء الى أحد الجيران. وكانت طلقات القذائف تنير سماء ذلك الليل. ورحتُ أمُد رأسي عبر النافذة لأعاين البروق وخطوط النار التي كانت تنطلق من القصر الرئاسي، غير بعيد عن منزلنا، رغم أن تطلع الصغار كان محظوراً، لسلامتهم، كان ذلك مشهداً رائعاً، لعيني. وعلى هذا، أقمنا جميعنا في غرفة ضيقة، وكان هذا الوضع غير المتوقع والفائق العادة، يفتنني أيما افتتان. بالطبع، كنت ترى الخشية والذهول في عيون الراشدين منا. ولم يكف والدانا عن ترداد أنهم سوف يكفون عن الإشتباك، وأنه ينبغي ألا نخاف، في حين أنهما ظهرا شديدي القلق. وظلا يتكلمان ليحفظا معنوياتهما والآخرين. وجعلا يقولان إن الأمور سوف تتحسن في الغد، ويعود كل شيء الى طبيعته وهدوئه. ولم يكونا يعلمان أن هذه الليلة سوف تستمر خمسة عشر عاماً بأيامها وأحزانها. وكان لي أن أكشتف على مر الأسابيع والتفجيرات المتلاحقة هذه الريبة الناجمة عن استهداف المدن، ومن القصف العشوائي الذي كان يطاول السكان المدنيين. ومما أذكره حدث جرى لنا في ختام سنتنا الدراسية، في حزيران / يونيو من العام نفسه. وكان المعلمون يسلموننا دفاتر علاماتنا. فإذا المعارك الأخوية تندلع في المدينة، واضعة حداً نهائياً لأول احتفال مدرسي لنا. فاندفعنا للتو خارج المدرسة باتجاه منزلنا. رعود عظيمة كانت تمزق السماء. وطائرات، يشار إليها بالإصبع. وكان بوسع أحدنا أن يتميزها بوضوح. وللحال حضرتني تحذيرات والدتي بألا نمس الألعاب التي يمكن أن نجدها على الطرقات أو في الأراضي البور. وكانت الإذاعة اللبنانية أوردت خبراً عن انفجار حصل في الجنوب، وأخطرت في إثره العائلات بضرورة التنبه للأشياء التي يرميها الإسرائيليون بمثابة أفخاخ متفجرة. وركضتُ والتفتُ الى الوراء لأصيح بابنه عمي بألا تلمس شيئاً وأن نسرع الى منازلنا. وخلتُ أن خلفي جسماً قذف به الإنفجار. ولم أدر أذ كان الشخص أصيب بالقصف أم قتل. اليوم، ما عدت أعرف إذا كنت قد خبرت حقاً هذه الحادثة، أو شاهدتها على شاشة التلفزيون، قبل أن تخالط صور طفولتي الأعظم رسوخاً في مخيلتي. وبدءاً من هذه السنة ما فتئت المدرسة تتعرض لهذا الانقطاع الذي صارت تفرضه المنازعات. في المرة الأولى شأن لاحقاتها، لم يكن أحد يعلم شيئاً عما يحصل. ولأي سبب كان المعلمون يوقفون الدروس؟ ولأي سبب كنت ترى الأهل منتظرين في باحة المدرسة، والوقت لا يزال صباحاً؟ ولأي سبب كانوا يأتون لأخذنا؟ وما كان أي سؤال ليلقى إجابة منطقية تفسره. كانت تلك الحقبة التي كان الناس فيها يتوقفون عن العمل دون معرفة المدى الزمني الذي يعاودون بعده أشغالهم، والتي لا يعود فيها المرء وحده الى المنزل، والتي ينبغي فيها توقع مجيء الأهل الىالمدارس ليتمكنوا من اصطحاب أبنائهم الى المنازل. كانت تلك الحقبة التي استشعرت فيها كل مرة بالخوف نفسه: ألا يأتي أحد لاصطحابي هذا اليوم، وأرى نفسي متروكة وحدي وسط القذائف والإنفجارات. وكان الأطفال جميعهم، على حد علمي يتملكهم هذا الخوف، وحتى لو رأيتهم يضاحكوننا لثانية واحدة بعد أن يلمحوا صورة والدهم أو والدتهم. وظلت الدراسة طويلاً على هذا النحو، ولم يتسن للتلاميذ أن يتابعوا سنتهم الدراسية، بعدئذ، الى ختامها المرجو. وما كنا لنعلم في صبيحة توجنا الى المدارس أن يومنا سيكون خالياً من المشاكل. وكان القيمون على التعليم لدينا يختصرون لنا الفصول الدراسية إذ يوزعون لنا دفاتر علاماتنا على نحو مفاجئ. وكان البعض ليعيد صفه بسبب المعارك التي لا عدّ لها، والتي أخذت تندلع بين فصيلين حليفين سابقاً وقد صارا اليوم ألد عدوين. وظلت الأوضاع على هذه الحال حتى كان العام 1977. وفي خلال هذه السنة أقامت عائلتي في المبنى الحالي. ولكني إستمريت في ارتياد مدرستي، حيث كنت سُجلت في شهر أيلول / سبتمبر، والقائمة في مار مخايل، غير بعيد عن خط التماس. ولما كانت المدرسة بعيدة نوعاً ما عن منزلنا الجديد، شاءت أمي أن توفر لي سيارة "تاكسي"، وهي من نوع المارسيدس الرمادية يقودها رجل سكوت، في الأربعين من عمره. فكان يأتي إلينا ويقلني كل يوم الى المدرسة، ويعيدني منها الى أسفل الدرج لدينا. وذات يوم، وفيما كان السائق يعود بي، بعيد الظهر، وفي معيتي ركاب أربعة إذ بنا نقع وسط المعركة وتبادل القذائف المدفعية على مقربة من المخيم الفلسطيني صبرا وشاتيلا، حيث كان السائق معتاداً على إنزال تلميذين. وتعالت الضوضاء وصعدت غبائر الإنفجار حتى أعمت السائق وسط الشارع. فأصيب كل من حولنا بالذهول والرعب. وسرعان ما انفجرت قنبلة وراءنا. وأخرى انفجرت أمامنا. وبات كل من في السيارة يصرخون ويولولون. والأرض اهتزت من تحتنا. وكان في الأرض قريباً منا، جرحى. ولربما سقط قتلى. ورأيت الناس يهرولون صائحين، ويتراكضون من كل اتجاه أما السائقون بدورهم وقد أصابهم الجنون والهلع، فراحوا يطلقون زماميرهم ويسرعون ما أمكنهم ليشقوا لأنفسهم مجالاً للنجاة وسط الحشود. ومضى السائق بسيارتنا وراح يتعرج سريعاً بين الحواجز والحرائق. حتى أمكن السائق أن يعود بنا، الى شاطئ الأمان سالمين مع أن ذلك اليوم كان من أخطر ما شهدته بيروت وأشد ما عرفت من أيام مرعبة فيها. لم يعرف أهلي شيئاً مما حدث لنا ذلك النهار. ذلك أن لساني كان أقل طلاقة في ما خص حياتي، ولم أرو لهم هذه العودة الخطرة والشاقة. وفي زمن ليس بالطويل، بدءاً من العام 1975، جعلت الحرب تفرض علينا مبادئها، وسرعان ما صارت لنا بمثابة الطقوس. وأول هذه المبادئ أن نحتمي جيداً، ما أمكننا، وعليه لم نلبث أن صرنا قادرين على تخمين الوضع الأكثر أمانة، حيث يسعنا أن نختبئ حال تجدد القصف علينا – وكان يفترض بهذا المكان أن يبدو محصناً للغاية، وقائماً بين جدارين على الأقل، تخفيفاً من عزم الصواريخ المحتملة. ولأن شقتنا الأولى لم تكن تتمتع بهذا الامتياز (إنما كانت على العكس، أكثر المنازل تعرضاً للقصف وطلقات القناصة)، كنا نضطر دوماً الى اللجوء لدى جارنا في الطابق نفسه، وقاية من أعمال القصف المفاجئة التي وسعها أن تتأبد ليالي طويلة لا عد لها ولا حصر. غير أننا سرعان ما أخذتنا رتابة الأمور ونسينا الحذر، وأهملنا المخابئ. وفي فترة وجيزة، صرنا خبراء في تخزين الأطعمة على اختلافها والمؤن على أنواعها. وكان لنا أخيراً، أن نكتشف الأسلحة، وأنماطها المختلفة وعياراتها ومصادر انطلاقها التي أمكن لنا تبينها كلما سمعنا صاروخاً أو سلاحاً آلياً. والحرب تفرض كذلك جوانبها الأخرى. مثل ذلك طقطقة الألحان الخاصة بالأنباء المعجلة في الإذاعة، كلما أدركنا تصعيداً للكراهية والعنف في المعارك. وكان لكل معسكر محطته الإذاعية الناطقة الرسمية باسمه، وكان من اليسير أن يحلل المرء المعلومات التي يدلى بها حالما يعرف الناطق بها. وصار انقطاع المياه والكهرباء، وتوالي انقطاعهما حيناً بعد آخر، القاعدة التي اعتدنا على اتباعها. وتعلمنا أن نعمل بما هو قائم، أي أن نحيا من دون أمور كثيرة. وكلما رسخت الحرب من وجودها بيننا، ازدادت تقنياتنا وبراعاتنا. فكنا نستضيء بحسب ما تمليه علينا السنوات بالشموع أو بالكاز، أو بالغاز، وبناءً على "ميول" المستفيدين من الأوضاع، وقد فرضوها علينا. أما تخزين المياه فكان يطرح في ذاته مسائل شائكة للغاية. ذلك أن ضغط المياه غالباً ما يكون ضعيفاً منذ دفعها من الشركة، فتعجز هذه عن بلوغ الطوابق العليا. وبعد الصفائح الآخذة بالإتساع، والتي نملؤها في الطابق الأرضي، يأتي دور محركات الضخ، فيصير دويها متصلاً بعالمنا الصوتي الجديد، أولاً لتغذية القساطل ومن ثم لملء الخزانات حين يطول انقطاع المياه أياماً كثيرة. وأدركت في برهة قصيرة، أن الحرب تشيع الانعدام في المساواة بين الناس، على نحو ما يؤديه الموت، والمقدار عينيه من اليقين. فكان الأكثر غنىً مقتدرين في كل شيء، ولم يحرموا شيئاً، وكانت محطات الضخ لديهم ومولدات الكهرباء تنطق عن هذا الاختلال. وبالمقابل وجدت الفقراء مضطرين الى سرقة خطوط الكهرباء. بالتعليق على خطوط الشركة التي لا تزال عاملة، حتى أن الناظر الى ظاهرة التعليق في حينه، يجد خيوطاً هائلة أشبه بخيوط العناكب العملاقة وقد امتدت في كل شوارع بيروت وأزقتها. وكان للمعارك بدورها أن تفرض أسماءها. فاكتشفنا على مدى الأسابيع القليلة التي تلت اندلاع الحرب الكلمات التالية: القناصة، والمهجرين، واللاجئين – أمثالنا ممن حرمتهم أعمال القصف من السكن في منزلهم الأول. وفيما بعد، وإثر احتلال إسرائيل للمنطقة الجنوبية المحاذية لها حماية لحدودها الشمالية، ارتفعت أعداد اللاجئين الى بيروت وضواحيها، وسرعان ما بلغت عشرات الآلاف. ونشأ ما يسمى بتبديل المواقع والمنازل بين الذين فروا من المعارك في بيروت، تاركين بيوتهم فارغة، وبين الذين احتلوها لحرمانهم من كل شيء، ويأساً من إحقاق مطالبهم. والحال أن سكان الجنوب الذين حلوا حديثاً في بيروت اكتشفوا عالماً مدينياً كاملاً، تعمره الأبنية في ورطة مقيمة، ولا نملك منزلاً، فقد رأيت والدي متصدياً لهذه التجربة، مانعاً إيانا من الإقامة في بيت هجره سكانه، حتى ولو أياماً قليلةً. وإذا ما شئت أن تصف اللاجئين (اللبنانيين بالطبع)، فقد صح وصفهم أنهم صفوف من السيارات التي حُشيت بالعلب وأغراض النوم والملابس، وباتت على أهبة الفرار من ساحات القتال، كلما اندلعت المعارك أو عنفت. وحين غادرنا منزلنا الأول، عام 1975، حملنا معنا البراد والغسالة وبعض قطع الأثاث، سريرين ومقاعد. فكان لهذه المقتنيات البائسة أن تظل في دير ميماس، حيث أودعت في مكان آمن ريثما تعود العائلة أدراجها مطمئنة الى مصيرها. غير أن هذه الأخيرة أصابها ما أصابنا، فرأيتها تلحق بنا في كل منافينا، منهوكةً وتائهةً شأننا، أغراض مهجرة، ولاجئة، وسيئة المزاج، قابعة على سقف سيارة، أو في صندوقها، والتي راحت، شأننا، تعد خسائرها الحقيقية، و"أمواتها"، في الإنفجارات أو الحرائق المتلاحقة. إذاً، كانت قريتنا دير ميماس أول ملجأ لنا من معارك الحرب الأهلية الأولى. ولم نكن الوحيدين في تصرفنا هذا حيال المعارك. إذ عجت القرية بسكانها وأبنائها ممن نزحوا عن المدينة. حتى رأيت كل امرئ جاهداً في الإقامة، كيفما اتفق، في كنف عائلته الى حين. وكان علي أن أسجل في مدرسة دير ميماس الابتدائية، في حين مضى أخواي وأختي الى ثانوية مرجعيون، البعيدة عن قريتنا كيلو مترات معدودة. فقضينا سنةً في القرية، هي من العمر، بعيداً عن ضوضاء الحرب. وفي خلال هذه الإقامة، هزني حادث في الصميم. إذ أقدم أحد جيراننا ويدعى "سمعان" على قتل والدته "لور". ولم يكن في القتل ما يدل على السياسة. ذلك أن "لور" ذات الجمال الرائع، ذهبت ضحية الشائعات في ما خص علاقاتها وتصرفاتها. ولما كان ابنها "سمعان" ضنيناً بشرف العائلة رأى أن ينتقم ممن لطخت سمعتها، فأرداها بطلق من بندقيته. وكنتُ في هذه الأثناء أزور منزل المغدورة، لاهيةً مع ابراهيم ابن "لور" الفتي، والمريض عقلياً، وكنتُ أول من وجد جثة "لور" المضرجة بدمائها. فكانت هذه القتيلة أول ميت أنظره بعيني، ومن هذا القرب. غير أن الحرب لم تشأ أن تجنب هذا الملجأ الأمين من شرورها. فبعد سنتين من عودتنا الى بيروت، عام 1978، قرر الإسرائيليون اجتياح الجنوب ليبعدوا منظمة التحرير الفلسطينية عن حدودهم. في البدء، رمت الطوافات بالمناشير، داعيةً سكان دير ميماس الى الهرب منها. فرأيت غالبية سكان القرية وقد لجأت الى البراري. ومَن اتجه منهم صوب القرى المسلمة، لقوا ترحاباً منهم وإقامة على أيسر ما يكون. ولم يبق في البلدة إلا بعض الأشخاص، المعتصمين ببيوتهم، من دون أن يتعدوا العشرين شخصاً. وما أن هدأ القصف قليلاً حتى رأيت أعداداً كبيرة من الملتجئين يعودون الى ديارهم . غير أن دير ميماس ظلت لأمد بعيد ، محتلة من قبل الجيش الإسرائيلي. وبالعودة الى بيروت، وتحديداً في خريف العام 1976، باتت الإشتباكات خبزنا اليومي. وما كانت لتتوقف إلا خلال آونات وقف إطلاق النار الهشة. صارت الحرب لنا شأناً يومياً. تقيس الأيام بمقياسها وتمحو السنوات التي تشابهت في ذاكرتي حتى ما لا يميزها بعضها عن بعض إطلاقاً. فهي أي الحرب، تخلطها خلطاً برعودها وصرخاتها التي لا تنتهي. وهي تحفظ لنا أحياناً بعض اللحظات غير المتوقعة والعبثية. فعلى سبيل المثال كنت مرة برفقة أختيى نلقي بنظرنا في امتداد المشهد، وعصر ذلك اليوم بهي الصفاء، إذا بي ألمح بطارية مدفعية قائمة على بعد مئات الأمتار من منزلنا، فأخطرت أختي بذلك وبي قلق من ذلك المنظر، فأجابتني مغتاظة، بأن ما أقوله محض ادعاء. ولكني سرعان ما انتبهت الى أن فوهة الملالة أخذت تتحرك، وهالني أن أرى قائدها يوجهها شطر بيوت الحي حيث نحن. وما كدتُ أحذر أختي من هول ما ينتظرنا حتى اهتز الفضاء حولنا. فقد أصابت القذيفة منزلاً مجاوراً لمنزلنا وكان سكانه لحسن حظهم قد غادروه. وكلما تقدمتُ سنةً تكشفت لي المعارك عن وجه مختلف. وقد تسنى لي بفضل انتسابي الى إتحاد الشباب الديموقراطي أن أشهد فصول هذه المأساة، التي بدت مستمرة الى ما لا نهاية. وإذ انخرطنا في الدفاع المدني، الذي كان للصليب والهلال الأحمر اللبنانيين الفضل في تنظيمه، رحنا نمد يد العون الى الجرحى والأشد فقراً، ممن كانوا محرومين من كل شيء وهي في مخابئ بائسة. إلا أنني مضيتُ في اتحاد الشباب الديموقراطي أبعد بكثير من هذه الأعمال الإنسانية. وكنت غالباً ما أشارك العاملين في المستوصفات القائمة في الأحياء. وكنت أغسل الثياب، وأهتم بالجرحى ممن جروحهم طفيفة، وحتى لو كان الشباب المنتمون الى الاتحاد، غير شيوعيين بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فقد اعتبرنا المقاتلون مناضلين. في الحرب الأهلية، لا يسعك أن تبحث عن النشاط. إنما النشاط هو ما يستدعيك. وهكذا صرت أتردد في العام 1984 الى موقع قتالي قريب كائن بين جدران أحد الأندية القديمة في بيروت، نادي الرواد. وكان تبادل القصف بين بيروت الشرقية والغربية يبلغ حدوداً قصوى من العنف. وبات اجتياز الخط الفاصل بينهما أمراً بالغ الخطورة. ذلك أن القناصة المتمركزين على الجانبين كانوا يصطادون المارة على أهون سبيل. وفي هذا الوضع ولا سيما إذا كان الناس مضطرين الى نقل "صديق" أو مريض، مع "ممرر" صديق على الغالب، فيعمد الأخير الى إلهاء القناص بتحريكه ثوباً أو ما أشبه طيف الرجل قبيل لحظة المرور وأثناءها. حتى إذا نجح الممرر اندفعت سيارة الإسعاف وجازت المعبر الخطر في حدود ثانية من الزمن. وكان ينبغي لركاب السيارة أن يظلوا خافضي الرؤوس. وانصرفت في نادي الرواد الى المهمات المنزلية المعتادة ذات يوم، شرح لي أحد أفراد الميليشيات كيفية استخدام اللاسلكي الذي يتيح لنا الاتصال بكل نقطة عسكرية رابطاً إياها بالأخرى. وكان كل ما فيه مرمزاً. ولا يسمح على الإطلاق بإيضاح الرسائل المنقولة. وبينما كنا نتحدث، إذا بقذيفة تنفجر غير بعيد من النادي. فقتل على الفور أحد أفراد الميليشيا التابعة للحزب التقدمي الإشتراكي. وعلى الفور خلا المركز من مقاتليه. والى جانبي، أخذ اللاسلكي العتيد يرن رنته المعهودة. فرفعت السماعة بصورة آلية وأجبت السائل. فكان المسؤول عن القيادة العامة للحزب وهو يقوم بجولة تفقدية للمراكز التابعة له. ولما كنت قد نسيت تعليمات الأمان رحتُ أجيبُ بحدة ظاهرة، وأفصل في مجريات الحادثة ودقائقها ما جعل محدثي يضيق غيظاً مني حانقاً من عدم تبصري. وفي هذه الأثناء دخل المسؤول عني وأوقف للتو هذه الكارثة. مع ذلك، عوقب لخفته وإهماله مسؤوليته. وفي ما بعد، اندلع صراع آخر بين فصيلين لبنانيين جعلني انغمس من جديد، في لجة هذا المعترك، الخلي من الأمجاد. وكان الصراع، إذ ذاك دائراً بين الحزب الشيوعي وحركة أمل الشيعية. ومن جديد رأيتني ملتزمة تأمين دوام في مركز للإسعاف ففي أغلب المعارك الشرسة، كان العديد من شبان الاتحاد يُفرزون الى هذا المركز ولكن برفقة زميلين لهم من جمعيات أخرى، أما نحن فبقينا طوال هذه الاشتباكات، نُعنى بالجرحى من ذوي الإصابات الطفيفة، ونضمد جراحهم في مواقعهم. وظللنا على هذا النحو ثلاثة أيام بلياليها وكان في عهدتنا خمسة عشر مقاتلاً، ذلك أن ميلشيات حركة أمل ظلت تفتش المستوصفات ومراكز الإسعاف تفتيشاً دقيقاً بحثاً عن "الأعداء". فإذا ما وجدت أحدهم الى تصفيته للحال. في المركز الذي تولينا أمره، كنت مسؤولة عن الأدوية الواردة اليه، على سبيل المثال، كان ينبغي لي أن أتأكد من صلاحية كل دواء، وأعنى بالمطبخ والغسيل، على قدم المساواة مع رفيقي. وكان التوتر يبقينا متيقظين دوماً. حتى إذا انقضت اثنتان وسبعون ساعة على الجهود، المواكبة للقتال، صدرت الأوامر إلينا بضرورة إخلاء المواقع، ما دام الوضع في غير صالح الحزب ميدانياً. للحال رحنا نمحو كل أثر من النشاط داخل المركز، وقفلنا عائدين الى منازلنا. وكان خير ما استقبلتني به أمي، وللمرة الأولى، أنها بدت متفهمةً لما أنا فيه، غير متشددة أو عنيفة حيال ما يشوه حياتي العادية. فهي لم تكن على علم بالمخاطر والأهوال التي اعترضت سبيلي. وفي أثناء خدمتي هذه، كنت استدعيت على عجل لأرافق مسؤولاً في الحزب التقدمي الإشتراكي ، مصاباً إصابة بالغة، الى مستشفى الجامعة الأميركية. في البدء تلقى المصاب علاجاً أولياً في مستوصف قريب، كان يدعى الترك، ولما ساءت حالته تطلب نقله الى مركز أكثر تجهيزاً. ولما كان الإشتراكيون بأمس الحاجة الى دليل، يرشدهم الى الطرق الأكثر أماناً وبعداً عن نار القناصة ليبلغوا الجامعة الأميركية قر الرأي أن نرافقهم. فمضينا بسيارة الإسعاف التابعة للإتحاد تواكبها بعض الآليات التي أعتلاها حراس القائد الإشتراكي المصاب وكانوا كثيرين. وكما بات مألوفاً في ظروف مماثلة، تكون خلالها شخصية سياسية بارزة في إحدى زياراتها أو تنقلاتها العادية، أُطلقت صفارات سيارتنا وأخذ المرافقون يطلقون الرصاص من أسلحة الكلاشينكوف، ويتبعونها بزمامير سياراتهم المدوية. ونحن على هذه الصورة، أمكن لنا أن نجتاز أكثر نقاط المرور حساسية، من دون أن يصاب أحدنا بأذى. و كنا ثلاثة حول الجريح: أنا الجالسة الى الخلف والمهتمة بتثبيته على محمله داخل سيارة مسرعةٍ على أتم ما يكون الطيش، والسائق والمسعف. ولئن كان رباننا يحفظ الطرقات عن ظهر قلب فإن التوتر الشديد جعل نقاط الإرتكاز لديه تختلط في ذهنه. وكان ينبغي لنا أن نمر للحظةٍ واحدة بشارع يقع على مرمى قوات ميليشا أمل ثم ننعطف بطرفة عين الى اليسار قبل أن يستدركوا أمرهم ويردوا. وما أن بلغت سيارة الإسعاف هذا التفرع انعطفت الى اليمين بدلاً من أن تميل في استدارة واحدة الى اليسار. ولم نجد أنفسنا إلا في مواجهة ميليشيات أمل التي سارع أفرادها الى تلقيم أسلحتهم وتوجيه قاذفاتهم نحو سيارتنا. وللفور صحنا بالسائق بأن يميل بنا الى اليسار، ففعل وبانحرافة مريعة دفع بنا الربان الى شارع مواز، نجانا بها، فأصابت الرصاصات والقذائف جدران الشارع حيث كدنا نصرع. ولكن ما تراه الحظ فاعلاً حين تشتد الحرب لتبلغ ذروة جنونها؟ ابن عمي مروان لقي مصرعه في العام 1981، وذلك خلال عملية تفجير أصابت محيط الجامعة العربية. ولسوء حظنا وحظ المغدور كان ذلك التفجير الذي استخدمت فيه سيارة مفخخة، أشد عمليات التفجير هولاً وأبشعها فتكاً بأهل العاصمة وأرزاقهم. كان مروان ابن عمي داود، قد صودف وجوده في لبنان، لزيارة كان يقوم بها لأهله بعد فترة دراسية في ألمانيا الشرقية وما أفظعها مأساةً أن يُقتل يوم ميلاده. وكان يفترض به أن يلاقي أصدقاءه وأبناء عمومته للاحتفال بعيد ميلاده في أحد مطاعم العاصمة. كان لا يزال واقفاً حين انفجرت العبوة الناسفة فحصدته ومن حوله. ومع أن ابن عمي كان يقف بعيداً من السيارة المفخخة، إلا أن الانفجار كان من القوة حيث دفعه بعيداً، وأسقطه أرضاً جثة بلا رأس. وعلى الفور تعالت الأنباء العاجلة من الإذاعات. ولا يزال في خاطري ذكر كل بيان يُقرأ على عجل، وجو الوجوم يعتري وجه كل فرد يسمعها. وكلما حصل انفجار في بيروت، خلت، وكل فرد فيها يسائل نفسه بحرقة وغصة عما إذا كان أحد أقربائه مرّ في ذلك الحي المستهدف أو توقف فيه. فإذا ما ثبت له ذلك، لزمه أن يمضي في جولة استكشاف مضنية ويائسة يتحرى المشارح كاشفاً عن كل جثة عساه يتعرف في إحداها الى وجه عزيزه، أو الى جثمانه. وغالباً ما كانت حلقة العنف الجهنمية المتمثلة بعمليات التفجير المتنقلة، وشدتها المنقطعة النظير، غالباً ما كانتا تحولان دون التعرف الى جثث القتلى المشوهة تشويهاً لا يطاق. وعليه، فقد كان ذوو القتيل وأصدقاؤه بمحض قرائن صادقة دالة عليه، ليكونوا على بينة من المصير العصي على التصور الذي آل إليه ابنهم أو عزيزهم. ذلك اليوم، كان إيذاناً لعائلتنا بأن الأمل طوى لواءه وغار في لجة فشله، باكتشاف جثة مروان وانسدال ستار من الحداد ثقيل على حياة كل من أفرادها. يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
أسامة الكباريتي بتاريخ: 7 أغسطس 2006 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 7 أغسطس 2006 الحلقة الرابعة - الحرب محض جنون ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٢ في لبنان، كما في سائر البلدان، تتخذ الحرب عللها وأساليبها المتوية، وكانت تحمل أسماء عديدة تنكشف لي تدريجياً: الإسرائيليون والفلسطينيون حيناً، وأحياناً الصراع بين اليمين واليسار اللبنانيين، وفيما كنت أدرك هذه الأسماء مجردة، أخذت الأيام ترسم لي أوجه الحرب هذه بشراً من لحم ودم، وكأنما كنت إزاء أمكنة مختلفة لمجازر مشتركة. وفي هذا السياق، كان ثمة بوسطة عين الرمانة ومقتل ركابها، وهم في معظمهم فلسطينيون. وثمة في هذا الصعيد كذلك، المجزرة التي ارتكبت في مسبح الصفرا مارينا، وهو متجع سياحي تحول الى مركز قيادة الاحرار، وكذلك الأمر التطهير الذي لحق بمخيم تل الزعتر القائم في بيروت الشرقية التي أفرغت بدورها من سكانها الفلسطينيين، أو الشيعية أو المسيحيين المنتمين الى أحزاب اليسار. وتمثل كذلك في قائمة هذه الحروب، محاولة الاغتيال التي ارتكبت في حق عائلة رئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجية. تضاف إليها عمليات الخطف من قبل كل الأطراف والحواجز التي ارتفعت أنى كان فجسدت انقسام المدينة الى شطرين متقاتلين، كل هذا وعيوننا المصابة ذهولاً لا تقوى على شيء. لم تعد بيروت قائمة. إذ بات اسمها كلما رددته الإذاعات أو ورد في مناقشاتنا وأحاديثنا أتى مصحوباً بنسبين، شرقية أو غربية. ولئن كان التاريخ يستنزفنا منذ ثلاثين عاماً، فإنه الآن يسحقنا. عودٌ بي الى بدء الأحداث. فبعد أن كانت الحدود بين إسرائيل ولبنان تنعم بالهدوء النسبي على امتداد عقدين تقريباً، من العام 1949 وحتى العام 1967، فقد أخذت بالتبدل منذ ذلك الحين. ذلك أن منظمة التحرير الفلسطينية جعلت تكثف من عملياتها العسكرية انطلاقاً من لبنان، الذي بات عرضة لغارات إسرائيل الإنتقامية. وتوالت الغارات وعمليات القصف وازدادت وتيرتها على نحو ما انكشف لي وأنا بعد فتاة صغيرة، في دير ميماس. وكان لهذا التحول الجديد أن يدفع بالعلاقات بين السلطات اللبنانية وقيادة منظمة التحرير الى حافة التدهور والاشتباك. ولهذه الغاية وتجنباً للصراع، عقد اتفاق القاهرة في العام 1969 بين الطرفين: ومع أن هذا الإتفاق ضيق من هامش التحرك أمام الفلسطينيين إلا أنه اعترف لهم بحق المقاومة حتى انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، ولم يكن هذا الأمر كفيلاً بإزالة التوتر على الحدود مع إسرائيل، إنما صارت الحدود على العكس من ذلك "حارة" ولأمد طويل. أضف الى ذلك أن الصراع نفسه بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطات الأردنية بلغ ذروته في حرب ضارية سحق خلالها الجيش الأردني قوات المنظمة إبان ما سُمي بأيلول الأسود، فاضطرت هذه الأخيرة الى إخلاء أدواتها القتالية الى لبنان. إذاً، كان الفلسطينيين حضور طاغ في لبنان سواء أكان حضورهم ممثلاً بقواهم العسكرية أم بأكثر منها، أو بحضور لاجئيهم في حربي العام 1948 و 1967. وكانت أُنشئت حول بيروت مخيمات عديدة ترعاها وتشرف عليها السلطات اللبنانية عن كثب. وإذا كان من اليسير أن أتبين صورة الإسرائيليين في ذهني لفرط ما كانت جدتي تروي لنا حكايات عنهم ولأعمال القصف التي تعرضت لها دير ميماس من قبلهم عام 1973، فإنه كان من العسير علي أن أرسم للفلسطينيين صورة معلومة. إذ لم أعرف فلسطينيين في طفولتي ولا في فتوتي، غير أني كنت أعرف أنهم طردوا من أرضهم وأنهم ينتظرون أن تكون لديهم القدرة على استردادها. مع ذلك ظلت صورتهم في خيالي غامضة، بل ملتبسة وما كنت أعرف مخيمات للفلسطينيين والقضية الفلسطينية لم تكن لتمني مباشرة. إنما كنت لا أزال أعدهم لبنانيين شأن الآخرين، وكان اسم عرفات لا يبدو لي مألوفاً غاية الألفة. وكان لحادثة غامضة في بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976 أن تشوه صورة الفلسطينيين في عيني لأمد طويل: ومؤداها أن أحد أقربائي اغتيل على يد أحد الفلسطينيين. ويروي الأهل أن إحدى قريبات أبي كانت تسلك طريق بيروت الغربية في اتجاه الجنوب وبرفقتها ابنها عفيف، وصادف مرورهما وجود حاجز أقيم على مقربة من النبطية في كفرتبنيت. ولدى إصرار آمر الحاجز على رؤية أوراق الركاب أخرجت المرأة هويتها فهال الملازم أن يرى طائفتها الارثوذكسية ، أي المسيحية . وكان لطالما يقوم حوار مسلح بين الميليشيات المسيحية ومنظمة التحرير الفلسطينية. والحرب القذرة تذر قرونها في كل ناح، أما عفيف ابن قريتنا جندياً في الجيش اللبناني، ولم يكن فيه من الكتائب ولو ذرة واحدة. بل كان يعتبر نفسه من أهل اليسار، وأنصار الفلسطينيين، غير أن الميليشيات في جوهرها القائم على التعصب، لا تنظر الى تفاصيل دقيقة كهذه. إنه مسيحي فهو إذن عدو لنا، فأمر الملازم بإخراج قريبنا من السيارة وبفظاظة بينة، وغذ أدركت والدته للحال عن ابنها باكية منتحبة. وعبثاً رجتهم إذ انتهوا الى رميه بالرصاص وبأعصاب باردة. إذاً سقط عفيف فداء عن معركة وقضية ليستا من شأنه. فيما بعد، ولزمن متأخر تبينت لي الحقائق الفاضحة: لم يُقتل عفيف على يد أحد الفلسطينيين، وإنما على يد لبناني شيعي كان أراد أن ينتقم لاختفاء أخيه، على يد كتائبيين. وكان يظن أن هذا الأخير، أي عفيف، أقدم على اغتياله. وبدورهم كان أهل قريته الذين ظللتهم الشائعات، يتخيلون أن هذا الاختطاف إنما كان ارتكبه بعض "الغرباء". مع ذلك فإن خاتمة هذه المأساة لتبدو رهيبة. وفي نهاية الأمر تبين أن أخو هذا الملازم لم يقتل فقد توارى عن الأنظار وانخرط من تلقاء نفسه في معسكر الكتائب واقترف أعمالاً دنيئة لصالحهم. وانقضت سنة قبل أن اكتشف الفلسطنيين وقضيتهم على حقيقتهم. ولكن بظروف مختلفة تماماً عن الماضي البعيد. وذلك يوم عاينتهم، وهم يحوطون هذه المرة بنعش أحد أقربائي وابن أخ والدي، وكان يدعى خالداً. فرأيتهم يشكلون من حوله كوكبة الشرف ويؤدون التحية للشهيد في نعشه، على أنه فقيد للثورة الفلسطينية نفسها. ذلك أن أعداداً من الشبان اللبنانيين أخذت تنخرط في صفوف الفدائيين حالما تبين لها أن هؤلاء يقاتلون الإسرائيليين الذين دخلوا جنوب البلاد وأمعنو فيها غزواً وإرهاباً وقتلاً وكان قريبي خالد واحداً منهم. وكان المغدور أصيب خلال عملية نقله الذخائر مع فرقة المغاوير التي انضوى فيها، وفي تفصيل الإصابة أن لغماً أرضياً انفجر به فبترت ساقه للحال وأصيب بجروح عديدة إلا أنه ما لبث أن فارق الحياة متأثراً بجراحه، فيما كان رفاقه ينقلونه الىمركز الإسعاف في تلك المنطقة. وقر رأي منظمة التحرير الفلسطينية أن تجري للشهيد مراسم تشييع إستثنائية. فانطلقت ذلك اليوم تظاهرة ضخمة في بيروت الغربية، غير بعيد عن منزل الشهيد. أما أنا فوقفت أتابع ذلك المشهد، وأعاين الفصول المؤثرة التي تتوالى أمامي. فرأيت الشبان الفلسطينيين وهم يسيرون في العرض العسكري، ضاربين الأرض بأقدامهم على الإيقاع نفسه. كان شبان آخرون يحملون صوراً مكبرة هي رسوم لشهدائهم وينثرون الزهر الأسود والأبيض والأحمر والأخضر بألوان علمهم الفلسطيني فتقع الأخيرة على موضع مخطط لكل مربع أوشكل من أشكال ذلك العلم. وهكذا، تسنى لي أن أكتشف علماً وقضيةً وشعباً. وفي الحقبة نفسها، كان الوضع في الجنوب يتخذ هيئةً معاكسةً: إذ تمثلت في جيش لبنان الجنوبي. وهو جيش أُسندت قيادته، في الواقع الى بعض الضباط العسكريين المسيحيين؛ وتولى أحدهم، ويدعى سعد حداد، قيادة الجيش هذا. وبالطبع، ظلت الدولة العبرية راعية لهذا الجيش ومكلفة إياه حماية بعض الثغور الحدودية من هجمات المقاومين. وفي الإطار المحلي رأيت أدوات هذا الجيش لا يتورعون عن اقتراف الجرائم ونسبتها الى الغرباء، ليستميلوا الناس إليهم وينخرط شبابهم في ذلك الجيش. وفي هذا الشأن لا أزال أذكر حادثة اغتيال طبيب عامل في الريف وسائقه، وقد أوله المتعاونون الجدد مع جيش لحد على أنه عمل كونه خلافاً على المال بين السائق ولبناني شيعي. أما مقتل الطبيب فكان الدافع إليه خشية القاتل من انكشاف جريمته على يد ذلك الطبيب لمعاينته حادث القتل الأول. إثر ذلك توترت الأجواء في القرية. ولم يطل الأمر حتى صارت دير ميماس جزءاً من الحزام الأمني الذي اقتطعه جيش الدفاع الإسرائيلي من البلاد وجعله حرزاً له. فإذا صح أن هذه الحدود الجديدة أُعدت لتكون حاميةً لمن في داخلها، إلا أنها لم تكن حدوداً شديدة الإحكام. فلقد ظلت والدتي تواصل زياراتها المألوفة الى القرية غير أنها كانت إحدى النساء القلائل اللواتي أمكن لهن أن يحتفظن بعلاقات متينة مع أقرباء لهن، كانوا لا يزالون في المناطق المحتلة. وبدءاً من ربيع العام 1975، والمعارك بين منظمة التحرير الفلسطينية والإسرائيليين تتقاطع وتتشابك مع الحرب الأهلية الدائرة في بيروت وضواحيها. وكان سبق اندلاع هذه الحرب فترة طويلة من الإضطرابات المتقطعة التي أُقحمت فيها بالتدريج، مؤسسات البلاد وبنياتها السياسية والاجتماعية. فهذه الحرب التي غالباً ما صورها الغرب على أنها صراع بين المعسكر المسيحي وبين الطوائف الإسلامية، لم تكن عائلتي لتحياها على الإطلاق، شأن عائلات كثيرة. ومن جهتي كانت لي قراءة أخرى للصراع الجاري بين قطبين: اليمين ضد اليسار. أما اليمين فكان ممثلاً، بلا أدنى شك، بالأحزاب المسماة مسيحية، وعنيت بها الكتائب اللبنانية بقيادة بيار الجميل وحزب الوطنيين الأحرار بقيادة كميل شمعون، ويدعم هذين الحزبين الموارنة الكاثوليك، أو يُستدل من هذا أننا نحن الأرثوذكس، أقل مسيحية من هؤلاء وقد صنفنا مع ذلك في المعسكر العادي؟ في حين كان اليسار على حد ما يصفه الراشدون في عائلتنا، ممثلاً بالحزبين الشيوعي اللبناني والتقدمي الإشتراكي، اللذين كانا حليفين لمنظمة التحرير الفلسطينية وبعض التنظيمات الإسلامية اللبنانية، أقله في بدء الصراع والحرب الأهلية؛ ويُضاف الى هذين الحزبين سوريا التي بدت خياراتها متقلبة، فهي إذا ما دعمت طرفاً أو ساندت آخر، من كلي المعسكرين، فلأنها سعت الى الحفاظ على نوع من "التوازن" بين القوى السياسية اللبنانية كافة، وبغية الإفادة منه قدر ما تستطيع، حتى إذا اندلعت الحرب الأهلية شهدنا انبثاق أحزاب جديدة، ولا سيما الشيعية منها مترجمة بذلك صعود نجم تلك الطائفة واتساع نطاقها الديموغرافي وأهميتها في تركيبة المجتمع اللبناني: من مثل "حركة المحرومين" التي أنشأها موسى الصدر، حركة أمل اللبنانية، وحزب الله فيما بعد. وفي ظل هذه المعمعة، رأيت تحالفات تعقد خلافاً لطبيعة المتحالفين، وصراعات داخلية حادة وانهيار جبهات، تشكل جميعها قوام يومياتنا في هذه الحرب. ولما كان اشتعال الحرب، على مدار سنواتها الأولى، يوفر مصالح ضخمة لقلة من المستفيدين وتجار الأسلحة فقد استولدت وقودها من ذاتها، ما جعلها تستمر آجالاً طويلة حتى تجاوزت كل منطق سياسي ساهم في إطلاقها أو دفع بها الى الإنفجار. وهذا ما حصل بعيد رحيل القوات الفلسطينية ، في العام 1982، من بيروت، وقد طاردها جيش الدفاع الإسرائيلي خلال عملية "سلامة الجليل" العتيدة، حتى حصارها في أول مدينة عربية (غير القدس). ولسوء طالعنا، نحن الشعب اللبناني، آلمنا أن نرى جيشنا الوطني وهو ينجرف في تيار الحرب الأهلية المجنون، بدلاً من أن يكرس همه للدفاع عن البلاد، ضد كل ما يتهددها من مخاطر خارجية محدقة بها. وإذ بدا الجيش عاجزاً عن البقاء بمنأى عن المماحكات السياسية والصراعات العسكرية، آثر أن يعيد إنتاج المجتمع اللبناني بكل ما فيه من نزعات إنتحارية. حتى إذا تناسى أفراد الجيش واجباتهم المقدسة بالدفاع عن الوطن بأسره، انقاد كل منهم لطرف من أطرف الصراع. فالتزم بعضهم معسكراً فرقاً صغيرةً وضعت في خدمة أسياد الحرب الذين سرعان ما ثبتوا دعائم سيادتهم على أنقاض بيروت. أما أنا فأدركت مبكراً هول هذه الورطة التي دفعت بأبناء المؤسسة العسكرية الواحدة الى الاقتتال فيما بينهم، وبدت لي الحرب الأهلية في وقت مبكر للغاية أنها فخ هائل وقع فيه اللبنانيون ليس إلا. وكان هذا اليقين الحتمي يحضرني وعلى نحو ملموس، حين كنت أعمل في الدفاع المدني، أو أتطوع أحياناً في خدمة الصليب أو الهلال الأحمر اللبنانيين، فحين كنا نخلي الجرحى من ساحات المعركة، ونتوجه بهم الى المستشفيات، ما كنا لنفتش عن هوية هذا الجريح أو ذاك، ولا عن انتمائه الطائفي. وبالمقابل، بدا لنا جميع الأطراف مخيبين للآمال، ما داموا يعملون على إشعال الحرب الأهلية، مركزين على تفاصيل دون أخرى، دافعين الى ترهات لا طائل منها، تحثهم عليها طاقة عجيبة، في حين نُحيت الأمور الجوهرية جانباً. ولطالما أثار عدم فهمنا ظاهرات الحرب الأهلية النقاشات المستفيضة، فاستغرقت منا الأخيرة أياماً بطولها، في مقر إتحاد الشباب الديموقراطي. وكنتُ، والحال هذه، شغفة بجو هذه النقاشات في الإتحاد، حتى لو ظلت والدتي تنظر بعين الريبة الى اجتماعاتي الطويلة في ذلك المركز. فهي إذ ألِفت كونها غير مبالية بنضال زوجها الشيوعي لزمن بعيد مضى، باتت على يقين بأن الاتحاد لم يكن سوى آلة لطحن الدماغ، آلة للترويج الدعائي في خدمة إعداد حزبي يثير سخطها. وكذلك هي صورة المخيمات الكشفية في عينيها، إذ بدت لها محض حجج لتعليم الشبان اللبنانيين الأكثر التزاماً عقائدياً واستعداداً للخضوع، حمل السلاح واستخدامه. وغالباً ما كانت تردد وبصوت عال: "ما الذي يقدمه الحزب الشيوعي؟ لا شيء، إنها الحكايات القديمة نفسها!". كل هذا ووالدي لا ينبس ببنت شفة، على جاري عادته. وإذا كان الناس يجمعون على اعتبار الاتحاد مقرباً من الحزب، فإنه (أي الاتحاد) وعلى خلاف ما تخشاه والدتي، اتسم بكونه خزاناً للطاقة والتساؤلات والشكوك، ومئلاً للإرادة البناءة. مع ذلك لا أراني شيوعية متزمتة. فإذا كنت أقدم المعونة للمحتاجين واللاجئين أحياناً، فهذا لا يعني أني ما عدت صاحبة قراري، ولا حرية لي في الحكم والعمل. بل إن التزامي بالحزب لم يكن التزاماً نضالياً صارماً، إنما هو يترجم عن تعلقي بتربية تتيح لي أن أستعيد عالمي الصغير، الذي يعمره والدي أو أعمامي. وعلاقتي التي نسجتها مع الحزب الشيوعي هي من الالتباس عينه، إن أنا إلا رفيقة درب، حتى لو أني غير مدركة تماماً أبعاد هذه العبارة ولا حدودها. أو أراني تلك المراقبة التي أبقت التزامها طي الكتمان، غير أنها وجدت ضالتها في المثل التي سحقتها رحى الحرب الدائرة، هذه المثل التي ما برح والدي يجسدها لي على مدى الأيام. ولئن ارتكب بعض الشيوعيين أخطاءً جسيمة في سعير المعارك، فإني على يقين بأن هذه الأخطاء عجزت عن إطفاء الأمل الذي لا يزال يلتمع في عيني أبي. ولكن، ما تراه يكون هذا المثال الذي طالما جذبني إليه لأنخرط في تلك التربية السالفة؟ ليس صراع الطبقات بالتأكيد، حتى ولو كان ينطوي فيه، ضمناً، دافع الحزب للإشتراك في الحرب. إنما مثالي فكرة الوطن، بخلاف ما يظن البعض. فلما كان الحزب منذ نشأته غير ميال الى تقسيم المجتمع اللبناني شرائح طائفية، وجدته يواصل الكلام عن وطن للجميع، وطن يعامل فيه مواطنيه على قدم المساواة في حقوقهم وواجباتهم. وكان هذا الخطاب الوطني والجمهوري يمسني في الصميم. فهو يضرب على وتر في نفسي، كان آخذاً بالانحلال، بفعل الشعارات والحملات الدعائية لشهور وشهور، إعلاءً لحروب الإقتتال الأخوي. ولهذا، اندفعت الى الإنتساب غريزياً، وبملء كياني، عضواً فاعلاً في الحزب. لست فتاةً مسيحية ولبنانية، إنما أنا لبنانية في المقام الأول، ومن ثم أنتمي الى عائلة أرثوذكسية. في أواخر السبعينيات، وبعد خمس سنوات من المعارك المتواصلة، بلغتُ في صميم نفسي الى حتمية راسخة، وهي أن للبنان عدواً واحداً، ومحتلاً أحداً ألا وهو إسرائيل. وفي إدراكي أن الحرب الأهلية هي محصلة طبيعية لما كنا فيه. ذلك أن السلطات الإسرائيلية في نظري كانت ولا تزال منذ عقود طويلة تتبع الاستراتيجية نفسها، والتي تقضي باحتلال جنوب لبنان، وتوسيع حدود إسرائيل على الدوام كلما أمكن لها ذلك. وكان هدف هذه السلطات واضحاً، بنظري، وهو تفجير الوضع في لبنان ليتسنى لها ضم المزيد من الأراضي، وبغية تمتين موقع الدولة العبرية بتوسيع أرجائها. وكان هذا التهديد الكامن على الدوام، من الدولة العبرية ، يشكل محور أحاديثنا أيام المراهقة، يوم كنا لا نخشى من تبعات هذه الأحاديث ولا من تأثيرها على مستقبلنا ما دامت تجري في وتيرة غير منتظمة. ولطالما دغدغت مشاعرنا الفتية أغاني مارسيل خليفة الوطنية، وهدهدتنا صغاراً. وكان أخوتي يرددونها مرات ومرات. حتى أن هذه الأغاني بدت لي على المقدار نفسه من القوة التي في مسرحيات زياد الرحباني، هذا الساعي الى الديموقراطية بلا كلل. فكتاباته المتهكمة والهازئة والتي تغمز من قناة المتعصبين من إخوانه في المواطنية، هذه الكتابات ذاع صيتها وامتد الى العالم العربي. وغالباً ما أوردت الإذاعات مقاطع طويلة من مسرحياته، ومثلها فعلت المدارس. وهي تبدي إنكارها لتلاعبات السياسة ومراوغات الديبلوماسية التي دفعت بلبنان الى لجج الهلاك، واحدة بعد أخرى. في العام 1980، وكنت لا أزال في الثالثة عشرة، حرضتُ للمرة الأولى في حياتي حفلاً للأغاني الملتزمة، وذلك في مقر الأونيسكو ببيروت. ولم يقبل المساء حتى امتلأت القاعة بالحضور، الذين أقبلوا لسماع مارسيل خليفة. وكان أبناء عمومتي وبناتهم قد أقنعونا، أنا وأخي عمر وأختي بالمجيء. ومع أننا وصلنا الى القاعة قبل افتتاح الحفلة بساعة لم نجد أماكن للجلوس إلا بشق النفس. وما كاد المغني يطل على المسرح حتى أخذ الحضور يلوحون له بالأعلام والمناديل وبالأثواب الحمراء. وإذ اندمجتُ باللعبة، نزعتُ عني سترتي الحمراء، ورحت ألوح بها بدوري. وما أن تلاشت أصداء الهرج، وجدتني أصيخ السمع الى كلمات الأغاني، التي بدت لي أقوى وأروع من كل خطاب سياسي. والحال أن مارسيل خليفة لم ين يغني معاناة كل من خسر أرضه وبيته، وبات رهين اليأس، من دون أن يميز اللبنانيين عن الفلسطينيين على الإطلاق، وكان يغني حنين الناس الى حقول التبغ في جنوب لبنان، والتي غادرها المزارعون إثر الحرب. وكان يغني تاريخ الخيام التي قصفها الطيران الإسرائيلي عام 1978، وسارعت الميلشيات الى نهبها. وفي ما أذكر، الى حينه لم أُنشد شعراً، ولو ضئيلاً، في طائفة من الطوائف أياً تكن. إنما لا تزال في ذاكرتي قصائد مغناة للبنان، بلادنا وأرضنا، لها وحدها ليس إلا. إلا أن السنوات اللاحقة، ولا سيما إثر دخولي الى الجامعة، جعلتني أتبين بوضوح عمق الإنقسامات التي انتهى إليها شعبنا! وفي هذا الشأن كان الانتصار الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، دور في دفع التيار الإسلامي أشواطاً كثيرة الى الأمام في الشرق الأوسط، ولم يكن لبنان، وبيروت تحديداً، بمنأى عن هذه التغيرات. بل إن عودة التيار الإسلامي شكلت مادة للتنافس بين التنظيمين الشيعيين، حزب الله المدعوم من طهران، وحركة أمل. وفي حين جهد أنصار حزب الله في تعليق شعارات باللغة الفارسية، تصدى لهم أنصار حركة أمل قائلين بأن القرآن إنما أنزل باللغة العربية دون غيرها. وما لبثت أن ظهرت أصول في اللباس محافظة. وكان أن انطوت عودة الأسلمة هذه على انحرافات لا تُطاق، من مثل الاغتيالات أو خطف المثقفين، أو قذف النساء اللواتي يجرؤون على النزول بثياب البحر الى الشاطئ بمادة الزاج باعتبار تصرفهن غير اللائق. ولما كنتُ مقربة من الشيوعيين وجدتني هدفاً لبعض هذه الأعمال. إذ كنتُ أجسد حساً بالإختلاط رأته التيارات الإسلامية المتشددة شأناً ينبغي إزالته: ممارسة الرياضة ولعبة الشطرنج التي أُجن بها وأحب أن يقاسمني إياها أصدقائي في الكلية وطلابي، حتى صرتُ هدفاً للتهديد بالموت من قبل شبان حركة أمل. وما كان ذلك الوضع العبثي على قسوته، ليحول دون انخراطي في صفوف المقاومة والنضال تحت لوائها. الحلقة الخامسة - الاجتياح الاربعاء ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٣ لم أحتفل يوماً بعيد ميلادي. ولا سيما ذلك العيد الذي بلغتُ فيه الخامسة عشرة، فالخامس عشر من حزيران / يونيو، في العام 1982، لم يكن جديراً بأي احتفال، وكنا نعد العدة لمغادرة بيتنا في اتجاه منفى آخر في الجنوب. وكان أعدائي على مدى نظري: الإسرائيليون يعسكرون لدى بوابة مدينتي منتصرين. كل شيء بدأ لأيام قليلة خلت في لندن. ففي ليل الثالث والرابع من حزيران / يونيو، تعرض الديبلوماسي الإسرائيلي المعتمد لدى بريطانيا، شلومو أرغوف، لاعتداء مسلح، وكانت إصابته بالغة. وللحال، اتهم الإسرائيليون منظمة التحرير الفلسطينية بأنها وراء العملية، على الرغم من أن المنظمة أدانتها وأنكرت أن يكون لرجالها أي صلة بها. وكما بات مألوفاً، ردت إسرائيل باعتداءات واسعة طاولت جنوب لبنان. وفي مقابل ذلك، عمدت منظمة التحرير الى قصف الجليل الأعلى. ولما كان لبنان مترئساً دورة مجلس الأمن، صدر عنه إعلان يدعو الفرقاء الى وقف إطلاق النار، غير أن الأمور جرت على العكس تماماً، إذ دخلت الدبابات الإسرائيلية بقيادة أرييل شارون الى بلادي في الخامس من شهر حزيران / يونيو وبدأت عملية ما سُمي "بسلامة الجليل". في البدء، لم تكن أخبار الاجتياح الجديد لتُحدث أي ذعر لدى أهل بيروت. إذ كان السأم بلغ بنا حده، لأنه لم تكن المرة الأولى أو الأخيرة التي دخلت فيها إسرائيل الى الأراضي اللبنانية. وعلى الرغم من الوسائل غير الاعتيادية التي استخدمها المجتاحون، لم يشعرنا ذلك بالخطر الداهم. وكان ثمة يقين راسخ لدى أغلبية رجال السياسة اللبنانيين بأن الإسرائيليين يزمعون التقدم الى عمق الجنوب اللبناني لغاية تطهير الجيوب التي يشكّون في أنها مخابئ للمقاتلين الفلسطينيين، إلا أنهم سوف يرتدون الى ما وراء حدودهم، تاركين أمر حماية حدودهم للميليشيات التي تشكل لهم صمام الأمان. مع ذلك، كان في بيروت الغربية أشخاص يتنبأون بأن الإسرائيليين سوف يقومون باجتياح كبير بغية تصفية حسابهم النهائي مع الفلسطينيين، وكان من بين هؤلاء المتنبئين الحزب الشيوعي اللبناني. فإذا الوقائع تثبت مخاوفهم وتوقعاتهم: ومضينا نشهد على مر الساعات الطويلة في ذلك النهار ما بدا لنا عصياً على التصديق. إذ رأينا جيش الدفاع الإسرائيلي يتخذ له مواقع ثم لا يلبث أن يتقدم. وأعانت تقدم القوات الإسرائيلية البرية قوات أُنزلت من السفن الحربية، فجعلت تحيط بالفدائيين وبحلفائهم القوات المشتركة. وقريباً من دير ميماس، سقطت قلعة الشقيف في أيدي هذه القوات المهاجمة. وانطلقت قوافل المدرعات شمالاً باتجاه بيروت، من دون أن تعالج بعض جيوب المقاومة في طريقها المظفر ذاك. وأخذ المواطنون اللبنانيون من سكان بيروت الغربية، وقد تمالكوا أنفسهم، يعدون العدة لحصار محتمل، من دون أن يعوا حقيقة ما يجري. وكانت عمليات القصف المتبادل بين أحياء المنطقتين الغربية والشرقية ازدادت عنفاً وشراسة في الأشهر الأخيرة، فأجبرتنا على التعايش معها. غير أن حياتنا اليومية، بقدوم القوات الإسرائيلية، صارت لا تطاق. فُقدَ الخبز من الأسواق لأيام غير قليلة، وامتلأت المستشفيات بالمرضى المصابين، ولم تعد أعداد الممرضات كافية، وازداد النقص في الأسرة. وبإصرار من الصليب الأحمر عمدتُ مع بعض الأصدقاء في الإتحاد الى توزيع الإعانات على ذوي الحاجة من المهجرين الذين أُسكنوا على عجل في مدرسة مصادرة لهذه الغاية. واشتد التوتر بل راح يزداد كلما تقدمت أرتال الدبابات الإسرائيلية واقتربت من العاصمة. للمرة الأولى في حياتي أراني في مواجهة عدوي. وإذ غشيتني هذه الفكرة، صرت أترجح بين الخوف منه وتحديه. وفي حين كان سكان المدينة قد تواروا في الملاجئ، كنا نمضي، أنا ورفاقي. للعب بكرة السلة غير بعيد عن القذائف المتساقطة هنا وهناك. وكنت أبطئ الخطو كلما عمت الإستنفارات وفرغت الشوارع من الناس كلياً. بدت المعركة، وعلى الرغم من كل الإستنفارات، غير متكافئة. ولم تدم الإشتباكات بين الفرق الإسرائيلية والقوات الفلسطينية واللبنانية المشتركة، إلا ساعات. إذاً، كان لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي أن تتقدم ساحقة على نحو لا يرحم ولئن بات هذا الجيش يتهدد الوجود العسكري السوري في لبنان، فإن المعارك التي توالت فصولها بين الطرفين سرعان ما رجحت كفة جيش الدفاع. ولما كان الطيران السوري قد مُني بخسائر فادحة في صفوفه، جعل يُخلي المجال الجوي عملياً، لطيران العدو. أما في المجال البري، فقد أُصيبت الفرق السورية المدرعة إصابات كبيرة فاندحرت. وفي الناحية الغربية، أغارت القوات الإسرائيلية على خلدة، وهي بوابة بيروت الجنوبية. غير أن الهجوم لم يسفر عن تقدم ظاهر لها. واشتد الضغط، وعبثاً تواصلت إعلانات وقف إطلاق النار على مدى الأيام في شهر حزيران / يونيو. أما جبل لبنان فكان عرضةً للقصف الثقيل من المدمرة الأميركية "نيوجرسي"، التي كانت ترسو في عرض البحر قبالة بيروت، بعد أن كلفتها واشنطن بمهمة الدعم في ساحة المعركة هذه. ولا شك أن هذا الدوي الهائل الذي ما برحت مدافع المدمرة تصدره كان جديداً علينا. ورحتُ أسائل نفسي: كيف يمكن للناس في الجبال أن يصمدوا حيال هذا الدوي المرعب والقاتل؟ وبعد حين، عمدت الفرق الإسرائيلية الى الإلتفاف على بيروت الغربية، فدخلت القطاع الشرقي منها، الذي كان تحت سيطرة الكتائبيين، من غير قتال. حتى إذا تمركزت هذه القوات على خطوط التماس القديمة، وصارت بيروت الغربية محاطة بما يشبه الكماشة، أنهالت القذائف من العيارات الثقيلة للغاية عليها، وشاركت كل قطاعات السلاح البرية والجوية والبحرية لدى العدو بالقصف. وكانت الأرض تزلزل تحت أقدامنا كلما سقطت قذيفة أو صاروخ متوسط المدى. ولم يقبل الرابع عشر من حزيران / يونيو عشية مولدي حتى صرنا محاصرين عملياً. وفي هذه الأثناء تولى عمي إبعادنا عن أجواء المعارك. ما دام يستحيل على والدي أن يغادر المكان في ظل هذه الظروف، كما يستحيل عليه أن يبقي عائلته في حال الخطر الحتمي. كذلك، رأيت والدتي أشد إصراراً على عدم البقاء. وكان الإسرائيليون رموا في ليل 27 و 28 من حزيران / يونيو بمناشير فوق بيروت الغربية، مخطرين الناس فيها، على نحو ما فعلوا في دير ميماس لسنوات خلت، بضرورة مغادرة المدينة حفاظاً على أرواحهم. وما كاد صباح اليوم التالي يشق أنواره حتى رأيت سيلاً لا ينتهي من البشر النازحين من بيروت الغربية، وكنت محمولةً في خضمه على الرغم مني ومن جسدي. ومع ذلك، لم نكن في الهم سواء. فالأغنياء كانوا الأسبق الى مغادرة بيروت، بالطائرة، أو بسياراتهم. أما الذين بقوا حيث هم فكانوا من الفلسطينيين، بالطبع، ومن اللبنانيين الأشد فقراً، أو الذين لا يجدون لهم أي ركن أو ملجأ في البلاد كلها. وكان رحيلي عن بيروت نوعاً من التمزق، والمغادرة، والفرار. وكان لي، كذلك، نوعاً من الهزيمة. وظللتُ أعاند بكل ما أوتيت من قوة. ورحت أقول في سري: يجب أن أبقى حيث أنا وحتى النهاية ، في منزلي. بيد أن والدتي هيأت نفسها لمغادرة منزلنا، لم تكن إرادتي لتعني لها الشيء الكثير. وبدون أن تناقشني في رغبتي أمرتني بأن ألحق بهم، هي وأختي وأخي وعمي صبحي. كان ينبغي لنا أن نغادر المكان، وفيما كنا خارجين إشترطتُ على والدتي عدم المبيت في القطاع الشرقي المسيحي، في نوع من التنازل الزهيد. ذلك أنه توجب علينا إجتياز المنطقة التي غدت ممراً للإسرائيليين، تيسّر لهم من خلاله السيطرة على المدينة. كانت تلك المرة الأولى، منذ زمن بعيد، تطأ فيها قدماي بيروت الشرقية، بعد أن اجتزنا خط التماس المفتوح استثنائياً الى الغرب، لأجل أن يستكمل الإجتياح خططه. كنتُ جالسةً على المقعد الخلفي من السيارة لما عبرت بنا ممر المتحف المريع، والقائم على مقربة من قصر الصنوبر، في حين مُنع الفلسطينيون من عبوره منعاً باتاً. حتى إذا بلغنا الجانب الآخر من المتحف، طالعنا عالم آخر، لا يشبه بشيء ما آلت إليه أحياؤنا، ففيما كان قطاع بيروت الغربية مدمراً بفعل أعمال القصف، بدا الجزء الذي يسيطر عليه الكتائبيون سليماً، أو يكاد. أنا الآن، غادرتُ لتوي مدينة في حال الحرب، وها أنا في عالم صاعق في تفاهته، في مدينة ككل المدن، بمتاجرها والمتنزهين فيها، وبمقاهيها المكتظة بروادها، مع أنني لم أجتز سوى بضع مئات من الأمتار بعيداً عن منزلي. ولما كنا ارتحلنا في وضع مزر، بعد أيام من القصف بلياليها، اقترحت علي والدتي بأن تشتري لي ثياباً لتلهيني عما بي. لكني والغضب يمتلكني، أبديتُ لها ممانعة لا تقبل الجدال. استلزم إخلاء بيروت الغربية من سكانها وقتاً طويلاً. وكنا مجبرين على المبيت لدى أقرباء لنا في المنطقة الشنيعة. ولساعات الليل الطويلة كنت أجتر غضبي. وصببتُ جام حقدي على الأرض كلها، وعلى هؤلاء اللبنانيين الذين استقبلوا الإسرائيليين وأعانوهم على فتح بيروت، والذين كفوا، بنظري، أن يكونوا لبنانيين حقاً. وحقدتُ كذلك على عائلتي التي اختارت سبيل الفرار، ولزمن طويل للغاية. وأدركني الخوف، هذه المرة، من أن يذهب كل شيء سدىً. وفي الغد، أُعدّت لنا سيارة بيجو بيضاء فتكومنا فيها. كنا عشرة ركاب، في سيارة لا تتسع إلا لخمسة. ثم كان الإنطلاق. أما الطريق فبتنا نعرف أنها تتخللها حواجز إسرائيلية. وما أن ظهر أول حاجز حتى بادر عمي الى تمزيق أواقنا الثبوتية، حتى أنه أصر علىتمزيق بطاقة تعريف لي صادرة عن الصليب الأحمر اللبناني. وعبثاً احتججتُ على الأمر. فقد بدا عمي والحال هذه، شديد العزم، لا يلين. وقد برزت نقاط التفتيش التي أقامها الإسرائيليون خير مصداق لمخاوف عمي. فكانت هذه الأخيرة نقاطاً يتعرض فيها المارة للإهانات ليس إلا. أما أعمال التحري فكانت تتم باللغة العربية، وعلى نحو متواصل. وكنا مجبرين على الإنتظار لساعات طويلة تحت لهيب الشمس من غير أن نبل شفاهنا. وفي أحد الحواجز، رأينا طفلاً يبكي لأنه عطشان فطلب أهله من الجندي أن يتفضل ويتكرم بكأس من الماء، فما كان منه إلا أن رفض. ومضت السيارة بنا والتفّت حول المدينة من الجنوب، وسارت بمحاذاة الشاطئ. هناك رأينا جنوداً إسرائيليين في مايوهات السباحة مستلقين على الرمال هانئين بأشعة الشمس وكأنهم في بلادهم. وبعد ثماني ساعات من المسير المتصل، أمكننا أخيراً أن نبلغ دير ميماس. عدتُ إليها بعد غياب دام خمس سنوات. وكان لقائي بجدي وجدتي وعمتي يفيض بالمشاعر والتأثر. ولم ألبث أن عاينتُ، في مدى بصري جيشاً شُبّه لي أنه لبناني. وتراءى لي، أنى وجهتُ ناظري، لظلّ جندي إسرائيلي، وأدركت فيما بعد أن هؤلاء الرجال المسلحين والمرتدين بزة عسكرية وطنية إنما هم في خدمة الدولة العبرية. وراعني استعمار القرية في زمن يسير، وإغراقها بالسلع الإسرائيلية. ورأيت كل الناس يرتدون مطرزات عسكرية مصنوعة لدى أعدائنا وموزعة مجاناً عليهم. وكنا أينما توجهنا وجدنا جنودهم ومعلباتهم. فقررت، وعلى نحو عفوي، أن أقاطع كل بضاعة تأتي من هنالك. كان ثمة مناخ ضاغط يسود القرية التي بدت منقسمةً شطرين: الأول مؤيد، والآخر معارض. المؤيد، ويمثله المتحالفون مع إسرائيل، أما المعارض فيمثله خصومها. ذلك أن النزوح الجماعي من بيروت، ولئن أعاد الى القرية عائلات تنتمي الى اليسار، شأن عائلتنا الغائبة عنها منذ العام 1978، فإنه حمل كذلك شباناً كبروا في العاصمة وكانوا متعاطفين مع الطروحات التي باتت موضع تأييد في بيروت الشرقية، وعادوا الى القرية. ولم تمض على حلول الكتائبيين في البلدة أيام معدودة حتى حاولوا أن يفتتحوا مركزاً لهم، ذلك أنهم ظنوا أنفسهم، لوهلة، مدفوعين الى النجاح. غير أن مساعيهم سرعان ما باءت بالفشل، لأن الإسرائيليين لا يرضون عن قوى أخرى سوى عن حليفهم سعد حداد. وما لبثوا أن خنقوا في المهد بعض الحملات الدعائية التي كان من شأنها أن تشيع التوترات بين هؤلاء الكتائبيين وقوات سعد حداد. وفي الواقع، كان ثمة لبنانان يتساكنان في دير ميماس كيفما اتفق، غير أن كلاً منهما كان يتجنب الخوض في المسائل الشائكة، ولا سيما في حضرة الآخر، وكنت ترى كتائبيين وشيوعيين متواجدين في النادي الرياضي نفسه الذي أُنشئ ظرفياً. بقينا في القرية الى نهاية تشرين الثاني / نوفمبر. وكلما حاولت أن أستل غضبي الذي حملته معي من خلال دروسي، عاودني التفكير في إسرائيل وفي واجبي كلبنانية في مواجهة عدوانها. وكانت بشرى ولادة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، في السادس عشر من أيلول / سبتمبر ، قد غمرت كياني فرحاً. وقلت في سري: أخيراً بريق الأمل. ومن عجائب الأمور، أن تكون هذه البشرى زفت للناس بعيد مقتل بشير الجميل، حليف الإسرائيليين والذي فتح بوابات بيروت لجيش الدفاع الإسرائيلي، والذي عرّض المدنيين لأخطار محدقة، وبات بوجودهم المرشح الأبرز لرئاسة الجمهورية، وذهب آخر أمره ضحية عبوة مفخخة. ولئن حزنت لموته على هذا النحو، فإن خبر مقتله هذا أراحني نوعاً ما. فكان توليه السلطة قد أثار حمية الكتائبيين في بلدتنا، فأتوا يهللون فرحين بذلك الإنتصار تحت نوافذ بيوتنا. حتى إذا أُعلن مقتل بشير الجميل رأيت قسماً من أهالي دير ميماس يعلنون حدادهم واضطرابهم العميق. وهؤلاء كانوا قسماً من البلدة ليس إلا. ولم تمض أسابيع قليلة حتى وافانا والدي الى القرية. وكان حصار بيروت الغربية أحدث فيه عميق الأثر. إذ بقي وحده في حينا الى جانب بعض أصدقائه من جيراننا. فعاشوا سوية مرارة الأحد الأسود: حين تواصل القصف على منطقة بيروت الغربية على مدى أربع وعشرين ساعة بلا توقف. ولما كان منشغلاً على الدوام، على الرغم من طوفان النار التي أحاطت به، وجدته غير قادر على الطعام والشراب، لفترات غير قصيرة. فأُنهك ومرض واضطر عمي الى إخراجه وحمله الى القرية. ههنا، راح يروي لنا على طريقته (أي باستنظاقه ودفعه الى الكلام) أرهب ساعات الحصار التي قضاها في بيروت، وبنبرة بطيئة هادئة. كيف أنه أمكنه ورفاقه أن يخرجوا جريدتهم الى النور، كل صباح، رافعين بذلك التحدي على الملأ. وروى كذلك رحيل المقاتلين الفلسطينيين، يقوم بحراستهم جنود قوات الأمم المتحدة، من ذوي القبعات الزرق، وذلك إثر الإتفاق الذي عقد بين ياسر عرفات والإسرائيليين، والذي سعت المنظمات الدولية الى التفاوض بشأنه بين الطرفين المتقاتلين. وراح والدي يصف الدموع التي سُكبت، والوهن والصمت المطبق اللذين حلاّ على المدينة وهي تودع هؤلاء الأخوة المنهزمين والمكروهين من بعض منا، ويغادرون موطن لجوئهم البائس مبحرين ولمرة أخرى باتجاه المجهول. وعلى حد ما روى والدي، فقد تملك البلاد شعور من المواساة، نادر بإجماعه. ذلك أن والدتي شاءت أن توافي والدي الى بيروت في الفترة عينها، وكانت تبدي ريبة حيال أبو عمار، غير أنها مضت ترسل عبارات المواساة حياله وترثي لوضع شعبه وقواته، وللمرة الأولى على ما أذكر. كان صفحة وطويت. بيد أني ظللتُ على يقين بأن هذا الرحيل لن ينهي المسألة على الإطلاق. وكان من الأكيد لي أن الإسرائيليين أثاروا الذريعة الفلسطينية، وأحسنوا استخدام انقساماتنا ليطيلوا وجودهم في لبنان، لآماد غير معروفة. غير أن الكلمات الأشد إيلاماً كانت تلك التي وصف بها والدي، مخيميّ صبرا وشاتيلا، والمجازر التي ارتكبت فيهما ضد سكان هذين المخيمين الواقعين جنوب بيروت. آلاف من الأشخاص لقوا مصرعهم في هذه المذابح، التي كان الإسرائيليون مجرد شاهدين فيها لكونهم يراقبون مداخلهما. وخرجت الأحزاب الوطنية اللبنانية وعرفات، وسرعان ما حُملت إسرائيل وحلفاءها، وميليشيات سعد حداد، والقوات اللبنانية والكتائب المسؤولية الكاملة. ولأسابيع عديدة، أخذ والدي قسطاً وفيراً من الراحة لدينا واستعاد قواه. وبعد ذلك، رأيته يستغل فرصة سانحةً له، وهي انفتاح الحدود مع إسرائيل: أن يمضي هو ووالدتي الى أرض العدو، وللمرة الأولى في حياتهما قاصدين، زيارة قريبة لهما في القدس الشرقية. والحال أن هذا النوع من العلاقات العامة دأبت الدولة العبرية على تنظيمها بهدف المباعدة بين لبنانيي الجنوب وإخوانهم في بيروت. وفي القدس الشرقية، راح والدي يقنع الفلسطينيين بأنه يشاطرهم آراءهم، وأن اللبنانيين ليسوا جميعاً عملاء لدى إسرائيل، ولم يتوصل الى إقناعهم بذلك إلا بشق النفس. وبقيت لفترة طويلة أسائل نفسي وبمرارة، عن الدافع الذي جعل والدي، المناضل الشيوعي منبتاً، يقتنع بإمكانية عبوره هذه الحدود قاصداً الجهة الأخرى، وموافقاً عدونا في أهدافه. لدى عودته، سارع الى تصويب وضعنا. ولئن غادر، في بيروت الغربية، منزلاً أصابته القذائف وأمعنت فيه تدميراً لمرتين متواليتين، فإنه ظل مصراً على عدم إقامتنا في منطقة محتلة، فيما كان الإسرائيليون يباشرون الإنسحاب من بيروت. وعلى أي حال، كنت على يقين بأن بأس المقاومة، التي ينخرط فيها أمثالي، سوف يكون كفيلاً، وحده، بإجبار الإسرائيليين على التقهقر. إذاً، مضى والدي برفقة والدتي الى العاصمة لتقدير حجم الأضرار اللاحقة بمنزلنا، وعلى الفور قاما بأعمال ترميم سريعة في المنزل، وأرسلا في طلبنا لموافاتهما الى بيروت. وبعد انقطاع دام أشهراً عديدة، عدنا الى بيروت الغربية، واستعدتُ أصدقائي وحللتُ في حي الأثير لدي. ومع أن كل شيء بدا على حاله، فقد تبين لي أن كل الأوضاع تبدلت. ولم تعد أخبار العمليات الحربية التي تنشر عبر الإذاعة مقتصرة على القتال الأخوي والعقيم، بل صار لعمليات المقاومة ضد الإسرائيليين حيز في النشرات الإذاعية أيضاً. وإذ أجلتُ النظر في مدينتي، التي أرغب في أن تكون على صورتي المرجوة، شعرتُ للمرة الأولى بأن الجيش اللبناني يمارس علينا رقابة خفية. ومع أن اتحادنا لم يكن محظوراً، إلا أن كلاً منا صار ملاحقاً عن كثب. وجدتُ هذا الوضع باعثاً على الضحك، وعبثياً، لأن هذا الجيش بنظري يخطئ الهدف كلياً، غير أننا كنا مجبرين على أخذ الأمر بعين الاعتبار. حدثان كان لهما أن يطبعا عودتي الى بيروت. ففي الثاني والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر، والذي يحتفل فيه اللبنانيون بعيد الاستقلال، قررنا أن ننظم مظاهرة احتجاج ضد الوجود الإسرائيلي. وأعلمنا بعدم موافقة الجيش اللبناني على هذه التظاهرة. تجاوزنا الأمر وقررنا أن نضع في مقدمة الحشد فتياناً تتراوح أعمارهم بين العاشرة والرابعة عشرة. وكنا على يقين بأن العسكريين لن يجرؤوا على المساس بفتيان عزل. ولكننا أخطأنا في تقديرنا، إذ لم يتوان الجنود عن إطلاق النار على الحشود فجرحوا الكثيرين من الشبان الذين تم نقلهم الى المستشفيات . ولم تمض على تلك الحادثة بعض الأيام حتى قام شاب لبناني يدعى بلال فحص، بأول عمل انتحاري ضد عربة إسرائيلية مدرعة. فقررنا للتو أن نطبع ملصقات نحيي فيها بطولة الشهيد، ومضينا نعلق هذه الملصقات، تحت جنح الظلام، على جدران المدينة. فكنا ننطلق اثنين اثنين، شاب وفتاة، وكلما صادفتنا دورية في عملنا اصطنعنا المغازلة صرفاً للنظر وتمويهاً. وفي خلال أشهر الرصاص هذه، جرت عمليات شجاعة ضد الفرق العسكرية الأجنبية التي انتشرت في بيروت. ودفع الجنود الأميركيون والفرنسيون ثمناً باهظاً لتدخلهم الى صالح إسرائيل. وعلى الرغم من أنني شديدة التحفظ حيال العمليات الإنتحارية وحيال العنف بذاته، إلا حين يكون وسيلة النضال المتبقية في يد المظلوم، وجدتُ هذه العمليات لا مفر منها لإحلال السلام في بيروت. لقد كانوا في الواقع طرفاً في حرب لا توفر أحداً ولا شيئاً. والحق، أن تعلّمي السياسة تضاعفت وتيرته، خلال سنة 1982 الرهيبة هذه. وقد عمل الإجتياح الإسرائيلي علىترسيخ قناعاتي أيما ترسيخ. كنت في الخامسة عشرة من عمري، وقد أعددت نفسي لمباشرة العمل. يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
أسامة الكباريتي بتاريخ: 8 أغسطس 2006 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 8 أغسطس 2006 الحلقة السادسة - الإلتــــزام ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٣ مظاهرة في بيروت، من أجل كل المفقودين، والمخطوفين، والموقوفين. الحرب الأهلية لا تكتفي بزهق أرواح الناس فقط، إنما تعمد كذلك الى اختطاف الرجال، فتترك عائلاتهم بانتظار لا يطاق. ذلك اليوم، كان ينبغي لكل السيارات أن تتوقف عن السير، لدقيقة واحدة وسط الشوارع تضامناً مع المخطوفين. ونزلتُ مع أصدقائي في الإتحاد الى الشوارع الرئيسية في المدينة لإيقاف حركة السير. إلا أن العملية باءت بالفشل، ذلك اليوم. فكانت السيارات تواصل سيرها غير مبالية بإشارات التوقف. ورأيتُ سائقاً يهم بالانطلاق غير آبه بنشاطنا. فأثار تصرفه في نفسي غضباً عارماً. وعلىالرغم من أنني أضبط أعصابي ومشاعري جيداً، فقد جعلني هذا التصرف أفقد صوابي. وبّختهُ ودعوته أن يصير أكثر مدنيةً. فرد علي سئماً، وطمأنني بأن جهودنا كلها لن تجدي نفعاً، وأنها بلا طائل. وذات ليلة، حدث أمر جلل. كان الوقت منتصف الليل، حين أُعلن خبر مقتل الشيخ راغب حرب. كان أحد وجوه المقاومة البارزين. وهو لم يتوان عن الدعوة الى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، من على منبر الحسينية في بلدته جبشيت، القريبة من صور. وكان الشيخ حرب رجل دين وملتزماً في حركة أمل، في آن. ولما وجد الإسرائيليون أن له تأثيراً كبيراً في محيطه، وأنه لم ين يحضّ العشرات ممن حوله على قتالهم، قتلوه في قلب مسجده. فأحدث فيّ غيابه حزناً شديداً. فمضيت، مع الفجر الى رفيقي "علي"، الذي كان مسؤولاً عن الطلاب الثانويين الملتزمين في الإتحاد بمنطقة بيروت الغربية. أيقظته وأطلعته على الخبر، فقررنا أن ننظم تجمعاً في المدرسة، حداداً على الشهيد حرب، واحتجاجاً على عدوان إسرائيل، على أن يلي التجمع الإنطلاق في تظاهرة الى الشارع. ولما كنت الناطقة بلسان مدرستي انتدبتُ لأسأل مديرتنا الموافقة على تحركنا. اندفعتُ الىمكتبها، وسرعان ما قوبلت بالرفض. ولئن تفهمت المديرة انفعالي وغضبي، فقد ظلت مصرة على رفضها تعطيل الدروس لمرة جديدة، في حين بدت حياتنا المدرسية مشوشة بكل أنواع الأحداث الناجمة عن الحرب الأهلية. وظلت معاندة، لا تلين. أغاظني تصرفها. فخرجتُ عن طوري، ورحتُ أقدم لها البراهين من علياء الخامسة عشرة ربيعاً تلو البراهين عما ظننته درساً بالوطنية. مع ذلك، أمكنني أن أبدل رأيها، وتوصلنا الى نوع من المساومة، يقضي بأن نتابع دراستنا في نهار ذلك اليوم، ثم يسمح لنا بالتجمع لشرح ما يجري، قبل الإنصراف الى التظاهر في بيروت الغربية. ذلك اليوم، تظاهرت مدرستي وحدها في الشارع دون سائر الناس. وكالعادة ، كانت المواكب تنطلق من الصنائع، وتتجه صوب مكاتب الأمم المتحدة سالكة شارع الحمراء الكبير، ومن ثم تتجه الى الجادة الكبرى، وتمر من أمام السفارة الكويتية. غير أننا اكتفينا بالتظاهر في الحي نفسه، من دون رايات ولا أعلام. ورحت أطلق الشعارات في حيوية بالغة، حتى أن أحد الرجال المارين من ذلك المكان رمى بهذا القول: "هذه الفتاة، لسوف تقوم يوماً بعملية انتحارية، بالتأكيد!". تبدت لي نتيجة هذا النهار هزيلةً. وبارحني هدوئي، من جديد، أكثر من اللازم. وتفكرتُ في ضرورة أن أستخدم طاقتي المتوقدة وحماستي لأهداف أخرى. فمنذ الإعلان عن ولادة جبهة المقاومة اللبنانية ضد الإحتلال الإسرائيلي، في السادس عشر من أيلول / سبتمبر في العام 1982، كففتُ عن الضياع وعرفتُ سبيلي. قررت أن ألتزم. ولكن، ماذا يقتضي أن أعمل، وفي أي ظروف، ومع من؟ لم أكن لأعرف جواباً عن كل هذه التساؤلات. وكلما استشعرت، في صميم نفسي، هذه الحاجة الى المساهمة في هذه المعركة التي اندلعت لتوها، ازددتُ جهلاً بالسبيل التي ينبغي لي أن اتخذها لأصير على صلة ملموسة بهذه المقاومة الشهيرة، التي أجلها. والحال أن تحول المقاومة الىنطاق السرية في بيروت لم يكن ليسهل أمر ذلك التواصل. وكذلك لم يكن هذا التكتم الشديد الذي لبثتُ أحفظ فيه قناعاتي العميقة، سواء داخل عائلتي أو لدى أقربائي، ليسهل علي الأمر نفسه. وحين كنا نناقش في الإتحاد مسألة اقتدارنا على القيام بأعمال جريئة، كنت أحذر جيداً من إيذاء أي ميل فيّ الى هذه الشعلة التي ملكت كياني منذ أيلول / سبتمبر الشهير ذاك. فجهدتُ، على الدوام، في أن أبدو طالبةً نجيبةً، تنفر من الخروج الى السهرات، وتؤثر أن تظل في المنزل لتعمل، ومندوبة عن الطلاب نشطة غير أنها لا تخرج عن المعقول، وذات رشاد ورزانة، في حين بطُلَ أن يكون عطاء الذات والتضحية بالنفس في سبيل القضية، على حساب الشعارات الطنانة، أمرين محرمين منذ العملية الانتحارية الأولى التي نفذتها فتاة لبنانية في القطاع المحتل عام 1985. سناء محيدلي، ذات الثمانية عشرة ربيعاً، شاءت أن تفجر بنفسها القنبلة التي كانت تحملها لدى مرور دورية إسرائيلية. ولئن كنتُ مسالمة في طويتي، فإن هذا المثال الذي صعقني وجعلني مستعدة للنضال. والنضال دونه الكثير من الصعوبات، ولأجله يُضحى بالكثير من الأمور. وها أنا وقد بلغت الخامسة عشرة، ذلك العمر الذي يصير فيه متوقعاً أن تنمو بين الشباب، في مرحلة المراهقة، وبين الفتيات، سواء في المدرسة أم في الاتحاد، مشاعر تتجاوز المصلحة البحتة، ... أو مشاعر الحب والهوى، وفي هذا الشأن، كنت موضع إعجاب من قبل أحد أصدقائي، وكان عضواً في الحزب الشيوعي، وما برح ينظر بشيء من الاحتقار الى أعضاء الاتحاد، وينعتهم بغير الناضجين لأنهم لا يفكرون إلا في اللهو. ورحت أصغي إليه وهو يبوح لي بحبه، هذا البوح الأول في حياتي. لم أثبط عزيمتي، إلا أني، وبعد تفكير عميق، صرت علىيقين بأن حكاية الحب هذه ربما تحول دون المضي في مخططي المستقبلي. وكنتُ، الىحينه، لا أزال أعرضُ خدماتي لمرافقة هذا الشخص أو ذاك للعبور في سيارته الى نقطة في بيروت. فإذا ما كنتُ أمضي قدماً في اقتراحاتي، فلأني كنت أعرف أن وجود زوجين في سيارة واحدة يثير من الريبة أقل مما يثيره رجل مفرد – ولا سيما إذا كانت السيارات التي استقللتها ناقلة للأسلحة والذخائر، على الأغلب. فإن يلتزم المرء ويزيد من التزامه، لأمر يستتبع عواقب غير محسوبة. أضف الى ذلك، فإن الأمثلة التي عاينتها من حولي كانت تردعني عن مزاوجة المشاعر بالمقاومة. وفي خلال بحثي الدؤوب عن شبكان المقاومة، تقربتُ من رفيقة في الحزب ولها صديق ينتمي الى تنظيم ماركسي. وكنتُ أعرف أن هذا الصديق يُشك في كونه مشاركاً في عمليات حربية. وكلما أبدت له صديقته رغبتها في الالتزام والقتال الى جانبه، واجهها بالرفض القاطع، محتجاً لها بالمخاطر الكثيرة. لم يكن يشاء أن تخاطر في شيء. ولهذا السبب، انتهى بهما الأمر الى الإنفصال. وفيما بعد، عرفتُ المعضلة نفسها في عين صديقة أخرى. كان الشاب، هذه المرة، ملتزماً في صفوف حزب الله. وكان التزامه يستغرق منه جُل وقته، ما جعل صديقتي تنفر منه. ويوم قررت الإنفصال عنه، علمت بأنه مزمع على القيام بعملية انتحارية، قريباً. ولم أيقنت أن لها قسطاً من المسؤولية في قرار صديقها هذا، سألتني أن أرافقها الى الجنوب لملاقاة ذلك الشاب ومحاولة ثنيه عن القيام بهذه العملية. فسررتُ بهذه النعمة غير المتوقعة، وقبلت رفقتها. مضينا إليه. وأمكنها، آخر الأمر، أن تقنع صديقها القديم بالعدول عن نشاطه. والحق يقال، إن هذا المقاتل، حين أسر لها بكل نواياه، وحين وفر لها كل الوسائل التي تتيح لها موافاته حيث هو، يكون قد أفسد مخططه ونضاله بيده. إني أتفهم مشاعر رفيقتي ومسعاها في سبيل استرجاع صديقها، حتى ولو صرتُ أنظر إليها بعين اللوم. ولقد نظرت حولي، فوجدت أنه يمكن للمرء أن يختار الالتزام، وقد يذهب به الى حد التضحية بنفسه، أحياناً، لغايات شخصية، لا تمت بصلة الى الشعور الوطني. تضاف الى حكايات الغرام المحبطة، قصة قريبة لي وتدعى "لولا عبود"، وهي الشيوعية التي استشهدت في خلال سلسلة من العمليات المنفذة في البقاع. "لولا" كانت قد انفصلت عن صديقها قبيل قيامها بالعملية التي أدت الى مقتلها. في الحقيقة، كانت هذه الأمثلة (عن الحب المحبط) تثلج صدري، ما دام لدي الانطباع بأني أبليتُ حسناً إذ تجنبتُ أية علاقة، حتى ولو كانت مع مقاوم. ومع أني كنت، شأن كل فتيات جيلي، راغبة في أن يكون لي عاشق، وأحلم بأن أحيا حياة زوجية، تحقق خلالها أماني الزوجين، في عائلة وأبناء، فقد بدا لي محالاً في ظل الظروف الضاغطة التي تحيط بنا، أن أنخرط في التزامين وفي جبهتين، معاً. ومنذ ذلك الحين، اقتصرت علاقاتي بالفتيان على الصداقة حتى أنني غدوت لهم خير أمينة على أسرارهم، ونوعاً من المساعدة الاجتماعية والعاطفية. وبالمقابل، وجدت عدداً لا بأس به من صديقاتي يسألنني النصح في علاقاتهن العاطفية، لأنهن يعتقدن أني كنت على دراية بهذه الأمور، لمجرد أني كنت مقربة من الحزب الشيوعي الذي أُثر عن أعضائه تميزهم بالتحرر. في الواقع، كان اختياري في ألا يكون لدي صديق، قليل الكلفة. إذ لم يكن يشغلني سوى أمر واحد، الدخول في المقاومة. عانيتُ الكثير لأجل أن يتحقق هذا الطموح، فشاركتُ، مشاركةً نشطة في الحملة التي أدت الى إسقاط اتفاق العار، اتفاق 17 أيار / مايو لعام 1983، والذي كان وُقع بين إسرائيل وحلفائها اللبنانيين الممثلين بأمين الجميل. وأدى النضال الى تحقيق غايته، بسقوط ذلك الاتفاق. وفي تلك الفترة، قابلني جميع أفراد عائلتي بالحرص الشديد علي، فأجمعوا على إرسالي الى الخارج. وكانت والدتي تجهد في تجنيبي شر المصير الذي قد تؤول إليه فتاة لبنانية أرثوذكسية، عنيت به الزواج من شاب مسلم. وكان والدي، شأن أخي عدنان وعلى شاكلته، يريد لي أن أخرج من البلاد، لأتعلم بعيداً عن الحرب الأهلية، وعن فصول الرعب فيها، وعن مظاهر العنف التي لا تُعد ولا تحصى. ولئن ظننتُ أن أحد أساتذة أختيى يمكنه أن يضعني على سكة المقاومين، فإني كنتُ على يقين أنه سوف يسارع الى إخطار أهلي بنواياي لو أسررتُ له بكلمة واحدة في هذا الشأن. وزاد في الطين بلة، أن محاولاتي الأولى للتقرب من المقاومين باءت بالفشل والصد، بكلمات جلية. وحين خاطرت، أخيراً، وطرحتُ السؤال عينه على "علي"، وهو المسؤول السياسي الذي أوليه تقديري وأعرف مقدار حفظه للسر، أجاب بأنه الأجدى لي أن أظل في موضعي، داخل الاتحاد، وفي مدرستي. فهو يرى سبيلي مرسومةً في هذه الوجهة، لا تلك. وعليه، فقد رأيتني منتخبةً، ويكاد يكون غصباً عني، في المجلس الوطني لحركتنا. وأوردت الجرائد إسمي. فاعتبرتُ ذلك بداية سيئة لمن يرغب في الانخراط بعمل سري، ويجده في تضييع اسمه وسط حركة طلابية، صرتُ أتردد إليها أقل بكثير من السابق، لسب ظاهر على الأقل، وهو انصرافي الى الدراسة. وبعد تفكير ملي في الأمر، ارتأيت التوقف عن متابعة دروسي في كلية الهندسة، التي التحقتُ بها بإصرار من عائلتي. كما قر رأيي على مغادرة عائلتي للإقامة في الجنوب. وقلت في سري: إن زواجي وإقامتي في الجنوب قد يكونان حلاً آمناً لما أسعى إليه. ذات يوم أنبأتُ "علي" بعزمي على الذهاب الى المنطقة المحتلة. وكانت محض عبارة قلتها له. فجأةً، حدث ما لم يكن بالحسبان. إذ أتاني علي، وقد أيقن بعزمي الثابت في ما أسعى إليه، ولم تمض أيام قليلة على سؤالي السالف، وأجابني بأن "أحدهم" يود أن يلتقيني، وأن يلتقيني، وأن موعداً لي معه سوف يحدد على وجه السرعة. لدى عودتي الى المنزل، أقفلت باب غرفتي ووضعت الموسيقى ورحت أرقص بحمية لافتة. وأخيراً، ها قد وجدتُ صلةً! في اليوم الموعود، توجهت خلسةً الى أحد الأبنية في بيروت الغربية. وكان "علي" يرافقني. دخلنا، وقدمني الى رجل أربعيني، يدعى "مازن". هكذا كانوا يدعونه. قامة مديدة، بل صاحب حُسن، عينان زرقاوان وشعر أشقر. وبدا لي كتوماً، بل قلْ ميالاً الى السكوت، وما كانت عباراته لتنبئ بأي منبت اجتماعي خاص. تكلمنا في كل شيء. ثم رأيت علياً ينسل خارجاً ويتركني وحدي بحضرة "مازن". عندئذ انطلقت ألستنا فتحدثنا عما يجري في لبنان، وعن الحرب الأهلية والمقاومة. فشرحت له أن مشاعري الوطنية تلزمني الانخراط فيها، لأننا، إن لم نفعل شيئاً، نحن اللبنانيين، فسوف نلقى المصير نفسه الذي لقيه الفلسطينيون. وقلت له إنني مصممة على المضي الى النهاية. ولفظنته، جعلني "مازن" أطلق لساني في الكلام، وجعل يزن حميتي، إذ شرح لي أنه من الطبيعي أن يتراجع المرء حيال المخاطر. أدركتُ قصده، فأجبته بأن قناعاتي راسخة وأن عزمي لا يزال على حاله. وتلا اللقاء الأول لقاءان آخران، لم يكن "علي" حاضراً فيهما. سألني محدثي عن قراءاتي، فكان الجواب بسيطاً؛ في ما عدا الكتاب الذي كان أهداني إياه عاشق شيوعي، والذي ينطوي على سرد للأعمال البطولية التي اجترحها الجيش الأحمر ضد الفرق الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، لم أكن أقرأ شيئاً خارجاً عن نطاق مقرراتي. لا جرائد، ولا كتب سياسية أو تاريخية. فما كان من السيد "مازن"، إلا أن أعطاني، بادئ الأمر، كراسة ذات عنوان واضح، "الفييتكونغ". والكراسة هذه تنطوي على خمسين صفحة، كُتبت بالعربية، وطُبعت في بيروت. ثم اقترح علي أن أقرأ أعمالاً عديدة أخرى. فاخترت أن أقرأ "الجدلية التاريخية"، وهو مجلد ضخم، كان مرشدي الجديد استعاره استثنائياً من مكتبة روسية. والحق، أني لم أقرأ مهمة الى الجنوب، حال دون احتفاظي بهذا الكتاب أو إبقائه في منزلي. وكلما ازدادت اللقاءات، توسعت مواضيع النقاش بيننا. واتضح لي أن "مازن" يبحث، في المقام الأول، عن مسيحيين ليؤدوا مهمات في الجنوب. لأن هؤلاء أقل إثارة للشبهات، من قبل الميليشيات المؤيدة لإسرائيل، والتي تتولى حكم المنطقة المحتلة، الى جانب جيش إسرائيل. الى ذلك، فقد نصحني بألا أبدل شيئاً من عاداتي، وأتابع العيش في كنف عائلتي، وأكرّس أغلب أوقاتي في الدراسة الجدية. وشرح لي أن هذا التجذر العائلي أساسي، ما دام أ المقاومة تسعى الىتحرير يهم جميع اللبنانيين. في غضون شهر آذار / مارس 1986، أعددتُ امتحاناتي، ومن ثم مضيت الى عمتي التي بقيت في الجنوب. وكان ذلك أول اختبار لي، حتى لو لم يكن ما أقوم به بمثابة عملية خاصة، بكل ما للكلمة من معنى. ولدى عودتي، وجدتُ ما يشبه الكارثة. فحين قصدت المكان المألوف للقائنا، لم أجد "مازناً" الذي توارى من دون أن يترك لي أقل أثر أو رسالة. وبقيت، على مدى ثلاثة أشهر، لا أعلم شيئاً عنه، فتملكني اليأس وشارفت على الإحباط. فبعد أن لامستُ حلمي بيدي ها هو يتوارى بعيداً عني. لم يكن بمقدوري أن أقول كلمة بهذا الشأن لعلي. ينبغي لي أن أنتظر. وعلمتُ أخيراً أن "مازناً" كان قد اختطف على يد حركة أمل. اختُطف وعُذب تعذيباً. تشوشت أفكاري ولم أعد قادرة على التركيز على دروسي، حتى انتهيتُ الى الرسوب في الامتحان، لأول مرة في حياتي. وبعد مضي أسابيع مثقلة بالانتظار، لاح بارق من أمل. "مازن" ترك لي رسالة في مركز الاتحاد. وأخيراً، أُعيد التواصل الى حاله. ويوم لقيته، في غضون أيام قليلة، لم يرو لي شيئاً عن جلجلته. إنما اكتفى بإعلامي أنه لم يدل بأي معلومة في ما يخصني، وعدنا الى نقاشاتنا. في البدء، لطالما ظننتُ أن الانخراط في المقاومة شأن بالغ السهولة. إذ يكفي أن أُعطى عبوة متفجرة وأُعلم عن الهدف، حتى تتم العملية. بل اكتشفتُ أن العمليات هي أعقد مما يتصوره الكثيرون، وأدق من قياسهم. فهي تستلزم تهيئة، ودراسة ميدانية للأرض، وجمعاً لمعطيات وتفاصيل هائلة. وحين أنبأت محدثي بعزمي على قضاء إجازة قصيرة في الجنوب، طلب مني "مازن" أن أكتب تقريراً. ثلاث صفحات بحجم ورقة النسخ العادية (A4)، أخط فيها كل ما أراه. وفي موازاة ذلك، جعلت ابتدع حجة قابلة للتصديق، أبرر فيها لعائلتي وصديقاتي مشاويري الكثيرة، جيئة وذهاباً، الى الجنوب ومنه، وكانت هذه الحجة تدعى "سهاد". وهو عامل في المختبر التابع لمستشفى مرجعيون، وهي بلدة يعمل فيها ابن عمي عصام، حيث يدير عيادة خاصة بالتعاون مع زوجته. "سهاد" هذا كان في السادسة والعشرين، وله مكانة جيدة وهيئة حسنة. والحال أن كل ما كنت أسرُ به صديقاتي، يشيع بين الناس كالنار في الهشيم. وجهدتُ أن أبوح بسري الى أكثر نساء القرية ثرثرة. ذات مساء، وبينما كنت أتنزه مع أختي، سألتني إن كان هذا الفتى يستأهل مشاويري الكثيرة اليه. فاصطنعت الغضب الشديد، وذكرتها على نحو فظ، بقصة حبها – الحقيقية بخلاف قصتي – مع بيار، جارنا المعقد. للحال، بلغتها الرسالة، كما بلغت كل من حول أختي، فلم يعد أحد يجرؤ على مفاتحتي بأمر وجودي في الجنوب. وذات يوم، أخبرني "مازن" بأن لقائي به هذا سوف يكون الأخير. ومن الآن فصاعداً، سوف يوكل الاهتمام بي الى عضو آخر في التنظيم. وكان ينبغي لي أن أحمل في يدي المجلة النسائية "الحسناء" وأبرزها للملأ. واتفقنا على أن نتبع نظاماً رمزياً يتعلق بأمن كلينا. فإذا ظننتُ نفسي ملاحقةً أو مراقبة، ينبغي لي أن أحرك علبة المارلبورو على نحو يستفاد منه وجود خطر ما. كنت أتوقع أن يأتي رجل، باسم "أحمد" للقائي. وفي اليوم الموعود، وبعد دورات كثيرة قمتُ بها في المدينة، قصدتُ المقهى أخيراُ. وكنتُ ألِفتُ، منذ لقائي الأول بـ "مازن" إضاعة بعض الوقت في زيارة المحلات التجارية، ولا سيما تلك التي تعمرها واجهات من الزجاج العالية، ليتسنى لي التأكد مما إذا كن أحدهم يلاحقني أم لا. وتمت الصلة بأحمد، كما كان متوقعاً. لقد أنجزت، للتو، خطوة إضافية في هذا السبيل. وها أني على صلة مباشرة بأحد فروع المقاومة النشطة. ولسوف تتعدد اللقاءات. وكان شهر حزيران / يونيو من العام 1986. وبعد العطلة الصيفية، ومنذ شهر أيلول / سبتمبر، من ذلك العام، سوف أمضي معظم أوقاتي في المنطقة المحتلة. وسوف يبدأ عمل سري جديد. يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
أسامة الكباريتي بتاريخ: 9 أغسطس 2006 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 9 أغسطس 2006 الحلقة السابعة - التحضير ١ آذار (مارس) ٢٠٠٣ لقد حوّل الاحتلال الإسرائيلي الجنوب تحويلاً كبيراً، في خلال سنوات معدودة. وانقلبت أنماط حياة اللبنانيين وتبدلت تقاليدهم، منذ أن بدأوا يعملون في إسرائيل. ولم يكفهم ذلك، بل إن أيام الأعياد لديهم صارت الىحال لا ترضيهم على الإطلاق. وما عادت رُتب الإكليل تجري نهار الأحد، كما هو حاصل في الكنيسة، إنما صارت تجري نهار السبت، مجاراة "للشبات" اليهودي. ذلك أن المال أقدر على خلخلة العلاقات الاجتماعية، من وجود الفرق الإسرائيلية. وصارت النساء الشابات اللواتي يعملن لدى الإسرائيليين، أو يتعاملن مع جنود الإحتلال، ينلن أجوراً أعلى بكثير مما تناله العاملات في بيروت. والحال أن هؤلاء اللبنانيات ما كنّ ليرضين بالتغزل بهن، إلا طمعاً بهذه القدرة الشرائية العالية. لتقلصت الزيجات، وتزايد الطلاق في صفوفهن. إذاً، بات الجنوب منطقة معدومة من حيث الحقوق، بل إنه غدا موطناً لعمليات التهريب كافة. حتى إذا جلست الى مائدة أحدهم، لم تجد لديه قنينة عرق واحدة، إنما ترى قناني الويسكي من نوع جوني ووكر. لم تتوان عصابات التهريب فيه عن الاتجار بالمخدرات وإرسالها عبر الحدود، وبيع السيارات المهربة والمسروقة، وكل ما حُرم التداول به علناً. وكان هذا الوضع، لبعض الأفراد الذين يسؤوهم القانون في بلادهم، ملجأ مثالياً لهم أكثر أمناً من جيش لبنان الجنوبي، الذي يقوده اليوم أنطوان لحد، بلا حياء. بدا لي ذلك العالم الذي انكشف لي خلال زيارتي الأولى لقريتي، وبعيد لقائي الأول بـ "مازن" في بيروت، بدا لي شاذاً. وفيه عدت والتقيت بأقاربي، وأصدقائي، وجهدت في أن أذوّب كياني وسطه، لأفهم طواياه جيداً. أما الحديث عن المقاومة فلم يكن في الحسبان، على الإطلاق. فهي ما برحت موضوعاً محرماً نظراً لحضور جهاز المخابرات القوي، سواء أكانوا مرتبطين بجيش لبنان الجنوبي مباشرة، أم بجهاز الشين بت، وهو جهاز مكلف الحفاظ على الأمن الداخلي للدولة العبرية. من الظلم الادعاء بأن معظم اللبنانيين الذين صادفتهم كانوا مؤيدين للإسرائيليين. على العكس من ذلك، فقد ظلوا متعلقين ببلادهم وبعائلاتهم، التي غالباً ما كانت تقيم بين القطاعين، المحتل والمحرر وعلى جانبي خط التماس الأخير. بل رأيتهم يجهدون في شراء موطئ قدم لهم في بيروت، كلما أتاحت لهم إمكانياتهم المادية ذلك. بيد أنهم حاولوا، كذلك، أن يكسبوا ما وسعهم من الوضع. فلما وجدوا أنفسهم في مهب التاريخ وقرقعة السلاح، وداخل مجتمع انعدم فيه التوازن بفعل الحرب الأهلية، جهدوا في أن يتخلصوا بلباقة مما هم فيه، ويراعوا مصالحهم، من دون أن يطرحوا على أنفسهم أسئلة حول المقدار الذي بلغوه في ذلك الفساد، أو في التعامل مع القوة المحتلة، ما دام (التعامل) تحصيلاً للحاصل. كلهم كانوا مقتنعين بأن هذا الوضع لا يمكنه أن يدوم، إلا أن أحداً منهم لم يبلغ به حد التصور بأن إسرائيل سوف تنسحب يوماً الىما وراء حدودها. في الواقع، لقد توهم هؤلاء بأن تربع قائد عسكري وسياسي على سدة جيش، واصطناع الأخير ألقاباً مثيرة للسخرية في دويلة مسخ، توهموا بأن ذلك أهلّ للبقاء والحياة. فلم لا يكون لبنان الجنوبي مسلوخاً عن لبنان، ويرقى الى مرتبة الدولة، صمام الأمان بين إسرائيل وجيرانها العرب الى الشمال؟ ثم إن لبنان متى استعاد سيادته على هذه المنطقة المحتلة، فإن أفراد الميليشيات الذين كانوا تابعين لجيش لبنان الجنوبي، وهم عسكريون قدامى في الجيش اللبناني وقد باتوا ملحقين بجيش الاحتلال، جعلوا (أفراد الميليشيات) يتخيلون القدرة الميسرة في الانضواء ثانية تحت لواء العلم اللبناني، وذلك بفضل قانون للعفو يصدر لصالحهم. غير أن شيئاً من هذا القبيل لم يكن أكيداً. ولما كنت ابنة مناضل شيوعي ذائع الصيت، ومن قرية أُثر عنها كون أغلب سكانها من الشيوعيين، رأيتني مضطرة الى بذل الجهود المضاعفة لدفع الأنظار عني. ولم أكن بعد، في مرحلة التزامي الأخيرة، بين عام 1986 و 1987، مكلفة بمهمة خاصة، إلا ما تعلق بنقل المعلومات الى بيروت، وبالسعي الى مضاعفة الاتصالات مع اللبنانيين من المنطقة المحتلة، ومع أعضاء بالمخابرات التابعة لجيش لحد، إن كان ذلك ممكناً. وفي المقابل، رحت أجهد نفسي لأبدو في صورة تلك الفتاة البالغة الأنس، والمرحة، والرياضية، وغير المهتمة بتاتاً بالأمور السياسية والعسكرية، التي عُدت شأن المنطقة بتاتاً بالأمور السياسية والعسكرية، التي عُدت شأن المنطقة المحتلة الأول. ورحت أستسهل الحصول على أذونات الدخول الى المنطقة والخروج منها، والتي كانت تُعد بالتناوب بين بيروت والجنوب، لدى مركز المخابرات التابع لجيش لبنان الجنوبي حيناً ولدى الإسرائيليين حيناً آخر تضليلاً لأثري. ورحتُ أتردد على بيروت الشرقية وعلى بيروت الغربية، على حد سواه. وفي آخر المطاف، سعيتُ رسمياً الى عمل في الجنوب. في العاصمة بيروت، كان الناس على يقين بأن لدي حجة قوية للبقاء في الجنوب، وهي العلاقة الغرامية الملفقة. وفي هذه الأثناء، رحت أفيد، بالظاهر، من الهبة المالية التي ما برحت تمد هذه المنطقة، على نحو مصطنع. وفيما انقطعت صلتي بـ "مازن" انقطاعاً مؤقتاً، طرحتُ على نفسي سؤالاً عما إذا كنت مستعدة لإقامة علاقة مع جندي إسرائيلي، محاولة إيقاعه في الفخ. حتى أني أكرهتُ نفسي على محاولة لإغراء شاب لبناني، لأكون على بينة من الحدود التي يسعني أن أبلغها في علاقة مصطنعة. فكانت النتيجة أن فشلتُ فشلاً ذريعاً، إذ بدوتُ عاجزة عن تخطي الحدود الدنيا مما قصدته، وكنتُ مستعدة للقيام بكل شيء، غير أني، حالما وجدتني في ألفة غرفته، أدركتُ أن تجاوزتُ حدودي بكثير، فما كان من صديقي البائس إلا أن سألني عما جرى لي هذا اليوم، لا سيما وأن صيتي كشيوعية يجعلني في نظر الآخرين امرأة متحررة، ويرفعني في نظر أصدقائي الى خير مكانة تؤهلني إقامة العلاقات الغرامية من دون أية وقاية، وبلا أي قلق. الى جانب أحمد تعلمتُ أصول البحث عن المعلومات. كيف أتبين تحركات الفرق، وكيف أقيم عديد القوات المسلحة، وتسجيل أرقام الوحدات، ورسم مواقعها. كما علمني الوقاية من المخاطر، بأن أشار إلي بضرورة الحذر كلما اقتضتني الحاجة الاتصال بالمقاومة أو العمل في السرية التامة. وكنتُ، قبل ذلك، أظن أنه يكفي المقاتل إعداد سريع حتى يسعه أن يمضي وبندقيته في يده، فاكتشفت أن الأمر يتطلب صبراً فائقاً ومضاعفةً للزيارات الى الجنوب، لأدرك، تماماً، الآليات التي يتحرك وفقها جيش لبناني الجنوبي. إلا أن خلافاً حصل بيني وبين مرشدي، ولحين. ومفاده أن مكتباً إسرائيلياً كان أُقيم، سراً، في الأشرفية، من بيروت الشرقية، فتمنى علي أن أهتم لأمره. وكنت أخمن غايته من ذلك وهي إعداد عملية تفجير ضده. فأبديت له عدم استعدادي للقيام بأي عملية في بيروت. فرضخ للأمر مقتنعاً بحجتي. بالنسبة لي، كان ينبغي لحربنا أن تدور رحاها في المنطقة المحتلة، دون كل المناطق. ومنذ شهر تموز / يوليو من العام 1987، باتت نصب عيني خطة محددة للغاية. وهي تتمثل في أهداف ثلاثة: رجال الأمن في جيش لبنان الجنوبي، والإسرائيليين، وأنطوان لحد شخصياً. وفي تلك الحقبة، كانت فكرة انفصال المنطقة الجنوبية المحتلة عن سائر لبنان قد لقيت سيرورة واسعة. قائده المزعوم من شأنه أن يكون خير الوسائل لتدمير جهود الإسرائيليين الذين دفعوا بسلفه سعد حداد الى إعلانه دولة "لبنان الحر"، في المنطقة التي كانت لا تزال في قبضته. وكنت مكلفة بأن أعاين، مكانياً، أي الأهداف هي الأقرب الى التحقيق. ورحت، في هذا الشأن، أباشر كل أنواع الاتصالات، وأقبل الدعوات، واحدة تلو الأخرى، لأعياد أو احتفالات مهماكان نوعها. حتى أمكنني التقرب شيئاً فشيئاً، من مركز المخابرات التابع لمدينة حاصبيا، قريباً من مرجعيون. ومما لا شك فيه، أن أحداً من محدثيّ لم يكن ليخدعه تصرفي خداعاً تاماً. فكنتُ أُصنف في خانة الوصولية، أو في خانة غير محددة. وتحت المظاهر الخادعة وصيغ اللياقة التي ما برح الناس يرمونني بها، كنت موضع رقابة شديدة منهم، ومجالاً للتقدير أو التعيير. ومرت الأسابيع دون أن ترتسم أمامي فرصة تتيح لي التقدم خطوات. وتوزعت إقامتي بين دير ميماس، الى جانب عمتي، التي أسكنتني لديها، منذ أن نزل جداي للإقامة لدى أبنائهما في بيروت، لكبرهما، وبين مرجعيون، لدى ابن عمي عصام. عصام متزوج ويعنى بتربية ولديه، جاهداً في أن يجنبهما العالم الشاذ الذي يمد خيوطه من حولهما. وكنت له صلات جيدة مع معظم عناصر المخابرات المولجين الاهتمام بالأمن، شأن الإسرائيليين. غير أن تصرفه بدا لي أعقد مما تُنبئ به ظواهر الأمور. كان يسعى، بالأحرى، الى نيل ثقة الإسرائيليين حفاظاً على مصالحه، غير أنه الشيوعي في دوافعه الأولى وأصوله، ظل في قرارة نفسه معارضاً للاحتلال. حتى أن امرأته، جانيت، كادت تشارك، ذات يوم، في نشاط للمقاومة. وما أن وطأت قدماي منزلهما حتى أخذ يستقصي نواياي وقناعاتي، وهو يعرف، حق المعرفة، صيت عائلتي، ولا سيما والدي وعمي. وذات يوم، وبينما كان يقلني في سيارته، مررنا بمكان صار معروفاً، حيث نفذ المقاومون عملية صاعقة، بادرني بالسؤال، وعلى نحو غير متوقع، عما أفكر به حيال هذا التصرف. فلبثت متحفظة، بالطبع، ولم أبد له ما يجول في صميم فكري، إنما أظهرت له عدم تفهمي لهذا النوع من الأعمال ورفضي العنف بعامة، وأرفقت ردي هذا بدعوة الى تلاقي الإرادات الخيرة في البلاد. راقت هذه الإجابة كثيراً لابن عمي. ومنذئذ، راح ينظر الي على أني فتاة بسيطة وبعيدة كل البعد عن الحقائق السياسية. وفي اول حزيران / يونيو من العام 1988، أقمتُ في منطقة الجنوب هذه، إقامة دائمة. وعليه، فقد صار الاتصال ببيروت صعباً للغاية. ففي العام 1987، أمكنني معرفة خطة كان أعدها الإسرائيليون للهجوم على كفرتبنيت، قبل 15 يوم من حدوثها، إلا أني كنت عاجزة عن إبلاغ الرسالة الى المعنيين. ولدى عودتي الى بيروت، نُصحت بأن أكون على صلة مع مناوبين للمقاومة، يكونون في الجنوب. رفضتُ ذلك، لأني كنت على يقين بأني موضع مراقبة عن كثب. فاقترح القيمون علي حلاً بديلاً أثبت فعاليته: رسائل مرمزة عبر الهاتف. وفيما بعد، أمكنني أن أبعث بمعلومة على هذا النحو، ومفادها أنه سوف ينظم احتفال تؤدي خلاله مطربة لبنانية شهيرة وصلات غنائية، وكان يفترض أن يحضر الحفل أنطوان لحد ومسؤولون إسرائيليون. لقد كانت خير مناسبة لعملية عسكرية. غير أن شيئاً من هذا القبيل لم يكن ظاهراً في المكان. فرأيت من غير المجدي للتخطيط لأي عملية من هذا النوع. وللحال، قصدتُ مركز الهاتف واتصلتُ ببيروت، متكلمة مع صديق داعية إياه لأن "يحفظ لي معه كتابي الفيزياء والكيمياء، مع دفتري المادتين". فأدرك محدثي للتو ما يجري. وفي خلال لقاءاتنا الأخيرة نصحني أحمد بأمر واحد: أن أباعد بيني وبين مخابرات حاصبيا التي يرتاب بها. ولكني لم أوافقه ريبته. فحتى لو كنت أركز جهودي على مرجعيون، حيث يقع منزل أنطوان لحد، فإني اعتبرت من الواجب أن أتردد على معارفي في حاصبيا للسلام عليهم، أقله لتضليل الأثر. وقررت أن أبحث عن عمل، في منطقة استراتيجية. وبدت لي فكرة أن أعمل في مركز الهاتف جذابة للغاية. وسرعان ما أبلغت عصام برغبتي في هذا العمل ليتوسط لي مع المسؤول. ثم، أولم يقترح علي هذا المسؤول، وفي حضرة عصام، العمل المذكور؟ ولم أكد أتلفظ بطلبي، حتى صاح بي عصام. يمكن القول إن للعاملات في الهاتف، بالنسبة له، صيتاً غير حسن. فهن، الى كونهن مرتبطات مباشرة بجهاز المخابرات، يحيين حياةً أخلاقية فاسدة، على ذمة عصام. وقد راح يصيح وكأنما مُس بالصميم، وقال: "مستحيل! أو تدركين ما تفعلين؟ إنك لساذجة حقاً!". فأجبته بأنه ينبغي لي أن أجد عملاً، ويسعني أن أؤدي خدماتي للمركز الثقافي والرياضي في مرجعيون، وهي فكرة منطقية تنسجم مع ميلي الى هذا النمط من النشاطات. فكان أن هدأت هذه الفكرة من روعه، للحال. حتى أنه خلص الى اعتبارها ممتازة وأكد لي أنه سوف يقوم باللازم لتدبير اللقاء بالمسؤول عن ذاك النادي. حُدد الموعد مع هذا الأخير. ومضيتُ مع عصام الى المركز. وسار اللقاء على خير ما يرام. فقد كان محدثي ودوداً، ولم أجد كبير صعوبة في إقناعه بأن الرياضة هي شغفي. واقترحتُ عليه أن أقدم دروساً في كرة الطاولة، أو في التمارين الرياضية البدنية. فتنته الفكرة الأخيرة، فاندفع يستبق آمالي الخرقاء، إذ أكد لي، بلا تكلف، أن امرأة قائد جيش لبنان الجنوبي تبحث عن أستاذ للتمارين الرياضية الحيوية (Aerobic). فاندفعت بحمية ظاهرة، وأكدتُ له بحزم لا شك فيه، وخالطة بعض العبارات الفرنسية بكلامي، بأنني ألفتُ هذا النوع من الرياضات. امرأة قائد الميليشيا في المنطقة المحتلة! بيد أن موقعاً بهذه الأهمية ليس بالأمر اليسير. مينرفا لحد، الآتية من حي الأشرفية الأنيق، وهي المرأة الشابة والجميلة وذات الحيوية اللافتة، غالباً ما استشعرت الملل في عالم مصطنع، تدعمه النعمة الإسرائيلية، حيث كل الناس يعرفون كل الناس ويراقبون بعضهم بعضاً، وغالباً ما يتنافسون في رواية حكايات مبالغ فيها، ويجيبون بعضهم بعضاً إجابات فظة لا توفر أحداً. وكنت فكرت، للحظة، في أن أضاعف لقاءاتي لدى مزين للسيدات في مرجعيون، أملاً في لقائها، ما دامت تتردد الى ذلك المحل باستمرار. غير أن هذا المشروع لم يكن لينسجم مع شخصيتي، ثم إن تصرفي قد يثير الشبهات. وحتى لو كنت بذلتُ جهوداً في ما خص الثياب، منذ أن ألفتُ العيش في الجنوب، أن التي اعتدت لباس الجينز والتي-شرت في عز شبابي وزهو حياتي في بيروت، فلقد بقيت آنف من التطرية بالمساحيق، ومن العناية المفرطة بزينة الشعر. وبالمقابل، وجدتُ مشروع الرياضة آنف يلائمني كل الملاءمة. دُبر لي لقاء مع مينرفا لحد. وافيتها الى المنزل، برفقة عصام الذي أتاح لي وجوده تجاوز حواجز الأمن بسرعة لافتة، وحال دون تعرضي لتفتيش طفيف. كان المنزل التابع لأنطوان لحد، قائد الميليشيا، واسعاً، ومريحاً، علماً أن لحد يعود بأصله الى البقاع. ولما كانت مينرفا جميلة للغاية وأكثر شباباً من زوجها بكثير، أثارت في نفسي انطباعاً جيداً. إنها امرأة ذكية ومثقفة، ويبدو أنها حظيت بتربية ممتازة، فجهدت في أن تكون على مستوى المصير الباعث على السخرية قليلاً، والذي يحتفظ لها التاريخ به؛ أن تكون السيدة الأولى في لبنان الجنوبي. ولم تكن تتحدث مع أبنائها إلا الفرنسية. ولكنها، كانت تشعر، في قرارة نفسها، أن قبولها في مجتمع مرجعيون لا يزال دونه عقبات. وقد ألفت نفسها، هذه الأيام، في قبضة أستاذة للرقص لا لا تتوانى عن الإفادة عن الوضع، فراحت تبتز تلاميذها مالاً، كلما أتيح لها ذلك. وجعلت تكلفني سريعاً بتدريب ثلاثين تلميذاً، حالما قدح ذهنها عن تمارين الرياضة الحيوية هذه. وفي مناسبة غير متوقعة بلغ مينرفا تقدير شأني، من قبل امرأة فرنسية، وهي زوجة طبيب لبناني، فأبديت سروري البالغ بطرحها، وأبلغتها استعدادي للمباشرة بالدروس حالما تتيح لي دروسي في الجامعة ببيروت، ذلك. وبالطبع تركت لي الخيار في توقيت العمل. في الواقع، كنت أتشوق لأعلم رؤسائي بما يحدث معي، وفضلتُ العودة الى بيروت لمناقشة الأمر، اتقاءً من المخاطر. الحق يقال، أن ضربة الحظ هذه غمرتني بالرضى العارم. وأخيراً، ها هي الفرصة سانحة حقاً. وأراني على قيد أنملة من الإقامة، بهدوء، في قلب جيش لبناني الجنوبي، وهو كناية عن مركز مراقبة يكاد يكون فريداً، لتخزين أكبر قدر ممكن من المعلومات عن عادات قائد الميليشيا وتحركاته. ومنذ بدء النقاشات، جعلنا، أنا وأحمد، نرتثي فرضية العملية المنظمة ضد أنطوان لحد، وها أن ما تصورناه أشرف على التجسد. وفيما بعد، حين التقيت بأحمد، خلتني فخورةً حقاً بالنتائج، وبدا رئيسي متحمساً للغاية، مع ذلك، فقد كنا نجهل، الى حينه، ما يمكن أن يحصل، ولا مَنْ سوف يؤدي المهمة. ولدى مروري ببيروت، أشرت الىأحد أصدقائي ممن يعتبرون متعصبين للرقص، بأن يسجل لي دروساً في التمارين الرياضية الحيوية كانت "جين فوندا" أعدتها. وفي نوع من البراءة، رحتُ أسأل أختي بعض المفاهيم، وهي معلمة للرياضة، ومن ثم قفلتُ عائدة الى مرجعيون لأهيئ النفس للاختبار المشهود .. فانتهزت فرصة غياب عصام وزوجته، ورحت أردد التمارين على شريط مسجل، إذ ينبغي أن يكون الإيهام كاملاً. ووضعتُ في المسجلة شريطاً لحفلة باليه، ووقعتُ عليها حركات ذات موسيقى إيقاعية للغاية. وبعد يومين من عودتي الى الجنوب، سرني أن أجتاز التجربة الأهم في حياتي. وأعانتني بدايات الدروس الأولى. إذ كان علي أن أعاود المجيء الى منزل أنطوان لحد لقياس بعض التفاصيل الدقيقة. وسرعان ما اتفقنا على راتبي. وقد صغتُ مطلبي الذي بدا لي قابلاً للتصديق والقبول، وما دمتُ أتيتُ الى الجنوب، فلا بد لي من العمل، بصورة رسمية. ولم يكن الأجر مرتفعاً للغاية، ولا منخفضاً للغاية. خمسة دولارات عن الشخص الواحد، هذا إذا بلغ المسجلين ثلاثين شخصاً. وحين التقينا مع مينرفا، للمرة الأولى، وطمأنتني مينرفا أننا لن نحتاج الى دعاية، نظراً لندرة وسائل الترفيه في المنطقة المحتلة. وهي لم تسع الى أستاذ للرياضة إلا بتحريض وطلب من صديقاتها، أما اليوم فسوف تُحمل على تغيير لهجتها. ولما رأت أن الفتيات الأخيرات حنثن بوعودهن، انتاب مينرفا غضب شديد، وأيقنت أنهن يهزأن بها، ويجهدن في استبعادها على الدوام. لم يثنها الأمر، فالتزمت كلياً في هذا المشروع الذي اكتسب في نظرها أهمية غير متوقعة. وراحت تجعل منه موضوعها المحبب. حتى إذا استشارت زوجها، أنطوان لحد، أكد لها دعمها المطلق. وكان ينبغي أن تباشر الدروس في جمهور محدد، لا يتعدى الخمسة تلاميذ، مع ذلك فقد بدأت الدروس حقاً. بقيت مسألة المال. إذ لم أكن أمني نفسي بالكثير بهذا العدد القليل من التلاميذ. ولأجل أن تجد مينرفا حلاً لهذه المسألة الدقيقة استعانت بزوجها، فكانت لي أولى المناسبات التي ألتقي فيها أنطوان لحد. كان أحمد أراني، في ما مضى، صورةً لملازم في الجيش اللبناني، غي رأن قسماته تبدلت كثيراً عما كانت عليه في سنوات معدودة. فرأيت حيالي شخصاً مختلفاً كثيراً عن الصورة التي طالما حفظتها عنه. إذ لم يكن الرجل ذا طباع منفرة. وكان يجهد نفسه في سبيل إرضاء زوجته. فاقترح علي أن أعوض عن النقص في مردودي من نقوده الخاصة. قبلتُ اقتراحه مبديةً له تعلقي الشديد بهذا المشروع. وحين أخذت إجازة، تبدى لي أن ثمة قراراً يسلك سبيله الى النضوح في ذهني، شيئاً فشيئاً. فها أنا أخيراً، في الساحة، قريبة جداً من الهدف الذي وضعناه نصب أعيننا. وعليه، فإنه يعود لي وحدي أن أقوم بالمهمة الأعظم طموحاً مما كنا نتخيله في هذه الأثناء. أن أقتل أنطوان لحد. يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا حسبنا الله ونعم الوكيل رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان