اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

كلمات من قلب الحصار ....


Recommended Posts

كلمات من قلب الحصار ....

كلمات بالرغم من الجراح..

السبت ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٦

بيروت المحاصرة 1982

غرفتي

غرفتي الصغيرة،غرفتي الجميلة،جدرانها مزينة بورق الجنة وهي جنتي الكبيرة.. احترقت بفعل قنبلة إسرائيلية من صناعة أمريكا التي تدعي الحضارة، التي أعدمت الثائر جيفارا...

أحترق سريري وسروال نومي، أي بيحامتي، كما احترقت كتبي وأوراقي وكل ما كنت أنيته وجمعته على رفوف حبي من كتب العلم والأدب.. كانت غرفتي ملخص حياتي فقد بنيتها خلال مروري ببيروت في الطريق إلى فلسطين.

تأثرت يوم تناثرت في غرفتي أشلاء كتبي وشظايا قنبلتهم، لملمت ما تمزق من أوراقي ونظفت ما احترق منها ثم جففت دمع عيني بصفحة من ميثاقنا الوطني،وبأخرى مسحت جبيني المتصبب عرقاً.. عرضت على نفسي في المرآة " المشدوخة " شرب كأس من عصير الملوك.. لكن نفسي التي آلمها ما حل بمملكتها الصغيرة، أبت شرب أي شيء.. تركتها في مرآة الغرفة المشدوخة، ومضيت أتبع آثار الدماء، حتى وصلت منطقة تعرف بمدينة الرياضة.. لم يبق من المدينة سوى أطلالها.. كل ما فيها خراب .. صارت مدينة موتى وأشباح.

حزنت كثيرا على غرفتي لأنها كانت مخزن حياتي وحاضنة أسراري الشبابية ومخبأي الكبير،فهناك في عالمي الصغير والحديث العهد بحياة المدن الكبيرة والليالي الطويلة،خاصة في زمن الحرب وجدت نفسي.كنت فتىً جاء للتو من مخيمات الجنوب، وكانت بيروت سيدة المدن، ست العواصم، تشدني إليها، توضح لي عما فيها من عجائب وغرائب.. فيها عرفت طعم الرمان والتحفت برمل الشاطئ الذهبي، هناك نمت يوم فقدت غرفتي، وهناك نامت معي عروس البحر، نمنا طويلا بالرغم من زوارق وسفن الموت التي كانت تقذف الحمم والقنابل على العاصمة.. حزنت على غرفتي وسعدت بعروس البحر، فقد منحتني تذوق فاكهة البحر وشرب عصير رمان الحياة.

غرفتي كانت بكل صراحة مثل مملكتي، مدينتي الفاضلة ، تبعث أفكاري التي أخذت في التطور على أرصفة المدينة،البندقية، مع الكلمة والحرية.. غرفتي الأصغر من مكتب أصغر موظف في دائرة المباحث، كانت لي بمثابة البيت والقصر والقلعة والمكتب والعالم المثالي،الذي أقمت فيه دولة العشاق المثالية. يحدها من الشرق مستوصف صغير يعالج فقراء المدينة مجانا أو بأسعار مخفضة حد الخسارة ومن الغرب منزل طبيب فلسطيني ،وخلفه بعدة أمتار منزل مهندس مطرود من بيته في فلسطين ... ومن الشمال طريق يوصل إلى مخيم صبرا ومن الجنوب طريق آخر يوصل إلى مستشفى المقاصد في بيروت الغربية. وفي نفس مكان وجودها كان مقر شهيد لم يمت اسمه طلعت يعقوب... كما ترون كانت غرفتي جزيرة وسط بحر من المراكز الحساسة وعلى حدود الاستهداف اليومي.

غرفتي المطلة على صبرا والساهرة على الفاكهاني ربيتها لعامين متتاليين من التعب والجد والسهر. كنت وإياها طفلين في خضم الامتحان نجحت هي ولم أرسب أنا. ماتت هي وبقيت أنا.. أما معارفنا فقد ماتوا .. نعم ماتوا وبقيت هي..

غرفتي التي بنيت وأحببت وودعت وعاهدت على عدم نسيانها. ذهبت مع ريح الموت العاتية،ريح الأسفار والأحبار القادمة من وحل التاريخ الدموي ، ريح الغزاة ، الذين دمروا أريحا قبل آلاف الأعوام، وها هم على أسوار بيروت يعيدون دورة الدمار..

غرفتي تلك ! لم انسها ولازلت أذكر ورق جنتها الذي كان يغطي جدرانها، وأذكر شظايا القنبلة التي دمرتها وغيرت معالم محيطها، وأعادت اغتيال الشهداء عبر إصابتهم وهم في إطارات الصور المعلقة ، سقطوا في الحرب شهداء، وها هي قنبلة الغزاة الذكية تعيد اغتيالهم و ذلك بسقوط صورهم المعلقة على جدران غرفتي..

كل هذا يا سادة حدث في بيروت المحاصرة صيف سنة 1982.

حول بيتنا..

حلقت خفافيش الليل حول بيتنا. كان الليل اسود والعتمة أم الأشباح ، ولم نكن قبل ذلك قد رأينا تلك الأشباح بأشكالها المرعبة والمخيفة.

كنا نسمع عنها في حكايات وقصص العجزة وكبار السن...

كنت شخصيا أخاف كثيرا من الشبح الأزرق الذي يأتي بساق واحدة، وفي وجهه عين كبيرة فاجرة تحتل مساحة مميزة فوق انفه الطويل.. عين يتطاير منها الشرر.. شبح يسير مثل الأمير يتبعه ديك ازرق يعلن كل صباح قرب قيامة الساعة..

الشبح الذي كنا نخافه في طفولتنا، غير الشبح الذي يأتينا هذه الأيام وفي الليالي الحارقة. فذاك كان شبحا مختلفاً، شبح من " الخراريف " ومن حكايات العجائز،أما هذا الشبح الجديد فهو وجه من وجوه الغزاة..بشع فوق العادة،لا نور فيه ولا ضوء.. شبح موت ينعق مثل غربان الشؤم.

يذكر ميلاد يوم جاء الشبح ودار حول بيتهم كيف كان المخيم يهم بدفن موتاه الذي ماتوا احترقوا بقنابل النابالم. يقول : كنا صغارا ولا نعرف سوى ان النابالم يحرق حتى الحجارة وانه يشوه كل شيء وان الأمريكان استعملوه في حربي كوريا وفيتنام ..

كانت المدينة صامتة كقبر كبير في مقبرة واسعة وشاسعة تقع على أطرافها و في ضواحيها النائية.مجيء الشبح ترافق مع بداية الشعور بوطأة الحصار الذي طال، ولكنه سقط مثلما سقط الشبح فيما بعد على أعتاب المدينة العصيّة.

لم ننم تلك الليلة،ولم تنم بلابل الجار الذي نام بدوره سكران من الغم ومن عربٍ تآخوا مع العدم . بعد منتصف ليل شديد الحر وشديد الكر والفر على جبهات المدينة كلها، أدرنا المذياع فجاء صوتهم قويا،أنهم ينشدون لصمودنا : "البندقية هي الهوية وهي التي تصون القضية".. أخذت لا شعورياً أنشد معهم وبقيت هكذا إلى أن توقف فجأة صوت المذياع وأنقطع البث. عرفت أنها القنابل وهي اللغة السائدة منذ عدة أيام .. لغة الغزاة البائسة، والناطق الرسمي باسم من لبس جلد ضحايا المذبحة وباسم العالم الغربي وعسكر الاستعمار العالمي.

كانت السماء تلك الليلة مضاءة بشكل جعل الأشياء واضحة ومرئية، والشكر يعود في ذلك لقنابل الإضاءة تلك التي ستكون بعد قليل سببا في مقتل جاري وبلابله المغردة الجميلة.إذ بينما كان جارنا يسقي ورداته بالرغم من قلة وشحة المياه في المدينة المحاصرة سقطت القنابل علينا من كل صوب وحدب،فأصابته بمقتلٍ .. أذكر أنني رأيت القطة المشردة وهي ترقص مذبوحة من الألم.. كذلك كان حال كلب الجيران المدلل فقد حضر كي يلتهم بعض الطعام عند الجار،خاصة انه ومنذ ازدادت وطأة الحصار أصبح لا يجد طعاما كافيا،ولاحظت أن صحته تراجعت بشكل كبير،إذ انه لم يعد ينبح ويسعر كما كان قبل الحصار ،حتى انه صار أقل حركة، وتراجع مزاجه نحو الأسوأ... خلت نفسي مثله بعد أسابيع الحصار والغذاء الخالي من الفيتامين والبروتين .. لكن نفسي أبت ان تشاركني تهيؤاتي.. في ذلك اليوم رأيت كذلك كيف نتفت القنابل ريش البلابل وألقت بهم نتفاً توزعت على وردات الحديقة وأعشابها التي ارتوت بالدماء.

لحسن حظ أغلب الجيران ولحسن حظنا أن أحدا منهم ومنا لم يصب بأذى. فباستثناء جراح جارنا السقا صاحب الوردات اقتصرت الإصابات على الماديات والحيوانات الأليفة...

كنت استمع لجارنا السقا و هو يقول دون أن يلحظ وجودي خلفه : آه منكم يا جنود جيش الغزاة! آه كم انتم آدميون ومتحضرون ، تقتلوننا وتقتلون حيواناتنا الألفية بلا رحمة... أي صنف من البشر انتم ؟

دورة إسعافات فورية

بجوار المشفى ذي الحصانة الأمريكية سقطت قذائف وقنابل إسرائيل الغازية. تعكر صفو المكان الذي كان حتى قبل هنيهات يعتبر محصناً ضد الغارات والقنابل والاعتداءات. ساد الجو شكل من أشكال الفوضى والفزع. حتى أنا نفسي شعرت بالخوف ليس على نفسي فقط بل على الجرحى قبل أي شخص آخر. فالمكان يعج بهم من كافة الأعمار، ومن الإناث والذكور.. جرحى من كافة الأصناف،نقلهم من الغرف إلى الممرات يتطلب نقل الأسرة والعربات ومتابعتهم عن قرب. لأن فيهم من هم بلا سيقان وأيد وحتى أعين... فقد كان الاحتلال أطفأ نورها لكنها بقيت ترى المستقبل أمامها بعيون فلسطينية، لبنانية وعربية، وظلت تحلم به خاليا من الاحتلال وعملائه.

قاربت الساعة منتصف الليل وكنت وحدي أتنقل بين غرف الجرحى، استطلع أمورهم أول بأول.. تلك الليلة كان الصمت يلف المكان، انتابتني قشعريرة صيف، أقلقني واقع حال الناس في هذا المكان.وقفت على حافة جدار داخل المستشفى، أخذت انظر بعيداً نحو الشوارع الخالية إلا من بعض الناس،الساعة تشير إلى انتصاف الليل.. لازلت اسمع أصوات بعض الانفجارات المتفرقة في أمكنة غير بعيدة عن مكاننا.. إن الخطر يكبر مع اقتراب تلك الأصوات ووضوحها، لم يعد القصف بعيداً، ها هو يقترب مع مرور الوقت. المسافة هنا تقاس بالأمتار وبصفير القذائف. ففي بيروت المحاصرة نقيس المسافات بصفير القذائف ومن خلال الصفير نعرف إن كان القصف بعيدا أم قريباً... ولكي تكونوا في الصورة أقول لكم صار القصف الآن على بعد عشرات الأمتار لكنه اختلف عن سابقاته وأخذت القنابل تتساقط خلف الجدران والشبابيك، حتى أن شظاياه وصلت إلى بعض الصالات والغرف.

خلقت القنابل التي أخذت تنهمر قربنا نوعاً من الفوضى والقلق وحالة هستيرية بين الذين فقدوا أعصابهم،كان أشدها وأعنفها صراخ الأطفال وعويل النسوة اللواتي وقفن عاجزات عن حماية أطفالهن المصابين.

أسرعت أساعد ، فسحبت أحد الأسرة من صالة قريبة كانت الأقرب لمرمى النيران أسرعت بالسرير وبمن فيه نحو الممر البعيد عن النوافذ المهشمة، أوقفته هناك وعدت لأسحب سريرا ثانيا ثم ثالثا، لم أكن وحدي في مهب الريح،كان معي كثير من المساعدين بالإضافة للعاملين في المستشفى. حاولنا تهدئة روع الناس وخاصة المصابين، بقينا معهم وبقربهم إلى أن توقف القصف بعد تدخل سفارة بلاد العم سام في بيروت. والسفارة تدخلت لأن الجامعة أمريكية، فلو كان القصف على الجامعة العربية من يدري هل ستتدخل السفارة الأمريكية؟ المهم أن الغزاة رضخوا لضغوط أمريكا فتوقفوا عن قصف محيط الجامعة الأمريكية.

بعد انبلاج الفجر وبزوغ أشعة الشمس ذهبت للراحة فنمت ونمت حتى أيقظتني شظايا قنبلة انفجرت غير بعيد عني لكنها ولحسن حظي لم تصبني. ولكني بعد أسابيع قليلة من تلك الليلة وجدت نفسي في نفس الغرفة 406 حيث ودعت صديقي يوسف الذي قضى متأثراً بجراحه على نفس هذا السرير.

في مستشفى الجامعة الأمريكية

إطلالة الفجر آتية لا بد آتية،بعد ساعة،يوم، أيام ، أسبوع ، أسابيع شهر أو أشهر. هي آتية حتما آتية.. . هكذا كنت اردد بعدما اختطف الموت من بين يدي في الحصار الطويل عددا من الأصدقاء والأقارب.. ومن بينهم رفيق للتو تعرفت عليه..

في غرفة بيضاء كل ما فيها ابيض عدا وجه الشاب الأسمر، الممدد على فراش الموت بلا حراك. إذ أن نصف وجهه مصاب والنصف الآخر غاب في البياض. كان كل شيء جليلاً.. احتل الصمت المكان ... ترى هل فكر بأمه التي تنتظر عودته فارسا من هذا الزمان؟ هل فكر بوالده الذي سار يتوكأ على عصاه ، مرفوع الرأس في أزقة حارته؟ وهل فكر بعروسته التي تجهل مصيره هذه اللحظات؟؟ بمن كان يفكر قبل قليل؟ قبل ان تقترب فلسطين من جبهته لتقبلها ..

كل ما اعرفه عنه أنه مقاتل عربي، كان مع رفاقه يقاتل على خط المواجهة في منطقة المتحف، وأصيب هناك بعد أن منع ورفاقه تقدم الدبابات الغازية.

لم أكن اعرف اسمه ، لم تسنح لي الفرصة سؤاله حتى عن لقبه .. قررت ان أناديه رفيق وبقيت أناديه كذلك حتى غاب وجهه عني وغبت بوجهي عنه.

قد يقول قائل ويسأل سائل : لماذا رفيق ؟

وأجيبه او يجيبه أي رفيق لأن الرفيق مثل الشقيق وأحيانا أفضل..

حين ناديته برفيق حرك إبهامه لأول مرة فاعتبرت ذلك إشارة رضا منه.. ثم ماذا عن " رفيق" انه لقب نطلقه على كل صديق وزميل عمل وعقيدة. ورفيقك هو صديقك ، هو من رافقك وصدقك.. ثم ان لقب رفيق لا يناله أي إنسان، مع العلم ان كثيرين يطمحون لنيله .. ثم اسم رفيق اسم جميل ، ويذكرني برفيق صبا وشيطنة في مدرسة المخيم.. مات في حادث مؤسف يوم كنا لازلنا صغارا .. منذ تعرفت على صديقي الذي مات بعضالٍ مبكر أحببت كل رفاق الحياة.

أما هذا الرفيق المدد في سريره الأبيض تحت مرأى عينيّ،لم تقتله الإصابة المميتة ولم يغزه عضال مميت.. بل شظايا قنابل الغرباء.. لم تقتل الإصابة فيه روح الفكاهة،كان يمازحنا كـ " غوار الطوشة "، ويضحك أحيانا ويبتسم للممرضات اللواتي يساعدنه في محنته..كان يطلق عليهن أسماء الممثلات العربيات، هذه نجلاء فتحي، تلك ناديا لطفي، و الأخرى سعاد حسني و أمال عفيش، وناديا الجندي ونجوى فؤاد..... كان صاحب مزاج وهو في طريقه إلى السماء عبر المواراة في الأرض.

سامرته طيلة ليلة كاملة وبقيت معه عدة ساعات، ابتداء من النهار الثاني أخذ يحدثني عن طفولته وعن أمنياته وكيف دارت به الدنيا وعجلتها عندما شعر بالإصابة وهو طائر بين الأرض والسماء. شاهد دمشق والجامع الأموي وصلاح الدين ، ورأى سيف الدولة الحمداني وقلعة حلب ، وقرأ الفاتحة على ضريح سيف الله المسلول .. و قبل يد زنوبيا ملكة تدمر .. كل هذا قبل أن يصبح بين الأرض والسماء..

قال لي ان يوم إصابته اللعينة كان يوم جمعة، جمعة حزينة وسوداء .. بعكس كل ما يلفه الآن، فكل شيء حوله في هذه اللحظات أبيض، الشراشف بيض ورأسه ملفوف بشاش ابيض، وجسده كذلك مع بقع حمراء هنا وهناك.. كذلك المناديل والمناشف والشاش والقطن والعصابات ولباس مؤنسه ورفيقه كان أيضاً ابيض.. والسلام المفقود ابيض ..وحبات الفاليوم بيضاء والموت ابيض أما الحياة فسوداء سوداء ..

لقد فاجأ رفيق رفيقه بالموت فجأة ، فقد كان يحدثه عن أحلامه يوم كان طفلا صغيرا يلعب في أزقة الفقر والبؤس في حارات دمشق، عاصمة الخلافة الإسلامية الأولى. ثم فجأة توقف عن الحديث وأخذ ببطء يغيب في بياض الغرفة... استشهد رفيق متأثرا بجراحه بعد نزيف داخلي حاد وضع حداً لحياته القصيرة.كان له من العمر 18 عاما ونيف. بموته خلت صالة في المستشفى من نزيلها بحيث استطاع جريح آخر من الذين كانت أسرتهم في الممرات الانتقال إلى صالة رفيق البيضاء.. ولا ندري ان كانت الصالة للشفاء أم للفناء..

مات رفيق لتسجل دائرة الموتى في الجامعة الأمريكية في سجلاتها موت إنسان جديد، استشهاد فدائي لم يعرف اسمه.غاب كما ظهر، وذهب كما جاء بلا اسم وبلا عنوان..

بقيت انظر في بياض عينيه وأقول له لماذا يا صاحبي؟

لماذا تموت بين يدي أنا يا رفيق؟

كان كل ما في الغرفة ابيض مثل أعلى قمة على جبل الشيخ .. كل شيء ابيض عدا وجهه الباسم و شبح الموت المختبئ في الغرفة.. هذا الذي يأتي أحيانا أسرع من الفجر الذي ننتظر.

* كتبت في بيروت المحاصرة صيف 1982

أم محمد وحب البقاء

من ذكريات بيروت المحاصرة سنة 1982

ابتسامة تعلو الوجه الحائر ،الحزين.. وجه جنوبي من لبنان وشمالي من جليل فلسطين... وجه بريء جاء من مخيم عين الحلوة الشهيد ليبحث في بيروت المحاصرة عما تبقى من الأحبة والخلان..

وجه من بلدنا وبلد في وجه امرأة من مخيمنا .. جاءت من الحصار إلى الحصار بعدما رد الصدى صدى صوتها المستصرخ.. لم تجد عند من تبقى من العرب مروءة " امرؤ القيس " ولا شهامة طرفة بن العبد أو شجاعة عنترة، وأصالة عمرو بن كلثوم، ولا حتى نخوة المعتصم... فحكومات العرب في بلاد العرب المهزومة بتبعيتها للروم لا حول لها ولا قوة...ورغم ذلك لم تبك أم محمد على أطلال بيروت، ولم تذرف دمعها على مرأى الاحتلال. كانت شجاعة مثل مليون عنترة وذات مروءة كالملك الضليل وأصيلة كعمرو جاءت تخبرنا اليقينا .. امرأة فيها من شهامة الملوك ما يصلها عبر الانتماء بأرض الأنبياء.

أم محمد امرأة من مخيم عين الحلوة لم تأت من عمورية البعيدة، لم تستصرخ الضمائر القريبة، فهي عالمة بمصيرها منذ زمن الذبائح البشرية الفلسطينية في مخيمات تل الزعتر وجسر الباشا وضبية.. تلك الأم الفلسطينية كانت تحمل روحها على كفها وتسير في الطريق الملتهب من جنوب الوطن اللبناني الكبير إلى عاصمته المحاصرة بصمت العرب الأكبر..

جاءت تبحث في أزقة العاصمة عما خبأته الأيام للمخيم.. لم يخفها الحصار ولا لاإنسانية جنود الغزاة وفاشية حلفائهم الانعزاليين. لم تخف لأنها قادمة من مخيمٍ أذاق الغزاة أشد أنواع الخوف والهلع، حيث جعلهم كعصف مأكول بداية فترة حصاره الطويل.

هناك في عينها الحلوة كان المخيم يرتسم شعلة ضوء، يشتعل شمعة أمل، وكانت أم محمد تحمل على خصلات شعرها الشائبة أسماء القرى والبلدات الجليلية، هنا الرأس الأحمر ، لوبية، طيطبا، الغابسية، حطين ، سفورية،الشجرة، المنشية،الصفصاف،الزيب،البصة، الطيرة و قديثا ..أسماء البلدات التي نزح منها أصحابها أثناء موسم الجراد الصهيوني، فأصبحوا لاجئين في مخيمات الشتات... أما هؤلاء الجنود وعائلاتهم القادمة من خلف البحار والمتتبعة طريق المغول والتتار، الذين نهبوا الأرض وسلبوا الوطن، فأصبحوا بالقوة والنار والإرهاب أصحاب البيوت، ينازعون أصحابها على الحقوق. ويلاحقونهم حتى في لجوئهم الإجباري... هؤلاء لا بد إلى زوال مهما طالت عتمة الليالي والأيام..

ابتسامة كانت تعلو الوجه الشاحب، بالرغم من قسوة الماضي والحاضر وتعدد الأعداء وكثرة المجازر والحواجز... عبرت أم محمد خطوط الموت والقتل، جازفت بحياتها، مرت بين الدبابات قطعت الخط الفاصل بين مدينة الدمار وشرقها الذي غابت عنه الشمس.. عبرت إلى غرب المدينة فرأت الشمس وهي تنحني إجلالاً فوق أضرحة الشهداء مصبوغة بلون البرتقال الجنوبي.. رأتها تنحني فوق رمال الساحل الممتد من مثلث خلدة في بيروت إلى عكا وحيفا وغزة في أرض فلسطين المحتلة.

يا لهن من نسوة قويات واثقات إذ بالرغم من جبال القهر التي يضعها الاحتلال فوق أكتافهن،إلا أنهن اخترقن الحصار ووصلن إلى عاصمة العروبة المحاصرة... أم محمد واحدة من نساء فلسطين الصابرات والصامدات... واحدة من مخيمنا،امرأة من فلسطين عانت قسوة الحياة واضطهاد الاحتلال وظلم ذوي القربى وويلات الدنيا في زمن الحكام من رعاة البقر وقتلة البشر...

رفضت أم محمد البقاء في بيروت وقبل أن تمضي عائدة إلى عين الحلوة قالت لي : أمك وأبوك بخير وكذلك أخواتك ودار عمك وعمتك وخالتك وخالك.. أخوك في المعتقل، أبن عمك أستشهد بعدما سطر ملحمة وهو يتصدى مع رفاقه للدبابات الغازية.. بيتكم أصيب لكنه لازال واقفاً ،وبيوت المخيم دمرت كلها تقريبا، هناك شهداء وجرحى وأسرى ومفقودون ...

البقاء هنا فخر لي ولكل من يريد مواصلة المشوار ومواجهة الغزاة والوفاء للشهداء وللأحياء، لكني سأعود إلى مخيمنا، إلى العين الحلوة التي ستبقى واسعة مثل فلق الجوز الجليلي، وجميلة مثل عيون بناتها الجميلات وحلوة مثل ماء نبعها الذي شربنامنه مرارا...

اني ماضية لكن تذكروا أنكم بصمودكم تزيحون عن كاهلنا صدمة استشهاد المخيم وتعطوننا الأمل ببدء النشاط من تحت وفوق الأرض...تذكروا أملنا في بيروت..

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

رائع ومؤلم وشجى يملآ عيونى دموعا تآبى ان تفارق مقلتى

ملامح جرحنا فى عباءة الحكاية

آين منهم كل البشر

اعان الله المظلوم ونصر ابنائنا بين كفى الرحى

:D :o :D

شكرا استاذ اسامة انك دائما تذكرنا بما يجب الا ننسى

عندما تشرق عيناك بإبتسامة سعادة

يسكننى الفرح

فمنك صباحاتى

يا ارق اطلالة لفجرى الجديد

MADAMAMA

يكفينى من حبك انه......يملأ دنياى ....ويكفينى

يا لحظا من عمرى الآنى.....والآت بعمرك يطوينى

يكفينى .....انك........................تكفينى

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...