اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان


الرافعي

Recommended Posts

منقول من موقع البينة

5/10/2006 - 13 رمضان 1427

معاوية بن أبي سفيان .. بين البخس والإنصاف

إن سلامة القلب تجاه الصحابة والتأدب معهم من صميم اعتقاد أهل السنة والجماعة، ولذلك فإن الطعن فيهم هو وسيلة للطعن في الدين الإسلامي فأصحاب رسول الله كلهم عدول ثقات، وهم الذين نقلوا لنا هذا الدين.

روى الإمام الشافعي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله اختارني واختار أصحابي فجعلهم أصهاري وجعلهم أنصاري، وإنه سيجيء في آخر الزمان قوم ينتقصوهم، ألا فلا تُناكحوهم، ألا فلا تنكحوا إليهم، ألا فلا تصلوا عليهم، عليهم حلت اللعنة].

ولعله لم تنل شخصية في التاريخ من التشويه مثل شخصية معاوية رضي الله عنه خاصة من أهل الأهواء قديماً للنزاعات السياسية والمذهبية، ثم وجد المستشرقون في رواياتهم مرتعاً خصباً للنيل من الإسلام، وقد حاولت هنا أن أوضح الصورة الحقيقية لهذا الصحابي، فهذا غيض من فيض محاسنه.

اسمه ونسبه:

معاوية بن أبى سفيان صخر-رضي الله عنهما- بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يلتقي نسبه مع نسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند عبد مناف.

وأمه هي هند بنت عتبة بن ربيعة.

و أخته أم المؤمنين رملة بنت أبى سفيان - رضي الله عنهما- زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

قال الذهبي - رضي الله عنه-: "كان رجلاً طويلاً، أبيض، جميلاً، مهيباً".

مولده وإسلامه:

ولد قبل البعثة بخمس سنين، وأسلم في عام (7هـ) وأخفى إسلامه حتى فتح مكة خوفاً من أبيه ولم يظهره إلا في فتح مكة، ولذلك ظن كثير من المؤرخين أنه من مسلمة الفتح.

فضله:

وهو من مشاهير الصحابة وفضلائهم - رضي الله عنهم جميعاً- دعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: [اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به].

أخرج البخاري في التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية رضي الله عنه: [اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب].

ومن الأحاديث الدالة على فضله أيضاً ما رواه البخاري - رحمه الله - عن أم حرام بنت مِلْحان الأنصارية - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [ أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا - أي: فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة. فتح الباري - قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله، أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم، وكان ذلك جيش معاوية في خلافة عثمان - رضي الله عنهما ].

ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: [ أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر -القسطنطينية: فتح الباري- مغفور لهم] (وهو الجيش الإسلامي بقيادة يزيد بن معاوية، وفي جملة من كبار الصحابة منهم: أبو أيوب الأنصاري وابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم جميعاً) فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا.

وقد ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم بعض عمله فكان يكتب له، ثم ولاه أبو بكر رضي الله عنه بعض عمله، ثم ولاه عمر رضي الله عنه بعض بلاد الشام، وظل عليها طوال حياة عمر رضي الله عنه مع شدة عمر على عماله، ثم جمع له عثمان بلاد الشام كلها.

زهده رضي الله عنه:

روى الإمام أحمد في كتاب الزهد (ص172 طبعة مكة) عن أبي شبل محمد بن هارون عن حسن بن واقع عن ضمرة بن ربيعة القرشي عن علي بن أبي حملة عن أبيه قال: رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه ثوب مرقوع.

وأخرج ابن كثير(8/134) عن يونس بن ميسر الحميري الزاهد – وهو من شيوخ الأوزاعي – قال: رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصيفاً وعليه قميص مرقوع الجيب يسير في أسواق دمشق.

(يتبع)

(الجزء الثاني)

ثناء الصحابة عليه:

قال سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه: ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب يعني معاوية.

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: ما رأيت رجلاً أخلق بالملك من معاوية.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: ما رأيت أحداً أسود من معاوية.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال لأهل الشام: ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا (يعني معاوية).

أخرج الطبراني (5/330) حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: (قال عمر بن الخطاب: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية)!

كما أورد هذا الخبر البلاذري في أنساب الأشراف (4/147)، والقالي في الأمالي (2/121).

عن عمر بن الخطاب لما ولاه الشام: لا تذكروا معاوية إلا بخير (البداية والنهاية (8/25).

روى البخاري في الصحيح (3765) أنه قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه.

قال الصحابي عمير بن سعد الأنصاري الأوسي وقد عزله عمر بن الخطاب (وكان يسميه نسيج وحده) عن حمص وولى معاوية: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اهد به).

روى ابن قتيبة عن عتبة بن مسعود قال: أنه لما مر بنا نعي معاوية قمنا فأتينا ابن عباس فوجدناه جالساً قد وضع له خوان وعنده نفر، فأخبرناه الخبر، فقال: يا غلام! ارفع الخوان وسكن ساعة، ثم قال: جبل تزعزع ثم مال كلكله، أما والله ما كان كمن قبله، ولكن لن يكون بعده مثله، وإن ابنه خير أهله.

روى ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح من طريق عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة أخبره: أنه قدم على معاوية أمير المؤمنين فقضى حاجته،ثم دعاه، فقال: يا مسور،ما فعل طعنك على الأئمة؟

قال المسور: دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له.

قال معاوية: لا أدعك حتى تكلم بذات نفسك والذي تعيب علي.

قال المسور: فلم أدع شيئاً أعيبه عليه إلا بينته.

فقال معاوية: لا أبرأ من الذنب، فهل تعُد لنا يا مسور مما نلي من الإصلاح شيئاً؟ فإن الحسنة بعشرة أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان.

قال المسور: لا والله ما نذكر إلا ما نرى من هذه الذنوب!

فقال معاوية: فإنا نعترف بكل ذنب أذنبناه،فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك؟

قال المسور: نعم.

قال معاوية: فما يجعلك بأحق برجاء المغفرة مني، فوالله لما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكني والله لا أخير ما بين أمرين من الله وغيره إلا اخترت الله على ما سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، وإني لاحتسب كل حسنة عملتها بأضعافها من الأجر، وإني لألي أموراً عظاماً لا أحصيها ولا يحصيها من عمِل لله بها في الدنيا، إقامة الصلوات للمسلمين، والجهاد في سبيل الله، والحكم بما أنزل لله.

والأمور التي لست أحصيها- يقصد ذنوبه- وإن عددتها –أي: يا مسور- فتكفر في ذلك- أي يكفرها ما تقدم من الحسنات-.

قال المسور: فعرفت أن معاوية قد خصمني حينما ذكر ما قال.

قال عروة: فلم أسمع المسور بعد يذكر معاوية إلا صلى عليه- أي: دعا له.

وفي تاريخ دمشق لابن عساكر: أن ابن عباس رضي الله عنه قال: لله در ابن هند ما أكرم حسبه، وأكرم مقدرته، ووالله ما شتمنا على منبر قط، ولا بالأرض ظناً منه بأحسابنا وحسبه.

ثناء العلماء والمؤرخين عليه:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يكن من ملوك الإسلام ملك خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية،إذا نسبت أيامه إلى من بعده.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: واتفق العلماء أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك،كان ملكه ملكاً ورحمة (الفتاوى (4/47).

قال الذهبي: أمير المؤمنين ملك الإسلام.

وقال: معاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم.

قال ابن كثير في ترجمة معاوية (البداية والنهاية 8/122): وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين.. فلم يزل مستقلاً بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو.

قال ابن أبي العز الحنفي في (شرح العقيدة الطحاوية (722): وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين.

حلمـه:

أورد (ابن كثير 8/138): أن رجلاً أسمع معاوية كلاماً سيئاً شديداً،فقيل له: لو سطوت عليه؟

فقال: إني لأستحي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.

وأورد (ابن كثير 8/138) قال رجل لمعاوية: ما رأيت أنذل منك.

فقال معاوية: بلى من واجه الرجال بمثل هذا.

همته رضي الله عنه:

كان عالي الهمة تدل على ذلك الكثير من الحوادث، منها: بعد أن علم ملك الروم بخلاف المسلمين أخذ يستعد لغزو بلاد المسلمين واستغلال هذه الفرصة، فكتب إليه معاوية رضي الله عنه وهو في معـمعة القتال في صفين: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك، لاصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت،عند ذلك عاد ملك الروم وانكف وبعث يطلب الهدنة (البداية والنهاية).

الجهــاد فـي خلافتــه

استمرت خلافته (20) عاماً ما بين عامي (40- 60هـ).

ونعلم جميعاً أن حركة الفتوحات توقفت بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه وظلت متوقفة في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبعد اجتماع كلمة المسلمين في خلافة معاوية عادت حركة الفتوح، وسأحاول اختصارها.

جبهة الروم في البر:

1- في عام (42هـ) غزا المسلمون اللان – تقع في جورجيا حالياً- وهزموا الروم هزيمة منكرة.

2- شاتية سنة (43هـ) واختلف في قائدها.

3- شاتية سنة (44هـ) بقيادة الصحابي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في بلاد الروم ومشتاهم بها.

4- شاتية سنة (45هـ) بقيادة الصحابي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في بلاد الروم ومشتاهم بها أيضاً.

5- شاتية سنة (46هـ) ومشتى عبد الله بن مالك الخثعمي (مالك السرايا) وقيل غيره بأرض الروم.

6- شاتية سنة (47هـ) ومشتى الصحابي مالك بن هبيرة السكوني في أرض الروم.

7- شاتية سنة (48هـ) مشتى الصحابي عبد الرحمن القيني في أنطاكية.

8- صائفة (48هـ) بقيادة عبد الله بن قيس الفزاري.

9- غزو القسطنطينية سنة (49هـ) بقيادة يزيد بن معاوية ومعه ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وفيها توفي رحمه الله.

10 - شاتية سنة (49هـ) بقيادة الصحابي مالك بن هبيرة السكوني في أرض الروم.

11- صائفة سنة (49هـ) بقيادة عبد الله بن كرز البجلي.

12 - غزوة سنة (50هـ) بقيادة بسر بن أرطأة والصحابي سفيان بن عوف الأزدي لأرض الروم.

13-شاتية سنة (51هـ) بقيادة فضالة بن عبيد.

14-صائفة (51هـ) بقيادة بسر بن أرطأة.

15-شاتية (52هـ) وفي قائدها اختلاف.

16-صائفة (52هـ) بقيادة محمد بن عبدالله الثقفي.

17-شاتية (53هـ) بقيادة عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي.

18-شاتية (54هـ) بقيادة محمد بن مالك.

19-صائفة (54هـ) بقيادة معن بن يزيد السلمي (له ولأبيه وجده صحبه وكانت له منزلة عند عمر بن الخطاب).

20 -شاتية (55هـ) وفي قائدها اختلاف.

21-شاتية (56هـ) بقيادة الصحابي جنادة بن أمية الأزدي.

22-غزوة سنة (56هـ) الصحابي عياض بن الحارث التيمي.

23-شاتية (57هـ) بقيادة عبدالله بن قيس.

24-غزوة (58هـ) بقيادة عبدالله بن مالك الخثعمي.

25-شاتية (59هـ) بقيادة صحابي بدري عمرو بن مرة الجهني.

26-غزوة سنة (60هـ) بقيادة عبدالله بن مالك الخثعمي.

في البحر:

27- (44هـ) بقيادة بسر بن أرطأة.

28- (48هـ) بقيادة مالك بن هبيرة السكوني. وغزوة الصحابي عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر والمنذر بن الزهير (وقيل: الزبير) على أهل المدينة وعلى الجميع خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.

29- (49هـ) بقيادة يزيد بن شجرة الرهاوي بأهل الشام، وعقبة بن نافع الجهني بأهل مصر.

30- (50هـ) بقيادة فضالة بن عبيد الأنصاري.

31- (51هـ) فتح جزيرة رودس على يد جنادة بن أمية الأزدي.

32- (54هـ) فتح جزيرة أوراد على يد جنادة بن أمية الأزدي، غزا فيها يزيد بن شجرة الرهاوي وفيها قتل رحمه الله.

34- (54هـ) غزا فيه جنادة بن أمية الأزدي.

جبهة المغرب:

35- (49هـ) فتح جزيرة جربة على يد الصحابي فضالة بن عبيد الأنصاري للبحر والصحابي رويفع بن ثابت الأنصاري للبر.

36- (50هـ) بناء القيروان بعد فتح أفريقية تونس على يد عقبة بن نافع الفهري.

جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر:

37- تكليف عبد الله بن عامر بن كريز بإعادة فتح سجستان وخراسان؛ لأنه هو فاتحها في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.

38- (47هـ) غزوة الصحابي الحكم بن عمرو الغفاري إلى بلاد الغور في أفغانستان حالياً.

39- (50هـ) غزوة الصحابي الحكم بن عمرو الغفاري إلى جبل الأشل ثم عبوره نهر جيحون.

40- (51هـ) فتح بلخ وقهستان على يد الربيع بن زياد الحارثي.

41- (54هـ) انتصار الربيع بن زياد الحارثي على الترك خلف نهر جيحون.

42- (56هـ) عبور سعيد بن عثمان بن عفان نهر جيحون وفتح مدينة ترمذ.

موقف معاوية من خلافة علي رضوان الله عليهما:

يرجع أصل هذه القضية إلى استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي المنافقين (1) وتأجيل علي رضي الله عنه إقامة القصاص على قتلة عثمان، أدى ذلك إلى مطالبة معاوية لعلي بتسليمه قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين.

وهو ما أخرجه يحي بن سليمان الجعفي بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: (أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، أني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فأتوه، فقولوا له: فليدفع إليَّ قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً، فكلموه، فلم يدفعهم إليه (2).

وفي رواية: فأتوه فكلموه، فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إليَّ، فامتنع معاوية، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين وسار معاوية حتى نزل هناك، وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فتراسلوا فلم يتم لهم أمر، فوقع القتال(3).

إذاً: فأصل الخلاف لم يكن حول اعتراض معاوية على أحقية علي بالخلافة، بل كان بسبب تأجيل إقامة القصاص على قتلة عثمان إذا كان علي يرى تأجيل إقامة القصاص على قتلة عثمان حتى تستتب له الأمور بعد استشهاد عثمان رضي الله عنهم أجمعين.

ولا شك أن الحق الذي سعى إليه علي رضي الله عنه مقدم على الحق الذي سعى له معاوية رضي الله عنه، إذاً فالمسألة تتعلق بالأولويات وهو ما فقهه علي رضي الله عنه.

يقول ابن كثير: (ثم كان ما كان بينه -يقصد معاوية- وبين علي بعد قتل عثمان على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم... وكان الحق والصواب مع علي، ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفاً وخلفاً) (4).

وفي ذلك يقول ابن خلدون: (ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي، أو لإيثار باطل، أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم، وينزع إليه ملحد، وإنما اختلف اجتهادهم في الحق، وسفه كل واحد نظر صاحبه في اجتهاده في الحق، فاقتتلوا عليه، وان كان المصيب علياً، فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل وإنما قصد الحق وأخطأ، والكل كانوا في مقاصدهم على الحق) (5).

وخلاصة القول أن علياً ومعاوية رضي الله عنهما كانا يسعيان إلى للحق ولا شيء سوى ذلك لكن علياً كان هو الأقرب إلى الحق والدليل في ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماَ -الخوارج: النووي، شرح صحيح مسلم – يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس -أي افتراق الناس،المصدر السابق – سيماهم التحالق قال هم شر أو من شر الخلق، يقتلهم أدنى الطائفتين – طائفة علي ومعاوية، المصدر السابق – إلى الحق).

ومن المعروف أن علي رضي الله عنه هو من قاتل الخوارج في معركة النهروان.

وفاته رضي الله عنه:

توفي رضي الله عنه في عام (60هـ)، وكان قد تولى الخلافة بعد صلحه مع الحسن (رضي الله عنهما) عام (41هـ).

قال معاوية في مرضه الذي مات فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني قميصاً فرفعته، وقلم أظفاره يوماً فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة، فإذا مت فألبسوني ذلك القميص، وقطعوا تلك القلامة واسحقوها وذروها في عيني وفيَّ، فعسى أن يرحمني الله ببركتها ثم أغمي عليه ثم أفاق، فقال لمن حضره: اتقوا الله عز وجل، فإن الله سبحانه يقي من اتقاه، ولا واقٍ لمن لا يتقي الله، ثم توفي رضي الله عنه.

______________________

(1) هذه التسمية أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم على الخارجين على عثمان، وهو ما أخرجه ابن ماجه عن طريق عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوماً فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه) يقول ذلك ثلاثاً. محمد ناصر الدين الألباني: صحيح سنن ابن ماجة (1/25).

(2) الذهبي: سير أعلام النبلاء (3/140)، ابن كثير: البداية والنهاية (8/129)، ابن حجر: فتح الباري (13/92).

(3) ابن حجر: فتح الباري (13/92).

(4) ابن كثير: البداية والنهاية (8/126).

(5) ابن خلدون: المقدمة (1/257).

تم تعديل بواسطة الرافعي

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه)

( صحيح الجامع 5654).

رابط هذا التعليق
شارك

جزاك الله خيرا ياأخي الحبيب على ما نقلته لنا لعلنا نعرف قدرنا فنصمت عن الخوض في الصحابة بما يهلكنا

وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا

وَلَسْتُ بَهَيَّــــــابٍ لمنْ لا يَهابُنِي ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليــا

فإن تدنُ مني، تدنُ منكَ مودتــي وأن تنأ عني، تلقني عنكَ نائيــــا

كِلاَنــا غَنِيٌّ عَنْ أخِيه حَيَـــــاتَــه وَنَحْنُ إذَا مِتْنَـــا أشَدُّ تَغَانِيَــــــــا

رابط هذا التعليق
شارك

سلمت عمنا الرافعي ............ مشاركة جميله

كل سنه وانته طيب وربنا يتقبل منا ومنك الصيام و القيام

أنا لا أكتب الأشـــعار فالأشعـــــــــار تكتبني

أريد الصمت كي أحيا ولكن الذي ألقاه ُينطقني

رابط هذا التعليق
شارك

اسمحلي يا معلمي اني أضع تاريخ هذا الصحابي الجليل من مكان آخر

----------------------------------------------------------------------------------

مقدمة

تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم شابه الكثير من الشبهات والتهم التي أُثيرَت حولهم ـ رضي الله عنهم ـ سواءً من المستشرقين أو المستغربين الذين فُتِنُوا بالغرب وصاروا لسانًا له يروجون أقواله وأفكاره، طاعنين في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين..

فهؤلاء الطاعنون في صحابة رسول الله إنما يريدون بطعنهم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاته، ولكنه لا يتمكنون من ذلك فيطعنون في أصحابه فإن فسد الأصحاب فسد الرجل، وإن صلح الأصحاب صلح الرجل..

فالطعن في الصحابة طعن في الدين لأن الدين أتانا عن طريقهم كما يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ .(1)

وما أعتقد أن شخصية في تاريخنا الإسلامي من الرعيل الأول من الصحابة الذين تربوا على يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نالها من التشويه والدس والافتراء والظلم ما نال معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ سوى سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ حيث امتلأت معظم المصادر التاريخية بالكثير من الروايات الضعيفة أو المكذوبة على هذا الصحابي الكريم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما؛ فكان لزامًا علينا الحديث والكتابة عنه، والذَّبُّ عن عرضه وفق المنهج الصحيح، فمعاوية ـ رضي الله عنه ـ أحد الصحابة الذين كَثُرَ الطعنُ فيهم، والافتراء عليهم والظلم والتشويه لهم, وربما يرجع ذلك إلى أن معاوية رضي الله عنه صِهْرُ ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وخال المسلمين وأمير المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، فإذا طعن فيه أصبح من اليسر الطعن فيما سواه من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا بالإضافة إلى ما شابه من أحداث الفتنة، فهذا وغيره سمح لهؤلاء الجهلة بالطعن فيه.

أما جمهور الأمة الإسلامية فقد أجمع على عدالة جميع الصحابة سواءً من لابس الفتنة منهم في كلا الفريقين, أو الفريق الثالث الذي اعتزلها، وفيه يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: معاوية عندنا محنة (اختبار)؛ فمن رأيناه ينظر إليه شَزَرًا اتهمناه على القوم ـ يعني الصحابة ـ (2)

وقد حذَّرَ رسولنا الكريم من الطعن في صحابته الأخيار، وأوجب على جميع المسلمين أن يعرفوا لصحابته قدرهم وحقهم، فهم في منزلتهم كالنجوم العوالي، فهيهات هيهات أن يبلغ أحد من العالمين مِن بعدِهِم منزلتهم، فمن طعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى رب العالمين، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهَ اللهَ في أصحابي، اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببُغضي أبغضهم, ومن آذاهم فقد آذاني, ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى، ومن آذى اللهَ فيوشك أن يأخذه.

وانظر أيضًا إلى هذا الحديث الشريف الذي يرويه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه.. ومعنى قوله نصيفه أي: نصف المد..

نسبه وإسلامه وروايته للحديث

من أكابر الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وأحد كُتَّاب الوحي، العاملين بكتاب ربهم والمحافظين على سنة نبيهم، الذَّابِّين عن شريعته، القائمين بحدوده، المجاهدين في سبيله..

نسبه:

هو معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، خال المسلمين، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أمير المؤمنين, ملك الإسلام، أبو عبد الرحمن القرشي الأموي المكي..

وأمه: هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي رضي الله عنها..

إسلامه:

قيل: إنه أسلم قبل أبيه وقت عمرة القضاء سنة 7 هـ، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب أبيه، ولكن ما ظهر إسلامه إلا يوم الفتح فيُروى عنه أنه قال: "لما كان عامُ الحديبية وصَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وكتبوا بينهم القضية وقع الإسلام في قلبي، فذكرت لأمي فقالت: إياك أن تخالف أباك، فأخفيتُ إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وإني مصدق به، ودخل مكة عام عمرة القضية وأنا مسلم، وعلم أبو سفيان بإسلامي، فقال لي يومًا: لكنَّ أخاك خير منك، وهو على ديني، فقلت: لم آلُ نفسي خيرًا، وأظهرتُ إسلامي يوم الفتح، فرَّحَّبَ بي النبي صلى الله عليه وسلم وكتبتُ له.. (سير أعلام النبلاء)..

روايته للحديث:

حدَّث معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدث أيضًا عن أخته أم المؤمنين أم حبيبة، وعن أبي بكر وعمر، روى عنه: ابن عباس وسعيد بن المسيب، وأبو صالح السمان، وأبو إدريس الخولاني، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وسعيد المقبري، وخالد بن معدان، وهمام بن منبه، وعبد الله بن عامر المقريء، والقاسم أبو عبد الرحمن، وعمير بن هانيء، وعبادة بن نسيء، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن سيرين، ووالد عمرو بن شعيب وخلق سواهم..

وحدث عنه من الصحابة أيضًا: جرير بن عبد الله, وأبو سعيد، والنعمان بن بشير، وابن الزبير..

فمعاوية رضي الله عنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين..

مسنده في (مسند بقيّ) مائة وثلاثة وستون حديثًا، واتفق البخاري ومسلم على أربعة منها، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة.. وقد عمل الأهوازي (مسنده) في مجلد .

معاوية رضي الله عنه الخليفة ومكانته:

بعد استشهاد الإمام علي كرَّم الله وجهه سنة 40 هـ تم الصلح بين معاوية والحسن بن علي ـ رضي الله عنهم ـ سنة 41 هـ.. تنازل بمقتضاه الحسن عن الخلافة وبويع معاوية، ودخل الكوفة وبايعه الحسن والحسين سنة 41 هـ واستبشر المسلمون بهذه المصالحة التي وضعت حدًا لسفك الدماء والفتن، وسموا هذا العام عام الجماعة، وهذه إشارة واضحة لرضا الناس عن خلافة معاوية رضي الله عنه واستقبالها استقبالاً حسنًا، فقد تولى الخلافة ووراءه تجربة طويلة في الحكم والإدارة وسياسة الناس، فولايته على الشام قبل الخلافة لمدة تزيد عن العشرين عامًا، أكسبته خبرة كبيرة هيأت له النجاح في خلافته، والحقيقة أن معاوية رضي الله عنه كان يتمتع بصفات عالية ترشحه لأن يكون رجل الدولة الأول وتجعله خليقًا بهذا المنصب الخطير..

يقول ابن الطقطقا: وأما معاوية رضي الله عنه كان عاقلاً في دنياه لبيبًا عالمًا حاكمًا ملكًا قويًا جيد السياسة، حسن التدبير لأمور الدنيا عاقلاً حكيمًا فصيحًا بليغًا، يحلم في موضع الحلم, ويشتد في موضع الشدة إلا أن الحلم كان أغلب عليه، وكان كريمًا باذلاً للمال محبًا للرياسة شغوفًا بها، كان يَفْضُلُ على أشراف رعيته كثيرًا، فلا يزال أشراف قريش مثل: عبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر الطيار، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأبان بن عثمان بن عفان, وناس من آل أبي طالب رضي الله عنهم يفدون عليه بدمشق فيكرم مثواهم، ويحسن قِرَاهم ويقضي حوائجهم، ولا يزالون يحدثونه أغلظ الحديث ويجبهونه أقبح الجَبَه، وهو يداعبهم تارة، ويتغافل عنهم أخرى، ولا يعدهم إلا بالجوائز السَّنِيَّة، والصلات الجمَّة ... إلى أن يقول: واعلم أن معاوية رضي الله عنه كان مربي دول وسائس أمم، راعي ممالك، ابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه إليها أحد..

وأما اليعقوبي والمسعودي فقالا: "وكان لمعاوية حلم ودهاء ومكر ورأي وحزم في أمر دنياه, وجود بالمال"..

وثناء هؤلاء الثلاثة من المؤرخين على معاوية رضي الله عنه وحسن سياسته وإدارته لشئون الدولة، أمر له مغزاه وأهميته لما عُرِف عنهم جميعًا من ميول شيعية ملموسة.. وأما إعجاب ابن خلدون به فيتمثل في قوله:"وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة، التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يدًا، من أهل الترشيح من وَلَدِ فاطمة وبني هاشم، وآل الزبير وأمثالهم"..

ويروي ابن الأثير في أسد الغابة عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: "ما رأيت أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية؛ فقيل له: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ؟ فقال: كانوا والله خيرًا من معاوية وأفضل، ومعاوية أسود..

ويروي الطبري مرفوعًا إلى عبد الله بن عباس قوله: "ما رأيت أحدًا أخلق للملك من معاوية, إن كان ليرد الناس منه على أرجاء وادٍ رَحْب"..

ويقول ابن تيمية: "فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خيرًا من معاوية، إذا نُسِبَتْ أيامه إلى أيام من بعده, أما إذا نسبت إلى أيام أبا بكر وعمر ظهر التفاضل"..

وذُكِرَ عمر بن عبد العزيز عند الأعمش فقال: فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا: في حلمه، قال: لاوالله, في عدله"، وإليك شهادة الذهبي له: حيث يقول:"وحَسْبُك بمن يؤمِّره عمر ثم عثمان على إقليم فيضبطه, ويقوم به أتم قيام, ويُرضي الناس بسخائه وحلمه، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفَرْط حلمه وسعة نفسه، وقوه دهائه ورأيه"..

وهكذا يكاد ينعقد إجماع علماء الأمة من الصحابة والتابعين ومن تلاهم على الثناء على معاوية رضي الله عنه وجدارته بالخلافة، وحُسْنِ سياسته وعدله، مما مكَّن له في قلوب الناس، وجعلهم يجمعون على محبته، يقول ابن تيمية رحمه الله:"وكانت سيرة معاوية في رعيته من خيار سير الولاة وكانت رعيته تحبه"، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتُصلُّون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم, وتلعنونهم ويلعنونكم"..

وقد ورد كثير من الأخبار بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه فقد روى الترمذي في فضائل معاوية رضي الله عنه أنه لما تولى أمر الناس كانت نفوسهم لا تزال مشتعلة عليه؛ فقالوا: كيف يتولى معاوية وفي الناس من هو خير مثل الحسن والحسين؟!! فقال عبد الرحمن بن أبي عميرة ـ هو أحد الصحابة ـ: لا تذكروه إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعله هاديًا مهديًا وَاهْدِ به.. رواه الإمام أحمد في المسند 4/216 وصحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/236.

وكانت صلاته رضي الله عنه أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُوي عن أبي الدرداء أنه قال: "ما رأيت أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا ـ يعني معاوية..

كما ثبت في الصحيح أنه كان فقيهًا يعتد الصحابة بفقهه واجتهاده؛ فقد روى البخاري في صحيحه في كتاب المناقب عن أبي مليكة قال: "أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس؛ فأتى ابن عباس فأخبره، فقال: دعه؛ فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى قيل لابن عباس: "هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: أصاب إنه فقيه.

وقد كان لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ شرف قيادة أول حملة بحرية، وهي التي شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم بالملوك على الأَسِرَّة؛ فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت: نام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا قريبًا مني، ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما أضحك؟ قال: أناس من أمتي عرضوا علي يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها فقالت قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيًا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية رضي الله عنه, فلما انصرفوا من غزوتهم قافلين فنزلوا الشام، فَقُرِّبَت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.. البخاري مع الفتح (6/22)..

قال ابن حجر معلقًا على رؤيا رسول الله صلى الله عليه سلم قوله: (ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة ...) يشعر بأن ضحكه كان إعجابًا بهم، فرحًا لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة.

وأخرج البخاري ـ أيضًا ـ من طريق أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا"..

قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنتِ فيهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم "أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر ـ أي القسطنطينية ـ مغفور لهم"..

فقلت: أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال: لا. ومعنى أوجبوا : أي فعلوا فعلاً وبجت لهم به الجنة..

قال ابن حجر في الفتح 6/121 ومن المتفق عليه بين المؤرخين أن غزو البحر وفتح جزيرة قبرص كان في سنة 27 هـ في إمارة معاوية رضي الله عنه على الشام أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه..

ومن فضائله: ما قاله الخلال: أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: قلت: لأحمد بن حنبل: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل صهر ونسب فيقطع إلا صهري ونسبي"؟ قال: بلى، قلت: وهذه لمعاوية ؟ قال: نعم. له صهر ونسب، قال: وسمعت ابن حنبل يقول: ما لهم ومعاوية، نسأل اللهَ العافية.. السنة للخلال برقم 654، وإسناد الحديث حسن..

وكان معاوية رضي الله عنه موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك جعله من جملة الكتاب بين يديه صلى الله عليه وسلم الذين يكتبون الوحي له، فقد روى هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لما كان يوم أم حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم دقَّ الباب دَاقٌّ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظروا من هذا ؟ قالوا: معاوية، قالوا: ائذنوا له، فدخل وعلى أذنه قلم يخط به، فقال: ما هذا القلم على أذنك يا معاوية ؟ قال: قلم أعددته لله ولرسوله، فقال: جزاك الله عن نبيك خيرًا، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله، وما أفعل صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله".. (3)

وكذلك كان رضي الله عنه موضع ثقة الخلفاء الراشدين من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, والحق أن معاوية كان أهلاً لهذه الثقة؛ فلذلك ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان، ثم جاء بعد عمر عثمان بن عفان رضي الله عنهما فجعل معاوية واليًا على الشام كلها, وحسبك بمن ولاه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم؛ فقد كان معاوية رضي الله عنه أهلاً للإمارة والخلافة معًا، ومن أجل هذه الأهلية ظل أميرًا على الشام عشرين سنة، وخليفة للمسلمين ما يقرب من عشرين سنة فلم يهجه أحد في دولته بل دانت له الأمم، وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين ومصر والشام والعراق وخراسان وفارس والجزيرة واليمن والمغرب وغير ذلك..

وذكر الطبراني في تاريخه (4) والبلاذري في أنساب الأشراف (5) والذهبي في السير..

لما قدم عمر الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم وهيئة؛ فلما دنا منه قال: أنت صاحب الموكب العظيم ؟

قال: نعم.

قال: هذا حالك مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟

قال: نعم.

قال: ولم تفعل ذلك ؟

قال: نحن بأرضٍ جواسيسُ العدوِّ بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يرهبهم فإن نهيتني انتهيت.

قال: يا معاوية ,ما أسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلتَ حقًا إنه لرأى أريب، وإن كان باطلاً، فإنه لخدعة أديب..

قال: فمُرْني.

قال: لا آمرك ولا أنهاك.

فقيل: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر عما أوردته.

ويروي أيضًا أن معاوية دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعليه حُلَّة خضراء؛ فنظر إليها الصحابة، فوثب إليه عمر بالدرة، فجعل يقول: اللهَ اللهَ يا أميرَ المؤمنين فيم فيم ؟ فلم يكلمه حتى رجع، فقالوا : لم ضربته، وما في قومك مثله ؟!

قال: ما رأيت وما بلغني إلا خيرًا، ولكني رأيته وأشار بيده فأحببت أن أضع منه ما شمخ..

قال عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد رجوعه من صفين: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية؛ فإنكم لو فقدتموها رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل.. (6)

وقد حزن معاوية رضي الله عنه لمقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه حزنًا شديدًا فيروي أنه عندما جاءه خبر قتله بكى بكاءً شديدًا؛ فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم.. (7)

أما الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقد قال عنه: ما رأيت أحدًا بعد عثمان رضي الله عنه أقضى بحق من صاحب هذا الباب.يعني معاوية. ابن كثير ج:8, ص:155. وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكًا ورحمة.. (8)

وسُئِل عنه عبد الله بن المبارك ذات مرة أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبد العزيز ؟ فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد. فما بعد هذا ؟ (9) وبلفظ قريب منه عند الآجرى في كتابه الشريعة (10)

وقد قال أبو زرعة الدمشقي عن دحيم عن الوليد عن الأوزاعي: قال: أدركت خلافة معاوية عدة من الصحابة منهم أسامة وسعد وجابر وابن عمر وزيد بن ثابت وسلمة بن مخلد وأبو سعيد ورافع بن حديج وأبو إمامة وأنس بن مالك، ورجال أكثر وأطيب ممن سمينا بأضعاف مضاعفة كانوا مصابيح الهدى وأوعية العلم حضروا من الكتاب تنزيله ومن الدين جديده، وعرفوا من الإسلام ما لم يعرفه غيرهم وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويل القرآن، ومن التابعين لهم بإحسان ما شاء الله, منهم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريز، وفي أشباه لمن لم ينزعوا يدًا من جماعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (11)

وقال عبد الملك بن مروان يومًا وذكر معاوية فقال: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه، وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحدًا أعظم حلمًا ولا أكثر سئوددًا ولا أبعد أناة ـ أي حلم ورفق ـ ولا ألين مخرجًا ولا أرحب باعًا بالمعروف من معاوية..

وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلامًا سيئًا شديدًا، فقيل: لو سطوت عليه؟ فقال: إن لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي، وفي رواية قال الرجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك!!فقال: إني لأستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي.. وقال الأصمعي عن الثوري: قال معاوية: إن لأستحيي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو تكون عورة لا أوريها بستري.. (12)

معاوية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم:

صحب معاوية رضي الله عنه الرسول الله صلى الله عليه سلم وكتب له وشهد معه حنيناً والطائف وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل وأربعين أوقية وهاجر إلى المدينة فأخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أحد أصحابه . وكان زيد بن ثابت الأنصاري من بني النجار ألزم الناس للقيام بواجب الكتابة للنبي صلى الله عليه وسلم و ثم تلاه معاوية بعد الفتح , فكانا ملازمين للكتابة بين يديه فى الوحي وغير ذلك ,لا عمل لهما غير ذلك .

ولقد نال معاوية شرف الصحبة وشرف الجهاد تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم .

معاوية مع أبي بكر وعمر وعثمان:

وفي أثناء خلافة أبي بكر رضي الله عنه سير الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه أربعة جيوش إلى الشام بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وكان كل جيش منها يضم سبعة آلاف مقاتل تقريبًا، واجتمع إلى أبي بكر بعدها أناس؛ فوجههم إلى الشام وأمَّر عليهم معاوية رضي الله عنه, وأَمَرَه باللحاق بأخيه يزيد، فخرج معاوية حتى لحق به، وكانت هذه أول مهمة قيادية يتولاها معاوية في الفتوح وشهد معاوية اليرموك وفتح دمشق تحت راية أخيه يزيد..

وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل يزيد بن أبي سفيان حملة بإمرة أخيه معاوية إلى سواحل الشام ففتحها.. (13)

وفي سنة 15 هـ أَمَّر عمر معاوية بن أبي سفيان على قيسارية وكتب إليه: "أمَّا بعد فقد وَلَّيتُك قيسارية؛ فسِرْ إليها واستنصِرِ اللهَ عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهُ ربُّنا وثقتُنا ورجاؤُنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير".. فسار إليها فحاصرها وزاحفه أهلها مراتٍ عديدة، فاقتتلوا قتالاً عظيمًا؛ فاجتهد معاوية في القتال حتى فتح الله عليه، وقتل منهم نحوًا من مائة ألف، وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. (14)

وفي عام 18 هـ حدث طاعون عمواس، فذهب بكثير من رجالات المسلمين منهم: أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد قد أقام أخاه معاوية مكانه في دمشق، فلما هلك يزيد أمَّر عمر بن الخطاب رضي الله عنه معاوية على دمشق ثم أضاف له الأردن وفلسطين وحمص إذ توفى شرحبيل بن حسنة بطاعون عمواس وهو على الأردن، وسار عمرو بن العاص لفتح مصر وكان على فلسطين, ومات عمير بن سعد الذي كان واليًا على حمص بعد وفاة عياض بن غنم..

وقد لاحظ معاوية رضي الله عنه وهو ينازل الروم باستمرار أن قوتهم في البحر هي العامل الأساسي في بقائهم، وأن التهديدات البرية للروم لا قيمة لها إذ إن المدن الساحلية في الشام معرضة باستمرار للتهديد؛ لذا فلابد من إقامة قوة إسلامية بحرية توقف سلطان الروم البحري عند حده, وأحب قبل القيام بهذا المشروع استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فكتب له:"يا أمير المؤمنين إن بالشام قرية يسمع أهلُها نباحَ كلاب الروم وصياح ديوكهم، وهم تلقاء ساحل من سواحل حمص فإن أذنت بركوب البحر"..

فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما ليصف له البحر، فأجابه: "إني رأيت خلقًا عظيمًا يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء، إِنْ ركن خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، إن مال غرق، وإن نجا برق"..

فلما قرأ عمر هذا الوصف كتب إلى معاوية: "لا والذي بعث محمدًا بالحق لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا.. وتاللهِ لمسلمٌ أحبُّ إليَّ مما حَوَتِ الروم، فإياك أن تعرض لي، وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء مني، ولم أتقدم إليه في مثل ذلك"..

فلمَّا تولى عثمان بن عفان الخلافة أعاد معاوية طلب بناء قوة بحرية للمسلمين من الخليفة الجديد فلم يزل به معاوية حتى عزم على ذلك، ولكن قال له:

لا تنتخب الناس ولا تُقْرِعْ بينهم، خيِّرهم فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعنه؛ ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الحارثي حليف بني فزارة، وأصبحت السفن تُبنى في عكَّا وصور وطرابلس على سواحل بلاد الشام.

وغزا معاوية رضي الله عنه جزيرة قبرص، وصالح أهها على سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين كل سنة, وذلك في عام 27 هـ، وساعد أهل مصر في تلك الغزوة بإمرة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان معاوية على الناس جميعًا، وكان بين الغزاة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو ذر الغفاري وعبادة بن الصامت وكانت معه زوجته أم حرام، فكان معاوية رضي الله عنه أول من ركب البحر كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الذي روته أم حرام بنت ملحان..

ثم نقض أهل قبرص عهدهم فأرسل إليهم حملة مؤلَّفةً من اثني عشر ألفًا, ونقلها إلى الجزيرة بمهمة حمايتها، فأقامت المساجد هناك، وبقيت الحامية هناك حتى أيام يزيد بن معاوية.. (15)

جهاده في خلافته :

كانت الغارات على بلاد الروم أثناء خلافة معاوية رضي الله عنه لا تنقطع صيفًا أو شتاءً، وكان الغرض من هذه الغارات استنزاف قوة العدو, ومن أشهر القواد المجاهدين في بلاد الروم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبُسْر بن أرطأة الذي تقدم على رأس شاتية عام 43هـ حيث اقترب من القسطنطينية، ومالك بن هبيرة، وأبو عبد الرحمن القيني وعبد الله بن قيس الفزاري، وفضالة بن عبيد الأنصاري، وغيرهم كثير.

وكان هدف هذه الغزوات جميعها القسطنطينية، وفي عام 50 هـ جهز معاوية حملة كبيرة من البر والبحر لتغزو القسطنطينية, وأعطى قيادة جيش البر لسفيان بن عوف الأزدي، وجعل ابنه يزيد في قيادة الحملة إلا أن يزيد لم يخرج مع الحملة، أما الأسطول فقد قاده بسر بن أرطأة، وحوصرت عاصمة الروم، وجرت اشتباكات بين الطرفين خسر فيها المسلمون خسائر كبيرة فعمل معاوية على إرسال نجدة كبيرة بقيادة ابنه يزيد ومعه أبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن العباس، وبوصول النجدة ارتفعت معنويات المجاهدين فاشتد الحصار وأصاب المسلمون من الروم وإن لم يستطيعوا فتح القسطنطينية، وقد استُشهِد في هذا القتال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وعبد العزيز بن زرارة الكلابي، وقد كانا على رأس الذين يثيرون حماسة المجاهدين.

استطاع معاوية رضي الله عنه أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة والاستيلاء على جزر رودس وأرواد، وقد كان لجزيرة أرواد أهمية خاصة لقربها من القسطنطينية، حيث اتخذ منها الأسطول الإسلامي في حصاره الثاني للمدينة أو حرب السنين السبع 54 ـ 60 هـ قاعدة لعملياته الحربية، وذلك أن معاوية رضي الله عنه أعد أسطولاً ضخمًا وأرسله ثانية لحصار القسطنطينية, وظل مرابطًا أمام أسوارها من سنة 54 هـ إلى سنة 60 هـ، وكانت هذه الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة إلى البر لمحاصرة أسوار القسطنطينية، وقد أرهق هذا الحصار البري والبحري والبيزنطيين كما أنزل المسلمون بالروم خسائر فادحة، وعلى الرغم من ذلك فلم يستطع المسلمون فتح القسطنطينية..

ومن أجل بناء أسطول إسلامي بحري قوي، أقام معاوية رضي الله عنه دارًا لصناعة السفن البحرية في جزيرة الروضة بمصر عام 54 هـ.

كما نفذ معاوية خطة لنقل أعداد من العرب المسلمين إلى الجزر في البحر الأبيض المتوسط لحمايتها ونشر الإسلام على ربوعها.

فتم نزول المسلمين بصقلية عام 48هـ، واستطاع فضالة بن عبيد الأنصاري فتح جزيرة (جربا) عام 49هـ وقد سار إليها على رأس شاتية في ذلك العام.

وعندما تولى معاوية بن حديج أَمْرَ المغرب فتح بنزرت عام 41هـ، كما دخل قمونية موضع القيروان عام 45هـ، وأرسل عبد الله بن الزبير ففتح سوسة في العام نفسه، ورجع معاوية بن حديج إلى مصر فتولى أمر المغرب رويفع بن ثابت الأنصاري، وبقي عقبة بن نافع على برقة ففتح (سرت) و (مغداس) وأعاد فتح ودَّان، ودخل فزَّان، ووصل إلى جنوبها إلى كاوار، ودخل غدامس وقفصة وابتنى القيروان, كما فتح كورًا من بلاد السودان.

وفي عام 50هـ تولى أمر مصر مسلمة بن مخلد فعزل عقبة بن نافع عن أمر المغرب وولَّى أبا المهاجر دينار فوصل إلى المغرب الأوسط, هذا ما كان أيام معاوية في إفريقية.

أما في الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية فقد غزا المسلمون بلاد اللان عام 412هـ، وفتحوا الرخج وغيرها من بلاد سجستان عام 43هـ، ودخل الحكم بن عمرو الغفاري منطقة القيقان في طخارستان وغنم غنائم كثيرة عام 45هـ، كما فتح المسلمون قوهستان، وفي عام 55هـ قطع عبيد الله بن زياد نهر جيحون ووصل إلى تلال بخارى..

وغزا المسلمون في عام 44هـ بلاد السند بإمرة المهلب بن أبي صفرة كما غزوا جبال الغور عام 47هـ، وكان المهلب مع الحكم بن عمرو الغفاري, وكان سكان المنطقة الشرقية ينكثون بالعهد مرة بعد أخرى ، ويعود المسلمون لقتالهم ودخول أراضيهم؛ لذلك نلاحظ أن مناطق تلك الجهات قد فُتِحَت عدة مرات، واستمرت مدة من الزمن على هذه الحال حتى دانت نهائيًا أيام الوليد بن عبد الملك..

معاوية وولاية العهد ليزيد:

للإسلام نظامه السياسي الخاص به، وهذا النظام قد حددته آيات القرآن وأحاديث الرسول صلَّى الله عليه وسلم بشكل إجمالي يتحاشى التفصيلات التي تتغير بتغير الزمان والمكان ليظل ذلك النظام صالحًا لكل زمان ومكان..

كما يُلاحَظ أنه لم يكن هناك طريقة واحدة لاختيار الخليفة في عصر الراشدين بحيث يُعَدُّ تجاوُزُها خروجًا عن الإسلام أو ضربًا لنظامه السياسي، غير أن تعدد طرق اختيار الخليفة جاء دائمًا محكومًا برضا أهل الحل والعقد من قادة المسلمين وذوي الرأي والتأثير فيهم, وهذا الرضا كان يعني بطبيعة الحال استيفاء المرشح للخلافة شروطها، وتميزه عمَّن سواه في هذا الصدد, كما يعني ضمان رضاء الأمة تبعًا لرضا قادتها من أهل الحل والعقد.

وحين نحتكم إلى أقوال علمائنا في معنى أهل الحل والعقد نجدهم يختلفون إلى عدة أقوال يرجح منها أنهم أصحاب الشوكة والعصبية والقوة القادرين على الاختيار وتحقيق إرادتهم، وإمضاء رغبتهم على مخالفيهم، وهذا ما تحقق في ذلك الظرف التاريخي في أهل الشام..

لقد بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده، فرأى أنه إن لم يستخلف ومات ترجع الفتنة مرة أخرى.

فقام معاوية باستشارة أهل الشام في الأمر، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية فرَشَّح ابنه يزيد، فجاءت الموافقة من مصر وباقي البلاد، وأرسل إلى المدينة يستشيرها، وإذا به يجد المعارضة من الحسين وابن الزبير، وابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عباس..

إلا أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قد بايعا فيما بعد طوعًا ليزيد, وكان اعتراضهما ليس على يزيد في شخصه، ولكن على أن يولي الخليفة ابنه، وأن يُوَرَّث الحكم.

واعتبر معاوية رضي الله عنه أن معارضة هؤلاء ليست لها أثر، وأن البيعة قد تمت، حيث أجمعت الأمة على هذه البيعة.

وقد أورد المؤرخون عدة روايات بشأن البيعة ليزيد عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه وعن غيره، ومن ذلك ما ذكره ابن العربي والسيوطي أن معاوية رضي الله عنه قد استدعى هؤلاء النفر كلاً منهم على حده، وحدثهم بشأن البيعة ليزيد فاختلفت ردودهم حيث وافق ابن عمر قائلاً لمعاوية رضي الله عنهما: " أما بعد فإنه قد كان قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك خيرًا منهم، فلم يروا في ابنهم ما رأيت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار، وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن لأفعل، وإنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا واحد منهم"..

أما عبد الرحمن بن أبي بكر فامتنع عن البيعة قائلاً: "إنك واللهِ لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل، والله لتردنَّ هذا الأمر شورى في المسلمين، أو لتفرنها عليك جذعة".. أي لتنكشفنَّ عليك فتنة في أشد حالاتها ـ ويلاحظ أن الذين انتحلوا هذه الأقوال في الاستطالة على معاوية لم يطعنوا في كفاءة يزيد وأهليته لأنه آخر ما يرتابون فيه..

أما عبد الله بن الزبير فقد تحفظ قائلاً لمعاوية: "إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلها وهَلُمَّ ابنك فَلْنبايعه. أرأيت إذا بايعتُ ابنك معك لأيكما نسمع؟ لأيكما نطيع ؟ لا تجتمع البيعة لكما أبدًا..وتبدو حُجَّةُ ابن الزبير في هذه الرواية واهية؛ لأن ابن الزبير رضي الله عنه يعلم تمامًا أن بيعة يزيد إنما هي بولاية العهد، وأنه لن يكون خليفةً يُطاعُ إلا بعد موت أبيه، فالذين اخترعوا هذه الأخبار وأضافوها إلى وهب بن جرير بن حازم يكذبون كذبًا مفضوحًا.

ويروي أيضًا أن معاوية رضي الله عنه رحل إلى الحجاز معتمرًا سنة 56هـ حيث التقى هناك بأبناء الصحابة البارزين وحاول إقناعهم بالبيعة ليزيد.. ويبدو أن معاوية رضي الله عنه قد أصاب في محاولة إقناعهم بعض التوفيق، وإن لم يقتنع بعضهم بما أراد، وقد تعرض ذلك الموقف إلى تحريف كبير لدى بعض المؤرخين الذين اخترعوا قصة محبوكة ـ يسجلها ابن الأثير ـ مُؤَدَّاها أن معاوية رضي الله عنه أجبر الصحابة المعارضين وهم الحسين وابن الزبير وابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر على البيعة لولده تحت تهديد السلاح !

فهم يزعمون أنه سار إلى الحجاز في ألف فارس فقدم المدينة حيث قابله هؤلاء النفر خارجها، فعنَّف بهم وهاجمهم هجومًا مرًا، وسبهم فأقبلوا خلفه فلم يلتفت إليهم، فلما أيسوا منه ساروا إلى مكة، وأنه لقي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه في المدينة فأوصته بالرفق بهم، فلما سار إلى مكة وقابلوه رَحَّبَ بهم، وتلطَّف إليهم، فتركهم يعجبون من موقفيه, وتحدث باسمهم ابن الزبير فعرض على معاوية أن يختار بين عدة خصال إما أن يترك الأمة بغير اختيار كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو أن يعهد إلى رجل غير ذي قرابة كما فعل أبو بكر، أو يجعلها شورى في بضع رجال كما فعل عمر، فأبى معاوية ذلك، ثم قال لهم: "إنه قد أعذر من أنذر، إني كنت أخطب فيقوم إليَّ القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح عنه، ألا وإني قائم بمقالة، فأقسم بالله لئن رَدَّ علي أحد كلمة في مقامي هذا ألا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه، ثم دعا قائد حرسه، وأمره أن يقيم على كل رجل منهم حارسين في المسجد الحرام، ليبادروا إلى من يعارضه بقطع رأسه، كما بَثَّ بقية حراسه في أرجاء المسجد، ثم دخل ودخلوا فقال:" أيها الناس إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، ولا يُقضى أمرٌ إلا عن مشورتهم وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله، وهم جلوس لا يجرؤ أحدهم على الحديث مخافة القتل، وظَنَّ الناس الصدق في حديث معاوية فبايعوا... (16)

موقف ابن عمر من البيعة ليزيد:

لقد روى البخاري في صحيحه ما يبطل جميع الروايات المتقدمة، قعن عكرمة بن خالد أن ابن عمر قال: دخلتُ على حفصة ونوساتها تنظف، قلت: قد كان من الأمر ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء، فقالت: "الحق فإنهم ينتظرونك, وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فُرْقَةٌ فلم تدعه حتى ذهب"، فلما تفرَّق الناس خطب معاوية؛ فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته ؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أَحَقُّ بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تُفرِّق بين الجمع وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعدَّ الله في الجنان، فقال حبيب: حُفِظتَ وعُصِمْتَ.

وروى البخاري أيضًا أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُنصَبُ لكل غادر لواءٌ يوم القيامة، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لاأعلم غدرًا أعظم من أن نبايع رجلاً على بيع الله ورسوله ثم ننصب له القتال، وإني لاأعلم أحدًا منكم خلعه، ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه.

وهذا ابن عمر يعلن في أحرج المواقف ـ أي في ثورة أهل المدينة على يزيد بتحريض ابن الزبير وداعيته ابن المطيع أن في عنقه كما في أعناقهم بيعة شرعية لإمامهم على بيع الله ورسوله وأن من أعظم الغدر أن تبايع الأمة إمامها ثم تنصب له القتال، ولم يكتف ابن عمر بذلك في تلك الثورة على يزيد بل روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه (ج6/ ص22) أن ابن عمر جاء إلى ابن مطيع داعية ابن الزبير ومثير هذه الثورة؛ فقال ابن مطيع: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة.. فقال ابن عمر: إني لم آتِكَ لأجلس, أتيتك لأحدثك حديثًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: "من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حُجَّةَ له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية "..

ويُروى أيضًا أن بن عمر قال عندما بويع يزيد قال: "إن كان خيرًا رضينا، وإن كان شرًا صبرنا"..

وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استُخلِف يزيد بن معاوية فقال: تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد، ولكن واللهِ لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق، أرأيتم بابًا دخل فيه أمة محمد ووسعهم أكان يعجز عن رجل واحد دخل فيه ؟ قلنا: لا. قال أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم: لا أريق دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم ؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يأتيك الحياء إلا خير"..

قيل: إن الصاحب الذي كنَّى عنه حميد بن عبد الرحمن هو ابن عمر والله أعلم.

فهذه الرواية تدل على أن ولاية المفضول نافذة، وإن كان هنالك من أهو أفضل منه إذا عُقِدَتْ له، ولِمَا في حلها أو طلب الفضل من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة..

فهذه الأخبار الصٍِّحَاح توضح أن ابن عمر كان مسلمًا في أمر يزيد، وأنه بايع له والتزم بهذه البيعة هو ومن معه.

معاوية رضي الله عنه يُعِدُّ ابنه يزيد للخلافة:

وحتى يكون يزيد أهلاً للخلافة فقد عمل معاوية رضي الله عنه جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد، وتنشئته التنشئة الصحيحة ليشب عليها عندما يكبر، فلذلك أرسله معاوية رضي الله عنه إلى البادية عند أخواله لكي يشب على حياة الشدة والفصاحة، وليتربى على فنون الفروسية، ويتحلى بشمائل النخوة والشهامة والكرم والمروءة، إذ كان البدو أشد تعلقًا بهذه التقاليد.

كما أجبر معاوية رضي الله عنه ولده يزيد على الإقامة في البادية، وذلك لكي يكتسب قدرًا من الفصاحة في اللغة، كما هو حال العرب في ذلك الوقت.

وعندما رجع يزيد من البادية، نشأ وتربى تحت إشراف والده، ونحن نعلم أن معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث (ابن حجر : تهذيب التهذيب)..

فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث، وبعض أخبار أهل العلم، مثل حديث: من يُرِدِ الله به خيرًا يفقهه في الدين، وحديث آخر في الوضوء, وروى عنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان، وقد عَدَّه أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي الطبقة العليا. (17).

وقد اختار معاوية رضي الله عنه دغفل بن حنظلة السدوسي الشيباني ت 65هـ مؤدِّبًا لولده يزيد، وكان دغفل علامة بأنساب العرب وخاصة نسب قريش، وكذلك كان عارفًا بآداب اللغة العربية.. (18)

الأسباب التي دعت معاوية أن يعهد بالخلافة ليزيد

لقد تعددت الأسباب التي دفعت معاوية رضي الله عنه أن يولي ابنه يزيد الخلافة من بعده ما بين أسباب سياسية واجتماعية وشخصية، فالسبب السياسي هو الحفاظ على وحدة الأمة، خاصة بعد الفتن التي تلاحقت يتلو بعضُها بعضًا، وكان من الصعوبة أن يلتقي المسلمون على خليفة واحد، خاصة والقيادات المتكافئة في الإمكانيات قد يضرب بعضها بعضًا فتقع الفتن والملاحم بين المسلمين مرة ثانية ولا يعلم مدى ذلك إلا الله تعالى..

أما السبب الاجتماعي فهو قوة العصبية القبلية خاصة في بلاد الشام الذين كانوا أشد طاعة لمعاوية رضي الله عنه ومحبة لبني أمية، وليس أدل على ذلك من مبايعتهم ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه دون أن يتخلف منهم أحد.

وهناك أسباب شخصية تتعلق بيزيد نفسه، فليس معاوية رضي الله عنه بذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره وهو يَسُوسُ الناس, ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء، ويعرف لكل واحد منهم فضله، وقد توفرت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام والقدرة على القيادة، وكل هذه المزايا جعلت معاوية ينظر لابنه يزيد نظرة إعجاب وتقدير.

وفاة معاوية رضي الله عنه:

خطب معاوية رضي الله عنه آخر خطبة فقال: " أيها الناس إنَّ مَن زَرَعَ استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي خير مني، وإنما يليكم من هو شر مني كما كان من وليكم قبلي خيرًا مني، ويا يزيد إذا دنا أجلي فَوَلِّ غسلي رجلاً لبيبًا؛ فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل، وليجهر بالتكبير، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراضة من شعره وأظفاره؛ فاستودع القارضة أنفي وفمي وأذني وعيني واجعل هذا الثوب مما يلي جلدي دون أكفاني, ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي ووضعتموني في حفرتي، فَخَلُّوا معاوية وأرحمَ الراحمين، ثم أوصى بنصف ماله أن يُرَدَّ إلى بيت المال ـ كأنه أراد أن يطيب له ـ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَاسَمَ عماله.. (19)

ويصور لنا ابن سيرين اللحظات الأخيرة في حياة معاوية رضي الله عنه قائلاً:"جعل معاوية لما احتضر يضع خدًا على الأرض ثم يقلب وجهه، ويضع الخد الآخر يبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك [إن الله لا يغفر أن يُشرَكَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] {النساء: الآية 48}

اللهم فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له، ثم تمثَّل بهذا البيت:

هو الموت لا منجى من الموت والذي نحاذر بعد الموت أدهى وأقطع

ثم قال: اللهم أَقِلِ العثرة، واعفُ عن الزَّلَّة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرجُ غيرك، فإنك واسع المغفرة ليس لذي خطيئة مهرب إلا إليك.

ثم أُغمِيَ عليه, ثم أفاق فقال لأهله: اتقوا الله فإن الله تعالى يقي من اتقاه، ولا يِقِي من لا يتقي، ثم مات رضي الله عنه بدمشق في رجب سنة 60 هـ. (20)

المراجع

(1) منهاج السنة 1/18

(2) ابن كثير: البداية والنهاية 8/ 139

(3) ابن كثير: البداية والنهاية ج8، ص120

(4) الطبراني في تاريخه 5/331

(5)أنساب الأشراف 4/147

(6) ابن كثير البداية والنهاية 8/ 134

(7) ابن كثير البداية والنهاية ج8 ، ص133

(8) مجموع الفتاوى 4/478

(9) ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج3/33

(10) الآجري في كتابه الشريعة 5/2466

(11) ابن كثير: البداية والنهاية، ج8، ص154

(12) ابن كثير: البداية والنهاية، ج8 ص156

(13) محمود شاكر: التاريخ الإسلامي، الخلفاء الراشدون، ج3، ص68ـ 69

(14) ابن كثير: البداية والنهاية، ج7، ص58 ـ 59

(15) محمود شاكر: التاريخ الإسلامي، الخلفاء الراشدون، ج3، ص69ـ73

(16) د/حمدي شاهين: الدولة والمجتمع في العصر الأموي ص135، 136

(17)ابن كثير: البداية والنهاية، 8/ 226 ـ 227

(18) ابن حجر: تهذيب التهذيب ، 3/210

(19) ابن كثير: البداية والنهاية، ج8، ص163

(20) ابن كثير: البداية والنهاية، ج8، ص164

وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا

وَلَسْتُ بَهَيَّــــــابٍ لمنْ لا يَهابُنِي ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليــا

فإن تدنُ مني، تدنُ منكَ مودتــي وأن تنأ عني، تلقني عنكَ نائيــــا

كِلاَنــا غَنِيٌّ عَنْ أخِيه حَيَـــــاتَــه وَنَحْنُ إذَا مِتْنَـــا أشَدُّ تَغَانِيَــــــــا

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...