Doofy بتاريخ: 31 أكتوبر 2006 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 31 أكتوبر 2006 ================================================================ الأستاذ الدكتور / مجدي احمد حسين مذكرات مجدى حسين فى السجن فى قضية يوسف والى القسم الأول مقدمة : هذه اليوميات .. ربما تدخل تحت باب المواد الخفيفة .. و ربما تدخل تحت عنوان الأدب و الخواطر .. و لكنها تكتسب أهميتها الآن فى ان صاحبها و زملاءه قد دخلوا السجن لأنهم نشروا ما تنشره الصحف الآن ضد يوسف والى و وزارة الزراعة !! و هذه المذكرات اضافة لما يكتب عن عالم السجون.. فالسجون اعتبرت هى السلاح الأمضى للقضاء على الرأى الآخر.. و المعارضة الشعبية .. و المجاهدون يحاولون أن يقنعوا الناس ألا يهابوا السجون .. و ألا تكون السجون - رغم كراهتها - عائقا دون ان نقول الحق أينما كنا لا نخشى لومة لائم .. لكل هذه الأسباب وافقت على نشر هذه اليوميات ، التى لم أكتبها فى الأصل الا للتسرية عن نفسى فى زنزانة انفرادية ، و كوسيلة للتحدث مع نفسى ، بالاضافة الى ان الأجزاء السابقة التى نشرت لاقت استحسانا من جمهور عريض من قرائى .. و لذلك فاننى أنشرها أيضا حسب مايقال عادة - دون ان توجد وسيلة للتأكد من صدق ذلك - "بناء على طلب الجمهور" !! و القسم الأول من هذه المذكرات تم كتابته بعد استقرارى فى زنزانة انفرادية أى بعد مرور قرابة أسبوعين على بداية الحبس .. أما القسم الثانى .. فسيكتب يوما بيوم .. و الآن لنبدأ بالحلقة الأولى فى القسم الأول : 1- الطريق إلي السجن من 28 - 30 مارس 2000 : قال لى شيخ القضاة فى اتصال هاتفى و أنا فى الفيوم أحاول أن أمضى أجازة العيد مع أسرتى قال لى (وقد بلغ به الانفعال كل مبلغ) هذه ليست محاكمة .. ان مجريات المحاكمة تؤكد ان هناك حكما مسبقا بالادانة و كل مايجرى فى قاعة المحاكمة هو اعداد لاصدار هذا الحكم .. و أخذ يعدد لى مظاهر الخرق المتوالى للدستور و القانون فى كل ماتم فى هذه المحاكمة حتى الآن .. و عندما خرجت من مبنى محكمة جنوب القاهرة فى باب الخلق .. يوم الثلاثاء 28/3 بعد حجز القضية (قضية الشعب - والى ) للحكم فى أول أبريل بطريق المباغتة .. و بدون الاستماع لباقى الشهود و المرافعات !! عندما خرجت من مبنى محكمة (مصر) كانت كلمات شيخ القضاة تطن فى أذنى .. و قلت الحمدلله .. فلا تزال لدى عدة أيام لكى أرتب حياتى قبل الاجازة الاجبارية القادمة من كل بد . و عندما اتصلت بأخى طلعت رميح استشعر الخطر و انتفض بشهامته المعروفة .. و جاء الى الجريدة قاطعا اليوم الذى اتفقنا ان يكون يوم استجمام و قراءة له فى منزله و جاء على الفور الى الجريدة .. و اصدرنا البيان رقم 1 ، و فى اليوم التالى عقدنا مؤتمرا صحفيا و اجتماعا للجنة الحريات بنقابة الصحفيين و التى يفترض اننى مقررها .. و لكننى لم أستطع أن أحمى حريتى فكيف أحمى حرية زملائى ! و يوم الخميس 30 مارس كنت أفكر مع زوجتى فى كيفية تمضية اليومين الأخيرين المتبقين لى فى الحرية .. هل نذهب الى الأسكندرية مع الأبناء؟! و لكننا قررنا البقاء فى بيتنا .. لان أوراق كثيرة يجب أن انظمها فى مكتبى قبل الرحيل .. و هناك مستندات ضد المفسدين لابد من تأمينها خارج المنزل .. و هناك أمور مالية يجب أن تنظم ، رغم أن زوجتى ماتزال هى المدير المالى و الادارى للبيت منذ الحبسة الماضية التى بدأت فى 14 أغسطس 1999 .. و هكذا حرمنا من متعة الاستجمام فى ال 48 ساعة المتبقية .. و هكذا وجدتنى منكبا على أوراقى لا أجد لحظة واحدة لأحاديث عائلية .. راجعت كتابين قبل دفعهم الى المطبعة و أعددت 3 مقالات للشعب !! و رتبت ما وسعنى الوقت من أكوام الأوراق التى أجمعها فى غرفة مكتبى التى تحولت الى غرفة عمليات و كأنى سأغير الكون من هذا المكان .. و كأن ما أجمعه من معلومات فى صورة أرشيف شخصى مهول فى شتى الموضوعات .. سيجد أذانا صاغية .. عندما أحوله الى مقالات تستصرخ آلام الوطن .. لماذا لم أيأس حتى الآن ؟! هكذا تمتمت لنفسى .. و لكننى لم أعر انتباها لهواجس نفسى المضطربة .. و عملت بهمة و نشاط كما أفعل بالضبط قبل سفرى الى الخارج .. وهل السجن الا نوعا من السفر؟! و فى المساء عن لى أن أقرأ "الشعب" .. و نزلت الى الشارع فى حى الروضة و أنا أكحل عينى بالشارع الذى ولدت و ترعرعت فيه و قد تغيرت معظم معالمه .. و حيث يبنى أمام منزلنا مجمع للمطاعم الأمريكية السريعة .. و شعرت ان الغزو قد وصل الى الأعماق و انه يحاصرنى فى بيتى .. و أمام الكشك الرئيسى لبيع الصحف لم أجد "الشعب" قد وصلت .. و لكننى وجدت ماهو أهم .. فقد التف الناس حولى بعضهم أعرفه و بعضهم لا أعرفه .. التفوا حول رئيس التحرير الوحيد فى مصر على حد قولهم الذى ينزل بنفسه الى الشارع لشراء صحيفته !! (حتى لا أُشق على سائق الجريدة) و قد بدأ الحديث عن عدم وصول "الشعب" حتى الآن .. و أكد لى البائع انه لابد لم يطبع حتى الآن و الا لكان قد وصل .. فقلت له : هل تريد ان تتأكد بنفسك من تلاعب توزيع الأهرام ؟! اتصلت بالأستاذ طلعت رميح و سألته : متى طبعنا الجريدة اليوم ؟ قال لى : منذ أكثر من ساعتين .. و أغلقت المحمول وسط ذهول السامعين ، و هنا قال أحدهم : أنا معى نسخة بالسيارة فقد اشتريتها من مكان آخر .. و علقت : و هكذا فانهم يوزعون فى نقاط دون أخرى .. و هذه احدى علامات التلاعب فى التوزيع الليلى .. و التى تتكرر أيضا فى النهار .. ثم تطرق الحديث لحملتنا على وزير الثقافة و وجدت تجاوبا كبيرا من الحلقة المحيطة بى التى بدأت تتوسع و تتحول الى ندوة على قارعة الطريق .. و شرحت لهم ما أعرفه عن وزير الثقافة .. و الذى سنضطر لنشره اذا تواصل تجاهل الحكام لحملتنا .. و كان بعض المشاركين فى الندوة أكثر تشددا منى .. و بعد قليل أشفقت على الواقفين و ذكرتهم بحالة الطوارئ و ضرورة ان ننفض سريعا .. و مزجت بين الجد و التنكيت و ضحكنا جميعا .. و كأننا أسرة واحدة متحابة .. و أستأذنت فى الانصراف و لكن أحدهم ذكرنى : أنا معى نسختين "الشعب" فى السيارة و يمكنك أن تأخذ واحدة .. فقلت (وسط تعالى ضحك الواقفين) : "لقد كنت أول رئيس تحرير يذهب الى الشارع لشراء صحيفته .. و الآن فأنا أول رئيس تحرير يشحذ نسخة من جريدته"!! و بالفعل فقد أخذت نسخة و قفلت عائدا لبيتى .. و قد أخذت جرعة من أكسيد الحياة .. حب الناس و تجاوبهم معى .. عدت أتطلع لعناوين "الشعب" التى يتحمل أعباءها حقيقة أخى طلعت رميح .. منذ تكرار دخولى الى السجن .. و أتطلع فى نفس الوقت لواجهات المحلات .. لقد تغير الشارع حقا .. و لم يبق شئ على حاله الا قليلا جدا .. و شعرت بالاعتداء السافر على ذكرياتى .. حتى الجوكى تغير مظهره .. و أصبح يصنع أشياء غير "الجيلاتى" الذى برع فيه .. حتى جاءه الناس من شتى بقاع القاهرة .. ثم تذكرت أحوالى الصحية و أشهدت الله اننى لم أقصر فى صحتى قدر الامكان .. و ذهبت للأطباء خلال الأسابيع الماضية .. فى تخصصات مختلفة .. و حيث بدأت تزحف علىً الشيخوخة .. و عالجت كل ما يمكن ان يعالج .. و تركت كل ما يمكن تأجيله .. خاصة و ان توالى المحاكمة بشكل يومى كان فى حد ذاته نوعا من الاعنات و العقاب فأصابت حياتى بالشلل فى الأيام الأخيرة .. و قد ركزت على معالجة الأمراض التى يصعب علاجها فى السجن .. و عندما وصلت الى البيت .. قلت لزوجتى: يجب ان ننظم فسحة قصيرة يوم غد الجمعة .. مع الأبناء .. على سبيل الوداع .. و من أجل "التفاكر" فى شئونهم .. وافقت .. و كنت أتعجب من صمودها - رغم معرفتى الجيدة بها - و كأنها واثقة ان الحكم لن يكون بالسجن ! ************** 2- وقائع ليلة السجن : التخلص من مراقبة الداخلية .. و مأدبة غداء لوداع الأسرة و صلاة العصر جماعة فى نادى القاهرة .. و ترتيب حقيبة السجن الجمعة 31 /3 / 2000: استيقظت متأخرا كعادتى .. و ذهبت لصلاة الجمعة فى أحد مساجد الروضة الصغيرة و ذهبت لباعة الصحف و اشتريت عددا آخر من جريدة الشعب و عدت قافلا الى بيتى .. و حزمنا أمرنا على الخروج من المنزل و التفكير أثناء الطريق الى أى مكان نذهب (وهذه عادتنا!! ) خرجت و زوجتى و أحمد و هشام و السكون يلف المكان .. السكون الذى يسبق العاصفة .. و سرنا بالسيارة بغير هدى .. و بدأنا نناقش الى أين نذهب ؟! و تراوحت الاقتراحات بين السفر الى الأسكندرية أو فايد أو أحد مطاعم القاهرة ، و قبل عملية التصويت الشاقة (وهى تكون شاقة عادة لاختلاف الأمزجة بيننا نحن الأربعة ! ) قبل التصويت لاحظنا اننا مراقبون .. و ان دراجة بخارية تحمل اثنين من المخبرين تتبعنا .. فقلت هكذا بدأت النقطة الأولى فى برنامجنا المسلى .. لنبدأ بزحلقة هؤلاء الأوغاد !! و تحمس هشام - و ربما أحمد - لهذه الفكرة .. أما أنا فقد أصبحت مدربا على الهروب من المراقبة خلال حملتنا على وزير الداخلية السابق .. و قلت لنفسى يجب أن يعرف الأبناء اننى ليس لى نسب بأحمد حسين فحسب .. و لكن أيضا "بجيمس بوند" !! و أراد الله أن يرفع رأسى عاليا فمع المناورة الأولى "دلقنا" المخبرين الأوغاد و أصبحنا أحرارا .. و لكن هيهات كان يجب أن أتأكد فربما تكون المراقبة أكثر تعقيدا و تركيبا .. فقمت بعدة مناورات حاسمة .. و عندما تأكدنا أننا أفلتنا تماما من أى نوع من المراقبة .. أوقفت السيارة .. و استغرقنا فى ضحك طويل . و قلت الآن نقرر الى أى مكان نذهب .. و استقر الرأى على مطعم أثير .. نحب الأكل فيه حيث تحتضننا مياه النيل .. و كان هشام بالغ السعادة بهذه الحركة التى قمنا بها .. و كان يتذكرها بين الفينة و الأخرى . (حلوة قوى الحركة اللى عملناها فى المخبرين ! ) و لعلهم كانوا ضباطا! أما أنا فان الرقابة عادة لا تضايقنى لأن حياتى شفافة ، كذلك فاننى لا أنتوى الهرب فى هذه المرة و لا أى مرة أخرى يتهددنى السجن .. و لكننى لا أحب الغلاسة.. و الغتاتة !!و كنت أريد أن أشرح لأبنائى عمليا درسا فى الاستهانة بقوى القمع .. و طبعا كان هذا هو الدرس العاشر بعد المائة .. و قد عاشوا معى لحظة بلحظة ما واجهته على كمدار 3 سنوات خلال الحملة على وزير الداخلية السابق .. و هى القصة التى لم أرويها كاملة لأحد حتى الآن .. و أنا لا أريد أن أدفع أبنائى للعمل السياسى .. و لكننى أريد بالتأكيد ان يكونا مواطنين مرفوعى الرأس .. لا يخشان الا الله .. و ان يؤمنا بالقدر خيره و شره .. و ان يخبتا الى الله سبحانه و تعالى .. ولا يعبدا من دونه من شئ . فى المطعم كانت رحلتنا الغذائية اللذيذة .. و كنت أنتوى بخبث ان أستغل هذا الغذاء .. لالقاء المواعظ و مناقشة أحوال أحمد و هشام .. و اسداء نصائح مسافر خاصة و ان الامتحانات على الأبواب .. و لكننى فشلت فى خطتى .. و شعرت بارهاق الأيام و الشهور القليلة التى عشتها خارج السجن من 5/12/ 1999 حتى الآن .. خاصة و أن الأيام الأخيرة كانت شديدة الارهاق فى ظل المحاكمة اليومية .. و حيث تحولت رغم أنفى الى منسق و ضابط ايقاع فى هيئة الدفاع التى بدأ أستاذتها يفتر حماسهم بسبب هذه المحاكمة الشكلية .. و بسبب حالة الارهاق هذه .. وجدت نفسى مستسلما مع زوجتى و أحمد و هشام فى ثرثرة حرة .. و شعرت براحة نفسية كبيرة .. و قررت التخلى عن خطتى اللئيمة فى القاء المواعظ الأخيرة .. و قد كانت ثرثرة رائعة .. لدرجة اننى لا أتذكر منها شيئا !! و لم يقطع هذا الفاصل من التهريج الا مفاجأة سارة .. فقد وجدت الجالس بالمائدة المجاورة يقوم لتحيتى و السلام علىَ حيث لم أتبين وجهه لان الضوء كان فى خلفيته .. و لما اقترب منى وجدته أحد أصدقاء الدراسة .. انه دفعتى بكلية الاقتصاد و العلوم السياسية و أحسب أننا لم نلتق منذ تخرجنا أى منذ 28 عاما.. و يالها من سعادة .. و كانت القبلات .. أين أنت يارجل ؟! و أتضح لى انه رجل أعمال ناجح و انه يعيش معظم وقته فى الولايات المتحدة .. و حسب ما أذكر فقد قال لى انه أصبح مزدوج الجنسية (أى مصرى - أمريكى) .. و انه الآن فى مصر فى أحد المشروعات .. و انه على الأغلب لن يستمر و سيفلت بجلده من مصر ! و أسعدنى انه يتابع أنباء معاركى بدقة و يدعو لى بالتوفيق .. و كذلك زوجته التى رحبت بى و نفحتنى بكلمات طيبات أكدت أنها تتابع بالفعل مايجرى بى و حولى ! و أحسب اننا تبادلنا أرقام الهواتف .. و لكننى الآن لا أدرى متى ألقاه مرة أخرى؟ واصلنا الجولة الحرة بعد ذلك الى نادى القاهرة الرياضى .. فهذا هو النادى الوحيد الذى نشترك فيه .. و لكننى لم أذهب اليه منذ أكثر من عام أو عامين .. و جلسنا قليلا فى النادى الاجتماعى المطل على النيل .. و لكننا عدنا و قررنا أن نتناول الشاى فى مكان آخر .. و أدينا صلاة العصر فى مسجد النادى ..و وقفنا نقرأ شروط رحلة لمرسى مطروح بمنتهى الدقة و كأننا يمكن حقا ان نشترك فيها .. و قررت ان ننهى الجولة الحرة بمؤامرة صغيرة .. و هى شرب الشاى فى فندق (5نجوم) .. و أنا أحب - بين الحين و الآخر - أن أصحب الأبناء لمثل هذه الأماكن .. حتى يعتادوا عليها .. و ليدركوا ان الجلوس على مقهى كريم بالأسكندرية أفضل و أكثر حميمية من الجلوس فى فنادق الخمس نجوم .. و أخيرا قررنا العودة الى البيت .. رغم معرفتنا اننا بذلك سنسلم أنفسنا للرقابة من جديد .. و التى ستكون أكثر احكاما .. لان أذكياء الداخلية لابد انهم قدروا أن لدى نية فى الهروب . و واصلت عملى فى تنظيم أوراقى بمنتهى الشراسة .. و كنت كمن يحاول ان ينظم جبلا جليديا .. و لكننى رفعت شعار (مالايدرك كله لا يترك جله) و كنت بين الحين و الآخر أصيح على زوجتى من غرفة المكتب .. حضرى الحقيبة و ضعى فيها الملابس الزرقاء .. و كانت ترد على بحزم : لأ .. حتى انها أدخلت فى روعى ان لديها معلومات تخفيها عنى .. و ان لديها ما يؤكد اننى لن أحبس غدا .. ********** 3- أول معركة مع الصراصير التمساحي جحافل من قوات الأمن تحاصر البيت و تقبض علينا الليلة الأولى فى تخشيبة الخليفة .. و أول معركة مع الصراصير التمساحى عصام حنفى سعيد بالفيلا .. و بديوى يخطب فى جماهير المساجين و السهرة الأولى مع القرآن الكريم و ابن سيرين و حسنين هيكل! السبت أول ابريل 2000 : كنت قد تلقيت اتصالا هاتفيا أمس الجمعة من الزميل عصام حنفى و اتفقنا أن يأتى الى فى الصباح المبكر حتى نذهب الى السجن سويا من بيتى .. حتى لا تزعج بناته الصغيرات من لحظة القبض .. و هكذا جاء عصام فى الصباح المبكر حوالى الثامنة أو التاسعة صباحا و حرمنى من الاستمتاع بالنوم الطويل لآخر مرة فى بيتى .. و لكنها كانت حقا صحبة طيبة و قد جاء مع شقيقيه .. و منهما أحمد حسن رسام الكاريكاتير و خبير السجون فى قضايا الاخوان .. و كان عصام قد تعرض لمراقبة مكثفة منذ حوالى أسبوع لان له سابقة هروب من الحكم الماضى .. و قد جاء الى بموكب بوليسى مروع انضم الى القوات المتزايدة المعسكرة حول منزلى منذ ليلة أمس .. و أصبح شارع الروضة ثكنة عسكرية و لكن بملابس مدنية .. و أخذنا نتجاذب أطراف الحديث و أنا أقوم بمحاولة يائسة لانهاء ترتيب أوراقى .. بينما تخلت نجلاء (زوجتى) عن عنادها .. و بدأت فى تحضير الملابس الزرقاء .. و احتياجات السجن الأساسية .. بخبرتها المعهودة ..و أعدت لنا افطارا شهيا .. و صلينا الظهر جماعة .. و بدأت الهواتف تدق بجنون .. الهاتف العادى .. و الهواتف المحمولة .. نبأ الحكم (بالحبس سنتين و غرامة 20 ألف جنيه لكل منا و الإكتفاء بالغرامة لعادل حسين ) .. ثم مكالمات من ممثلى الصحف العربية و وكالات الأنباء العالمية .. و كانت تصريحاتى تتركز حول نقاط محددة : الرثاء لحال القضاء المصرى العظيم .. الذى اخترقته السلطة التنفيذية و أهانته .. و مهزلة حبسنا دون التحقيق فى الجرائم العظمى التى ارتكبها يوسف والى .. كذلك تلقيت مكالمات من أقارب و أصدقاء و زملاء صحفيين يرثون لحالى و حال الأمة .. و كان طلعت رميح فى حالة حزن دفين و غضب شديد .. و أخذت أرتجل معه بعض الاقتراحات السريعة بخصوص ما يتوجب عمله قانونيا و صحفيا وسياسيا .. و بينما كنت أتحدث مع الزميلة منى سالم مراسلة وكالة الأنباء الفرنسية وصل الباشوات و لكن لدهشتى وجدت البسطة و سلالم البيت قد امتلأت بالضباط و المخبرين و لم أعد أفرق بين الصنفين فى الملابس المدنية لأن المخبرين لا يقلون أناقة وشياكة عن الضباط (من أين لهم الموارد؟! ) و لم أستطع أن أحصيهم .. هم لا يقلون عن عشرين.. و ربما ارتفع عددهم الى ثلاثين أو أربعين .. و لكننى صرخت فيهم أننى لن أسمح لكل هذا العدد بدخول البيت .. إلا واحد أو اثنين .. دخل ثلاثة و أغلقت الباب و لم أسألهم عن الأوراق و لكن صحت فيهم : لماذا كل هذا التجمهر ؟! هل لديهم معلومات أننا أناس يقاومون السلطات ؟! و أدخلتهم غرفة الكتب مع عصام و شقيقيه و استكملت بعض المكالمات الهاتفية و ودعت زوجتى .. و أخذنا حقائب السجن و المرتبة القطن .. و هى أهم ما يعنينى بسبب آلام العمود الفقرى .. و عندما نزلت الى الشارع وجدت مظاهرة كبرى من عشرات الضباط و المخبرين تسد الأفق .. (دولة فاضية صحيح ) و ركبنا سيارة ملاكى .. ولاحظت أن أحد العاملين ببقالة الأخوان الثلاثة أسفل عمارتنا ينظر الى .. فابتسمت له و حييته .. و لكنه لم يقو على الابتسام و كان كمن يكتم عبراته .. و سار الركب الذى لم أعرف أوله من آخره الى مديرية أمن القاهرة ، و كان فتحى سائقى الخاص يتابعنا بالسيارة التى تحمل أهم شئ (المرتبة) .. و اتصلت بطلعت رميح بالمحمول و قلت له ان القضية الأساسية الآن .. هى عدم الحيلولة بينى و بين فتحى .. لان معه الحقائب و المرتبة .. و فى مديرية الأمن ذهبنا لمكتب ما فى الدور الثالث .. و تفضلوا علينا بكوبين شاى .. ثم سرعان ما تم نقلنا الى سجن ترحيلات الخليفة .. و هناك تخليت عن المحمول و أخذنا أمتعتنا كاملة من فتحى و لم يعد يشغلنى شئ بعد ذلك .. و أدخلونا فى البداية الى الحجز الرئيسى .. فاذا به مكتظ ب 100 أو 150 سجين فى غرفة واحدة .. معبأة بالدخان .. و كنت مرهقا و لا يشغلنى الا أن أسند رأسى على أى حائط .. و أغمض عينى .. إلا ان قلقى جاء من كثافة الدخان خاصة و ان عصام حنفى يعانى من حساسية فى الصدر .. و لم تمض دقائق حتى جاء الصول ليسأل عن راحتنا فقلت له ان هذا المكان غير آدمى و غير صحى .. و أعلم أن لديكم زنازين صغيرة .. و قال ان هذا غير ممكن الآن حتى يأتى المأمور .. و أوصى "أنبوبة" علينا و أنبوبة سجين قديم و يبدو انه مسير العنبر .. و قال له أحرص على أشيائهم من "التقليب" و هم أمانة فى عنقك يا أمبوبة .. و حمدت الله .. أن أنبوبة سيهتم بأمرنا فقد بدا بالفعل انه شخصية مهمة .. و بعد دقائق أخرى جاء الرائد .. و كانت الساعة الخامسة و النصف و قال انه يمكن أن تنتقلوا الى مكان آخر الساعة السابعة .. و قلت له : ان بامكانه وفقا للتعليمات أن يفعل ما يريد .. و لكن عليه أن يتحمل ردود فعلى التى سيرى أنها غير متوقعة .. و بعد دقائق أخرى تم نقلنا الى زنزانة منفردة .. و بمجرد أن أغلقت وجدت عصام فى منتهى السعادة .. و يكاد يصفق بيده و يقول .. [ هذا مكان رائع .. لقد أمضيت من قبل ليلتين فى هذه الزنزانة فى الحبسة الماضية. و هذه الفيلا التى حدثتك عنها!] .. و أصابنى العجب و قلت : يا خبر أسود ياولاد هل يوجد شخص يحب السجن أكثر منى ؟!! و قلت له ماهذه السعادة الغامرة ياخويا .. طب يالا ننظم أمورنا و نفرش الفرشة .. و قام عصام بخبرته فى هذه الزنزانة .. بشن حملته الأولى على الصراصير الغليظة ذات الأحجام التمساحى!! كان معنا دواء ضد الصراصير .. و لدينا ماء و حمام خاص .. و حقائبنا بها أكل و كتب و ملابس و راديو .. فماذا ينقصنا ؟! عندها قلت عندك حق يا عصام المكان هنا رائع هيا بنا نمدد و نقرأ .. و بعد قليل جاءتنا ساندويتشات من الأسرة .. و أكلنا حتى الثمالة .. و بدأنا رحلة الاسترخاء .. بعد عدة ساعات .. كنا نسمع من بعيد صوتا ليس غريبا علينا .. و قلت له أن هذا صوت صلاح بديوى .. و لكن لماذا لا ينقلوه معنا ؟! قال : هل قبضوا عليه بهذه السرعة ؟! ألم نسمع انه لجأ الى سفارة ألمانيا .. قلت له لا أعتقد انه سيفعل ذلك ، بل لقد أكدت عليه ألا يفعل .. و بعد قليل سمعنا صوت تصفيق .. قلت لعصام : يبدو ان العنبر الرئيسى يسلى نفسه بحفلة رقص و غنى . و بعد قليل دخل صلاح بديوى عريس الهنا ببدلة كاملة و كرافتة . بينما نحن نلبس ملابس زرقاء .. و كان فى معنويات مرتفعة .. ثم اكتشفنا ان التصفيق الذى سمعناه لم يكن حفلة رقص و غنى بل كانت جماهير العنبر الرئيسى تصفق لصلاح بديوى بعد أن ألقى فيهم خطبة عصماء .. شعرت بالندم على ترك العنبر الرئيسى .. فقد كانت فرصة للعمل الجماهيرى .. لم يضيع منها بديوى لحظة واحدة .. و أخيرا اجتمعت صحبة الأنس بعد انقطاع أربعة شهور .. و روى لنا بديوى قصة القبض عليه فى بيت جمال عبد الرحيم .. و كيف غموا عينيه .. و كان عصام قد شاهد بالفعل شخصا معصوب العينين من خلال قضبان الزنزانة و لم يكن يتصور انه صلاح بديوى .. و قد اعتبرت هذه الحركة الوقحة نذير شؤم و أننا سنرى أياما مقبلة أسود من قرن الخروب .. و لكننى لم أضيع وقتا و بدأت فى تخشيبة الخليفة مشوار القراءة و الاطلاع .. فى أجازة العيد الأخيرة كنا فى الأسكندرية بعد الفيوم .. و حيثما ذهبنا فى الأسواق تذهب زوجتى الى شراء التحف .. و أذهب أنا لأقسام الكتب .. ولا شعوريا ( أو شعوريا) بدأت فى شراء كتب السجن القادم .. فاشتريت فى واحة عمر كتاب ابن سيرين فى تفسير الأحلام .. و هو أحد مستلزمات معتادى السجون .. و فى سوبر ماركت بالأسكندرية اشتريت كتاب هيكل الأخير الذى يجمع مقالاته فى مجلة وجهة نظر .. و كنت لم أقرأ منها أى مقال لضيق الوقت .. رغم أن هيكل ألح على فى آخر لقاء لنا أن أقرأ مقاله الأخير عن سوريا و كان موجودا بالكتاب .. و كان الكتابان معى ضمن مجموعة أخرى فى تخشيبة الخليفة .. و بدأت فيهما معا .. و لكنى وجدت أن كتاب ابن سيرين أشبه بالجدول أى يمكن الرجوع اليه بعد مشاهدة كل حلم على حدة !! للبحث عن تصنيفه .. و الحقيقة اننى لم أقرأ الكتاب كله حتى الآن و لا أستطيع أن أدلى فيه برأى .. و ركزت على كتاب هيكل .. ما الذى ينقصنى : أنا مرتاح على مرتبة و معى مخدة و بطانية .. و المصحف معى بطبيعة الحال .. و فى هذه الحالة أشعر اننى أمتلكت العالم .. و نسيت يوسف والى و تخشيبة الخليفة .. و سبحت مع هيكل و أحاديثه عن حسين و الحسن و القذافى و سوريا و كوسوفا و غيرها .. و كتب هيكل لابد أن تقرأ .. و هى نموذج فى كتابة الكاتب الصحفى .. و لكن الخلافات معه ثابتة لا تريم . فهو فى فصل القذافى يبدو متفقا معنا تماما فى علاقة مصر بالعروبة و الاسلام .. و لكنه فجعنى فى مقال (حروب البلقان : البوسنة و الهرسك و كوسوفا ) من الناحية الفكرية .. و اختلفت معه فى مقال سوريا من الناحية السياسية .. أما مذكراته الشخصية عن لندن فقد كشفت لى جانبا لم أكن مهتما به من قبل فى هيكل .. فقد لاحظت ان علاقته بلندن و الغرب علاقة حميمة للغاية .. من حيث الصداقات الشخصية العميقة.. و رغم أى ملاحظات فقد ظلت قراءة كتاب لهيكل فى تخشيبة الخليفة أشبه بطبق ألمظية فى وسط صحراء قاحلة ! و بعد قراءة أول جزء من القرآن الكريم ذهبت أنحط فى نوم عميق ! *************** (البقية العدد القادم ان شاء الله ) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ[/ -------------------- رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان