اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

مصر .. سلطة غائبة و شعب غائب


مهيب

Recommended Posts

لم تمر على مصر - على مدار تاريخها العريض - فترة كتلك التى تعيشها الآن .. كانت مصر على اختلاف حقبها التاريخية تعرف الكثير عن الاضطهاد و تردى الأحوال و قلة أو انعدام الوعى فى كثير من الأحيان .. و كانت حين تصل الى هذه المرحلة .. تبدأ مرحلة أخرى من تدخل (صريح) لسلطة خارجية .. فى صورة احتلال على الأرجح كى تعطى للأشياء سياقا بغض النظر عن مدى صحته أو خطئه .

لكن ما تمر به مصر الآن هو حالة استثنائية من غياب السلطة و غياب الشعب فى الآن ذاته .. أما غياب الشعب فليس بجديد .. و لعل رحلة بسيطة فى الكتب لبعض اللقطات التاريخية توضح لنا ماذا يعنى غياب الشعب .. ربما يتضح المعنى كثيرا فى حقبة حكم البطالمة .. و حالة التردى و الانهيار و اللامبالاة التى سيطرت على جموع الناس أثناء حكم كليوباترا .. آخر اسم نحفظه من عالم مصر الفرعونية الساحر .. حين كانت مصر هى قطعة الجاتوه الكبيرة التى فاز بها دونما مجهود كبير الرومان .. دخلوها ليضيفوا الى نسيج مصر التاريخى ما نعرفه الآن بمصر الرومانية ... ذات الحالة أيضا كانت عليها مصر حين أتى عمرو بن العاص بجنوده ليضيفوا للنسيج ما نعرفه بمصر الاسلامية .. وأيضا نفس الحالة من غياب الشعب حدثت حين خلع عمر مكرم عباءته و ألبسها لمحمد على الكبير أمام جموع المصريين وسط التهليل و التكبير .. نفس الحالة حين دخل نابليون بجنوده ثم الانجليز بسفنهم فيم بعد .. ولسنا هنا بصدد المقارنة من حيث الأفضلية .. و انما ما يشغلنى هو اجابة السؤال .. أين المصريون ذاتهم ..

الغريب فى الأمر .. و المحير أيضا .. أن كل تغيير قد حدث لم نر ساعتها الشعب المصرى فى الصورة بشكل واضح .. و أنا لا أعنى أن دوره كان منعدما .. فما فعله المصريون مع الرومان من مقاومة .. و ما فعلوه مع الفتح الاسلامى من ترحيب .. و حتى المقاومة الشريفة للفرنسيين .. ثم للانجليز فيم بعد شيء لا يمكن اخفاؤه أو مداراته .. لكن المتتبع للأحداث سيرى أن الأمر بشكل أو بآخر كان يعتمد على فرد أو مجموعة من الأفراد .. أحدثوا التغيير .. و رسموا الاستراتيجية .. فيصبح الناس ذات نهار يتلفتون فيم بينهم ليجدوا يوليوس قيصر يحكمهم .. أو يجدوا عمرو بن العاص .. أو محمد على .. أو حتى جمال عبد الناصر .. يجدوا سلطة و يجدوا نظاما و استراتيجية مرسومة .. و ما عليهم الا أن يقرروا .. أيقبلوا أم يرفضوا .. أيهللوا و يكبروا .. أم يقاوموا ويحاربوا .

أما ما يحدث الآن فهو حالة غريبة من غياب السلطة و الشعب فى الآن ذاته .. المصريون الآن مطالبون - ربما للمرة الأولى فى تاريخهم - أن يرسموا استراتيجية و يحددوا شكل الفترة القادمة بأنفسهم .. السلطة غائبة .. تخرج الأمور من أيديها شيئا فشيئا .. لم يعد التعتيم مجديا مثلما كان قديما .. و المتناقضات و الكذب و الادعاء المفضوح قد ملأ الأجواء من حولنا .. و المصريون ذاتهم أصبحوا عاجزين عن تحديد ما يريدونه بشكل دقيق .. زاد الفساد بشكل مخيف .. فساد من النوع المكتسح .. الذى يصعب احالته الى النظام أو السلطة فقط .. فساد أصبح الكل ضالعا فيه بشكل أو بآخر ..

ولم تكن هناك ثمة حركة ما أثرت فى تاريخ مصر مما نستطيع ارجاعها الى جموع المصريين .. كل ما أثر فى تاريخ مصر مرجعيته اما لأفراد مستقلين .. أو لاتجاهات سياسية من خارج مصر فى صورة سلطة احتلالية .. جاءت باستراتيجية و طريقة لحكم مصر .. و طبقتها دون أن يكون للمصريين رأى فى اتخاذ القرار .. و هى اما عادلة - بسبب استراتيجية مطبقها - أو ظالمة مجحفة بسبب الفكر الاستعمارى .. لكن حين تدقق النظر لا ترى للمصريين دور أو مساحة فى الصورة .. انهم غائبون .. تاركون أمرهم للسلطة الجديدة تفعل ما تشاء .. حتى ترسخ فى الأذهان أن السلطة لا تسأل عما تفعل .. و لا يمكن تعديل اعوجاجها أو عوارها الا بازالتها .. و لا يمكن ازالتها الا بسلطة مماثلة .. تملك استراتيجية و شكلا و فكرا جاهزا .

مصر الآن فى أكثر مراحلها سوءا .. البنية التحتية القديمة تنهار .. و السلطة لم تعد تستطيع اقناع الناس بأن ما يحدث هو أفضل الخيارات المطروحة .. لم تعد هناك وسائل تعتيم تصلح .. تتحدث الداخلية عن روعة النظام الأمنى فى مصر .. فقط ليستيقظوا فى اليوم التالى على مشاهد فيديو تبث فى جميع أنحاء العالم لضباط يعذبون ضحاياهم فى مراكز الشرطة بشكل تقشعر له الأبدان .. يتحدث النظام عن أن مصر و ان كانت غير كاملة فهى على الاقل تخلو من الجرائم النفسية البشعة - كدول العالم الأول المرفهين المرضى - فنجد حديثا و تقاريرا اخبارية عن عصابة تقتل للقتل دون أن تعلم عنهم الداخلية شيئا .. يصمت الناس .. و لا يعقبون .. فقط يتلمظون و كأن الأمر لا يعنيهم .. و من فترة لفترة تحدث الكوارث التى اعتدناها .. أو التفجيرات التى أصبحنا نفتقدها من آن لآخر .. يخرج وزير - لم يتهمه أحد من قبل برجاحة العقل أو حسن البيان - ليتحدث بما يتعبره رأيا شخصيا .. ساعتها تقوم الدنيا و لا تخمد .. حتى حين تحدث انتخابات . و يتمسح الشعب فى العباءة الدينية التى ستخلصهم من كل الآثام .. و نجد ما تصر الدولة على تسميته بـ(كتلة الاخوان فى المجلس) . فماذا نرى منهم .. لا نرى مقترحات حقيقية لمشاريع قد ترسم استراتيجية واضحة .. و انما استجوابات تخص بعض الممثلات و الأفلام بما يوحى بمتابعتهم الجيدة للحركة الفنية فى مصر .. هذا بالمناسبة ليس هجوما على الاخوان المسلمين .. و انما هو علامة تعجب عن اسلوب بعض الأفراد الذين أصبحوا مسئولين و لهم رأيا و حصانة .

وبالتالى فاننا حتى لا نرى حالة السلبية القديمة للمصرى .. و لكننا نلمس حالة أشبه بايجابية فى طريق خطأ .. ترى أعداد الشباب التى تخرج فى المظاهرات كى تندد بأمريكا .. و تؤازر لبنان و العراق و فلسطين و السودان .. و ربما الكونغو اذا حدث ما يسؤها .. و تتعجب من الكم الهائل لاعلانات تنزيل الاغانى على الهواتف الخلوية و اعلانات اتصل لتربح .. اذا كان كل هؤلاء لا يحققون أرباحا فمن أين يأتون بأموال الاعلانات .. و اذا كانوا يحققون تلك الأرباح الخيالية .. فلا أعتقد أن الامريكان أو الصهاينة هم من يتصلون بهم و يسرفون فى الأموال حتى يحصل على نغمة برنامج عمرو خالد .. أو مقدمة مسلسل الهام شاهين .. ومصر ليست مقسمة و لا منفصلة .. بل على الأغلب أن الازدواجية قد صارت سمتا .. ستجد ذات الشاب يخرج فى المظاهرة اليوم .. و يـ(تصل ليربح) غدا .. و يدعو لمقاطعة البضائع الدانماركية بعد غد .. وكله بذات الحماس .

نفس حالة الغياب و اللاوعى و التخبط التى يمر بها الناس .. تمر بها السلطة أيضا .. حديث الأمس عن عدم حاجة مصر للبرنامج النووى يتغير .. و حديث الأمس عن احتياطى مصر من الغاز الطبيعى الضخم المهول (الذى يسمح بتصديره لمن يطلبه طالما سيدفع الثمن) يتغير ليحل محله نضوب الغاز و ضرورة ايجاد مصادر طاقة بديلة .. حديث الحكومة عن الاستقرار و استراتيجية (تحقيق الأمن) يتغير بفعل شرطة لا تفعل شيئا الا اكتساب عداء الناس بشكل مبهر .. ذات الحالة تحدث مع المعارضة .. حركة كفاية بدأت فى التصدع .. و بذات الحماسة يخرج عنها بضعة من أعضائها الكبار .. و بذات الحماسة التى كانوا يتظاهرون بها لاسقاط نظام مبارك .. أصبحوا الآن يتظاهرون ليقولوا للناس أننا لا نعانى من مشاكل داخلية .. يخرج شباب من الاخوان المسلمين يتظاهرون فى الأزهر بزى الميليشيات و الأقنعة السوادء التى لم تعد تعنى سوى الموت و الخراب و اليأس و الانهيار عند أى أحد .. تلك الحالة التى زرعت داخل المواطن المصرى البسيط حالة من انعدام الأمل فى كل شيء .. فلا فائدة ترجى من محاولات الحكومة الدؤوبة لـ(ترقيع) الوضع الحالى .. و لا فائدة ترجى من المعارضة لتغير أى شيء طالما أن الفساد - أو على الأقل سوء التخطيط - قد طالهم بشكل أو بآخر .. و لا فائدة ترجى حتى من العباءة الدينية ذات الطابع السياسي .. طالما أنهم يصرون على أن يجعلوا منا لبنانا أخرى أو عراقا أخر أو فلسطين أخرى .. وبالطبع لا أحد يرغب فى هذا و لا حتى على سبيل المشاركة الوجدانية .. و تظل حالة الغياب و اللاوعى تسيطر على الجميع .. سلطة و شعبا .. لم يعد واضح لدى الجميع من هم الاعداء و من هم الاصدقاء .. لا للحكومة و لا للشعب .. من يقول أن ايران أملا و فارسا شجاعا فى عصر انتهى فيه الفرسان .. يهب من يوبخه ليخبره عن أطماع الصفويين .. و بروتوكولات حكماء كسرى التى تنص على ايران الكبرى من النيل و الى مضيق البوسفور .. يتحدث الناس عن ضرورة تغيير الخطاب الديني (خاصة و هم لا يحددون أى خطاب ديني ذلك المراد تغييره) .. فيهب آخرون بذات الحماسة و يتحدثون عن المغرمين بأنفسهم من الدعاة الجدد و ما يفعلونه من اعلانات فى الشوارع .. يأتى الدكتور فاروق الباز بفكرة قديمة له عن ممر للتنمية و التعمير .. و حين يستضيفونه فى قنواتنا .. يتصل به المصريون ليوبخوه لأنه لم يقل للأمريكان لا حين أرادوا احتلال العراق .. و يقولوا له بالحرف : "يا دكتور انت جاى تكلمنا عن ممر تنمية و تعمير و اخواتنا بيتقتلوا كل يوم فى العراق و فلسطين؟" .. يبتسم الدكتور الفذ .. و لا يرد .. ربما لعلمه أن لو رد بالرد الطبيعى عن أنه ليس له دخل بما يحدث فى العراق و ليس مطالبا بايجاد حلول .. لقدم أحد أعضاء مجلس الشعب فى اليوم التالى استجوابا يطالب فيه الدكتور بالاعتذار ..

سلطة غائبة .. و شعب غائب .. ولم يعد هناك ثمة أطماع كى يأتى الينا من يملك استراتيجية جاهزة توحد المصريين من جديد .. سواء على الترحيب به أو مقاومته ..

مهيب

تم تعديل بواسطة مهيب

<span style='font-size:14pt;line-height:100%'>حين يصبح التنفس ترفـاً .. و الحزن رفاهية .. والسعادة قصة خيالية كقصص الأطفال</span>

رابط هذا التعليق
شارك

==============================================================================

الفاضل مهيب

توصيف رائع للحالة المصرية المرضية التي أصابت الجسد المصري ومزقته مع طول الوقت وطول السكوت عليها

لتتفاقم بالإهمال في المواجهة المباشرة للشعب بمايرتكبه من جرم في حق نفسه وفي حق المستقبل..

فاستمرار الغياب المتبادل بين ( السلطة والشعب ) واستمرار الفئة التي تمثل الشعب بالتفرج والإكتفاء بإعلان التصريحات سواء المؤيدة او المعارضة..

هو معناه استمرار المقولة اللي بتقول " مصر بتاكل نفسها "

تحياتي

:

:

تم تعديل بواسطة Doofy

255374574.jpgوَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ[/227576612.jpg

--------------------

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...