اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

لفندي (قصة قصيرة)


elbana

Recommended Posts

حمل أعوامه الثلاثة والثمانين ومضى ، في قرية شباس الشهداء قرب دسوق وفي وقت الشتاء تكون الطرقات موحلة والبرد قارس ، ، الساعة قاربت على العاشرة مساءً ، سار عم محمد العشري بخطىً وئيدة وقد ارتدى المعطف الصوفي الثقيل وأمسك عصاه العتيقة التي ورثها عن والده وقد أطلق عليها (العوجة) نظراً لأنها معوجة قليلاً ولكنها حسبما بقول عصا أصيلة لأنها عاصرت أباه من قبله ثم انتقلت إليه هو شخصياً ولازالت محتفظة برونقها وبهائها .

ملأ رئتيه بأنفاس الحقول التي حملتها الريح الباردة مختلطة برائحة الدخان المتصاعد من الأفران التي تضمها منازل الفلاحين ، ولكن من عساه يكون قد أشعل موقد الحطب في مثل تلك الساعة؟ ، ربما كان هذا من منزل محمد سحالي فهو يحب السهر، وحملت إليه نسمات الشتاء صوت صفير قطار العاشرة مساءً القادم من مدينة دسوق كم اشتاق إلى زيارتها .

لماذا طال الطريق عن ذي قبل ، لقد كانت المسافة إلى منزل صاحب البيت أقرب بكثير فيما مضى ، إنه ذاهب ليدفع الإيجار ، لقد صمم على أن يذهب بنفسه لأداء تلك المهمة رغم رفض زوجته ، إن صحته جيدة وعقله أيضاً بحالة جيدة ولم يكبر أو يخرف كما يسمعهم يتهامسون ، يا إلهي إن الطريق موحلة جداً ، لقد أمطرت لمدة يومين متواصلين ، وتلفحت القرية بعدها بذلك الرداء الطيني اللزج الذي ما يفتأ يقبض على حذائه حتى يكاد ينتزعه منه كلما هم برفع قدمه عن الأرض، ها هو منزل السيد أحمد النبوي الشاعر ، إنه يذكر يوم أيقظوه من نومه في الرابعة صباحاً في ليلة موحلة أيضاً وأخبروه أن (زداحمد) النبوي الشاعر _ الذي كان وقتها طفلاً _ قد شرب من زجاجة المبيد الحشري ، وهرع إلى الطفل وقام بإسعافه وأنقذ حياته ، إن السيد أحمد الآن قد أصبح رجلاً ولديه أطفال .

ولكن ما هذا إنه لا يعرف هذا المكان ، لقد انقطعت أصوات الناس فجأة ولم يعد هناك أحد حوله ، إن المكان مظلم وموحش بشكل مخيف ، وكلما استدار في اتجاه اصطدم بحائط منخفض ، على ما يبدو أنها مقابر القرية ، ولكن ما الذي أوصله إلى هنا ، أيعقل أن يكون ذهنه قد شرد إلى هذا الحد؟! وفجأة انزلقت قدمه إلى الأسفل في حفرة غائرة وهوى على ظهره ثم تدحرج عدة مرات حتى استقر في نهاية الحفرة التي كانت لحسن حظه منحدرة الجدران بميل خفيف وكأنها طبق طعام ، جلس عم محمد واتكأ على ذراعه فترة محاولاً أن يستجمع شتات نفسه ويلتقط أنفاسه اللاهثة وقد حملقت عيناه في الظلام ، وملأ الوحل ملابسه ، أخذ يبحث بيديه عن عصاه ويتلمس الأرض الطينية حتى لمس طرف العصا ، أمسك بها وحاول النهوض ولكن قواه كانت قد خارت تماماً فجلس على الأرض ، بقى هكذا فترة طويلة ، بدأ البرد الشديد يصيبه برعشة في بدنه ، لملم أطراف المعطف ، تحدرت دمعة خفيفة من مقلتيه وسالت على وجنتيه الباردتين . بدأت بعض الكلاب في المقبرة تفطن لوجود زائر غريب فتجمعوا حوله في حلقة يتأملونه ثم بدأوا ينبحون معا بشكل هيستيري أصابه بالخوف فأخذ يلوح بعصاه في الهواء .

في تلك الأثناء كانت زوجته هانم قد أدركت من تأخره أنه ربما قد حدث له مكروه فاستغاثت بجيرانها ، هرع الجميع إلى شوارع القرية في هلع ، لقد كان عم محمد مفتش الصحة بالقرية ، ورفض أن يتركها حباً في أهلها ، وقد قدم لهم الكثير من الخدمات وضحى من أجلهم براحته كثيراً ، فهو الذي قام بإتمام زواج معظم شباب القرية ، وكان أهل القرية يدخرون المهور عنده ، ويأمنونه على الكثير من أموالهم وأسرارهم ويطلبون تدخله للتوسط في حل مشكلاتهم وكانوا يأتمرون بأمره ويرضون حكمه ، لذا هرع الجميع إلى الشوارع حين علموا بالأمر ، وبحثوا كثيراً ولم يجدوه ، فلجأ محمد حبلص إلى مكبر الصوت بالمسجد حيث قام بتنبيه كافة أهالي القرية إلى الأمر وأخذ يصيح في مكبر الصوت : "يا اخواننا اللي لفندي سهران عنده يرجعه للبيت أحسن الوجت اتأخر وجماعته جلجانين عليه " كان أهل القرية يطلقون على عم محمد لقب (الأفندي) وكانت ملابسه الأنيقة ومنزله المهندم مبعث هيبة ووقار بالنسبة للفلاحين.

مر الوقت ولم يتغير شيء ولم يظهر عم محمد ، قام أفراد القرية وعلى رأسهم عائلة حبلص وعائلة النبوي الشاعر بحمل المصابيح والمشاعل وخرجوا في جميع الاتجاهات وقد استبد بهم الخوف على الرجل ، هرع محمد حبلص إلى سليمان أبو ناجية وطلب إليه أن يحضر جراره الزراعي ذي الأضواء الكاشفة القوية ليستعينوا به في البحث وأحضر سليمان الجرار في ثوان معدودة ، وصاح محمد حبلص في الجموع : " أني حاسس انه ميّل ع الترب من غير ما يجصد يا ولاد ، ياللا نبص هناك " قفز معه عدة رجال حتى امتلأ الجرار وتبعهم عدد غفير جرياً على الأقدام ، وكان الجميع يصيحون (يا افندي .. يا محمد افندي) ودمعت عينا محمد حبلص وهو يقود الجرار حين فكر في أن مكروهاً يمكن أن يكون قد حدث للافندي ، فهو لا يستطيع تخيل القرية دونه "أني طلعت على وش الدنيا لجيته" هكذا يقول محمد حبلص (يا محمد افندي ) وصلوا إلى المقابر وتفرقوا في كل الاتجاهات ، فجأة صاح محمد حبلص في هيستريا (آهو يا ولاد .. يا زداحمد يا شاعر .. يا داكتور هاني .. يا رفعت .. لجيناه يا ولاد) بكى محمد حبلص حين رأى عم محمد وقد افترش الوحل والرعشة تهز جسده النحيل وعيناه محملقتان في الظلام ، وقد أحاطت به الكلاب من كل جانب ، قفز محمد حبلص من على الجرار ، وأخذ يقبل عم محمد على رأسه ، وحمله في سرعة البرق ووضعه على الجرار ، وانطلق الجميع في فرحة غامرة إلى منزل (الافندي) يحملون المشاعل والمصابيح ويصيحون في فرح : لجيناه يا ولاد .. لجينا لفندي ..

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...