اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

إنتصار


elbana

Recommended Posts

ألقت بنفسها على المقعد الحديدي البارد ، وأمالت رأسها إلى الخلف وأغمضت عينيها ، ترى هل تستطيع النوم هذه الليلة أم ستتكرر مأساة الليالي السابقة ، حاولت أن تحصي عدد الأيام التي قضتها في ذلك العنبر فلم تستطع ، لقد مر عليها الآن ما يزيد على الشهرين ، أكثر من شهرين وهي تنام جالسة على ذلك المقعد الحديدي البارد الأبيض اللون كسائر ما في ذلك المشفى ، لم تستطع أن تتدبر أمر سرير تقضي ليلتها عليه طوال تلك الفترة ، تنهدت ، ومدت يدها تحت السرير الذي ينام عليه زوجها وسحبت بهدوء شديد بطانية من الصوف ، وقامت بتغطية نفسها بها ، حاولت أن تنام ، ولكن كيف تنام وهي لا تدري ما حال الأبناء والبنات الذين لم ترهم منذ أكثر من شهرين ، لقد تركتهم هناك في بلدتهم البعيدة عن القاهرة في أقصى جنوب الوادي ، أخبرها الأطباء أنه من الضروري أن يتلقى زوجها علاجاً في القصر العيني ، ولن يستطيع أي مشفى آخر أن يوفر له ذلك العلاج بالمجان ، فالسرطان الملعون يجب أن تتم مطاردته بالعلاج الكيميائي والجراحي في آن واحد ، وتلك الإمكانات لا تتوفر في مدينتهم ، فسلمت أمرها لله ، وركبت القطار إلى جانب زوجها ورحلت إلى الشمال تاركة قطعة من قلبها إلى جوار أبنائها وبناتها في تلك المدينة الجنوبية بعد أن استوصت الجيران بهم خيراً . عموماً فإن هناء الابنة الكبرى تخرجت من الجامعة وتعمل الآن يمكنها أن ترعى الباقين ، وهنا في القاهرة تستطيع أن ترى محمد ولبنى فكلاهما في الجامعة ويمران على المشفى يومياً لزيارة أبيهما والاطمئنان عليها ، وهي تأنس كثيراً بتلك الزيارة .

إن الذي يحزنها كثيراً أن أحداً من أخوة زوجها لا يزوره ، فهذه المرة الثالثة تقريباً التي يدخل فيها زوجها إلى القصر العيني ، لم يستطيعوا أن يتناسوا لبعض الوقت الخلافات القديمة ، إن المرض يقتطع جزءاً من جسده في كل يوم ، والنقود التي بحوزتها تنضب ، والمورد قليل ولا أحد منهم يفكر في مد يد العون لها ، (ربنا موجود) قالتها بصوت عالٍ دون أن تدري ، وتنبهت إلى ذلك فتلفتت حولها خجلة ، ولكن صوت شخير المرضى في العنبر كان يغطي على كل شيء ، فأمالت رأسها ثانية إلى الخلف وشردت .

كم كانت فرحتها عظيمة حين علمت بأن الملابس التي أرسلتها في طرد منذ أيام وصلت وأنها أعجبت الأولاد كثيراً ، وخاصة أحمد الذي كان يلح كثيراً للحصول على بنطال قصير بدلاً من ذاك الذي صار قديماً مهترئاً . ترى هل ستستطيع ابنتها هناء أن ترعى الطيور التي في الشرفة ، إن لديها أنواعاً من الدجاج والبط والأرانب والحمام ليست لدى أي من جاراتها ، وهي تفخر كثيراً بتربيتها لتلك الطيور ، وتخاف عليها من الحسد ، ابتسمت وهي تتذكر تهافت الحمام على الشرفة حين تقوم بفتحها في الصباح الباكر ، حتى الحمام الذي لا تملكه ، تعود أن يأتيها ويلتف حولها في انتظار الطعام والماء . إن البرد اليوم قارس ، عسى أن تكون هناء قد تذكرت أن توقد المصباح الكهربائي الذي علقته في عشة الدجاج ليوفر لهم التدفئة اللازمة .

أخيراً جاء النوم ، رأت فيما يرى النائم أن طيراً اخضر اللون قد أتى وحملها إلى حيث الكعبة المشرفة وطاف بها حول البيت الحرام ، إن ملمس ريش ذلك الطير ناعم جداً ، وهناك نسمات منعشة تلامس وجنتيها في رقة ، أتاها صوت زوجها من بين الذين يطوفون في الأسفل ، لقد حوصر وسط الزحام ، ودفعته أجساد الحجاج من كل جانب ولم يحتمل جسده الهزيل كل ذلك العناء فبدأ يستصرخها ، (انتصار ، يا انتصار) ، فتحت عينيها بتثاقل فأبصرت أمامها نافذة العنبر الزجاجية وقد ظهر منها ضوء أعمدة النور في الشارع الذي خفت منه الحركة ، فالوقت قارب الثالثة صباحاًً ، (انتصار ، يا انتصار) ، ما هذا إن صوت زوجها مازال هناك ، يا إلهي إنه ليس حلماً فهو يناديها حقاً ، انتفضت من على المقعد وألقت بالبطانية أرضاً وقامت إليه ومالت على وجهه (مالك يا خويا ، فيك إيه) رد عليها بصوت مجهد متألم (تعبان ، فيه وجع) ، ردت وقد انفطر قلبها من الإشفاق عليه (وجع تاني ، بعد الشر عليك) هرعت إلى غرفة النوبتجية تبحث عن طبيب مناوب ، طال بها البحث حتى وجدت الطبيب وأيقظته وأتت به إلى العنبر ، ألقى الطبيب نظرة على الزوج ، وقال لها بصوت نصف نائم (عايز حقنة يا ستي ، لازم نديها له دلوقتي .. بس دي مش ح تلاقيها هنا في المستشفى ، لازم تجيبيها من أي صيدلية بره) ردت بلهفة (حاضر إكتبها لي وأنا أروح دلوقتي أجيبها) نظر إليها الطبيب مندهشاً (دلوقتي؟ دي الساعة ثلاثة الصبح ، خليكي لحد ما يطلع النهار) نظرت إليه بحدة وتعجبت في نفسها من قسوته (إكتب يا دكتور إسم الحقنة ، أنا مش ح اسيب الراجل نايم يتوجع لحد ما النهار يطلع) كتب الطبيب اسم الحقنة سريعاً ، فاختطفت الورقة من يده ، ومالت على زوجها ونظرت في وجهه (ما تشيلش هم .. شوية وأرجع لك بالحقنة) هرولت خارجة من باب العنبر عبر الممرات الطويلة وخرجت إلى الشارع فلفحتها نسمة شديدة البرودة ، عبرت الجسر الصغير المجاور للمشفى وقد تجمدت أصابعها من البرد تحدرت من عينيها المتعبتين قطرات من الدمع سرعان ما تجمدت بفعل الهواء البارد ، أسرعت الخطى إلى الصيدلية التي تعمل طوال الأربع والعشرين ساعة ، دست يدها في جيبها لتخرج ثمن الحقنة ، فوجئت بسعر الحقنة ، لم تكن تعلم أنها تملك فقط نصف الثمن ، أحصت نقودها ثانية ، يا إلهي إن هذا هو كل ما تبقى لديها ، لاحظ الصيدلي الأمر ، وكان قد اعتاد على رؤيتها ، مد يده لها بالحقنة (إلحقيه بالحقنة دلوقتي وبعدين نبقى نتكلم في الفلوس) نظرت إلى الشاب بدهشة ، وضعت ما لديها من نقود على الطاولة وقالت (ح أجيب لك الباقي الصبح ، عشت) .

عادت إلى المشفى سريعاً ، بحثت عن الطبيب مرة أخرى ، وأخيراً وجدته ، قام بإعطاء الحقنة للزوج ، مكثت بجوار الرجل حتى نام ثانية ، ألقت بنفسها على المقعد الحديدي البارد مرة أخرى ، وقد نال منها التعب والإجهاد ، وشعرت بيأس شديد ، دفنت وجهها بين كفيها وبكت بكاءً حاراً مكتوماً حتى لا يسمعها أحد ، سمعت صوت أذان الفجر يعلو من المساجد القريبة ، قامت إلى النافذة التي أمامها ، رفعت عينيها إلى السماء من خلف الزجاج ، ثم نظرت إلى الشارع ، أبصرت بائع الجرائد يقوم بفتح كشكه الخشبي على الرصيف المقابل ويوقد مصباحه الغازي ليستمد منه بعض الدفء ، ومرت عربة كارو تحمل أنواعاً من الخضار كان أبرزها الكرنب وقد نامت إلى جوار سائق العربة صبية صغيرة مغطاة بجوال من الخيش ، مسحت دموعها بكلتا يديها ، علا صوت أحد المرضى من العنبر (عطشان عايز ميه) ، أسرعت إلى سريره ، تناولت زجاجة المياه وقامت بسقايته (إشرب يا عم حسن) ، شرب الرجل ونظر إليها (إنتي لسه صاحية يا ام محمد) ردت (ح انام آهو) قال الرجل (ربنا يا بنتي يمتعك بصحتك وبعافيتك ، أنا مش عارف من غيرك كان الراجل ده عمل إيه .. ده انتي خادماه وخادمانا كلنا ، ربنا يقومهولك بالسلامة) ورفع يديه إلى السماء وبدأ يدعو لها دعاءً حاراً ، انفرجت أساريرها عن ابتسامة وضاءة شقت طريقها بسهولة بالغة بين آثار التعب والإجهاد ، واستدارت إلى سرير زوجها ، مالت عليه ، قبلت جبينه ، وارتمت على المقعد الحديدي البارد وغطت في نوم عميق .

رابط هذا التعليق
شارك

فيما عدى تكرار نصف القصة مرة ثانية في الكتابة...

فهي رائعه :D

رايتها بعيني الاف المرات عندنا في المستشفى

مع فارق الرحمة... التى لم تعد تتوفر في القلوب.... والصيدلي الرحيم لم يعد موجودا..

واكم من مرة بكيتها بجوار مريض بسبب غلظة المرض وقلة الحيلة...

وكم من مرة رخت في وجه زميل لنا او زميلة واحيانا كنت اقوم بطرده من غرفة الكشف بسبب قسوتهم اللاانسانية في التعامل مع المريض او في اخباره بمرضه....

غباااااااء

الطب غباااااء

بدون انسانية....يصبح مشرطا بدون دواء....:(

ابكتني قصتك يا البنا

ولكن انت فنان وريشتك موهوبة..

وانا من البلد ديييييييييييي

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
  • الموضوعات المشابهه

    • 3
      حقق حزب الله إنتصاراً جديداً على العدو الصهيوني وذلك بموافقة فرنسا على بث قناة المنار الناطقة بلسان حزب الله في دول الإتحاد الاوروبي مع عدم الإكتراث بالإعتراض الذي تقدمت به إسرائيل للدول الأوروبية لوقف بث تلك القناة .. ويكفي ان نعرف يا جماعة إن قناة المنار مالهاش شغلانه ليل نهار غير فضح الممارسات الصهيونية وعرض كل جرائمهم ضد الفلسطينيين وضد جنوب لبنان أيام الإحتلال ... وصراحةً أنا أرى وأسمع فيها أخبار وإنفردات عن هؤلاء الإرهابيين وجرائمهم .... فهي تُذيع ما يخشى ان تُذيعه مئات القنوات العربية ا
×
×
  • أضف...