اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

الكوبري


elbana

Recommended Posts

جلس خالد القرفصاء أمام كوخه البسيط على حافة النهر المنحدرة محدقاً بعينيه في صفحة المياه الزرقاء ، الهدوء يخيم على المكان كالعادة وليس هناك من أصوات سوى صوت احتكاك أعواد الذرة في حقله الصغير خلف الكوخ وصوت أقدام نعاجه الصغيرة التي طفقت تحوم حوله وتلوك ما تقع عليه عيناها من أوراق خضراء ،بينما جلس كلبه بجواره في هدوء يرقب صاحبه ، ويرفع رأسه مصيخاً السمع بين الفينة والفينة ثم يعود فيريح ذقنه على قدميه الأماميتين في استرخاء شابته مشاعر القلق على صاحبه . أمسك بعصا صغيرة وأخذ ينقش بها على الأرض ، كانت الساعة تقارب الثالثة عصراً ، حين قرر أن يستريح قليلاً من عناء العمل في الأرض التي ورثها أبوه عن جده ، لم يكن يظن أن الأمور ستفضي به إلى هذا المكان ، هنا على نيل أسوان الهادئ الوادع ، وعند المدخل الشمالي للمدينة على حافة النهر وفي الضفة الغربية منه ، بجوار بلدة الكوبانية النوبية مسقط رأس أبيه ، تبدلت الأمور فجأة بعد أن أُعلن عن البدء في مشروع كوبري أسوان الذي سيربط ضفتي النيل ، تسابق الناس إلى ابتلاع الأراضي المجاورة لمكان الكوبري في نهم ، عرضوا على الملاك مبالغ كبيرة من المال للتخلي عن أرضهم ، أما هو فرفض البيع ، وأقنع أباه بالأمر ، في ذلك الحين كان قد مضى عليه أكثر من أربع سنوات دون عمل منذ أن تخرج في كلية الزراعة بجامعة القاهرة ، كان خالد يحلم بالعمل في إحدى شركات القطاع الخاص التي تمنح مرتبات مجزية أو حتى بالحصول على عقد عمل في إحدى دول الخليج ، ولكن الإعلان عن بناء الكوبري قلب الأمور رأساً على عقب .

حين وقف أمام قطعة الأرض للمرة الأولى ، شعر بالخوف ، لقد شاهد أمامه مساحة مغطاة بالرمال الصفراء ، لم يدر وقتها ماذا سيفعل ، فأسرته تعيش هناك في جزيرة أسوان على بعد عدة كيلومترات ، والمكان هنا منعزل إلا من طريق يسير بمحاذاة أرضه ليربطه بقرية الكوبانية وينتهي بالمعدية التي تعبر إلى مدينة أسوان . بعد تفكير عميق قرر البدء في العمل ، قام ببناء الكوخ مستخدماً بعض الأخشاب والصفائح المعدنية وقماش الخيام وكل ما وقعت عليه يداه ، ثم قام بفصل أحد البراميل الحديدية إلى نصفين ووضع فوقهما لوحاً من الخشب فصار فراشاً ، ثم صنع امتداداً لسطح الكوخ فيما يشبه المظلة للمنطقة الواقعة أمام الباب ، وعلق في تلك المظلة شبكة من السلك على هيئة طبق مغطى جعلها لحفظ الطعام وتهويته بعيداً عن الحشرات ، أمام الكوخ ، وبجوار الباب قام بعمل مصطبة مصنوعة بنفس طريقة صنع السرير ، كانت مساحة الكوخ حوالي مترين في مترين ، جلب بعض أدوات الطهي وعمل الشاي ، ولم ينس النرجيلة التي كان يشعلها مستخدماً أخشاب الأشجار اليابسة المحيطة ، كانت المشكلة الأولى هي كيفية الحصول على المياه للري وللشرب أيضاً ، أعمل فكره قليلاً ، حسناً لابد من بناء ما يشبه المجرى المائي المحمول على قواعد لرفع الماء من النيل إلى مستوى أرضه التي ترتفع مسافة حوالي أربعة أمتار عن مستوى مياه النيل في تلك المنطقة ، كانت القواعد عبارة عن قوائم خشبية جمعها على مدى عدة أيام ، ثم قصها بأطوال متساوية وثبّت أطرافها السفلية في علب معدنية مملوءة بالأسمنت والجبس بعد أن غرس تلك العلب في حفر في الأرض وأحاطها بالجبس والأسمنت أيضاً ، كان عدد القواعد حوالي أربع أو خمس تبعد الواحدة عن الأخرى بما يقارب المترين ، ثم قام بوضع ألواح معدنية قديمة على تلك القواعد ليصنع طريقاً تسير عليه مواسير المياه من الأسفل إلى الأعلى ، وبعد الانتهاء من مشروعه الصغير ، وقف أمامه وابتسم فقد ذكره بسور مجرى العيون بالقاهرة القديمة والذي صنع لنفس الغرض ، مع بعض الفروق في التصميم والنواحي الجمالية ، ضحك ، حسناً ربما كان الآخر أكبر قليلاً ، ولكنه مشروعه لرفع الماء لا يقل أهمية عن مشروع توشكى كما كان يصر دائماً على المزاح مع كل من يزوره ، وضع مضخة يدوية بدائية الصنع عند مأخذ المياه بالأسفل ، وهذه تتطلب منه جهداً كبيراً ليرفع الماء اللازم للشرب والري ، ولكن لم يكن أمامه بديل ، كان يخزن الماء المرفوع في برميلين أو أكثر في الأعلى ليستخدمها متى احتاجها .

اليوم ، ومنذ الصبح الباكر وهو جالس هكذا ، لقد مر على وجوده هنا أشهر عديدة انفصل فيها عن العالم المحيط به ، لا يملك سوى الراديو الترانزستور الصغير الذي يربطه بالعالم ، لم يعد يعرف الأيام أو التواريخ بدقة ، فلم تعد تعنيه في شيء ، إن الحياة في تلك البقعة وعلى هذا المنوال قاسية جداً ، نصف محصول البرسيم تلف لعدم وجود من يساعده في الحصاد والتخزين ، فرغت البراميل من المياه منذ الأمس ولم يملأها ، لم يأكل شيئاً منذ الصباح ، لم تعد لديه الرغبة في الاستمرار ، لقد ملت نفسه السكون المحيط به ، بدت عليه علامات الهزال واصفرت أسنانه قليلاً كما فقد بعضاً من وزنه نتيجة العيش المتقشف .

سمع أصوات أقدام تقترب من جهة الطريق الأسفلتي ، قام من مكانه ، ألقى نظرة فإذا ببعض الرجال يرتدون الحلات الرسمية وتبدو عليهم سيما الأهمية ترجلوا من سيارتين وتقدموا تجاهه حاملين بعض الأوراق في أيديهم بينما جالوا النظر في الأرض وما عليها ، توقفوا عنده ، نظروا إليه بعدم اكتراث ، سألوه عن مالك الأرض ، رد بأنه هو مالك الأرض ، أخبروه بأن تلك الأرض قد تنزع ملكيتها بسبب الكوبري وأن عليه أن يخليها ، نظر إلى المتحدث بحدة وغضب قائلاً : من قال لك أنني يمكن أن أترك أرضي؟ . رد المتحدث بغضب وعجرفة : إما هذا أو أن نستدعيك إلى مديرية الأمن . لم يزده التهديد إلا إصراراً على موقفه ورد قائلاً : فليكن ما تشاؤون ، مديرية الأمن ، أو حتى السجن ، لن أترك المكان . قال الرجل : ولكن أرضك تقع في حرم الكوبري . رد خالد هازئاً : أتظن أنك تتحدث إلى أمي؟ إن حرم الكوبري يقع ضمن ثلاثة كيلومترات شمالاً وجنوباً أما ما زاد على ذلك فليس من حق أحد نزع ملكيته . نظر إليه الرجل بعصبية واستدار منصرفاً ، وقف خالد يرقبهم بغضب شديد ، تمتم : أيها الأوغاد ، الآن تريدون انتزاع الأرض ، لصالح من تريدون إخلاءها؟

عاد إلى الكوخ ، ظل يمشي أمامه جيئة وذهوباً ، ثم يلقي نظرة على الطريق ، ويعود ثانية للمشي في غضب وتوتر ، جلس أمام الكوخ لبرهة ، ولكنه لم يطق الجلوس ، هب واقفاً ، استدار وألقى نظرة إلى أعواد الذرة التي تغطي أرضه وتتناوح مع نسمات الهواء القادمة من جهة الغرب ، نظر عند قدمه فأبصر صغرى نعاجه تتمسح في قدمه وتنظر إليه وقد بدت عليها علامات الهزال والضعف من العطش والجوع ، ألقى بالعصا من يده ، انطلق مسرعاً كالسهم إلى الأسفل قاصداً المضخة عند مأخذ المياه ، بدأ يشغل مضخة المياه بكل ما أوتي من قوة ، قفزت النعجة الصغيرة فرحاً وهي ترى الماء وقد اندفع بقوة صاعداً للأعلى .

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
  • الموضوعات المشابهه

    • 15
      لماذا لم تكتشف طائرات الإستطلاع الجوي المصرية هذا الكوبري الأسرائيلي علي الحافة الـشــرقية للقناة (بالقرب من مكان إنزاله) .... ؟؟؟؟؟ من المعروف ، أن صور الإستطلاع والإستكشاف الجوي تخضع لتحليل دقيق ويتم تبيلغ تلك المعلومات إلي القيادة الميدانية ... وقيادة أركان الحرب نحن جميعا بشر .... سواء كانوا قادة ... أو غير ذلك موضوع الصور وثيقة "خطيرة" .... تبين واقع لا بد من مناقشة أسباب عدم أخذ صور الإستطلاع والإستكشاف الجوي تفي الإعتبار وكيفية تقييم صوره الإستكشافية والدليل علي سهولة التحليل وال
×
×
  • أضف...