اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

مدة خدمة (قصة قصيرة)


elbana

Recommended Posts

علا صوت عقرب الساعة الحائطية العتيقة في رتابة كرست حالة الصمت المسيطرة على المكان ، البرد القارس جعل من الصعب ملامسة الأرضية المغطاة ببلاط من النوع القديم ، فحرصت على ارتداء خفها المنزلي كما أحكمت أطراف الكليم الصوفي ليغطي أكبر مساحة ممكنة من الأرضية . عقدت يديها على صدرها ولملمت أطراف الروب الكستور حول جسدها وأخذت تجول في أرجاء الشقة الصغيرة الخاوية من السكان ، توقفت عند صورة زفاف أبويها ، لقد توفيا منذ عدة أعوام ، أخذت تحدق في الصورة ، كم كان رداء أمها جميلاً ، أخبرتها أمها أن أباها تزوجها وهي في الخامسة عشرة من عمرها ، وأنهما قضيا حوالي عاماً واحداً في طنطا انتقلا بعده إلى البيت الحالي في أسوان : (يعني البيت ده يا إيمان هو كل عمري أنا وأبوكي) هكذا كانت تقول لها أمها .

مرت بيدها على قطع الأثاث كأنما تستنطقها ، فتحت درجاً في المكتب الخشبي الصغير ، أخرجت بعض الأوراق الخاصة بأبيها ، وجدت ورقة قديمة يبدو أنها حكومية ، ابتسمت ، إنها قرار تعيينه في السكة الحديد ، منذ أكثر من أربعين عاماً ، عم الجلالي ملاحظ البلوك ، طافت بخاطرها أصوات الماضي وذكرياته في ذلك البيت الذي منحته الهيئة لأبيها حين تم تعيينه ، هنا قضت كل عمرها ، ولدت في غرفة نوم أمها وهنا في صالة المنزل الصغيرة أقيمت أفراح أخوتها الثلاث ، بعد وفاة أبيها أخبروها أنها قد تطرد من البيت لأن أباها قد توفي وأمها كذلك ، وليس من حقها أن تبقى من الشقة ، ولكن مدير الهيئة طمأنها وقال لها أنها ستبقى ، فالهيئة ليست جاحدة لدرجة أن تلقي بها في عرض الطريق بعد أن قضى أبوها ثلثي عمره في خدمة السكة الحديد .

دخلت إلى غرفة نومها ، على السرير المقابل لها كانت تنام تهاني أختها الكبرى ، وعلى السرير الآخر كانت تنام تحية الأخت الوسطى ، أما محمود الأخ الوحيد فكان ينام في صالة المنزل المكون من غرفتين فقط ، وبالطبع كانت غرفة النوم الأخرى مخصصة للأبوين ، جلست على السرير ، سمعت صوت هرة صغيرة تصيح عالياً ، ضحكت ، كانت تهاني تخاف كثيراً حين تسمع هذا الصوت وتقفز لتنام إلى جوارها ، محمود لم يزرها منذ عدة شهور ، فقد تزوج في نجع حمادي والمسافة كبيرة ، رفضت أن تقيم معه في منزله ، فبيت أبيها مفتوح ، كما رفضت الإقامة مع أختيها لنفس السبب ، لقد بلغت الثانية والعشرين من عمرها ، لم يتقدم أحد لخطبتها حتى الآن ، هي تعلم أنها انطوائية بعض الشيء ، ولكنها لا تملك شيئاً حيال هذا الأمر ، يحرص عم حلمي فراش استراحة سائقي القطارات المجاورة لهم على السؤال عنها يومياً ، كان الرجل يحب أباها كثيراً ، سعدت حين علمت أنهم منحوه خمس سنوات إضافية فوق سن المعاش ، تذكر جيداً كيف كانت تلعب في الشارع مع قريناتها وحين يشعرن بالعطش يسرعن إلى الاستراحة التي تقع في الدور الأول من إحدى العمارات ولها سلم خارجي منفصل ، فما أن يراهم عم حلمي حتى يسارع بملء كوز الماء .

قامت إلى الغرفة الأخرى ، فتحت دولاب ملابس أبويها ، غشيتها رائحة ملابسهما بقوة كموجة جارفة ، تناولت بيمناها معطفاً صوفياً ثقيلاً لأبيها كان يرتديه في الورديات الليلية ، احتضنت المعطف ، سمعت صوته وهو يوقظها باسماً عند الصباح الباكر لحظة عودته من وردية الليل حاملاً في يده عامود الطعام الفارغ : (إيمان .. قومي يا بنتي علشان تروحي مدرستك) بينما علا صوت شجار تهاني وتحية على لبس الحذاء الجديد ، فتقوم هي وترتدي ملابسها وتخرج إلى المدرسة في هدوء ، كانت أمها دوماً تقول : (الله يريح قلبك يا إيمان يا بنتي .. دايماً هاديه وماحدش سامع لك حس) .

أفاقت على صوت صافرة قطار من محطة السكك الحديدية الملاصقة لبيتهم فأعادها إلى الغرفة الباردة الموحشة ، هذا قطار الواحدة ليلاً ، لقد أفرغ حمولته منذ ساعتين وتلك الصافرة تعني أنه سيغادر الرصيف إلى ورشة التخزين هناك في مدخل المدينة ، كان أبوها يحفظ حركة القطارات ويتابعها بأذنه طوال اليوم كما ترعى ربة البيت دجاجاتها (المسألة يا بنتي أمانة .. الناس اللي في القطر ، والقطر نفسه ، والسكة اللي ماشي عليها ، كل ده أمانة في رقبتنا .. شغلانتنا خطر قوي يا إيمان .. من يوم ما دخلت الهيئة لحد ما طلعت ع المعاش ما تسببتش في حادثة واحدة) سالت دموعها بغزارة ، تناولت بيمناها شال أمها وجلست على السرير ضامة إلى صدرها المعطف والشال ، نامت.

استيقظت في الصباح الباكر على صوت طرقات على باب الشقة ، قامت مسرعة ، دق قلبها في خوف ، فتحت الباب ، ألفت عدداً من الرجال بعضهم من الشرطة ، وخمنت أن الباقين من موظفي الهيئة ، وفي نهاية الركب كان يقف عم حلمي وقد أخذ يمسح دموعه بمنديل أبيض ، قفزت بنظرها فوق الجميع : (فيه إيه يا عم حلمي؟) لم يحر الرجل جواباً ، بادرها الضابط قائلاً : (معانا أمر بإخلاء الشقة فوراً بالقوة الجبرية لو لزم الأمر) .

رابط هذا التعليق
شارك

إجعل تركيب الجمل أبسط.

{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا }

رابط هذا التعليق
شارك

عمل جيد من حيث المبدأ ...الله ينور يا أخ بنا! :)

عزيزي متسائل:إنت فين يا راجل؟ :)

خلص الكلام

Sherief El Ghandour<br /><br />a furious Egyptian

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...