اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

قضية فلسطين بين الإسلام والممارسة السياسية العلمانية


Recommended Posts

موجز الأنباء العلمانية

قضية فلسطين بين الإسلام والممارسة السياسية العلمانية

(1 ـ 2)

خالد محمد حامد

لن نتحدث عن نشرة أنبائهم السياسية؛ فالبث السياسي العلماني بث واسع الطيف متعدد الموجات، وأنى للاقط واحد أو معالج أحادي أن يستقبل كل نضالهم الثوري وكفاحهم التقدمي، ثم رؤيتهم الثاقبة وواقعيتهم الحكيمة وحنكتهم الراسخة، في السياسة الداخلية والخارجية؟

ولكننا هنا نتعرض فقط بشيء من الإيجاز لجهودهم المعلنة والخافية في القضية التي زعموا أنها قضيتهم المركزية، والتي بالانشغال بها تذرعوا بهدم معظم مقومات الدولة والقضاء على بنية الإنسان العربي، ثم أسندوا إخفاقهم في جميع القضايا (غير المركزية) إلى انشغالهم بقضية العرب المقدسة!

ولكن منذ متى كانت فلسطين مقدسة عند العرب؟

النبأ الأول: فلسطين بين العروبة والإسلام:

لم تكن فلسطين تحتل مكانة مرموقة في حس العربي الجاهلي قبل الإسلام، وفي معظم الأحوال كان ينظر هذا العربي إلى الشام ـ وضمنها فلسطين ـ على أنها لا تزيد عن كونها إحدى مناطق الاستقرار والنشاط الاقتصادي التي كان يرتبط بها في رحلاته التجارية الموسمية.

ومع بعثة النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم نشأت مكانة مميزة في عقل وقلب العربي المسلم للشام عموماً ولفلسطين خصوصاً ولمدينة القدس بوجه أخص؛ وذلك من خلال إشارات قولية وعملية عديدة، تبدأ منذ ولادته صلى الله عليه وسلم عندما رأت أمه قصور الشام عند ولادته صلى الله عليه وسلم، ثم بعد بعثه صلى الله عليه وسلم بالنبوة كانت حادثة الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج منه، وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في الصلاة فيه إحدى أكبر المعالم الواضحة في أهمية هذه البلاد، ثم كان بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى إلى الصلاة التي هي عماد دين المسلمين.

ثم تتوالى الإشارات التوجيهية لفضل هذه البقعة وأهمية هذا الموطن: فالمسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، والصلاة فيه تعدل 250 صلاة في غيره من المساجد عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح الشام وبيت المقدس أكثر من مرة، ودعا صلى الله عليه وسلم للشام وأهلها ونصح بسكنها، وفي فضل الشام والمسجد الأقصى وما حوله وردت آيات قرآنية وأحاديث نبوية عديدة(1).

ثم كان التحرك العملي لـ (تحرير) هذا الموطن الغالي من ربقة الشرك والكفر بإنفاذ البعوث والسرايا العسكرية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى فتح بيت المقدس وفلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واستدعى هذا الفتح دون غيره أن يذهب الخليفة بنفسه ليتسلم مفاتيح المدينة المقدسة، ويستلم معها أمانة محافظة المسلمين عليها.

إذن: فقد عرف العرب أهمية هذا الوطن بالإسلام، وبالإســلام وحــده ـ وليس بالعروبة ـ كانت قضية فلسطين قضية (مقدسة)، عرف هذا المعنى صلاح الدين الأيوبي عندما حررها مرة أخرى من براثن الصليبيين، ولم يكن صلاح الدين عربياً، بل كان كردياً، وعرف هذا المعنى العثمانيون الأتراك عندما حافظوا على الأمانة واستماتوا في الدفاع عنها حتى دفع السلطان عبد الحميد الثاني عرشه ثمناً لتمسكه بها وعدم التفريط فيها.

النبأ الثاني: فلسطين قبل النفق العلماني:

وإليك طرفاً من مقاومة هذا السلطان للضغوط والإغراءات التي مورست عليه من أجل (بيع) فلسطين، ورفضه ذلك رفضاً قاطعاً رغم ضعف دولته والمؤامرات والدسائس التي كانت تحاك ضده في داخل الدولة وخارجها؛ حيث اختار اليهود فترة عصيبة من فترات اضمحلال الدولة العثمانية، حين لم يعد لهذه الدولة أي ثقل سياسي معتبر أو قوة عسكرية مهابة.

فمنذ أن بدأ المشروع الصهيوني بالاستيطان في فلسطين يأخذ خطوات عملية: سعى اليهود إلى إيجاد موطئ قدم لهم هناك بطريقين متوازيين: الأول: العمل على تهجير اليهود من شتى أصقاع العالم إلى فلسطين مع ما استلزم ذلك فيما بعد من محاولة تفريغ فلسطين من أهلها، الثاني: شراء الأراضي في فلسطين ليكون لهم قواعد ثابتة يتحركون منها لإتمام مشروعهم، وقد كانت القدس دوماً أحد المراكز المستهدفة بإلحاح في هذا السعي، فكانت الدولة العثمانية ـ وخاصة في عهد السلطان عبد الحميد ـ متيقظة لهذه المساعي(1) .

يقسم الباحثون موجات الهجرة الصهيونية إلى فلسطين فيما بين عامي 1882م و 1944م إلى خمس موجات، ويستفاد من إحصاء جرى للسكان عام 1839م أن عددهم في فلسطين كان بين 6000 و 6500 نسمة، نصفهم في القدس، في حين بلغ عدد العرب وقتها حوالي ثلاثة ملايين نسمة، أي أن نسبة اليهود إلى العرب كانت تدور حول 2%، وارتفع عدد اليهود في السنة التي تليها ليصل إلى 10500 نسمة.

وإزاء النشاط الصهيوني أصدرت الدولة العثمانية منذ سنة 1855م قانوناً يمنع الأجانب من الاحتفاظ بالأرضي في فلسطين أو شرائها، وطوال أربعين عاماً (1840-1880م) وصل عدد المستوطنين اليهود بفلسطين إلى حوالي 25000 نسمة، يعيش أكثر من نصفهم في القدس، ثم بدأت أولى موجات الهجرة اليهودية الواسعة من روسيا وبلدان أوروبا الشرقية، وقد تزامنت هذه الموجة التي بدأت عام 1882م مع تحرك دولي للضغط على السلطان عبد الحميد للسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين؛ فماذا كان موقفه؟:

أخفقت مساعي السفير الأمريكي وزملائه تماماً في هذا الخصوص، ثم أبلغ السلطان المبعوث اليهودي أوليفانت أن باستطاعة اليهود العيش بسلام في أي بقعة من أراضي الدولة العثمانية إلا فلسطين، ثم أرسل في يونيو 1882م رسالة إلى متصرف القدس يطلب فيها منع اليهود الروس والبلغار والرومان من الدخول إلى القدس، كما صدر قرار لمجلس الوكلاء العثماني يقضي بمنع اليهود الروس بصفة خاصة من استيطان فلسطين.

وبعد ضغوط أوروبية صدرت في العام نفسه قوانين لا تسمح لليهود بدخول فلسطين إلا في حالة الحج والزيارة المقدسة، ولمدة ثلاثة شهور، كما صدرت في العام نفسه قوانين جديدة نصت على ضرورة حمل اليهود الأجانب جوازات سفر توضح ديانتهم اليهودية كي تمنحهم سلطات الميناء تصريحاً لهذه الزيارة المحددة المدة والهدف.

ونظراً لتفشي الفساد في الجهاز الإداري التركي الذي كان يمثل ثغرة تنفذ منها موجات الاستيطان اليهودية، ونظراً للجهود الصهيونية والدولية المستمرة والمركزة للضغط في هذا الاتجاه آنذاك.. اتخذ السلطان عبد الحميد إجراءات حماية أكثر تشدداً للمحافظة على تلك البلاد، فجعل القدس عام 1887م سَنْجَقاً (2) مستقلاً عن ولاية دمشق، ومتصرفية لها اتصال مباشر بالباب العالي، وعززت الدولة قوة الشرطة في ميناء يافا، واستبعدت العناصر الفاسدة من بينها، كما وسعت مساحة الأراضي التي تسري عليها أوامر الحظر لتشمل أيضاً منطقة الجليل في شمال فلسطين بالإضافة إلى منطقة القدس، ثم أصدرت الدولة العثمانية في العام نفسه أوامر جديدة تقصر مدة المكوث لهذا الغرض إلى 31 يوماً بدل ثلاثة أشهر، وقد حدَّت هذه الإجراءات بالفعل من هجرة اليهود، وأدت إلى فرض حظر شبه كامل وفعال على هذه الهجرة، ثم قام سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا بالضغط على الحكومة التركية، فتم لهم عام 1889م إلغاء القرارات الأخيرة والعودة إلى السماح بأشهر ثلاثة.

وفي سنة 1892م صدر قانون يحرم بيع أراضي الحكومة في فلسطين إلى جميع اليهود، بما فيهم رعايا الدولة العثمانية اليهود، ويمنع أيضاً رعايا الدولة من بيع الأراضي لليهود، ولكن بريطانيا تدخلت أيضاً فاستطاعت التقليل من فاعلية هذه القرارات بطرق مختلفة تحت مظلة اتفاقيات الامتيازات والمعاهدات الدولية، أما عدد اليهود في هذه السنة فقد أصبح 40 ألفاً.

وحتى عام 1897م (عام انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول) لم تفلح الجهود الصهيونية والضغوط الدولية في رفع عدد اليهود في فلسطين إلا إلى عدد يتراوح بين 50000 و 60000 يهودي، ولم يكن هذا العدد كفيلاً بتغيير التركيبة السكانية في فلسطين بما يحقق أهداف المشروع الصهيوني، كما أن مساحة الأراضي التي استطاعوا الاستيلاء عليها كانت ضئيلة للغاية.

وإزاء ذلك، ولمعرفة اليهود بأن السلطان عبد الحميد هو أكبر عقبة في سبيل هذا المشروع بدأ الصهاينة يتوجهون بجهودهم لمحاولة التأثير عليه، عسى أن يُليِّن مواقفه، ومن ثم عاود هرتزل سعيه الذي كان بدأه عام 1896م، فقرر السفر مرة أخرى إلى إستانبول للاجتماع بالسلطان عام 1901م فقابله ثلاث مرات، عرض فيها مشروعاً صهيونياً بتوطين اليهود في فلسطين ومنحهم حكماً ذاتياً مقابل مساعدات مالية للدولة العثمانية تقضي بسداد ديونها وإصلاح اقتصادها، وتمخضت الاجتماعات عن رفض السلطان إعطاء فلسطين لليهود، إلا أنه وافق على هجرة اليهود إلى آسيا الصغرى والعراق لقاء دفع الديون المترتبة على الدولة، وهو عرض يدل على مدى حاجة الدولة العثمانية إلى الأموال لتحسين أوضاعها، ويدل في الوقت نفسه على أن رفض السلطان توطين اليهود في فلسطين كان لمكانتها الإسلامية والتاريخية والسياسية عنده.

وبعدما حاول هرتزل ـ عن طريق وسيط ـ (رشوة) السلطان، أراد السلطان حسم الموقف بشكل نهائي وقطعي في موقف آخر يدل على ما ذكرناه من دوافع في محافظته على فلسطين، فقال للصدر الأعظم [رئيس الوزراء]: «انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى أرض فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية، وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة»، وهذا الرد يدل أيضاً على الدوافع الإسلامية للسلطان عبد الحميد والدولة العثمانية في الحفاظ على فلسطين.

وبعد كل تلك الجهود الصهيونية والضغوط الدولية لم يزد مجموع من هاجر خلال سنوات الموجة الأولى الكبرى لهجرة اليهود (1882م ـ 1903م) على عدد يتراوح بين 20 ـ 30 ألف مهاجر لا أكثر، وذلك بعد جهود مضنية وضغوط وإغراءات عرضنا بعضها، وعندئذ انقطع أمل اليهود في الالتفاف حول هذه الصخرة، فعزموا على تنفيذ أمر قد قرروه وأسروه من قبل: تحطيم هذه الصخرة.

وبالفعل رَكِبَ اليهود جمعية الاتحاد والترقي العلمانية ذات العلاقات الماسونية واليهودية، واستطاعت هذه الجمعية في النهاية خلع السطان عبد الحميد، والإمساك بزمام الأمور في الدولة خاصة بعد إلغاء الخلافة على يد أتاتورك عام 1924م.

لقد ناهض السلطان ما بوسعه الاستيطان اليهودي في فلسطين وقاومه باستمرار في حدود قدرات دولة آخذة في الاضمحلال تواجهها قوى أوروبية كبرى توافقت مصالحها مع مصالح الصهيونية، وهو وإن لم يستطع إيقاف هذا الاستيطان تماماً، إلا أنه لم يتنازل عن مبادئه قط، ولم يعط شرعية أو إذناً لهذا الاستيطان.

وبوصول جمعية الاتحاد والترقي المنبثقة عن (تركيا الفتاة) إلى سدة الحكم إثر انقلاب عام 1908م، وخلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م خلعت قضية فلسطين الرداء السياسي الإسلامي، وفقدت آخر سند إسلامي رسمي وقتها، ودخلت بذلك هذه القضية النفق العلماني، لتكون في عهدة نظم ومنظمات جديدة لا تصطبغ بالصبغة (القديمة)، بل تدعي لنفسها (التقدمية).

النبأ الثالث: فلسطين في عهدة العلمانية:

بخروج فلسطين من المظلة السياسية الإسلامية عادت مرة أخرى كما كانت في سالف عهدها في الجاهلية: طريقاً إلى منافع مادية، أي إنها خرجت من إطار المبادئ إلى إطار المصالح، وهذه الأخيرة يمكن التفاوض والمساومة عليها، ولا مانع من إعادة تقييمها ومقايضتها إن لزم الأمر، بل لا مانع من التنازل عن بعضها أو استبدال غيرها بها.

لم يخف اليهود غبطتهم لانقلاب الاتحاديين على السلطان عبد الحميد (مضطهد إسرائيل) ـ على حد تعبير بعض الصحف اليهودية التركية ـ، وقد جنوا سريعاً ثمرات خروج فلسطين من المظلة الإسلامية ودخولها نفق العلمانية، فكان من الثمرات البادية للجميع: ارتفاع وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وارتفاع نسبة الأراضي التي استولوا عليها، فعقب الانقلاب المشار إليه نقل الاتحاديون الموظفين الأتراك المعارضين للهجرة اليهودية من فلسطين إلى أماكن أخرى، ونظرت جمعية الاتحاد والترقي بعطف أكثر إلى الصهيونيين كمصدر للحصول على العون المالي للخزانة التركية المفلسة، وعليه ـ وعلى الرغم من الاعتراضات العربية الشديدة ـ: خففت القيود المفروضة على الهجرة وشراء الأراضي في وجه اليهود في العام 1913م، فأصدر الاتحاديون بعد نجاح انقلابهم تشريعاً يقضي ببيع جميع الأراضي السلطانية في الدولة ـ بما فيها فلسطين ـ بالمزاد العلني، ولولا يقظة عرب فلسطين، واندلاع الحرب العالمية الأولى، لضاعت فلسطين كلها منذ ذلك التاريخ(1).

وهكذا ارتفعت نسبة اليهود إلى العرب في فلسطين إلى 9.7% في سنة 1914م، لتستمر في الارتفاع في ظل النظم والمنظمات العلمانية لتصل ـ مقارنة بعرب فلسطين ـ إلى 35.1 % قبيل سنة 1948م، وفي حين أن مجموع ما كان يحوزه اليهود من أراضي فلسطين قبل سنة 1914م لا يتجاوز 1.5 %، ارتفعت هذه النسبة لتصبح 7% قبيل سنة 1948م، وبينما كان مجموع عدد المستوطنات على عهد السلطان عبد الحميد عام 1907م لا يتجاوز 27 مستوطنة في فلسطين كلها، ارتفع هذا العدد ليبلغ 47 مستوطنة عام 1914م، ثم 71 مستوطنة عام 1922م، وفي عام 1944م قفز العدد إلى 259 مستوطنة، ليصل إلى 277 مستوطنة قبيل إعلان دولة إسرائيل عام 1948م(2).

ولا شك أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية ـ محلية ودولية ـ متعددة ساهمت في ارتفاع وتيرة الهجرة والاستيطان اليهوديين في فلسطين، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع إغفال (أخطاء) النظم والمنظمات العلمانية العربية التي ساهمت في هذه النتيجة، وعندما نقول (أخطاء) فإننا نصف محصلة الأفعال، أما أسباب هذه المحصلة فإنها تبدأ من الجهل والسذاجة وعدم الوعي، ولا تستثنى منها الخيانة والتآمر والعمالة.

ومن هذه الأخطاء: ما ظهر مبكراً من ضعف الوعي السياسي لأهمية قضية فلسطين لدى النخبة العربية على المستوى الرسمي ـ رغم ظهور كل هذه المؤشرات على الخطر الصهيوني ـ، ومن أمثلة ذلك الضعف: أنه «عندما عقد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913م، وردت إلى المؤتمرين عشرات رسائل التأييد للمؤتمر والتنديد بالخطر الصهيوني، وقد دعا مرسلوها إلى اتخاذ موقف حازم من الهجرة اليهودية، ومن مجموع 387 رسالة وردت إلى المؤتمر كان من بينها 139 رسالة وردت من فلسطين، ومع ذلك: تجاهل المؤتمر الخطر الصهيوني؛ مما أثار حفيظة عرب فلسطين..»(3).

ومن أمثلة ذلك أيضاً: ما ادعته بريطانيا عقب إعلان بلفور سنة 1917م من أن مراسلات حسين/ مكماهون سنة 1915م ـ 1916م قبل الثورة العربية ضد الدولة العثمانية.. تضمنت موافقة الشريف حسين بن علي الضمنية على استثناء فلسطين من المنطقة المتفق على إقامة دولة عربية عليها(4).

لم يكن هذا هو الخطأ الوحيد لتلك النخب، ولكن قبل أن نضع أيدينا على بقية الأخطاء ـ التي استمرت حتى اليوم ـ يحسن بنا أن نعرض لمعالم السياسة الصهيونية في الصراع على فلسطين:

يمكن القول: إن أهم معالم السياسة الصهيونية في الصراع على فلسطين تتلخص في الآتي:

1 - إخراج الإسلام من دائرة الصراع.

2 - إيجاد قواعد أرضية للانطلاق منها في إيجاد واقع الكيان على أرض الواقع، ثم الانطلاق من هذه القواعد نحو التوسع والتغلغل.

3 - هجرة أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين (ملء المجال الحيوي).

4 - تهجير عرب فلسطين خارجها (تفريغ المجال الحيوي)، عن طريق:

أ - طردهم من أراضيهم بالقوة المسلحة.

ب - إرهابهم بالمذابح والحرب النفسية والدعائية.

ج - تضييق منافذ العمل في وجوه العرب داخل فلسطين، مع تهيئة مواطن بديلة لاستقبالهم، والعمل على فتح مجالات العمل والاستقرار أمامهم في هذه المواطن.

5- تفتيت التكتل المعادي (الإسلامي/ العربي) بتعدد محاور تجمعه، وإثارة نزاعات داخلية بينه، وإقامة دويلات طائفية مسالمة حول الكيان الصهيوني.

وفي المدى البعيد:

6 - العمل على ربط المصالح الغربية الاستراتيجية في المنطقة بالمصالح الصهيونية.

7 - إقامة دولة عصرية يمكنها الاعتماد على نفسها فيما بعد.

8 - الاستقرار والأمن، بالانتقال إلى السلام والشراكة مع الدول المحيطة عن طريق المعاهدات والأحلاف ـ خاصة مع دول الجوار ـ.

9 - غزو دول المنطقة بالتغلغل السلمي وقيادتها نحو منظومة إقليمية جديدة(1).

النبأ الرابع: آثار دخول فلسطين النفق العلماني:

نعود إلى السؤال: ما الذي طرأ على قضية فلسطين بدخول العلمانية إلى حلبة الصراع بديلاً عن الإسلام ـ في الفكر والممارسة الواقعية ـ؟.

إن المتأمل في المخطط الصهيوني السابق ذكره يدرك أن العلمانية كانت مفتاح تحقيق هذا المخطط، وإذا كان سقوط الدولة العثمانية ـ باعتبارها دولة خلافة إسلامية ـ أدى بشكل شبه تلقائي إلى تحقيق النقطة الأولى والخامسة من المخطط.. فإن التجربة العلمانية السياسية التي عملوا على إغراق بلادنا فيها عملت على ترسيخ هذه المكاسب الصهيونية مع تحقيق النقاط الأخرى من المخطط الصهيوني، ليس فقط في الواقع السياسي، ولكن أيضاً في أفكار الشعوب وسلوكياتهم، وذلك من خلال:

أولاً: الافتقار إلى البعد الرسالي للقضية بتنحية الإسلام من الصراع:

فالصراع في قضية فلسطين صراع حضاري تصادمي في أساسه، والإسلام ـ في هذا الإطار ـ هو القادر على المواجهة وهو المستهدف فيها.. هذا ما يدركه الصهاينة ويتجاهله العلمانيون، في الوقت الذي يضعون أنفسهم في الخندق المعادي للرؤية الإسلامية.

فـ (إسرائيل) لم تكن فقط مجموعة من البشر سكنت مساحة من الأرض، ولكنها قامت في الأساس على رؤية (حضارية)، فحاييم وايزمان ـ أول رئيس للدولة الصهيونية ـ يعلن في المؤتمر الصهيوني السابع قبل أكثر من أربعين سنة من إعلان دولتهم أن «... اجتذاب أنظار العالم إلى قضيتنا يستمد مفعوله وتأثيره من الهجرة والاستعمار والثقافة...»(2)، أما إعلان الدولة العبرية فقد تصدَّر بما يلي: «أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي، هنا تكونت شخصيته الروحية والدينية والسياسية، وهنا أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيماً حضارية ذات مغزى قومي وإنساني جامع، وفيها أعطى للعالم كتاب الكتب الخالد»! ويقول أول رئيس وزراء في الدولة الصهيونية ديفيد بن جوريون: «علينا أن نشكل شخصية دولة إسرائيل وإعدادها للاضطلاع برسالتها التاريخية المثلثة: جمع الجوالي، بناء الإنسان، حياة الحرية والمساواة والعدالة»(3).

ولذلك عرف الصهاينة أن عدوهم الحقيقي الذي يتصادم مع (رسالتهم التاريخية) هذه في المنطقة هو الإسلام، والإسلام الحقيقي وحده، يقول بن جوريون: «نحـــن لا نخشى الثوريــــات ولا الديمقــــراطيات ولا الاشتراكيات في هذه المنطقة!، نحن نخشى الإسلام فقط، هذا العملاق الذي طال نومه، ثم بدأ يتململ من جديد»(1)، فالعلمانية بأطيافها المتعددة لا تخيف قادة الصهاينة، ولكنه الإسلام فقط، لذا: عملوا جاهدين على محاربته وإخراجه من دائرة الصراع، وهو ما قامت به العلمانية.

فإذا كان هذا هو موقف العدو (الرسالي) تجاه نفسه وتجاه خصمه (الحضاري)، فما هو موقف العلمانيين من أبناء جلدتنا؟!:

من المعروف أن العلمانية اتجاه فكري حياتي نشأ في الغرب، ثم انتقل بألوانه المتغايرة وتطبيقاته المتعددة إلى بلادنا عن طريق نخب متغربة ـ صريحة أو مستترة ـ، لذا: فإن هذه النخب عندما تخلت عن المذهبية الإسلامية لم تجد نفسها في وضع تناقضي مع (الحضارة الغربية) التي تعد (إسرائيل) ممثلتها في الشرق، وعليه: يصعب على هذه النخب الدخول في صراع تصادمي حقيقي (أساسه المبادئ وليس المصالح) مع هذه الدولة، وتبقى بعد ذلك مسألة (أرض) فلسطين وبعض الخلافات والنزاعات الثانوية الأخرى التي يمكن النظر فيها والتفاوض عليها برعاية آباء هذه الحضارة التي تظلهم وتظل (خصومهم) الصهاينة، لذلك: فمن الممكن عند العلمانيين الوقوف على أرضية مشتركة بينهم وبين دولة (إسرائيل) ـ التي ولدت بشرعية دولية يحترمها جميع العلمانيين ـ، ومن الممكن أيضاً: إيجاد أنصاف (أو أخماس) حلول والالتقاء في منتصف الطريق مع هذه الدولة.

والسبب الرئيسي في ذلك: أن العلمانية السياسية قامت في بلادنا على نفي مفهوم الولاء والبراء الإسلامي واستبعاد توجيهات الشريعة الإسلامية من دائرة صنع القرار، واستبدلت بهما إطار القومية العربية أو الوطنية الإقليمية، مع الدخول في لعبة الشرعية الدولية ومنظومتها، وليس بجديد أن نقول إن القومية العربية والقومية التركية والقومية اليهودية (الصهيونية) خرجت جميعها (فكرياً وعملياً) من معين واحد، أساسه فكرة الدولة القومية التي نشأت في الغرب.

فحلول العلمانية السياسية محل الإسلام في الصراع على قضية فلسطين كان أكبر عامل خدم الصهيونية، عندما لم تجد أمامها طرفاً آخر مبايناً ومواجهاً لها.

ثانياً: الافتقار إلى العداوة المبدئية وإرادة القتال:

ولكن ما هو البعد العملي الذي ترتب على دخول العلمانية السياسية ممثلة في القومية العربية أو الوطنية الإقليمية حلبة الصراع في فلسطين بديلاً عن الإسلام؟

طرأ بانتقال قضية فلسطين إلى الريادة العلمانية: إزالة الحاجز العقدي المتمثل في الولاء والبراء، ذلك الحاجز الذي كان قائماً بين المسلمين والصهاينة عندما كان الإسلام هو موجه المشاعر، وعليه: لم يصبح اليهود الصهاينة أعداء من منطلق عقدي ديني، ولم يصبحوا مغتصبين لبقعة تمثل جزءاً مهماً ومميزاً في البناء المعنوي للمسلمين، بل أصبحوا خصوماً (أو أعداءً) مغتصبين مثلهم مثل أي دولة إقليمية ـ حتى ولو إسلامية أو عربية ـ يمكن أن يكونوا اليوم معهم في حالة عداء (على المرعى والماء) كما يمكن أن تزول غداً هذه العداوة.

وهذا البعد المستجد يتضح جليّاً في تلون العلمانيين وتبدل مواقفهم وسقوط ثوابتهم، بل لقد صرح بعضهم بسقوط هذه العداوة بلا مواربة، فلقد صرح أحد القادة العرب المشاركين في القضية بسقوط هذا الحاجز أثناء محادثات بينه وبين اليهود في شهر 1/1949م استهلها قائلاً: «يقال إننا أعداء، يشهد الله أننا لسنا أعداء ! »(2).

وكلما ازدادت العلمانية بعداً عن الإسلام وتطرفت ـ مشرقة أو مغربة ـ كلما ازدادت فرصة تفاهمها والتقائها وتعايشها مع (إسرائيل) المجتمع والدولة؛ فلقد كانت تركيا (الأتاتوركية) وإيران (الشاهانية) أكبر مثال على ذلك، فهما أول دولتين في العالم الإسلامي تعترفان بدولة (إسرائيل)، كان ذلك في 17/3/1950م، ومعلوم مدى التطرف العلماني (ذي التوجه الغربي الليبرالي) الذي كانت تعيشه هاتان الدولتان، وغير خافٍ تعاون شاه إيران السابق مع (إسرائيل) ومدها بالبترول أثناء حرب 1973م، وغير خافٍ أيضاً التعاون المستمر حتى الآن عسكرياً واقتصادياًّ وسياسياًّ بين تركيا وإسرائيل.

وعلى جانب آخر: وقفت قوى العلمانية المرتبطة بشرق أوروبا (أيام الشيوعية والاشتراكية) موقفاً مخزياً من قضية فلسطين في وقت مبكر، «فقد انتقدوا (التدخل) العربي في حرب عام 1948م، وطالبوا بسحب الجيوش العربية (الغازية)، واعتبروا الحرب مؤامرة استعمارية رجعية تهدف إلى منع قيام دولة يهودية، وطالبوا بإتاحة الفرصة للشعب اليهودي ليقيم دولته القومية في فلسطين، ولم يقتصروا على هذا، بل سيروا التظاهرات في العواصم العربية مطالبين بإقامة دولة يهودية!»(1).

وبواكير دعاوي الصلح مع الدولة الصهيونية ظهرت ـ وما زالت ـ على أيدي (الرفاق) الشيوعيين واليساريين الذين تجمعهم مع (رفاقهم) الشيوعيين اليهود وحدة الفكر والانتساب إلى الأممية الشيوعية «حيث بدأ مسلسل مساعي الحوار (العربي ـ الإسرائيلي) منذ عام 1965م حينما وجه المحامي المصري اليساري يوسف حلمي بالاشتراك مع الزعيم الشيوعي اليهودي المصري هنــري كـــوريال رسالتين لكـل مــن جمال عبد الناصر وبن جوريون يدعونهما فيهما باسم (الحركة الديمقراطية) و (حركة السلام المصرية) لعقد مؤتمر للسلام بمشاركة الدول العربية و (إسرائيل) ودول عدم الانحياز والدول الكبرى، ولكن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م أجهض تلك المحاولة...

وبعد عدوان 1967م التقى النقيب السابق بالجيش المصري (أحمد حمروش) رفيق كوريال في الحزب الشيوعي المصري وعضو (الحركة الديمقراطية) و (حركة الضباط الأحرار) مع كوريال وأريك رولو في باريس، حيث رتبوا اللقاء بين جمال عبد الناصر وناحوم جولدمان رئيس (المؤتمر اليهودي العالمي)(2)، وقد أجهضت المحاولة بوفاة عبد الناصر عام 1970م»(3).

ولا يستغرب أي عارف بحقيقة الشيوعية هذه المواقف من معتنقيها؛ فالأممية الشيوعية تتناقض مع غيرها من الأمميات ـ وعلى رأسها الأممية الإسلامية ـ، بينما تتساوى عندها القوميات المختلفة ـ عربية، أو يهودية (الصهيونية) ـ، ويمكن أن تتعايش معها بحظوظ مختلفة بحسب اقتراب هذه القوميات من مبادئها وتحقيقها لمصالحها، كما أن الشيوعيين العرب يعدون إخوانهم الشيوعيين اليهود في (إسرائيل) (رفاقهم) في الشيوعية.

ولم يقف التلاقي والتعايش مع الصهاينة عند حد اليساريين العرب، بل تعداه أيضاً إلى اليساريين الفلسطينيين أنفسهم، فنايف حواتمة أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يطالب ـ في حديث صحفي ـ بتأسيس برنامج جديد لتصحيح الحالة الفلسطينية «باستراتيجية نضالية (!) بكل ما هو ممكن، واستراتيجية تفاوضية في إطار قرارات الشرعية الدولية»(4)، وهي القرارات التي سنعرض لها لاحقاً إن شاء الله تعالى، وهذا الموقف نفسه تقريباً هو موقف جورج حبش والجبهة الشعبية.

وغير خاف مدى ضلوع اليساريين والشيوعيين السابقين في جهود التطبيع والدعوة إلى التعايش مع الدولة الصهيونية، ومن ذلك: إعلان تحالف كوبنهاجن عام 1997م وتأسيس (جمعية القاهرة للسلام) في العام الذي يليه، بدعم أوروبي وأمريكي.

وهذه الجهود والمساعي إلى التعايش والسلام من قبل هؤلاء تجاه الدولة الصهيونية نراها منطقية في ضوء ما ذكرناه سابقاً عن منطلق العلمانيين وتوجهاتهم؛ فبعد سقوط العداء المبدئي بين العلمانيين والكيان الصهيوني نتيجة تنحية الإسلام عن ساحة الصراع: افتقد العلمانيون إرادة المواجهة والقتال تبعاً لذلك، وتوجهوا إلى شرعيتهم الدولية يسألونها (حقوقهم المشروعة) ويرضون بالفتات الذي يلقى إليهم في ظل الاستعداد للتعايش مع كيان لا يرونـه مناقضــاً لهـــم ـ حتى ولو اختلفوا معه، أو رأوه ظالماً وغاشماً ـ.

وافتقدت الأنظمة العلمانية إرادة القتال حتى في أوج مدها الثوري المزعوم، فـ «... منذ أن جاؤوا وهم يعدون العدة لحرب فلسطين! ويعلنون أنهم سيختارون مكان وزمان المعركة، ولن يسمحوا لإسرائيل بأن تجرهم إلى معركة لا يحددون هم مكانها وزمانها وسلاحها.. وكل الأمم التي فنيت، بل كل الكائنات التي اندثرت، كانت تحلم بمعركة تدور وفقاً لشروطها، تحدد هي مكانها وزمانها وأسلحتها، وراعها وهي تباد تحت ضربات خصمها أنه لم يلتزم بأمانيِّها وضربها قبل أن تنتهي من تحديد الزمان واختيار المكان وإتمام شحذ السلاح! وأنه نجح دائماً في جرها إلى المعركة الخاسرة.

إن إرادة القتال هي التي يجب أن تتوفر أولاً، ويأتي بعد ذلك تخير أفضل الظروف للقتال..».

«وفي كل مرة كان انفعالهم [بعد ضربات إسرائيل] ينعكس في شكل دهشة ومرارة العاتبين.. وليس أدق في الدلالة عن حالتهم هذه من التعبير المفضل عندهم وهو (العدوان الغادر)!..

ونقبوا في جميع القواميس، إن وجدتم أحداً قبلهم وصف ضربات عدوه المصيري بأنها (غدر) !.. الغدر يأتي من الأصدقاء، أو ممن لا نحمل لهم أية نوايا عدوانية، ولا نتوقع منهم عدواناً..»(1).

وليس أدل على عدم إرادتهم القتال من عدم استعدادهم الجدي له على مدى أكثر من تسعين عاماً، { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } [التوبة: 46].

ثالثاً: هدر الطاقات والحيلولة دون مواجهة العدو:

1 - وفي المقابل: وقف كثير من النخب السياسية العلمانية حائلاً دون منازلة القوى الشعبية مع الصهاينة ـ عسكرياً وسلمياً ـ، بل إن هذه النخب اصطدمت دوماً بالحركة الإسلامية ـ التي كانت رأس الحربة في هذه المنازلة ـ بدل التعاون المفترض معها، وما ذلك إلا لأنها وجدت في هذه الحركة خطراً عليها، فناصبتها العداء؛ لتضع العلمانية بذلك نفسها في خندق واحد مع الصهيونية في مواجهة التيار المعبر عن رسالة هذه الأمة وأصالتها.

وهكذا بات الإسلام الحقيقي (الذي يسمونه أصولياً) عدواً مشتركاً للعلمانية والصهيونية، فأصبح تحالفهما للقضاء على هذا الخطر الذي يهدد بقاءهما هدفاً مشتركاً تلتقي عليه جهودهما، ومن ثم: كانت النظم العلمانية حاجزاً تلقائياً بين المقاومة الإسلامية (العسكرية والسلمية) والعدو الصهيوني، بل أصبح ضرب الحركات الإسلامية وتصفيتها مؤشراً على مكاسب صهيونية قادمة مرتبطة بتنازلات أو إخفاقات علمانية تستلزم (تأمين الجبهة الداخلية) بإخلائها من المعارضين النشطين المتوقعين لهذه المكاسب وتلك التنازلات، أي: إخلائها من الحركات الإسلامية ورموزها الفعالة، بل أصبح الضغط ـ أو تخفيفه ـ على هذه الحركات (ورقة) تفاوضية ابتزازية تلوح بها هذه النظم العلمانية في وجه الغرب أو في المفاوضات مع الدولة الصهيونية كلما أحست بالإفلاس السياسي.

ومسيرة الأحداث تؤكد ذلك التعاون بين العلمانية والصهيونية، أو على الأقل: تؤكد أن العلمانية كانت حاجزاً تلقائياً بين المقاومة الإسلامية والعدو:

- فأولى التحركات العسكرية الشعبية الواسعة، وهي ثورة 1936م (1935م ـ 1939م) والتي استمرت توابعها بعد ذلك، كان يحمل لواءها مجاهدون من جمعية الشبان المسلمين، وكان يقودها الشيخ عز الدين القسام، ثم نشط بعد ذلك جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني، وتمكن المتطوعون في هذه الثورة المسلحة من تحقيق انتصارات متلاحقة خلال عامي 1938و 1939م، ولكن بجانب تحرك القوى البريطانية والعصابات الصهيونية كان خذلان الأنظمة العربية العلمانية لهذه الانتفاضة، فشحُّوا بالدعم المادي لقادة الثورة وهم في أمس الحاجة إليه ليستمروا في جهادهم، بل سارعت هذه الأنظمةـ بإيعاز من بريطانيا ـ إلى احتواء هذه الظاهرة تحت شعار الوساطة وحقن الدماء» معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل»، ولا شك أن هذه الثورة كانت خروجاً عن حسابات وسياسات الاستعمار والأنظمة العربية العلمانية «خصوصاً أن الثورة أبرزت قيادات ثورية لا تعرف المهادنة أو أنصاف الحلول !»(2).

- وقبل حرب 1948م وأثناءها تحرك الإخوان المسلمون على الصعيدين الشعبي والعسكري، فاستطاعوا تحريك الرأي العام المصري تجاه القضية الفلسطينية من الزاوية الإسلامية، وقد برز دور الإخوان المسلمون أثناء ثورة فلسطين الكبرى عام 1936م، عندما سارعوا إلى تنظيم المظاهرات، وألفوا اللجان لتلقي التبرعات وإرسالها إلى اللجنة العربية العليا، وقاموا بإرسال برقيات احتجاج إلى المندوب السامي بفلسطين ووزارة الخارجية البريطانية وعصبة الأمم، وأخرج الإخوان في مصر أكثر من نصف مليون متظاهر إلى شوارع القاهرة في اليوم الثاني لصدور قرار تقسيم فلسطين في 29/11/1947م، وأعلنوا رفضهم للقرار، مؤكدين عروبة فلسطين وإسلاميتها، مما مثل التجسيد المادي لحضور القضية الفلسطينية في الشارع المصري.

وقد سطر متطوعو الإخوان في حرب 1948م ملاحم تغنى بها الفلسطينيون وأكسبت الجماعة الاحترام والتأييد، خصوصاً في ظل الموقف الداعم لقرار التقسيم من قبل الحزب الشيوعي الفلسطيني! النقيض الأيديولوجي لجماعة الإخوان المسلمين ومنافسهم الشعبي آنذاك، وفي ظل الضعف والعجز العربي الرسمي.(1) .

فماذا كان الموقف العلماني الرسمي إزاء ذلك؟:

عرقلت الحكومة برئاسة النقراشي باشا جهاد الإخوان المسلمون بطرق عديدة ؛ لأن «الحكومة تنظر بعين الريبة إلى حركات الإخوان وتخشى أن يؤلفوا جيشاً في فلسطين يكون بعد ذلك خطراً كبيراً على سلامة الدولة»(2)، وفي الوقت الذي كانت المعارك مستعرة بين هؤلاء المتطوعين وعصابات الصهيونية نصبت الحكــومة ما عــرف باســم (قضايا الإرهــاب) و (قضايا الأوكار)، وتم حل الإخوان المسلمين رسمياً، وسيق زعماؤهم إلى المنافي والمعتقلات، واغتيل مؤسسها ومرشدها العام الشيخ حسن البنا، في وقت كان يعد العدة فيه لإعلان الجهاد العام والتعبئة الشعبية لتكوين قوات كبيرة يدخل بها فلسطين، وهكذا تم منع الإخوان من مواصلة جهادهم ضد اليهود(3).

ولا يخفى الرابط بين هذه الإجراءات ودور هذه الحركة في قضية فلسطين: ففي إشارة ذات مغزى يعلق محررا مذكرات ديفيد بن جوريون على ما ذكره في يوم 6/12/1948م بأن حكومة النقراشي راغبة في الخروج من الحرب، ولكن النقراشي باشا يخشى (الوضع الداخلي) إذا بدأ محادثات سلام !.. يعلقا بقولهما: «ازداد غليان (الإخوان المسلمين) في مصر، وفي كانون الأول / ديسمبر فرض حظر على التنظيم واعتقل قادته (في حين كان أعضاؤه يقاتلون في أرض ـ إسرائيل)»(4).

- والآن من المعروف أنه بعد انتكاس حركات تحرير فلسطين (الفندقية) لم يبق في ساحة الصراع الحقيقي والعملي مع العدو الصهيوني سوى الحركات الإسلامية، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتان، وهذا يعرفه الجميع.

هذا في الوقت الذي تحولت فيه منظمات التحرير الفندقية إلى (جنين) نظام علماني يرتبط صراحة مع دولة العدو ومع أمريكا بتعهدات واتفاقات سياسية وأمنية واستخباراتية للتعاون في مواجهة (الإرهاب) الذي هو حركات مقاومة العدو الصهيوني، ووفقاً لهذه التعهدات والاتفاقيات تقوم أجهزة الأمن (الفلسطينية) بحملات اعتقال ودهم لعناصر هذه الحركات، كما يتم تبادل المعلومات مع أجهزة الأمن (الإسرائيلية) حول هذه الحركات، ويتم تأميم مساجدها ومؤسساتها وطرق اتصالها بالجماهير، بل يتبجح مسؤولو السلطة بهذا التعاون، باعتباره وفاءً بالتزامات لاتفاقيات دولية !، وهكذا كان «التعاون اللصيق بين أجهزة الاستخبارات والأمن في إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، والأردن، ووكالة الاستخبارات الأمريكية، هو الذي أجهض جزءاً كبيراً من عمل حماس العسكري، وكذلك الجهاد الإسلامي ؛ فقواعد المعلومات الأمنية بين هذه الأطراف أصبحت مشتركة (!) وواحدة، ولم يعد أحدها يبخل على الآخر بما لديه، وتبادل المعلومات والمراقبة اللصيقة يتمان بتنسيق وتناغم»(5).

- ولم يقتصر الأمر على جهود النظم العلمانية لمحاصرة المقاومة العسكرية للعدو الصهيوني والوقوف حائلاً دونها، بل تعدتها إلى العمل على محاصرة المقاومة الشعبية غير العسكرية وإجهاضها، ففور اندلاع انتفاضة الأقصى الأخيرة تسارعت جهود النظم العلمانية لعقد المؤتمرات باشتراك إسرائيل وأمريكا من أجل احتواء (العنف) وإيقافه والعودة إلى مسار المفاوضات، وتعالت صيحات بعض المثقفين والسياسيين العلمانيين (الحكماء) من فوق مقاعدهم الوثيرة بأن تحرير فلسطين لن يتم بإلقاء الحجارة ونزف الدم الفلسطيني.

وعندما تعاطفت جماهير العالم الإسلامي مع إخوانهم في فلسطين خرج من يلقي عليهم المواعظ السياسية التي تدعوهم إلى الواقعية الحكيمة؛ لأن مظاهر هذا التعاطف لا تفيد شيئاً في تحرير فلسطين، بل إن الدعوات إلى مقاطعة البضائع والشركات الأمريكية والإسرائيلية التي نشطت مؤخراً ولقيت تجاوباً شعبياً واسعاً.. لم تسلم من انتقادات حكومات ورموز علمانية، فتعالت مرة أخرى صيحات الحكماء العلمانيين بعدم جدوى هذه المقاطعة وعدم القدرة عليها، ولا شك أن هذه المواقف متوقعه ممن ربطوا بلادهم سياسياً واقتصادياً بالغرب، بحيث أصبح قطع حبل العلاقات بالغرب قطعاً لشريان حياتهم هم.

رابعاً: التمزق والتشرذم في مواجهة عدو متكتل:

لم يقتصر التأثير السياسي للعلمانية في قضية فلسطين على إخراج الإسلام من دائرة الصراع وما تبع ذلك من افتقار إلى البعد الرسالي في الصراع، وإلغاء العداوة (من أجل المبدأ)، والافتقار إلى إرادة القتال، وهدر الطاقات الإسلامية والشعبية في هذا الصراع.. ولكن هذا التأثير حقق أيضاً هدفاً آخر من المخطط الصهيوني، وهو تفتيت التكتل الإسلامي، وإدخال الأمة في دائرة تمزقات متشعبة، وإدخال الأفراد في متاهة اغتراب قيمي عندما ضاعت بوصلة هويته على يد العلمانية.

فاختلاف مذاهب العلمانية وتطبيقاتها، وتباين كل قطر في توجهاته ومصالحه (التي لم تعد موحدة).. مزق جهود هذه الأقطار في مجالات عديدة فكرية وجغرافية وسياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، فبين الليبرالية ودرجاتها، والاشتراكية ونظرياتها، والقومية وتطبيقاتها، وبين الارتباط بالغرب أو بالشرق أو محاولة التوسط والتوفيق بينهما ضاعت جهود الأمة، أو تحولت إلى تصريحات جوفاء ومشاهد مسرحية دعائية يقوم بها الزعماء العلمانيون؛ لإلهاء الشعوب وحفظ ماء الوجه أمامها.

فالعلمانية عندما اعتمدت القومية العربية إطاراً للصراع تكون قضية فلسطين قد خسرت تلقائياً إمكانات وجهود الأقطار الإسلامية غير العربية من المشاركة في هذا الصراع، وليس أدل على ذلك من اعتراف إيران وتركيا مبكراً ـ كما ذكرنا سابقاً ـ بالدولة الصهيونية ومد يد التعاون معها.

زد على ذلك: أن العلمانية لم تكتف بتحييد الشعوب الإسلامية غير العربية في الصراع، بل عملت أيضاً على تحييد الشعوب العربية نفسها، عندما كرست التوجه القائل بأن قضية فلسطين قضية فلسطينية تخص شعب فلسطين وحده، ولا يبقى للشعوب العربية الأخرى إلا أن (تتعاطف) مع هذا الشعب في محنته ومأساته.

وقد كان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وانحرافها العلماني إحدى الخطوات في (فلسطنة) الصراع، وجدير بالذكر في هذا المجال (التمزق والفلسطنة) أن (زعيم القومية العربية) جمال عبد الناصر، وقبيل بدء مغامراته الاستنزافية والتمزيقية في اليمن، كان قد أعلن في فبراير عام 1958م قيام دولة وحدة عربية بين مصر وسورية، فـ «استبشر بها الفلسطينيون خيراً، وبنوا الآمال الكبار عليها متوقعين من دولة الوحدة اتخاذ خطوات إيجابية لعودة الفلسطينيين إلى بلادهم وتحرير أرضهم المحتلة، إلا أن خيبة أملهم كانت كبيرة عندما رفض عبد الناصر طلباً تقدم به الحاج أمين الحسيني ـ رئيس اللجنة العربية العليا ـ بقبول فلسطين في الاتحاد السوري ـ المصري. ويبدو أن عبد الناصر كان متخوفاً من أن يؤدي قبوله بهذه الوحدة إلى تحمله مسؤولية تحرير فلسطين وممارسة الضغوط عليه لإعطاء المسألة الفلسطينية دوراً أكبر، بينما لم يكن عبد الناصر يعطي الأولوية للقضية الفلسطينية. ويقول باتريك سل: إن دولة الوحدة لم يكن القضاء على إسرائيل هدفاً من أهدافها»(1).

وذلك يؤكد أن القومية العربية العلمانية في ممارستها العملية كانت أداة لتمزيق القوى المواجهة للعدو الصهيوني، ولم تكن أداة للتوحد العربي كما يزعمون أو يُنَظِّرون.

وإذا أخذنا لدراسة هذا الأثر العلماني مجالاً يتأثر بغيره من المجالات ويؤثر في غيره أيضاً، وهو المجال العسكري، نموذجاً لهذا التمزق، نجد أن من أهم أسباب الهزيمة في فلسطين ـ باعتراف جميع الأطراف ـ هو ذلك التمزق الذي اعتراه.

فإضافة إلى أخطاء النظم العلمانية العسكرية الأخرى، كالتهوين من قوة العدو والاستخفاف بها، والأسلحة الفاسدة، وضعف التدريب والتسليح، والافتقار إلى التخطيط الجيد... كان لتشرذم القوات العربية تحت قيادات مختلفة متخالفة أثر كبير في الهزيمة العسكرية، ففي حرب 1948م يعرض ديفيد بن جوريون وجهة نظره في أسباب هزيمة العرب التي ساهمت في انتصار اليهود عسكرياً عليهم بأنها:

«1- خطتهم الاستراتيجية كانت سيئة، ولا سيما خطة المصريين.

2- لم تكن لديهم قيادة موحدة [أثر العامل السياسي].

3 - تسليحهم لم يكن كافياً ـ لم يكن هناك قوة جوية، ومصر كانت ضعيفة في البحر.

4- الطاقة البشرية المجندة لم تكن كافية أيضاً. استطعنا تعبئة قوة أكبر من قوتهم .

5 - معنوياتهم منخفضة [لافتقاد الهدف وضياع الهوية والتخبط العسكري].

6 - قدرة تعلم منخفضة.

7 - لم تكن عندهم صناعة عسكرية [أثر العامل الاقتصادي والعلمي](1).

وهذا ما يقر به علمانيو العرب أنفسهم، ولكن بالطبع بعد انتهاء المعارك.

بل وصل هذا التشرذم والتمزق إلى حد بعيد قد لا يتصوره أي (متعاطف) مع القضية الفلسطينية: فيذكر بن جوريون في يومية 16/1/1949م أن موشيه دايان عاد بعد حديث مع أحد القادة العرب ليخبره أن «العجوز يشكو من الإنجليز الذين هو عبدهم (!)، يطلب عدم ترك المصريين، لا سمح الله !، في غزة، من المفضل أن نسلمها إلى الشيطان، أن نأخذها نحن، شرط ألا يأخذها المصريون (!)»(2)، أما النظرة الاستراتيجية عند هذا (العجوز) فيوضحها هو نفسه لليهود قائلاً: «إذا غادرت الدول العربية البلد فإننا سنقيم معاً»، وفي صراحة لا لبس فيها يوضح أنه «لا يريد محادثات مشتركة مع الدول العربية، وهذه عليها المغادرة»، بل إنه لا يعترف بحق أي دولة في أن تكون موجودة في البلد [فلسطين] باستثناء اثنتين: إسرائيل ودولته»(3).

ولا شك أن هذا التمزق والتشرذم العسكري والسياسي كان عاملاً مهماً في الهزيمة العسكرية وما صاحبها ولحقها من تراجع سياسي، تمثل في اكتساب الصهاينة أرضاً جديدة وقبول العرب الهدنة التي مكنت العدو من إعادة تنظيم صفوفه وتعويض وتجديد تسليحه، والتفرغ لبناء دولته في ظل اعتراف عربي ضمني بحدودها، بينما تحطمت القوة العربية وتدنت الروح المعنوية في صفوف جنودها، أما عرب فلسطين: فكان لهم الشتات!.

كان هذا أيام النكبة العلمانية، ولا يختلف الأمر كثيراً في نكستهم الثورية التقدمية الوحدوية... سنة 1967م:

فقد وقعت هذه النكسة (هكذا يطلق إعلامهم على هذه الهزيمة وكأنهم كانوا منتصرين قبلها) وقعت بعد استنزاف طويل وصراع بين عدة أطراف عربية، ورطها فيها زعيم القومية العربية آنذاك جمال عبد الناصر، كان منها: حرب اليمن والوحدة الفاشلة بين مصر وسورية.

ويؤكد مراسل حربي لجريدة الأوبزرفر على حقيقة تسبب التفرق والتشرذم في هذه الهزيمة، فيقول: «إن الإسرائيليين اعتمدوا في ذلك على أن القوات العربية ليست تحت قيادة موحدة، وإن الأحداث أكدت صحة هذا الاعتقاد».

وقال: «... وعلى الجبهة الشمالية سورية، تحققت نبوءة المخططين الإسرائيليين، وكانت عمليات القوات السورية محدودة جداً، فلم يقم السوريون بأية عمليات جدية لمساعدة المصريين في الخروج من المأزق الذي وقعوا فيه، وانحصرت مساعيهم في هجومات محلية على مستعمرتي حدود إسرائيليتين»(4).

وتعجب بعد ذلك لجريدة (الثورة) تخرج بعد اكتمال الهزيمة لتلقننا درساً وحدوياً قائلة «... كان يمكن أن تكون نتائج المعركة أعظم بكثير لو توافر تنسيق أوسع للاستراتيجية العربية ورافق ذلك توزيع أدق للقوات»(5).

ولا شك أن العلمانية بتمزيقها للأمة وإدخالها في صراعات تستهلك قدراتها وتلهي شعوبها قد أسدت إلى الدولة الصهيونية خدمة كبرى وحققت لها هدفاً بعيداً، «وأي شيء هو أسعد لإسرائيل من أن تلقى دولاً مفككة، ممزقة، هزيلة، يمعن بعضه في تحطيم وتجريح البعض الآخر، ويضمر له من العداوة والضراوة والكره عشرة أمثال ما يضمر لإسرائيل؟ !»(1).

وقد كان هذا الهدف لدولة العدو يخطط له من قديم بأسلوب ثانٍ تحقق في الواقع أيضاً، هو: إقامة دويلات طائفية حول الدولة الصهيونية، ولا يمنع إذا استدعى الأمر محاولة تقسيم بعض الدول الكبرى على هذا الأساس(2) ؛ لتكوّن هذه الدويلات حزاماً أمنياً يمثل خط دفاع متقدم عن اليهود، وهو أحد عناصر ما يعرف بتأمين المجال الحيوي(3)، وهنا يبرز المثال الواضح لذلك التخطيط، وهو دويلة الرائد سعد حداد التي انفصل بها في جنوب لبنان عام 1979م، ثم غزو لبنان الكامل ومحاولة فرض اتفاقية (سلام) مع قادة القوات اللبنانية الكتائبية المارون عام 1982م.

ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن هذا المخطط مخطط قديم، دأب قادة العدو على تحين الفرصة المناسبة لتنفيذه، فيذكر بن جوريون في يومياته (19- 20/12/1948م) اقتراحات بعض القادة بهذا الخصوص في إحدى جلسات الحكومة، من ذلك اقتراح مردخاي بنطوف: «يجب تحطيم الحلقة الأضعف، كان هذا في لبنان الماضي، كان يمكن الذهاب إلى بيروت وتأليف حكومة مارونية (بقيادة المسيحيين الموارنة) وإبرام سلام معها»، و «يقترح جوش [بلمون ]، بموافقة يغئيل [يادين] جيشاً عربياً غير نظامي (غير إسلامي) كي يشكل حزاماً»(4).

وهي الفكرة التي نوقشت مرة أخرى سنة 1954م وقت أن كان موشي شاريت رئيساً للوزراء، وقد وافق شاريت على مبدئها وإن اختلف مع بن جوريون في ظروف وتوقيت تنفيذها، ويذكر شاريت أن الفكرة نفسها نوقشت أيضاً في 16/5/1955م أثناء اجتماع مشترك لكبار موظفي وزارتي الدفاع والخارجية، فبعد أن أثارها بن جوريون عبّر دايان فوراً عن مساندته بحماس: «حسب رأيه (دايان) الشيء الوحيد الضروري هو العثور على ضابط، ولو برتبة رائد (!) فقط، وعلينا إما أن نكسب قلبه أو نشتريه بالمال، ليوافق على إعلان نفسه مخلِّصاً للسكان الموارنة، وعندئذ يدخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان، ويحتل المنطقة الضرورية، ويخلق نظام حكم مسيحي يكون حليفاً لإسرائيل...

وافق رئيس الأركان أن نستأجر ضابطاً (لبنانياً) يوافق أن يقوم بدور دمية بحيث يتمكن الجيش الإسرائيلي من الظهور وكأنه يتجاوب مع طلب (لتحرير لبنان من المعارضين المسلمين)»(5)، وهو ما تم بالفعل بعد حوالي خمسة وعشرين عاماً.

ولسنا هنا في معرض مقارنة وضوح الهدف في ذهن قادة العدو، وتخطيطهم بعيد المدى لتحقيقه، وإصرارهم على التنفيذ، ونجاحهم فيه، مقابل ارتجالية القادة العلمانيين وإخفاقهم المستمر، ولكنا نشير إلى أنه كان من حجج دعاة القومية العربية العلمانية التي يروجونها دائماً: أن الالتفاف حول الإسلام كآصرة تجمُّع وولاء سيقصي تلقائياً العرب النصارى ويخسرهم ويفتح المجال لثغرات في جسد الأمة، بخلاف قوميتهم العربية العلمانية التي ستضم هؤلاء النصارى إلى النسيج السياسي العربي، وهذه الحجة رغم تهافتها، ورغم أن القومية العربية لم تحل نظرياً ولا عملياً مشكلة أخرى، هي وجود قوميات عرقية أخرى في الجسد العربي يمكن اللعب عليها كالأكراد والبربر والزنوج؛ رغم كل ذلك فقد سقطت هذه الحجة في أول اختبار عملي لها، ذلك إن التكتل النصراني اللبناني تحالف مع أعداء الأمة (العربية !) في أول فرصة أتيحت له، ومزق بطائفيته النسيج القومي العربي المزعوم.

وهكذا أصبحت القومية العربية العلمانية مجرد محطة في طريق تجزئة الأمة يتم تجاوزها بعد استنفاذ أغراضها واستثمارها من قبل العدو.

-------------------------------

(1) انظر: الأراضي المقدسة بين الماضي والحاضر والمستقبل (دراسة حديثية تحليلية)، لإبراهيم العلي، ص 31 ـ 63.

(1) انظر فيما يلي: السلطان عبد الحميد وفلسطين، لرفيق شاكر النتشة، ص 163 ـ 190، وصحوة الرجل المريض، للدكتور موفق بني المرجة، ص 213-227، 412، والعثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، للدكتور محمد سهيل طقوش، ص 482 ـ 494، وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، للدكتور عبد الوهاب المسيري، ج 7، ص90.

(2) السنجق: بمعنى لواء، أي: إقليم أو محافظة.

(1) رفيق شاكر النتشة، مصدر سابق، ص 128، 125، وصحوة الرجل المريض، ص 220.

(2) انظر: مجلة الدراسات الفلسطينية، مقال غازي فلاح (إسرائيل والأرض الفلسطينية)، ص67، وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج7، ص 64 ، 94، ج2، ص 110، والمدخل إلى القضية الفلسطينية، تحرير جواد الحمد، مقال (قيام دولة إسرائيل)، للدكتور نظام بركات، ص 202.

(3) البعد القومي للقضية الفلسطينية، د. إبراهيم ابراش، ص 23.

(4) انظر وجهات نظر مختلفة حول هذا الموضوع في: يقظة العرب، لجورج انطونيوس، ترجمة: د. ناصر الدين الأسد و د. إحسان عباس، ص 267-270، والبعد القومي للقضية الفلسطينية، د. إبراهيم ابراش، ص 30 ـ 32.

(1) للوقوف على هذه الملامح، انظر على سبيل المثال: يوميات الحرب، ديفيد بن جوريون، ص 702، 703، 747، 748.

(2) نقلاً عن: نقاط على حروف في الصراع العربي الصهيوني، د. إبراهيم يحيى الشهابي، ص 73.

(3) ديفيد بن جوريون، يوميات الحرب، تحرير: غيرشون ريفلين وإلحانان أورون، ترجمة: سمير جبور، ص 702.

(1) نقلاً عن: نقاط على الحروف في الصراع العربي الصهيوني، ص 68.

(2) ديفيد بن جوريون، يوميات الحرب، ص 720.

(1) د. إبراهيم ابراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، ص 114.

(2) يذكر أحمد حمروش نفسه أن هذه الاتصالات مع جولدمان كانت تتم بمعرفة جمال عبد الناصر (زعيم القومية العربية) !، انظر: جريدة الشرق الأوسط، ع / 8085، 16/1/2001.

(3) صحوة الرجل المريض، ص 221-224.

(4) جريدة الشرق الأوسط، ع/ 7879، 24/6/2000.

(1) محمد جلال كشك، النكسة والغزو الفكري، ص 203-204، 213.

(2) انظر: البعد القومي للقضية الفلسطينية، ص 68-69، ومقال شكري نصر الله (انتفاضة الأقصى الخامسة منذ إعلان بلفور...) جريدة الشرق الأوسط، ع / 8019، 11 / 11 / 2000.

(1) انظر: بين تحرير فلسطين والدولة الإسلامية، د. بسام العموش، بحث ضمن كتاب: المدخل إلى القضية الفلسطينية، ص 251 ـ 252، ومصر وفلسطين، د. عواطف عبد الرحمن، ص 137 ـ 139، 274 ـ 279.

(2) كامل الشريف، الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، ص 65 ـ 66.

(3) انظر: المصدر السابق، ص 213 ـ 219.

(4) يوميات الحرب، ص 652، والأقواس من وضع المحررين.

(5) خالد الحروب، مقال (خيارات حركة حماس في ظل التسوية المقبلة)، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع/ 42، ربيع / 2000، ص 34.

(1) البعد القومي للقضية الفلسطينية، ص 143، وانظر: بحث (بين تحرير فلسطين والوحدة العربية) للدكتور أحمد سعيد نوفل، ضمن كتاب (المدخل إلى القضية الفلسطينية)، ص 237-239.

(1) يوميات الحرب، ص 747.

(2) يوميات الحرب، ص 717، وانظر ص 721، وقارن ذلك بموقف السلطان عبد الحميد من مساومات اليهود على فلسطين.

(3) انظر: السابق، ص 720 ـ 721.

(4، 5) سقوط الجولان، لضابط استخبارات الجولان قبل الحرب خليل مصطفى، ص 161.

(1) سعد جمعة، المؤامرة ومعركة المصير، ص 102.

(2) ولك أن تنظر إلى ما يجري الآن في السودان والعراق، وإثارة مشكلة البربر في الجزائر،: كما أن مصر لم تسلم أيضاً من هذا التخطيط الصهيوني؛ إذ تكشف الوثائق عن مخطط بعيد المرامي يهدف إلى تقسيم مصر إلى أربع دويلات طائفية، انظر: فلسطين أرض الرسالات الإلهية، روجيه جارودي، ومقال (احتواء العقل المصري) للدكتور حامد ربيع، ضمن كتاب (الاستعمار والصهيونية وجمع المعلومات عن مصر)، إعداد: د. جمال عبد الهادي وعبد الراضي أمين، ص 22، والطريق إلى بيت المقدس، د. جمال عبد الهادي، جـ3، ص 164.

(3) انظر: نقاط على حروف في الصراع العربي الصهيوني، ص 68، 74 - 75، ومقدمة نذير عاروري لكتاب (إرهاب إسرائيل المقدس)، ص 18.

(4) يوميات الحرب، ص 668.

(5) إرهاب إسرائيل المقدس، تأليف: ليفيا روكاخ، ترجمة: مصطفى درويش، ص 67.

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

تابع: قضية فلسطين بين الإسلام والممارسة السياسية العلمانية

2/2

خالد محمد حامد

تحدث الكاتب في الحلقة الأولى من مقالته عن فلسطين بين العروبة والإسلام؛ فجعل من هذا العنوان نبأه الأول؛ إذ لم يكن لفلسطين مكانة مرموقة في حس العربي الجاهلي، ولكنها ظفرت بها بعد الإسلام، ثم توالت عناوين الأنباء فمرت بفلسطين قبل النفق العلماني، ثم كيف صارت في عهدة العلمانية، وانتقل بنا إلى آثار دخول فلسطين النفق العلماني، وما جر على الأمة من ويلات عدَّد منها نقاطاً أربعاً. ويمضي بنا الكاتب في رحلة مع بقية أنبائه. - ^ -

خامساً: ضياع الأرض والشعب:

مر بنا سابقاً التحول الذي تم لصالح اليهود في مجالي الأرض والمهاجرين بدخول فلسطين النفق العلماني؛ حيث لم تتعد نسبة اليهود إلى العرب في فلسطين سنة 1914م 9.7 % لا يحوزون أكثر من 1.5% من مساحة فلسطين، تقام عليها 47 مستوطنة، وبين سنة 1914م 1917م حاز اليهود 245.58 دونم أخرى (الدونم = 1000م2)، وفي سنة 1918م كان اليهود يحوزون نحو مليون و333 ألف دونم من مجموع 7 ملايين دونم زراعية، لترتفع نسبة ما يحوزونه إلى 2.8 % من مجموع أراضي فلسطين، ومنذ هذا الوقت إلى قبيل سنة 1948م (صدور قرار التقسيم ثم إقامة الدولة الصهيونية) أضاف اليهود إلى حيازتهم نحو أقل من 4% من مساحة فلسطين، ليصل مجموع الأراضي التي يحوزونها نحو مليون و807 ألف دونم، تمثل نسبة 6.6% من مساحة أراضي فلسطين، مقام عليها نحو 277 مستوطنة، ووصلت نسبة السكان اليهود في هذا الوقت إلى 35.1% من مجموع السكان.

ولم تكن هذه المساحة من الأراضي رغم تميزها نوعاً وموقعاً بهذه النسبة من السكان.. لم تكن كافية لإقامة الدولة الصهيونية، يعبر عن هذا حاييم وايزمان بقوله: "لا يمكن أن يكون في فلسطين وطن قومي بدون أرض... "(1)، وهذا يبين أهمية الاستيلاء على الأراضي لتحقيق المخطط الصهيوني.

وبعد صدور القرار رقم 181 الخاص بتقسيم فلسطين، والذي يعطي اليهود نحو 56% من أراضي فلسطين، لجأ اليهود إلى تنفيذ القرار بالقوة المسلحة، وعن طريق حروب عصابات قامت بأعمال عسكرية وإرهابية، صاحبتها حرب نفسية مدبرة، ساهمت فيها أجهزة دعائية متنوعة، أعلن اليهود دولتهم على نحو 77.5 % من مساحة فلسطين، متجاوزين ما خصصه لهم قرار (الشرعية الدولية!)، ونتج عن ذلك: تشريد أهالي نحو 530 مدينة وقرية وقبيلة فلسطينية.

والذي نود الإشارة إليه هنا: أن النظم العلمانية في معرض تنصلها من مسؤوليتها عن ضياع فلسطين، وسترها على عارها العسكري المتمثل في هزيمة جيش غير نظامي يبلغ تعداده (127) ألف جندي(1) لجيوش ست دول عربية يفوق تعدادها عدد اليهود أربعين ضعفاً، ومع ذلك لم تستطع هذه الدول حشد إلا أقل من (22) ألف جندي(2) غير مؤهلين تسليحياًّ ولا تدريبياً ولا معنوياًّ.. إزاء ذلك راحت النظم العلمانية تروِّج فرية مفادها أن سبب ضياع فلسطين هو بيع أهلها لها.

والحقيقة: أن الأراضي التي اشتراها اليهود كانت 261.400 دونم تمثل نسبة 9.7% من الأرضي التي استولوا عليها قبل الحرب، أي أقل من 1% من مجموع مساحة فلسطين، وقد اشترى اليهود معظم هذه الأراضي من عائلات كبرى يقيم معظمها في سورية ولبنان، ولم يبلغ ما اشتراه اليهود من فلاحي فلسطين سوى 64.201 دونم، أي: ما يعادل 0.25% من مساحة فلسطين(3).

فالعامل السياسي والعامل العسكري اللذان صادرتهما النظم العلمانية لحسابها باعتبارهما من خصائص الدولة التي أصبحت هذه النظم قيِّمة عليها كانا من أهم العوامل التي ساهمت في ضياع أرض فلسطين آنذاك، والتي مثلت نسبة 77.5% من مجموع مساحة فلسطين.

ثم جاءت هزيمة سنة 1967م وفيها ما فيها من مخاز وعلامات استفهام ليضيف اليهود إلى سيطرتهم بقية أراضي فلسطين، بالإضافة إلى مساحات متفاوتة من أراضي دول الجوار.

لم يقف السقوط العلماني عند هذا الحد، بل استمر بشكل أخطر عندما توشحت العلمانية برداء الواقعية الانهزامية، وفرضت على الأمة تسويات سياسية مع دولة العدو من خلال ما سمته بعملية السلام، فحولت باعترافها بشرعية دولة إسرائيل أرض فلسطين من كونها أرضاً محتلة أو حتى مفقودة إلى أرض متنازل عنها أو ضائعة إلى الأبد، وبعد أن تحول الصراع بهذا الاعتراف من صراع وجود إلى نزاع حدود، دخلت النظم العلمانية وهي الطرف الضعيف والمهزوم في مفاوضات مريبة حول فتات من (المرعى والماء).

وكما ضاعت الأرض ضاع الشعب، فبعد (النكبة) شرد أكثر من 940 ألف مواطن فلسطيني، فكانت بداية ما عرف بمشكلة اللاجئين، وعقب احتلال (إسرائيل) للضفة الغربية وقطاع غزة في حرب 1967م شرد نحو 200 ألف مواطن فلسطيني آخر من ديارهم، نصفهم من لاجئي 1948م، ثم تضخمت هذه المشكلة ليصل عدد اللاجئين الآن إلى 5.498.186 يمثلون 66.5 % من مجموع الشعب الفلسطيني.

ومثلما حاولت النظم العلمانية التنصل من مسؤولية ضياع الأرض حاولوا التنصل من مسؤولية تشريد الشعب ملمحين إلى هروب هذا الشعب وعدم ثباته، مثلما ألمحوا إلى تفريطه في أرضه، وأحياناً إلى خيانة قطاعات منه.

والحقيقة التي بينتها الملفات الإسرائيلية نفسها (د. سلمان أبو ستة 2001) أن هجرة أهالي 89% من القرى التي احتلها الصهاينة كانت بسبب عمل عسكري صهيوني، و10% بسبب الحرب النفسية (نظرية التخويف وإثارة الرعب)، و 1% فقط بسبب قرار أهالي القرى بتركها.

فكما كان عاملا الإخفاق السياسي والعسكري سبباً رئيساً في ضياع أرض فلسطين، كانا كذلك سبباً في ضياع أهلها.

والحقيقة أيضاً: أن النظم العلمانية ساهمت، بشكل أو بآخر، بقصد أو بغير قصد، في تنفيذ المخطط الصهيوني الاستيطاني في فلسطين من وجهة أخرى، فلم يكن الإخفاق العسكري والسياسي للنظم العلمانية وحده الذي ساعد المخطط الصهيوني على تحقيق مآربه، بل كانت هناك (أخطاء) أخرى ساهمت في تحقيق هذا المخطط، ومن ذلك:

مشاركة أجهزة الإعلام العربية وخاصة الإذاعات بغباء في حملة التخويف والترهيب التي قصد بها العدو تحطيم نفسية العرب في فلسطين وإشاعة الذعر في صفوفهم؛ لحملهم على الهروب خارج قراهم ومدنهم، وقد يكون إبراز أجهزة الإعلام لأنباء المجازر الصهيونية وتضخيمها وترويجها كان بقصد إظهار وحشية اليهود وخطرهم والتحذير منهم، ولكن المعالجة غير الحكيمة لهذه الأحداث صبت في النهاية لصالح اليهود على النحو الذي أسلفنا.

أما من جهة مخطط الاستيطان الصهيوني فمنذ أبي الصهيونية السياسية (هرتزل) ترسخت سياسة الاستيطان الصهيونية حسبما يقول في (يومياته) عام 1895م : "يتوجب علينا أن ننزع الملكية الخاصة لأراضي فلسطين من أيدي ملاكها، وينبغي أن يكون ذلك في لطف، وفي منتهى السرية والتكتم والحذر الشديد، وعلينا أن نقوم بتهجير السكان المعدمين (الفلسطينيين) عبر الحدود، بعد أن نسد أمامهم كل مجال للعمل في بلادنا (فلسطين)، بينما نحاول تأمين استخدامهم وتشغيلهم (!) في بلدان العبور"(1).

وكان هذا التوجه مضمون اقتراح أمريكي (لطيف) للرئيس روزفلت قبل إقامة دولة إسرائيل، وقضى بأن "على اليهود إذا رغبوا (!) في الحصول على أراضٍ أكثر في فلسطين أن يقوموا بالتفكير بشراء أراض زراعية خارج فلسطين (!)، وبتقديم المساعدة المادية للعرب للخروج من فلسطين إلى تلك المناطق"(2).

ثم جاء آباء الدولة الصهيونية ليزيدوا هذه السياسة رسوخاً وتعميقاً، فجاء في يوميات موشيه شاريت السياسية أنه "على الرغم من محاولات الصهيونيين الزعم أن فكرة الترانسفير، أي ترحيل الفلسطينيين من بلدهم أو من أجزاء منه لإخلاء مكان لليهود، وردت أساساً في تقرير لجنة بيل البريطانية لسنة 1937م، أي إنهم ليسوا أول من طرحها، ومن ثم فإنهم (براء) منها؛ فقد كانوا عملياً هم الذين أوحوا بها للَّجنة التي قبلتها بناءً على رغبتهم"(1).

وكانت هذه السياسة هاجساً لدى القادة الصهاينة، حتى إن حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية عرضها على السفير السوفييتي في لندن أثناء اجتماع مكتب لندن لمجلس إدارة الوكالة اليهودية في فلسطين يوم 30-1-1941م. يقول هذا السفير: "يطرح وايزمان بقلق السؤال التالي: ماذا يمكن أن يجلب انتصار بريطانيا {في الحرب العالمية الثانية} لليهود؟ إنه يطرح هذا السؤال ويستخلص الاستنتاجات التي لا تبعث على الاطمئنان؛ لأن (الخطة) الوحيدة التي يمكن أن يضعها وايزمان من أجل إنقاذ يهود وسط أوروبا (لا سيما يهود بولندا) تتلخص بما يلي: نقل مليون عربي يعيشون في فلسطين الآن إلى العراق، وتوطين 4 5 ملايين يهودي من بولندا والبلدان الأخرى في أراضيهم بعد إخلائها. لكن هيهات أن يوافق البريطانيون على ذلك، وإن وافقوا فماذا سيحدث بعد ذلك؟

وقد أعربت عن دهشتي بصدد كيف يعتزم وايزمان نقل 5 ملايين يهودي إلى الأراضي التي يقطن فيها مليون عربي؟

فضحك وايزمان وقال: لا تقلق بهذا الصدد، غالباً ما يوصف العربي بأنه (ابن الصحراء) فهو بكسله وبسذاجته يحول البستان المزدهر إلى صحراء مقفرة، فأعطني الأراضي التي يسكنها مليون عربي وسأوطن فيها خمسة أمثال هذا العدد من اليهود بأفضل حال"(2).

والجديد هنا هو بروز معالم (خطة) ومواطن بديلة "إن المسافات ستكون أقصر كثيراً بالنسبة لفلسطين؛ فمن الممكن إجلاء العرب إلى العراق أو شرق الأردن" كما جاء في محضر الاجتماع المشار إليه .

وهكذا قامت دولة (إسرائيل) على سياسة ملء (المجال الحيوي) باليهود بعد تفريغه من الفلسطينيين، وقد مر بنا حديث بن جوريون عن أمن (إسرائيل) الذي تعرض فيه للهجرة والاستيطان.

وكانت هذه السياسة دائماً أحد اهتمامات قادة العدو، ففي اجتماع للجنة شؤون العرب عقد أثناء الحرب الأولى في 18-8-1948م تم طرح هذه الموضوعات للمناقشة: "إعادة العرب أم لا؟ هناك حاجة إلى تجميع مادة تتعلق بوجود اللاجئين، وتسجيل ممتلكاتهم، من هم الذين قد يعودون؟ هل يجب إعادتهم إلى أماكنهم السابقة أم إلى أماكن أخرى؟ استجلاء إمكانات التوطين في دول عربية (!) أين؟ تعويضات للاجئين، المساعدة (!) في توطينهم في بلاد أخرى، هل يمكن استبدال عرب بيهود { بترانسفير (نقل) متبادل بين الدول}؟!"(3)، وفي هذا الاجتماع اقترح يوسف فايتس أنه "يجب إعداد خطة لتوطين العرب في البلاد المجاورة، يجب أن تعين منذ الآن هيئة تتولى معالجة استجلاء هذه المشكلة، ولا تكون الهيئة حكومية"، كما اقترح بيخور شطريت أنه "يجب التجرؤ على مبادلة يهود عرب (من دول عربية) بعرب (إسرائيليين)"(4).

وكان من (الأخطاء) الأخرى للأنظمة العلمانية أيضاً: مساهمة تلك الأنظمة المباشرة أو غير المباشرة في هذه الخطة الاستيطانية منذ وقت مبكر، فبخلاف ما ذكرناه عن موقف حكومة الاتحاد والترقي العلمانية في تركيا عقب خلع السلطان عبد الحميد ثم إلغاء الخلافة، جاء في اتفاقية فيصل- وايزمان المعقودة سنة 1919م ما يلي: "يجب أن تتخذ جميع الإجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مدى واسع، والحث عليها! وبأقصى ما يمكن من السرعة لاستقرار المهاجرين في الأرض عن طريق الإسكان الواسع والزراعة المكثفة.."(1).

ثم ساهمت هذه الأنظمة بعد ذلك، وأثناء مدها الثوري! في تهجير يهود يعيشون في كنفها إلى الكيان الصهيوني؛ فلقد كان كثير من اليهود الذين يعيشون في البلاد العربية لا يؤيدون الصهيونية ويفضلون الإقامة في مواطنهم التي نشؤوا فيها، فتضافرت جهود الصهيونية مع (أخطاء) النظم العلمانية لدفع هؤلاء اليهود المترددين إلى حسم خيارهم والهجرة خارج البلاد، إما إلى (إسرائيل) أو إلى البلاد الغربية خادمين لدولة اليهود أيضاً، هكذا يذكر رئيس الطائفة اليهودية في العراق، فيقول: "استمر اليهود العراقيون في أعمالهم حتى سنة 1948م حين أُعلنت دولة إسرائيل، وأخذت الحكومة بسياسة اضطهاد اليهود العراقيين المواطنين المخلصين، فقلصت تجارتهم، وطردت موظفيهم، وسجنت شبابهم، تمهيداً لإصدار قانون إسقاط الجنسية العراقية، فاضطر المواطنون اليهود سنة 1950م 1951م إلى ترك بلادهم والنزوح إلى إسرائيل، وشرد الآلاف منهم في مختلف أقطار المعمورة، واستطاع عدد قليل منهم البقاء في العراق أمثالنا، لكننا اضطررنا نحن أيضاً إلى الهجرة بعد نحو من ربع قرن، وفي العراق الآن نحو 40-45 يهودياً، جلهم من العجزة والعجائز"(2)، بالطبع لا حاجة لقوة (إسرائيل) بهم.

فعندما "شارفت الصهيونية على الفشل الأيديولوجي في أن تكون الحل النهائي، بل وتأسيس دولة فقيرة السكان تدخلت الفاشية العربية وأمدتها بما ينقصها"(3)، وقد "تم التنكيل باليهود أولاً تحت شعار (تأمين الجبهة الداخلية) وفي انتظار تحقيق حلم اليقظة المعنون (المعركة الفاصلة) مع إسرائيل. وتم ذلك عبر الكثير من السياسات، منها المعلن ومنها غير المعلن، ومن النوع الثاني: مداهمة زوار الفجر لمنازل العائلات اليهودية وتخييرهم بين الذهاب إلى السجن أو الذهاب إلى المطار أو الميناء، وبعد ذلك يتم نهب ممتلكاتهم. أما السياسات المعلنة: فيندرج تحتها الاعتقال التحفظي في أماكن لا إنسانية، ثم جاء دور قانون وزير الداخلية المصري رقم 183 لسنة 1964م، وطبقاً للمادة 7 فقرة ثامنة: تم وضع كل اليهود المصريين في القائمة السوداء، ونص القانون على أن اليهودي لا يستطيع أن يغادر البلاد إلا نهائياً (!)، وبعد التنازل عن الجنسية والإقامة، والحرمان من حق العمل في المؤسسات العامة، ومعاملة الزوجة أو الزوج غير اليهودي معاملة اليهودي.

وهكذا تم اقتطاع قطعة من الجسد المصري تحتوي على 85 ألف نسمة، وضع أكثر من نصفهم في فم الصهيونية من دون أن تبذل مجهوداً يذكر.

ومثل ذلك وأكثر اتبع مع يهود العراق: منذ أحداث الفرهود في أول وثاني أيام حزيران (يونيو) سنة 1941م خلال انقلاب رشيد علي الكيلاني، حيث قتل حوالي 300 يهودي على أيدي المعدان، ونهبت ممتلكات اليهود وأحرقت وبتواطؤ رسمي، ثم قانون إسقاط الجنسية في ظل حكومة توفيق السويدي الذي لم يهاجر بمقتضاه سوى ألف يهودي، فبدأت عمليات الترهيب على أيدي قوات الأمن العراقية وعملاء الموساد في وقت واحد، ثم سلسلة تفجيرات القنابل في أماكن تجمع اليهود، وحيث زال الفاصل ما بين أفعال الحكم العراقي وأفعال الموساد والمنظمات الصهيونية تحت قيادة الإسرائيلي من أصل عراقي موردخاي بن بورات، وتم تأسيس شركة طيران في جنوب إفريقيا لحمل اليهود إلى قبرص في البداية، وعندما كانت نسبة منهم تهرب إلى دول أخرى بدأت تلك الشركة التي هي في الأصل شركة (العال) تنزل رأساً من بغداد إلى مطار اللُّد.

ويحدد الكتاب السنوي لإسرائيل للعام 1952م عدد المهاجرين العراقيين بمليون و50 ألفاً و 96 مهاجراً من 1948م إلى 1952م، ونسبة 15 في المئة منهم من كردستان، ويلاحظ أن ذلك ليس العدد الكلي؛ فهناك من هاجر قبل وبعد ذلك" (1).

وبنظرة سريعة إلى تطور عدد السكان اليهود في العالم العربي على مدى أربعين عاماً (2) يتوضح جليّاً مدى (الجهود) التي بذلتها العلمانية في (صراعها) مع الصهيونية !:

أما في في تركيا حيث كان نفوذ اليهود قوياً، وبقاء بعضهم فيها أكثر خدمة للصهيونية فقد تطور عددهم على النحو التالي(1):

بل ساعدت أطراف عربية علمانية بلا حياء في عمليات تهجير يهود من بلاد غير عربية إلى (إسرائيل)، وعملية تهجير يهود الفلاشا المسماة ب (عملية موسى) ما زالت ماثلة في الذاكرة السياسية العلمانية لمن له ذاكرة! .

ولا تخجل بعض النظم العلمانية عندما تدعي بعد ذلك أنها اكتشفت فجأة! خطأها السابق، فتدعي أن لمواطنيها عرقاً ممتداً في دولة (إسرائيل)، هم اليهود العرب الذين هاجروا من بلادهم من قبل، فيستخدمونهم ذريعة للتطبيع مع دولة العدو، ويستخدمونهم جسراً معاكساً نحو بلاد المسلمين، يحاولون من خلاله فتح باب للصهيونية بدعوى أن هؤلاء اليهود هم من جذورنا وأبناء بلادنا!

والآن تطالب (إسرائيل) بتعويضات لهؤلاء اليهود؛ لأنهم هُجِّروا من مواطنهم، أي أنها تريد أن ندفع لها ثمن دعم النظم العلمانية لإقامة كيانها!

هكذا ضاع الشعب وضاعت الأرض على يد النظم والمنظمات العلمانية، أما مستقبل هذه الأرض وهذا الشعب وما يدور بصددهما الآن في ظل تلك النظم والمنظمات، فذلك حديث آخر.

النبأ الخامس: من افتقاد الهدف إلى افتقاد الانتماء:

كما أوضحنا سابقاً: فإن العلمانية لم تكن تملك رؤية (حضارية) مخالفة (أو مناقضة) للرؤية الغربية التي تساند الصهيونية، لذا: كانت إمكانية الالتقاء مع الخصم (الذي يسمونه عدواً) متحققة، وعندما حاولت النظم العلمانية استبعاد رسالة الإسلام عن الصراع مع العدو فإنها بذلك كانت تعمل على دفع الأمة إلى هاوية السقوط (الحضاري)؛ فإن "الأمم التي تتخلى عن رسالتها والتي تنبع من مقومات وجودها ويرشحها لها التاريخ: تسقط وتنتهي بالتحلل، وهذا ما تعيه جيداً الدول الكبرى في الوقت الراهن"(2)، ولأن العلمانية أضحت لا تقود الأمة برسالة خالدة وإن ادعت ذلك في شعاراتها فلم يبق أمام النظم العلمانية إلا إعلان سعيها لتحقيق أهداف جزئية محددة في صراعها مع الدولة الصهيونية. والآن لننظر نظرة مجملة إلى هذه الأهداف: كيف كانت؟ وكيف أصبحت؟:

وعندما أخفقت النظم العلمانية حتى في الحفاظ على (الماء والمرعى) تراجعت أهدافها المعلنة عقب كل هزيمة، حتى انجلى الهدف الحقيقي في النهاية، وهو: الحفاظ على بقاء النظام (العلماني) حتى وإن فنيت البلاد، ثم اختزل هذا الهدف بعد ذلك في الحفاظ على شخص (الزعيم الأوحد) و (القائد الملهم).

فكما زعم النظام الناصري عقب هزيمة 1967م أن إسرائيل لم تنتصر في الحرب؛ لأن النظام الحاكم في مصر لم يسقط.. ردد ذلك أيضاً النظام البعثي في سورية، فادعى هذا النظام أنه خرج من الحرب منتصراً، فأعلنت جريدة الثورة السورية الناطقة بلسان الحكومة البعثية يوم 13-6-1967م أن "... أهم نصر حصل عليه العرب في حربهم مع إسرائيل هو تلك الاندفاعية الثورية التي امتدت من المحيط إلى الخليج"(1)، ويدعي ذلك أيضاً مسؤولون رسميون، فيقول أحمد سويداني قائد الجيش السوري قبل الحرب وخلالها وبعدها: "إن المعركة لا تقاس نتائجها بعدد الكيلومترات التي خسرناها... بل بأهدافها وما استطاعت أن تحقق. فقد كان هدف إسرائيل، ليس احتلال بضعة كيلومترات من سورية، بل إسقاط الحكم التقدمي فيها، وهذا ما لم يتم لها، ولذا يجب أن نعتبر أنفسنا الرابحين في هذه المعركة !" (2).

ومن الرجل العسكري إلى الرجل السياسي؛ يقول إبراهيم ماخوس وزير خارجية سورية قبل الحرب وخلالها وبعدها: "ليس مهماً أن يحتل العدو دمشق، أو حتى حمص وحلب !.. فهذه جميعاً أراض يمكن تعويضها وأبنية يمكن إعادتها، أما إذا قضي على حزب البعث، فكيف يمكن تعويضه وهو أمل الأمة العربية؟".

"... لا تنسوا أن الهدف الأول من الهجوم الإسرائيلي، هو إسقاط الحكم التقدمي في سورية، وكل من يطالب بتبديل حزب البعث، عميل لإسرائيل... "(3).

فهكذا أصبح من السهولة بمكان التضحية بالبلاد وإفنائها من أجل الإبقاء على النظام، وهذا النظام ليس إلا شخصيات رجاله، هكذا يلقنون شعوبهم: فمساء يوم الهزيمة قال معلق راديو دمشق: "الحمد لله، لقد استطاعت قواتنا الباسلة حماية مكاسب الثورة أمام الزحف الإسرئيلي، الحمد لله الذي أفسد خطة العدو وقضى على أهدافه الجهنمية، إن إسرائيل لن تحقق نصراً يذكر طالما أن حكام دمشق بخير !!"(1)... وأبشر بطول سلامة يا مربع !!.

وفي هذا (الصراع) مع العدو ! ليس فقط يمكن التضحية بالأرض من أجل الإبقاء على النظام أو على رجالات النظام ، بل يمكن التضحية أيضاً بالشعب نفسه، فيذكر نصر الدين البحرة (وهو عضو سابق في مجلس الشعب السوري) أن أحد ضباط التعذيب أيام الوحدة (!) مع مصر قال له حرفياًّ: "كم عدد سكان سورية؟ أربعة ملايين؟ بالناقص مليون! يكفينا ثلاثة ملايين يؤمنون بالرئيس عبد الناصر"(2).

وهكذا كان من السهل جداً إلغاء الآخر (غير المنتمي إلى النظام) وتهميشه، بل وتخوينه والطعن فيه بشتى الطرق، على العكس من سلوك قادة العدو: "فعلى الرغم من العداوة المستعرة بين ليفي أشكول رئيس وزراء إسرائيل تلك الأيام ، وبين موشي دايان... فلقد كُلِّف هذا الأخير مهام وزارة الدفاع، وأعطي الصلاحيات الكاملة لقيادة الحرب ضد العرب، أي: وضع موشي دايان وقت الحاجة إليه في موضعه الذي منه يستطيع أن يقدم أفضل خدمة لدولته وشعبه.

أما الحزب.. فقد أبعد حتى أيام الحرب أهل الاختصاص والخبرة، وأصحاب المصلحة الحقيقية في الحفاظ على تراب البلاد وصون أمنها والفئة الأكثر استعداداً للبذل والفداء لحمايتها.. استبعدوا، وشردوا، ولوحقوا، وسجنوا، وحوكموا، وصدرت بحقهم أحكام شتى.. كل ذلك لصون أمن الحزب وسلامة الحكام، على حساب أمن البلاد وسلامة أرضها وأهلها"(3).

ويصبح من السهل أيضاً أن يشعر الفرد العادي بالهزيمة النفسية قبل العسكرية، الهزيمة التي تولدها التفرقة الطبقية، فتؤدي إلى الشعور بالدونية وعدم الانتماء، على العكس من مجتمع العدو! وليس أدل على ذلك مما تذكره يانيل ديان (ابنة موشي ديان) في كتابها (يوميات جندي)، حيث تقول: "الآن، وبعد ستة عشر عاماً من قيام الثورة {في مصر} ، وبعد أن تدرب الضباط في روسيا، وبعد قدوم الخبراء الروس إلى مصر، أين هي روح اشتراكيتهم ؟.. كان الضباط على درجة من النظافة والأناقة، بينما ملابسهم مصنوعة من نوع من أنواع الحرير، لقد أعطونا مناديل نظيفة عندما هممنا بتعصيب عيونهم (!) أما الجنود: فكانوا طوال الذقون وعلى درجة من القذارة، وكانت ملابسهم عبارة عن خرق ممزقة.

وكان جنودنا يعرفون أن الجنرال أريك {إريل} شارون وسائقه يورام يرتديان نفس بذلة الميدان (الباتل دريس)، ونفس الأحذية، إنهم يعرفون أيضاً أن قائد فرقة المشاة والمدفعجي يأكلان نفس الطعام في الميدان، وأن الجنود يخاطبون ضباطهم وينادونهم بأسمائهم الأولى.."(1).

وعندما يتحرك الانتماء ليتحول في النهاية إلى ولاء لنظام وليس لدين ولا حتى لوطن ثم لأشخاص وليس لمبادئ ولا أفكار يصبح استمراء النفاق السياسي هو قاعدة السلوك الشخصي لدى المواطن العادي، يحكي الطاهر إبراهيم أنه "عندما أذيعت البلاغات العسكرية صبيحة يوم الانقلاب {على الوحدة مع مصر } قامت مجموعة من المواطنين السوريين بمظاهرة في مدينة دمشق تأييداً للانفصال، وكانوا يحملون صور عبد الناصر وهي منكسة، ويهتفون بشعارات معادية لعبد الناصر، وعندما أذيع البلاغ رقم (9) معلناً انتهاء التمرد، قامت المجموعة نفسها من المتظاهرين برفع صور عبد الناصر التي كانت منكسة، ورددوا هتافات التأييد لدولة الوحدة!"(2).

وهكذا أدخلت العلمانية أيضاً المواطن الذي يُعِدُّونه لدخول معركة (التحرير) مع العدو الصهيوني.. أدخلته في دائرة من الاغتراب السياسي، فبات هذا المواطن يشعر أنه لاجئ في وطنه، لا يعيش لهدف سام، ولا يحس باهتمام أو مساواة، مهمش مهمل، ومع امتدادات التمزقات الداخلية والدخول في (سلام) مع عدوه، وضياع (الثوابت) التي كان يعيش للدفاع عنها.. افتقد (كيانه) وحار في انتمائه: أإلى دينه وأمته، أم إلى وطنه وعشيرته، أم إلى قادته وحكامه، فعاش في فصام قيمي ونفسي أدخلته فيه النظم العلمانية، فانكفأ على ذاته ومعيشته، غير مبالٍ بما يدور حوله، ودخل كهف العزلة والسلبية.

إن أكبر مثالب العلمانية لم تكن فقط تضييع البلاد، بل كانت أيضاً القضاء على (إنسانية) الإنسان الذي يقع تحت سيطرتها.

وفي معركة تحرير فلسطين: كيف ندخل المعركة بلا إنسان ؟ لا بد أولاً من تحرير هذا الإنسان..

\ جاءنا الآن ما يلي: حرصاً على أنوف مستمعينا الكرام نأسف للتوقف عن بث أنباء العلمانية السياسية.. أفٍ لهم ولعلمانيتهم!.

________________________________________

(1) الموسوعة الفلسطينية، المجلد الأول، ص 179، نقلاً عن: البعد الإسلامي في الحركة الوطنية الفلسطينية، ص 113.

(1) حسب الوثائق التي عثرت عليها الحكومة البريطانية عندما داهمت دار الوكالة الصهيونية في أواخر عهد الانتداب.

(2) حسب تقدير جلوب باشا لمجموع القوات العربية النظامية عند إعلان قرار التقسيم نهاية عهد الانتداب، انظر: بحث (بين فلسطين والدولة الإسلامية) للدكتور بسام العموش، ضمن كتاب (المدخل إلى القضية الفلسطينية)، ص 261.

(3) انظر: غازي فلاح، مصدر سابق، ص 66، إبراهيم فؤاد عباس، البعد الإسلامي في الحركة الوطنية الفلسطينية، ص 111 120، واصف عبوشي، فلسطين قبل الضياع، ص 134، د. هند أمين البديري، فلسطين وأكذوبة بيع الأراضي، جريدة الأهرام، ع -41437، 19-5-2000م.

(1) نقلاً عن: صحوة الرجل المريض، ص 218. (2) فلسطين قبل الضياع، ص 317.

(1) هامش ص 506 من إضافات المحررين على ( يوميات الحرب) لديفيد بن جوريون.

(2) العلاقات الروسية الإسرائيلية من واقع الوثائق التاريخية (1941م 1953م)، إعداد وتقديم سامي عمارة، جريدة الشرق الأوسط، ع-8118، 18-2-2001.

(3) يوميات الحرب، ص 503. (4) السابق، ص 505.

(1) يقظة العرب، لجورج أنطونيوس، ص 594. (2) جريد الشرق الأوسط، ع-8086، 17-1-2001.

(3) أمين المهدي، كيف ساعدت الفاشية العربية الصهيونية ؟، جريدة الحياة، ع- 13412، 17-11-1999م.

(1) السابق. (2) انظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج 4، ص 262 263.

(@) لم أقف تحديداً على مقصود المشرف على الموسوعة من الإحالة على (باتاي)، ولعله يقصد الكاتب رافائيل باتاي في كتابه: (إسرائيل بين الشرق والغرب).

(1) عزة جلال هاشم، مصدر سابق، ص192.

(2) د. حامد ربيع، تأملات في الصراع العربي الإسرائيلي، ص 106.

(1) سقوط الجولان، ص 162. (2) السابق، ص 190.

(3) نفسه، ولم يكن هناك ما يمنع إسرائيل عسكريّاً من إسقاط هذا النظام، ولكنها كانت في الحقيقة حريصة على دعمه، حتى إن مجلة ( تايم) الأمريكية قالت: "... أنقذ الهجوم الإسرائيلي على سورية خلال حرب حزيران - يونية، النظام البعثي المتطرف فيها.. " (عن سقوط الجولان، ص 265)، والحقيقة أن ( إسرائيل) انتصرت في الحرب عسكرياً وخسرتها سياسياً بالفعل، ليس لأنها لم تستطع إسقاط هذه الأنظمة العلمانية، بل لأنها لم تستطع تحقيق هدفها السياسي آنذاك، وهو فرض نفسها على شعوب المنطقة كياناً يمكن قبوله والتعايش = = معه، أي: تحقيق الأمن والسلام بما يعنيه من اعتراف بالشرعية، وهي الخسارة التي لم يكن للأنظمة العلمانية يد في إلحاقها بها، والصحيح: أن المنطقة لم تكن قد اكتمل تهيؤها لتحقيق ذلك الهدف، وهو ما تحقق بعد حرب 1973م واكتمل بعد حرب الخليج الثانية، وساهمت فيه تلك الأنظمة العلمانية ( انظر: تأملات في الصراع العربي الإسرائيلي، د. حامد ربيع، ص 57).

(1) المؤامرة ومعركة المصير، ص 110 111.

(2) قراءة في مذكرات عبد المحسن أبو النور، جريدة الحياة، ع-13712، 26-9-2000م.

(3) خليل مصطفى، مصدر سابق، ص 168.

(1) نقلاً عن: النكسة والغزو الفكري، محمد جلال كشك، ص 112.

(2) انفصال قبل 39 سنة.. وانقلابات وجرائم، جريدة الحياة، ع-13721، 5-10-2000.

تم تعديل بواسطة أسامة الكباريتي

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...