محمد عبده العباسي بتاريخ: 15 أبريل 2008 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 15 أبريل 2008 محمد سعيد العريان التربوي والقاص والأديب والصحفي المفكر والفنان والسياسي والنقابي الذي حمل علي كاهله كل مصلحة الوطن . من الصعب علي المرء في بعض الأحيان أن يضع شخصية مثل محمد سعيد العريان في إطار واحد ، فعند الحديث عن قامة مثله يتحير المرء في تنصنيفها فهو الرجل التربوي الذي قدم من خلال عمله فكراً تربوياً سباقاً ، وهو القاص الذي تجلي إبداعه القصصي في كتابة أدب الأطفال ،وهوالمفكر الذي شرع بيراعه ومداد قلمه ليحيي القيم ويسدد الأراء ، وهو المؤلف الذي كتب عن الشخصيات التاريخية ، والأديب الصحفي الذي تحمل الكثير ، ونجده أيضاً السياسي الذي دبج المقالات وأثار العديد من القضايا التي تصب في مصلحة الوطن والنقابة والذي دافع عن رجال التعليم ، وغيرذلك من جلائل الأعمال التي تحمل عبئها فشخصية محمد سعيد العريان جمعت الكثير من الخصائص المتفردة التي قلما اجتمعت في شخص واحد ، شخصية طموحة ملكت من الإمكانيات والملكات والقدرات مايؤهلها لحمل مسئوليات جسام في وقت كان الوطن يمر فيه بمرحلة حاسمة من تاريخه الوطني ، واستطاع أن يجمع بين جنبات نفسه كل صفات الإباء والشمم وصمد أمام الكثير من الصعاب والتحديات .. * * * مع بزوغ يوم عيد الفطر من العام 1324هـ الموافق يوم السادس من ديسمبر عام 1905م كان الشيخ الجليل أحمد العريان علي موعد مع القدر ، فالرجل اضحي علي مشارف الأعوام المائة من عمره ولم يرزقه الله بعد بالصبي ، فقد عاد من مصلاه ، وأصداء تكبيرات المصلين لازالت تترامي إلي أذنيه وهومتكئ علي عصاه يمشي الهويني ولسانه لا يكف عن ذكر الله حتي استقبلته إحدي بناته وهي تزف له البشري: ـ لقد رزقك الله بصبي ياأبي .. لم يتمالك الشيخ الوقور نفسه ، سجد لله شاكراً ولا زال يتمتم وهو يرفع عينيه للسماء ، وتنهمر دموعه وهو يقبل الوليد ويطيل النظر في الوجه البرئ ويردد: ـ لقد طال انتظارك ياصغيري ، لكن هذه إرادة الله ، ولا راد لأمره .. وامتدت خطي الشيخ لخارج الغرفة ولسانه يلهج بحمد الله ، ويقبل يديه ظاهراً وباطناً .. كان الشيخ أحمد العريان من مشايخ الأزهر يلقي دروسه علي طلابه في رحاب الأزهر الشريف وإلي جانب ذلك فهو صاحب باع طويل في الخطابة وشاعر لا يشق له غبار ، واكب الثورة العرابية وكان أحد شعرائها وخطبائها ، ولما انهارت الثورة وتقوض بنيانها وجد الشيخ نفسه ـ وهو في الستين من عمره ـ يواجه اختباراً صعباً بين الاستسلام للسلطات التي راحت تقبض علي الذين وقفوا إلي جانب الثورة أو ترك مصر المحروسة والبحث عن مكان آمن سرعان ماوجده الشيخ الجليل في رحاب السيد أحمد البدوي بمدينة طنطا .. أتم الصبي الصغيرحفظ القرآن الكريم ونال عناية فائقة من أبيه ، ولما انتهي من مراحل التعليم الأولي التحق بالمعهد الأحمدي في طنطا.. وهناك أقبل علي دروسه في نهم حتي وجد نفسه في نوع خاص من التحدي ، قابله بروح وثابة وعزيمة لا تلين فقد قرر أن يجمع دراسة أربع سنوات دراسية في سنة واحدة ونجح بعدها في الالتحاق ثم إلتحق بدار العلوم .. وفي دار العلوم تفتحت مواهب الشاب وقدراته وجرفته حرفة الأدب في هذه السن الباكرة ، وحظي بإحترام أساتذته وزملائه بفضل ملكاته الأدبية وماحققه من مكانة عالية .. تخرج محمد سعيد العريان في كلية دار العلوم عام 1930م بعد أن نال إجازتها فكان أصغر خريجيها سناً وأعلاهم درجة ، ونظراً لتفوقه علي باقي أقرانه تم اختياره ليكون ضمن البعثة " الفهمية" للدراسة في الخارج ولكن ظروفاً سياسية طرأت فألغيت البعثة . وعين العريان معلماً في مدرسة شربين الإبتدائية وكانت هذه الفترة علامة فارقة في حياته حيث انكب علي القراءة ينهل من منابعها فقرأ أمهات الكتب حتي أنه قال عنها : ـ إن شربين هي مدرستي الأولي .. في هذه المرحلة قدم العريان للناشئة مجموعة من القصص حملت عنوان " القصص المدرسية" بالإشتراك مع زميليه محمود زهران وأمين دويدار أحرزوا بها قصب السبق في كتابة أدب الطفل وكانت فاتحة عهد جديد لهذا الأدب بما تضمنته من معلومات ومعارف بأسلوب قصصي وتربوي بسيط يحبب القراءة ذاتها لنفوس الصغار. والجدير بالذكر أن نجد إحدي قصص هذه المجموعة وهي بعنوان الراية الحمراء التي تناول فيها الكاتب فصلاً من ثورة1919 م تثير من حولها ضجة هائلة مما حدا بالسلطات المصرية وقتها لمصادرتها وصدر الأمر بالتخلص منها ، وفي حضور المندوب السلمي البريطاني ارتفعت ألسنة النار في فناء مدرسة المنيرة الإبتدائية لتأكل أوراق القصة وهي تذكرنا بالكثير من المآسي في هذا الصدد . لم يفت ذلك من عضد محمد سعيد العريان فجعل نصب عينيه الكثير من الأماني التي عليه تحقيقها ، وحين أصبح مديراً لمكتب وزير المعارف عرفت الوزارة لأول مرة في عهده الكثير من الإنجازات فهو أول من طرح فكرة إنشاء مجالس الآباء والمعلمين ، وأول من أسس صندوق التأمين التعاوني للمعلمين المعارين ، وأول من وضع البرامج الخاصة بتتبع حياة المتفوقين من الطلاب في دراساتهم وبعد تخرجهم ، وقام بإنشاء سلسلة من الكتب القومية لتثقيف الشباب وحمايتهم من الأفكار الهدامة وتعريفهم بالأعلام الذين أثروا حياتنا بالعلم والفكر والثقافة .. وكان الرجل دائماً سباقاً في كل مجال امتهنه ، فقد ولدت علي يديه مجلة " الرائد" التي كانت لسان حال نقابة المعلمين وترأس تحريرها ورسم سياساتها وحدد أهدافها ، والآن ومنذ سنوات لم تعد تصدر رغم أن نقابة المعلمين تزخر كعادتها بالعديد من المبدعين والكتاب وأصحاب الرأي والمواهب والإمكانيات .. عمل محمد سعيد العريان في خلال عمله الوظيفي في مجالات عديدة في الحقل التربوي منها التدريس والتفتيش والتوجيه والمتابعة الفنية ، وقد حظي العريان بإحترام جميع من عمل معهم من وزراء للتعليم من أمثال نجيب الهلالي ـ محمد العشماوي ـ طه حسين ـ علي أيوب ـ سعد اللبان ـ كمال الدين حسين . ورغم ماحدث من خلاف بينه وبين بعض الوزراء أحياناً إلا أنهم لم يختلفوا حول شخصه ، بل أجمعوا علي حسن سيرته وشهدوا علي جليل أعماله . وبعد قيام الثورة انتدب العريان للعمل بمجلس قيادة الثورة فأشرف علي إصدار سلسلة " اخترنا لك" التي قدمت العديد من الكتب التاريخية والسياسية لتنمية الفكر والوعي ، بل وشارك في تأليف بعض كتبها ، كما قدم العديد من القصص حملت عنوان " من حولنا" كانت أقرب غلي الأقصوصة منها إلي القصة وقدم فيها صوراً مصرية خالصة لتعالج بعض مظاهر الحياة العامة وفيها يتجه لمخاطبة الكبار . كما أهتم العريان بتحقيق كتب التراث فأخرج للقارئ العربي كتاب " العقد الفريد " لمحمد بن عبد ربه في طبعة محققة ومصححة ، وإلي جانب ذلك قام بتحقيق كتاب " المعجب في تلخيص أخبار المغرب " من تأليف عبد الواحد المراكشي ، وكتاب " الأمصار والعمران " لإبن خلدون . يقول عنه صديقه ورفيق دربه الكاتب والأديب والتربوي الكبير في مقال له : " لا أعرف كيف يتم وضع اسم رجل بمثل هذه القامة العملاقة ، هل بوضع في تراجم الأعلام ،أم بين قادة العمل النقابي في مصر ، أو سياسي أو صحفي أو رجل قانون أو فنان أو مؤلف ؟ إنه كل هذا بالطبع ، رجل صهرته التجربة ، وساعدته الموهبة ، وساندته روحه الوثابة في سبيل خدمة وطنه وبلاده ، فكات لا يألوا جهداً في سبيل تذليل الصعاب وتقديم العون والمساعدة وفي تعرية الزيف وكشف الفساد . إنه أمثولة للمواطن المصري الشريف ؟" لقد اتخذ الأستاذ محمد سعيد العريان أسلوباً رائعاً في الحياة وهو شعار عابر سبيل فكان هذا الشعار مفتاح شخصيته حدد به إتجاهه وفسر به فلسفته في الحياة التي كان يعلي من شأنها دوماً ولا يرخصها أبداً. كان محمد سعيد العريان أحد الرواد الأفذاذ الذين أثروا المكتبة العربية بالعديد من الأعمال التاريخية في أسلوب أدبي راقٍ وأنيق ، فقدم صفحات ثرية من تاريخ الإسلام والعروبة ساعياً من خلال ذلك إلي تنمية مشاعر ووجدان أجيال كي تؤمن بأوطانها وتعتز بقوميتها وتتزود بمفاهيم ومعارف . ومن هذه الأعمال القصصية نجد رواية قطر الندي ـ شجرة الدرـ بنت قسطنطين ـ علي باب زويلة التي نشرت عام 1947م والتي كانت بمثابة النبوءة بقيام ثورة 23 يوليو 1952م ، وقد واجهت هذه الرواية نير المصادرة من السلطات ، وعلي الرغم من ذلك نالت الجائزة الأولي من مجمع اللغة العربية وكانت وقتها أكبر جائزة في مصر ، وأقام المجمع احتفالاً كبيراً يوم العاشر من مارس 1948م وانبري الدكتور ابراهيم بيومي مدكور يتحدث عن مناقب الرجل الذي استحق عن جدارة الجائزة بفضل ماخطه يراعه وأحكمت عبارته . وقد قال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عن الرواية نفسها " إنها كتاب رائع بأدق معاني هذه الكلمة زأوسعها وأصدقها في وقت واحد ". وقد قام العريان وزميله حسن علوان بالمساهمة بقدر كبير في تأليف الكتب المدرسية في مادة التربية الدينية لتلاميذ المرحلة الإبتدائية فتركت بصمة جديدة ومتفردة وتركت عميق الأثر في نفوس الطلاب سرعان ما انتقل إلي أولياء أمورهم ، كما أصدر العريان كتاباً رائعاً عن حياة الرسول صلي الله عليه وسلم في إطارتربوي متفرد . وإذا كان العريان ـ كل هذا الرجل ـ فيجب ألا يفوتنا الإشارة إلي الموهبة الصحفية التي تمتع بها وتلك المعارك الصحفية التي خاض غمارها من أجل إعلاء كلمة الحق وكشف الزيف ، حتي لو لقي في مقابل ذلك الكثير من العنت والظلم بلغ الفصل من الوظيفة فلم يأبه ولم يحن رأسه أو ينهزم . وكان للعريان كبير الأثر في حياته العملية حين اختير لشغل وظيفة وكيل الوزارة لشئون الأزهر فقد دعا لإدخال المواد الثقافية إلي جانب العلوم الدينية لتأكيد وتوطيد صلة الدارس بين الدنيا والحياة وتأهيل خريج الأزهر بالعلوم الأخري التي تساعد علي بناء شخصيته وليواكب التقدم العلمي والحضاري في كافة مناحيه . وفي يوم الثالث عشر من شهر أكتوبر عام 1964م فاضت روحه الكريمة إلي بارئها بعد أن ترك لنا من آثاره ما يجب علي المسئولين في وزارات الإعلام والثقافة والتعليم العمل علي نشره وتقديمه لأجيال لا تعرف بحق هذه الصور المشرفة من الرجال في وقت طغت فيه ثقافة مغايرة تسعي لطمس كل ملمح إنساني جميل والعمل علي محوه . * * * محمد عبده العباسي بورسعيد رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان