محمد عبده العباسي بتاريخ: 20 مايو 2008 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 20 مايو 2008 عبق الأيام البعيدة.. قصة قصيرة =-=-=-=- تعطلت سيارتي صباح ذلك اليوم ، كانت مفاجأة كبيرة، لم تحدث لي من قبل . كان علي الإنصياع لأوامر "الميكانيكي " الذي أصبح من الطغاة الجدد في المدينة وانتقل بقدرة قادرمن خانة المعدمين إلي خانة أصحاب الورش الكبيرة ، ترهل بطنه ، أشار لي وهو يدخن سجائر من نوع " بنسون آند هيدجز" بأن أستخدم سيارة أجرة إذا كنت أبحث عن سبيل للحاق بوظيفتي ، قال بلغة ملؤها واثقة: ـ سيتأخر العمل قليلاً .. مضطراً ركبت التاكسي بدلاً من الانتظار الذي لن يقل بحال من الأحوال عن ساعة علي أحسن تقدير كما قال هو .. صدع السائق رأسي بحكايات مملة ، وأغانٍ أكثر ضجراً ، وزحام صباحي أضحي سمة من سمات شوارع المدينة .. لم يجد السائق بداً سوي أن يقطع الطريق ماراً بالقرب من شارعنا القديم ، هفهفت روائح الماضي العتيق وتقلبت في رأسي الذكريات التي تحمل من عبقه الكثير ، ترامي إلي سمعي صوت مقرئ شهير يرتل آيات من الذكر الحكيم علي شريط " كاسيت " عبر ميكروفون ضخم يصم الآذان .. استأذنت السائق أن يقلل من السرعة قليلاً لأستطلع الأمر ، أطاعني وقبل علي مضض وهو ينفخ صدغيه : ـ ورائي مواعيد يا أستاذ ، لابد أن أسرع ، ولكي تلحق أنت أيضاً بالعمل .. من النافذة ناديت علي شاب تبدو ملامحه واضحة لذاكرتي وإن كنت لا أعرف ابن من هو ، سألته ، فقال علي الفور : ـ البقاء لله ، "ست " كرم سيادة ماتت .. انطلقت السيارة مسرعة تحملني وأنا أسرح بعيداً في عالم آخر حتى أخرجني السائق منه طالباً الأجرة ، نفحته إياها وأنا أجرجر ساقاي متعباً ، أسير نحو درجات السلم أشبه من هو علي غير هدي ودون أن أتجه ناحية المصعد رحت أصعد درجات السلم وكأني كهل يزحف . في المكتب ـ حيث جلست ـ لم أخاطب أحداً ، تناولت علي الفور فنجان قهوة أعدها لي " عم مساعي " ، ثم جاء رنين أقرب للهمس من هاتفي المحمول بموسيقي رحبانية ، كان صديقي أحمد عثمان يدعوني لأمسية شعرية ذكر فيها أسماء لشعراء جاءوا من العاصمة ، حاولت الاعتذار عن عدم الحضور بسبب هذا الظرف ، قدم لي العزاء : ـ البقاء لله .. محاولاتي للاعتذار ذهبت سدي ، أصر ، فلم أجد سبيلاً سوي الإذعان : ـ ستدير الأمسية كالعهد بقدراتك الفذة .. وجدتني سريعاً أفكر ، لابد من المشاركة في تشييع جنازة كرم سيادة علي الأقل ، حصرت كل اهتمامي بأعمال لابد من إنجازها علي الفور حتي لا تتعطل مصالح الجماهير ، جاء صوت عادل صبي "الميكانيكي" علي الهاتف يخبرني بانتهائه من إصلاح عطل السيارة وطلب مني المرور عليه لاستلامها ، رجوته أن يأتني بها فلم يمانع وأرسل زميله عزت .. أخبرني عزت بالأمر هو الآخر ، وقال : ـ سيصلون عليها الجنازة عقب صلاة الظهر بمسجد مريم القطرية كما أوصت .. فرغت من عملي سريعاً ، قطعت الطريق إلي المسجد في دقائق معدودة ، حشد كبير من أبناء الشارع كان في انتظار وصول جثمان الفقيدة من مستشفي الحميات ، سارعوا جميعاً بحمل النعش والدخول به للصلاة عليه ، حياني البعض وكأنما يقدمون لي واجب العزاء .. وقف بعض منهم خارج المسجد وقت الصلاة بينما انبري عدد غير قليل إلي الداخل لأداء الصلاة المكتوبة .. بانتهاء صلاة الجنازة خرج النعش إلي سيارة مخصصة لنقل الموتي شقت طريقها في صعوبة متجهة غربي المدينة حيث المقابروسط حالة من الصراخ والبكاء والنحيب من أقرباء سيادة الذين توافدوا من كل حدب وصوب ، بل تباري البعض منهم وقت دفنها بتمريغ نفسه في التراب معبراً عن شدة حزنه وأساه .. أعلن غير واحد أن العزاء قاصر علي الجنازة بالنسبة للنساء ، أما الرجال فسوف تكون " السهرة " بالسرادق الكبير .. صافحت معزياً ابنها الوحيد الباقي علي قيد الحياة فقد توفي ابنها البكر قبل ثلاثة أعوام إثر إصابته بمرض عضال لم يبرأ منه ، تاركاً من خلفه أطفال عمر أكبرهم لم يزد عن الرابعة .. اتفقت مع ابنها علي ضرورة الاتصال بي في أي وقت لتذليل أي عقبة تعترضه في أي موقف ببطاقة أعطيتها له فيها أرقام هواتفي وعنوان العمل : ـ المرحومة لها دين كبير في عنقي تستحق أن أسدده لكم .. قال جار تذكرته بصعوبة بسبب شيب كسا شعر رأسه : ـ الله يرحمها.. رأيت حندق القمري الذي كان أول زواجها ، همس لرجل يماثله في العمر: ـ كانت أول البخت يا متولي.. قال متولي الذي بدا متأثراً : ـ عذبها المرض كثيراً ، فليرحمها الله .. رفعا معاً أكف الضراعة وكرراً الدعاء لها بالرحمة ، وانصرفا يتبادلان السجائر ويكملان باقي الذكريات مع الدموع : ـ الشارع بدأ يفقد أشهر ناسه .. قال متولي ، رد حندق القمري : ـ كلنا أموات ، أولاد أموات .. تصافحا وافترقا عند ناصية الشارع .. انشغل ابنها بالحديث مع شاب في مثل سنه وبحمل رضيعة ارتمت علي صدره ثم التفت لي قائلاً : ـ كرم سيادة الصغيرة .. قلت : سبحان الله ، إنها صورة طبق الأصل .. ربما تعجب قليلاً ولكنه سمح لي بأن أربت علي كتفها وأمسح علي شعرها الأسود الناعم ثم قبلت جبينها ومضيت مودعاً وأنا أغذ الخطي بإتجاه سيارتي التي وقف أمامها شاب في نحو العشرين من عمره مسح زجاجها الأمامي في اهتمام بالغ ، قال : ـ ألا تعرفني ، أنا ابن عبد المولي .. منحته أجراً معقولاً ، صافحني وهو يشد علي ذراعي : ـ أبي مات منذ شهر ، ولم تحضر جنازته .. ـ الملك والدوام لله ، نطلب له الرحمة .. ـ ونقرأ الفاتحة .. فرد كفيه وراح يقرأ بينما يتبعني بلحظ عينه وأنا أديرمحرك السيارة وانطلق مغادراً ، لم أجد غير الطريق إلي البحر مفتوحة ، والشوارع شبه مغلقة بأرتال من سيارات لا تنقطع .. كان النهار خريفيا ، والشمس رغم انتصافه ناعمة ، وتذكرت كرم سيادة وهي تمرح شابة ـ ذات صيف ـ عند هذا الشاطئ الذي لم يتغير إلا قليلاً ، غادة حسناء ذات جمال ودلال ، تتمتع بقوام ممشوق وروح وثابة تعشق الحياة ـ كانت تلك هي المرة الأولي التي أكون بقربها ـ نصطاف كما هي عادة الأسر في شارعنا ، كانت كرم ترتدي ثوباً هفهافاً يشف من تحته لحم أبيض ناعم ـ في الخامسة والعشرين وأنا مراهق في الخامسة عشرة ـ صدرها يبدو كقباب بارزة وبطنها ضامر، غير ساقين مثل عمودين من الرخام الوردي ، وذراعان تنتهيان بكفين صغيرتين ، ورأس تبدو ضخمة تستند علي جيد ممتلئ يتوجها شعر أسود مسترسل كالليل في طغيانه ، تجلس علي كرسي " الشيزلونج " وتحفر بقدميها في الرمل ثم تسوي الأرض ثانية وتعيدها لحالتها الأولي .. تعلق قلبي مبكراً بها ، وتمنيت لو كانت حبيبتي ، أبادلها الغرام ، لكنها وأنا في حالة من الهيام بها ، كنت أغمض عيناي وأغني لها أغنيات عبد الحليم في فيلم معبودة الجماهير ، وأقرأ لها من الشعر ما دعاها لأن تؤكد لي جهلها بهذا الكلام فهي لم تنل أي قسط من التعليم ولكنها تحكي لي في فخر عن الثورة وعن عبد الناصر وعيد النصر في 23 من ديسمبر ، وعبد الحليم وشادية ، وبطل مصر والشرق في الملاكمة عرفة السيد : ـ أحسدك لأنك ستري جمال عبد الناصر بعيني رأسك . ـ ليتك تكونين معي .. ـ ليتني كنت ولداً مثلك .. رحنا نضحك ملء شدقينا من القلب وأنا أحكي لها عن محمود شكوكو الذي تحبه ، بعد أن أحيا حفل زفاف خال زميل لي في المدرسة، العريس كان مهندساً للبترول في دولة الكويت ، وأقيم الحفل بكازينو " البرج العائم " الذي يقع بداخل البحر : ـ دائماً أنت محظوظ ، لكن نجمك " خفيف".. ورثت كرم سيادة شخصية أمها القوية ، وعن أبيها الذي لم أره كل الضعف حين سألتها عنه قالت : ـ لم أره ، أو ربما رأيته مثل خيال عابر .. ـ مات .. ـ يبدو ذلك ، قالت أمي مات قبل أن يصل إلي سن الثلاثين .. كل شباب الشارع يقفون انتباهاً أو في شبه ذهول ساعة غدو كرم سيادة أو رواحها ، تعدل من تنورتها الواسعة من عند الخاصرة النحيلة ، وتحف بأناملها تحت الجفنين في رقة ثم تمضي في ثبات الجندي الذاهب إلي الميدان ، بينما ترتجف القلوب وتصطك الأسنان . والمقهي الواقع عند ناصية الشارع يأتي منه غناء محمد قنديل " جميل وأسمر " ، فيصفق حمادة علوان بيديه ، ويكمل الأغنية بصوته العذب الذي يخلب الأسماع في الحفلات والأعراس ، بينما يجلس طنطاوي عطا علي كرسي لا يبدله بتاتاً يقرأ من جريدة الأهرام مقالات محمد حسنين هيكل بصوت عالٍ علي مسامع حمدين سليم المنصت في اهتمام شديد، وكمال زايد الذي يبادلني مجلة المصور مقابل مجلة آخر ساعة ، ويردد : ـ أتمني لو يصبح واحداً من أبناء شارعنا من المشاهير .. يأتي صوت حسونة صبي المقهي : ـ يا أرض " انشدي " .. تبحث كرم سيادة عن القائل بعينها سريعاً لتنفذ فيه سهامها ، أو ترد عليه التحية بأحسن منها ، سباباً من كل نوع حتي إذا ما سنحت لها فرصة الانقضاض عليه أردته أرضاً ، فلها قوة جسمانية تستطيع بها هزيمة أي رجل حتي إذا فشلت جاءها علي الفور المدد من أمها التي يصلها الخبر علي خيول مطهمة ، يتشعب الأمر لحين عودة الرجال من أعمالهم فيبدأ الصراع وربما لا ينتهي إلا بعد عدة أيام حتى لو جاءت قوات الشرطة .. تمتلك كرم سيادة قاموساً لغوياً فريداً قلما يملكه غيرها ، يحمل بين دفتيه كل الألفاظ الممنوعة والعبارات التي تخدش الحياء وتأنف الأذن أن تسمعها فهي تمس الشرف وتنتهك الحرمات ، وكثيراً ما ينتهي العراك بفوزها بالطبع فتطلق أمها كماً كبيراً من الزغاريد معلنة انتصارها ثم تردفها بضحكات ترددها مصحوبة بصوت ممجوج يخرج من أنفها .. تجيد كرم سيادة مسألة الكر والفر ساعة العراك ، فهي تضرب بالعصي ، وتلقي بالزجاجات الفارغة وتجيد الضرب باللكمات والركل بالأقدام والعض بالأسنان . حدث مرة أن طرحت أحد الرجال أرضاً ، ظلت تضربه بعصا معها وانقضت عليه تقضمه بأسنانها في مؤخرته السمينة ، سعي رجل آخر ليرفعها عنه والرجل المنكوب يولول ، ضمها الأخير متعمداً ـ كذئب ـ إلي صدره ليثنيها عن هجومها الشرس وطفق يغطي كرتي صدرها اللتين انفجرتا في قوة نتيجة تمزق الفستان ، فلم يجد من كرم سيادة شكراً علي حسن صنيعه، بل قامت بصفعه ، فمشي يتحسس خده حزيناً ، ولم يخفف عنه الأمر إلا أنه لم يزل يحتفظ بليونة ثدييها ودفء صدرها : ـ صحيح ، آخر خدمة الغز "علقة ".. بعد انتهاء المعركة راحت كرم سيادة تبحث عنه لتعتذربأنها كانت في حالة غير طبيعية ولم تكن في كامل وعيها ، وهمست في أذنه ببضع كلمات اهتز لها قلبه وسمحت له أن يربت بكفه علي كتفها .. بعد فترة علت الزغاريد في بيت أم كرم سيادة ، تطلع كل الناس إلي شرفتها لرصد وقائع ما حدث : ـ خطوبة كرم سيادة علي حندق القمري.. وحندق القمري يعمل بحاراً علي السفن المارة بالقناة ، شاب في مقتبل العمر ، له حظ من الثراء ، يتحدث عدة لغات ويدخن السجائر الأمريكية ويرتدي الملابس الأنيقة وتتحلي أصابعه بخواتم من ذهب ، وتتدلي علي صدره سلسلة من النوع الجنزير تحمل في نهايتها حرف الـ "H" .. أقيم سرادق ضخم يتوسطه مسرح هومقطورة زينهم الحسيني صدحت فيه الموسيقـي وغنت " زينب بغداد " .. طوال الليل والضرب علي العود لا يكف والعزف علي الماندولين لا ينتهي والدق علي الطبول لم يسكت ، فريق العازفين جاء من المنصورة ترافقه راقصة تصبب العرق من جسدها اللين صباً وهي تلوك قطعــة من العلك في فمها ، وتنثر شعرها الذهبي هنا وهناك وتجلس علي " حجر" العريس تارة وتطرقع بالصاجات تارة أخري . استمر الحفل حتي الصباح تناول فيه أبناء الشارع عدداً هائلاً من زجاجات البيرة " ستيلا " وحرقوا من كميات الحشيش والمعسل في ليلة وصفت بأنها من ليالي ألف ليلة .. عمت الفرحة أرجاء الشارع ، ارتكبت العديد من المباذل والمهازل والتحرشات ما يندي له الجبين ، وكاد الحفل أن ينقلب رأساً علي عقب لولا وجود أشقاء كرم سيادة ، حودة وعودة ومودة الذين غفروا الزلة لمرتكب فعل التحرش بعد أن قام واحد منهم بصفعه بكفه المشهورة بضخامتها علي صدغه لتأديبه فكاد أن يتلف له أذنه ، وعلي الفور تبودلت عبارات الاعتذار ثم تلتها عبارات الثناء أيضاً ، لكن لم تمض لحظات حتي اقتلع شاب مقعداً كان يجلس عليه رجل هرم وأرسله في الهواء ، وأخرج من بين طيات ملابسه نصلاً لامعاً وعض علي نواجذه يبحث عن الفاعل كي يقتص منه ، علا صوت صراخ ، وأريقت دماء علي الأرض بعد أن سقط أكثر من جريح ، وتلوثت ملابس في الوحل ، ووجد حندق القمري الفرصة سانحة ففربعروسه خشية أن يصيبهما سوء بعد أن ساد الهرج والمرج واختلط الحابل بالنابل .. في الصباح جاءت أم كرم سيادة تزغرد وهي تحمل البشارة علي قطعة من الشاش الأبيض اختلطت بالدماء وراحت تغني : ـ شرفت أبوكي وأخوكي وأولاد عمك والجيران. نسي الناس كرم سيادة ردحاً من الزمن كما نسوا حندق القمري ، وإن بقيت الذكري عبقاً في أرجاء الشارع .. وصحا الشارع ذات يوم بعد حرب يونيو ، علي صوت سنابك خيل تجر حنطوراً أسود يقوده زيدان الدُهل والخيل تتهادي علي مهل أمامه ، وكرم زيادة تنزل من الحنطور وكأنها برنسيسة من برنسيسات زمان .. تلمظ بعض من في المقهي وهم يسألون جميعاً عن السبب ، ويترقبون ما سوف تبوح به الأم بعد قليل من أخبار . بعد قليل زمجر بوق سيارة نقل بصندوق ضخم وبدأت تفرغ من أحشائها الأثاث الذي خرج ذات يوم من نفس الشارع تحمله عدة عربات من الكارو تجرها الخيل وتدور بها في شوارع الحي يوم زفاف كرم سيادة علي حندق القمري .. همست أم فؤاد لحكيمة سالم دون أن يعلو لها صوت : ـ كرم سيادة طلقها حندق القمري .. انبري أكثر من واحد يساعد علي حمل الأثاث تطوعاً ويصعد به إلي بيت أم كرم سيادة التي راحت تطلق الشائعات عن حندق القمري ، وعن مدي الشح الذي عانت منه ابنتها التي تربت علي العز وأكل الوز : ـ رجل خائن ، متزوج من سيدة قبرصية تعيش في لارناكا .. كانت كرم سيادة تتهادي في خطوها كالعادة : ـ فرسة تنتظر أن يمتطيها فارس .. قال فارس وهو يتملي منها ، وسمع صلصلة أساورها ، ولمح خلخال في قدمها ، وقرط علي شكل " مخرطة الملوخية " يتدلي من كل أذن ، هو الوحيد الذي تمناها علي الفور وأبدي استعداده للاقتران بها بعد انتهاء العدة .. انطلقت الزغاريد في فرحة بعودة الأسيرة الجميلة : ـ بيتك يا غالية .. واستغرب الناس .. تحري الناس جميعاً أصل الحكاية ، تأكدت كل الحكايات علي طاولة " أم العز تناظر" ، وإن كشفت اللثام تماماً " فكيهة أظلمت " التي قالت أن حندق القمري أخذ علي حين غفلة منه وأن عفيفة أم كرم سيادة هي التي خططت من أجل الحصول علي كنز جمعه حندق القمري حين كانت مجنداً بالجيش المصري الذي ذهب ليحمي الثورة في اليمن .. زينوا له كل شئ ، موائد من الطعام كانت تمد عليها كل ما تشتهي النفس من أسماك ولحوم وطيور وخراف بكاملها، خضراوات وفاكهة ، أنواع من الشيكولاتة الإنجليزية التي تشتهر بها أحسن المحال التجارية بالحي الأفرنجي ، حتي أصبح المسكين لقمة سائغة تناولتها عفيفة ثم سلمتها لابنتها ، وبعد الطلاق استولت عفيفة علي كل ماخف وزنه وثقل ثمنه وتركت لحندق القمري الشقة علي البلاط .. وتحت تهديد السلاح استسلم حندق القمري مؤثراً السلامة علي الموت قتيلاً علي يد مودة الذي اشتهر بشدة البأس وقوة الشكيمة .. فرّق التهجير القسري لأبناء المدينة بين الجميع ، طويت صحائف وانتهت حكايات قبل أن تبدأ ، وبدأت قصص مالبثت أن وئدت في مهدها ، ونُسيت أسماء كثيرة .. لكنني وحفني سلامة وسعد حميد انتقلنا ثلاثتنا للسكن معاً في المدينة الجامعية بإمبابة حفني يدرس التجارة وسعد في كلية الحقوق وأنا أدرس الآداب . وظللنا نلتقي بين أونة وأخري نتبادل الذكريات ونتحدث عن وعود السادات بمحاربة إسرائيل وإنهاء حالة اللا حرب واللا سلم، خاصة وأن مدن القناة بأسرها تم تفريغها من السكان بعد أن طالتهم يد العدو الآثمة بغارات من طيرانه وصواريخه ، وكم قبض علينا وزج بنا وراء القضبان بسبب المشاركة في المظاهرات التي يقوم بها الطلاب ، وعلي الرغم من ذلك لم يكن أمامنا سوي اللقاء بشكل أسبوعي. نهيم في الطرقات نقرأ لأمل دنقل ، ونغني أغاني الشيخ إمام ونردد أشعارنجم ، ونقضي ليالي رمضان في جوقة ، ونسهر حتي الصباح في سرادقات إمام المنشدين زكريا الحجاوي وصوت خضرة محمد خضر ، ونحضرالأمسيات في نادي القصة أو دار الأدباء بشارع القصر العيني ونقضي النهار ما بين حي الحسين وسور الأزبكية ننهل من معينه ثقافة بلا حدود وبقروش زهيدة . ذات يوم وكان الوقت عصراً ، أنفقنا ثلاثتنا كل ما نملكه من نقود وصرنا علي شفا الإفلاس ، منذ الصباح لم نتناول أي طعام ، اشترينا روايات روسية لمكسيم جوركي وتورجنيف وتشيخوف وغيرهم مما كانت تصدرها دار " رادوغا" في موسكو زمن الاتحاد السوفيتي السابق ، لم يعد في جيوبنا سوي ثمن تذاكر العودة في الأتوبيس، أثقلت كواهلنا بما نحمل من كتب .. علي حين غرة اعترضت سبيلنا سيدة ضخمة البنيان وقفت أمامي تماماً ، ألجمتني المفاجأة ، فأزدرت ريقي بصعوبة ، راحت تتفحصني ملياً ، ثم نطقت: ـ عرفتك من صوتك .. تلعثمت في الكلام ، وأشرت إلي صدري : ـ أنا ... ـ ألست أنت منتصر عرفة ؟ أومأت بالإيجاب : ـ نعم.. ولم تنطق باسمها حتي هتفت أنا : ـ كرم سيادة .. ـ عرفتك من صوتك الجهوري .. وشدت علي يدي وربتت علي كتفي وراحت تلومني علي تقصيري ، وزميلاي حفني سلامة وسعد حميد في دهشة .. انعقدت الألسنة ،وهي ترحب بنا وهي تقول : ـ هل سنقضي الوقت كله في الشارع .. حاولت الانصرف لكنها لم تمنحني الفرصة ، فلا مناص سوي الاستسلام ، ووجدنا في كرم سيادة كرماً حاتمياً لا يمكن وصفه : ـ من العيب أن تنصرفوا دون تناول طعام الغداء في بيتي .. ومدت يدها إلي شعر عند فوديها وأخرجته من تحت طرحتها السوداء : ـ وحياة هذا الذي لم " يعلم " عليه إلا حلاله لن تنصرفوا قبل تناول الغداء في بيتي ، بدوي زوجي سيفرح كثيراً .. سرنا قليلاً حتي وصلنا إلي بيت يطل علي زقاق، قالت : ـ الله الله ، كبرت ياأستاذ وصرت رجلاً .. ثم نادت : ـ بدوي ، ، يا بدوي .. أطل بدوي مثل فيل كبير يتهادي في مشيته : ـ بعلي ، أشهر بائع مخللات في الحي بأسره .. ثم أردفت مشيرة علينا : ـ أخوتي منتصر وحفني وسعد .. ـ مرحباً بالرجال .. وراح يضخ دخاناً كثيفاُ من سيجارة كانت بين شفتيه ثم دهسها برجله تحت حذاء ضخم مؤكداً : ـ تفضلوا ياشباب .. صعدنا درجات السلم تباعاً بعد أن سبقنا بدوي وأغلق الراديو الكبير علي صوت محمد عبد المطلب وهو يغني : ـ ودع هواك .. ولم يكمل "طلب" وانشغلت أنا بالفرجة علي صالة كبيرة تضم طاقم " أنتريه " أرابيسك وطاولة صغيرة عليها قطعة من زجاج " الفيميه " فوقها زهرية رقيقة بها ورود من البلاستيك وعلي الأرض سجادة تتميز بنقوشها الجميلة ، وبين الحين والحين يرحب بدوي بنا ونحن في انتظار إعداد الطعام ، وصوت كرم سيادة يؤكد لنا : ـ ثلاث دقائق ويكون الطعام علي المائدة .. تناولنا الطعام في سعادة منقطعة النظير وكنا علي عجل من أمرنا فطلب منا بدوي التروي في الأمر : ـ مالكم تتعجلون الانصراف ، الدنيا بخير يا رجالة ، لقد خلقها الله في ستة أيام .. كنا نفكر في كيفية البحث عن سبيل للعودة للمدينة الجامعية ولكن الحديث استمر مع بدوي الذي أعجب بنا تماماً وسعد بأننا من معارف زوجته وطلب توصية منا عندها ، فهو يتيم ومقطوع من شجرة ، ثم أشعل السيجارة وراء الأخري وحفني يقاسمه التدخين ويشاركه في قضايا السياسة والحرب المتوقعة ، وحكايات كرم سيادة معي لا تنتهي فهي تعيد شريط الأيام القديمة بذاكرة حديدية قليلاً ماكانت تنسي حرفاً أو تمر مروراً عابراً علي حادثة إلا وهي تذكرني بها .. غادرنا بيت كرم سيادة ووقف زوجها بدوي مودعاَ : ـ أين الوصاية يا شباب .. علي درجات السلم ضحكنا جميعاً من ظرف بدوي وحضوره وروحه الطيبة وبساطته وحبه الشديد لكرم : ـ هل تعلم ياسيد منتصر أن كرم هذه هي بمثابة أمي .. انتحت بي كرم سيادة جانباً وقالت في صوت أم رؤوم وهي تدس في يدي نقوداً رفضتها بشدة : ـ لو احتجتم لشئ أنا تحت أمركم .. وتواعدنا علي ضرورة وصل ما انقطع ، ورحت أسرد لصديقاي سيرتها الأولي وقصة حندق القمري الذي سافر إلي قبرص ولم يعد للوطن حتي بعد أن نادي منادي الجهاد بعد النكسة.. ورحت أسأل نفسي عن المقادير التي ألقت بكرم سيادة في طريقي وسط مدينة يزيد عدد سكانها عن سبعة ملايين من البشر لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً . قال حفني سلامة : ـ دنيا صغيرة بحق .. وقال سعد حميد : ـ رب صدفة خير من ألف ميعاد .. قلت : ـ كأنما أرسلتها السماء في ساعة كنا في أشد الحاجة لمثلها .. مرت السنوات وافترقنا ثلاثتنا سواء إلي العمل أو التجنيد زمن حرب أكتوبر 1973 حتي عدنا لمديتنا عقب النصر الكبير علي الأعداء .. بين مرح الشباب ولهوه والعمل الجاد الدؤوب أمضينا اوقاتنا ، حتي إذا هل الصيف تناثرنا علي شاطئ البحر نصطاف ونعرض أجسادنا للشمس ثم نلقي بأنفسنا بين أمواج البحر نسبح في سعادة . إلي أن حدثت واقعة اقتلعت فيها أعمدة الشماسي ، ضرب من اليمين ومن الشمال وشباب يتصارعون وشجار لا ينتهي ، ولمحت رجلاً يسقط علي الأرض مضرجاً في دمه بسبب اعتداء وقع عليه ، رحت أنقذه من بين براثنهم القوية وأنا أدفعهم دفعاً للابتعاد عنه ، نظر لي وقال : ـ أنا أعرفك .. لم اهتم سوي بحمله إلي سيارتي للوصول إلي المستشفي الأميري ، لما افاق قال لي : ـ أنت منتصر عرفة وأنا بدوي .. اسقط في يدي وأنا أضمه لصدري بعد أن ضمد الأطباء جراحه .. وجاء صوت عرفت أنه صوت كرم سيادة ، كان وجهها الجميل لازال يحمل رونقه ، وجسد صاحبته أكثر رشاقة وهي تضمني لصدرها ، ومن بين أردانها انبعث عبق الأيام البعيدة ... ـــــــــــــــــــــــــ محمد عبده العباسي بورسعيد /مصر رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان