اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

ليلة مقمرة (قصة قصيرة)


elbana

Recommended Posts

ليلة مقمرة

في ليلة صيفية مقمرة ، سار عم محمد على الطريق الأسفلتي الموحش وقد أمسك بيد ابنه البالغ من العمر تسع سنوات ، كان الطريق يشق منطقة فضاء رملية ولا اثر لحياة على جانبيه ، بينما لاحت على البعد أضواء خافتة لمنطقة سكنية تقبع بين أشجار عتيقة ، كانت تلك المنطقة هي هدف عم محمد . لم يكن يقطع الصمت سوى صوت أقدامهما الذي كان يراسل صوت تسبيحات خافتة تخرج من فم الأب مختلطة بأنفاس مجهدة جراء السير الطويل : إنت تعبت .. سأل عم محمد ابنه الصغير الذي هز رأسه نفياً في محاولة واضحة لإظهار مدى جلده ، لم يكن الرجل يملك نقوداً تمكنه من ركوب الموصلات ، بل إنه لم يكن يملك أية نقود على الإطلاق. كان ضوء القمر قد فرش عباءة فضية غطت سطح الطريق الأسفلتي ، والرمال المحيطة بالطريق : (اللهم صلي على كامل النور) ، قالها الأب وهو يرفع بصره إلى صفحة القمر المكتمل .

بعد لأي وصلا إلى المنطقة السكنية التي كان السكون يلفها إلا من صوت نباح بعض الكلاب هنا وهناك ، توقف عم محمد أمام المنزل المكون من دور أرضي ، طرق الباب ، ثم تراجع إلى الخلف قليلاً ، لم يجبه أحد ، عاود الطرق بعد قليل ، ثم أيقن ألا أحد بالمنزل . تلفت حوله في حيرة ، أين ذهب طه؟ كان طه أقرب زملائه إليه ، فهو يحبه كثيراً ، وقد نصحه غير مرة بالعناية بنفسه والزواج ، ولكن طه كان يصر على البقاء منفرداً برغم يسر حاله حيث ورث عن أبيه بضعة أفدنة زراعية تدر عليه ريعاً منحه مكانة مادية مميزة في وسط الموطفين . عمد عم محمد إلى التجول في المكان قليلاً ليضيع بعض الوقت ، ثم جلس على مصطبة ملاصقة لباب بيت زميله بنيت من الحجر والطين ومدد الصبي عليها ووضع رأسه على فخذه ، وأخذ يسرد له حكايات عن القمر ، وعن الملائكة ، حتى نام ، لم يكن الابن يدرك المغزى وراء رحلتهما المرهقة ، ولكنه الذي أصر على الذهاب في صحبة أبيه .

سقطت دمعة من عيني عم محمد ، وهو ينظر إلى ولده ويفكر في ملابس المدرسة المطلوبة له ولأخوته : أنا تقلت على طه قوي ، بس ما قداميش غيره . أخذ يحدث نفسه ، رفع عينيه إلى السماء فطالعته صفحة القمر الوضاحة ، وسمع وقع خطوات ظهر على أثرها طه بملابسه الأنيقة ووجهه الباسم ، وتهلل الرجل حين رأى عم محمد : الشيخ محمد .. سلامات يا راجل خطوة عزيزة .. إتفضل .. إتفضل .. هو أحمد نام . فتح باب البيت بسرعة ، وعاد ليساعد عم محمد في حمل الصبي ، دخل عم محمد وجلس على الكنبة العربية التي تتصدر صالة المنزل ومدد الصبي إلى جواره ، بينما أخذ طه يضع بعض الأغراض التي اشتراها في المطبخ : إنت بقى لك كتير مستني؟ ، معلش أصل أنا كنت ع القهوة والقعدة خدتني وما كنتش عارف إنك جاي . لم يجب عم محمد ، بل إنه لم يسمع زميله من الأصل فقد كان صامتاً مطرقاً إلى الأرض وقد ظهرت على قسمات وجهه وطأة الحمل الملقى على كتفيه ، ولاحظ طه الأمر فترك ما بيده واقترب من الرجل : مالك يا عم محمد .. فيه إيه مضايقك؟

نظر إليه عم محمد في صمت وابتسم ثم قام متجهاً إلى المطبخ ولحقه طه : فين عدة الشاي ، أصل انت مالكش في عمايل الشاي الزردة .

ضحك طه ، وأمسك بذراع زميله وسدد نظره إلى عينيه : عمر الفلوس ما كانت مشكلة يا عم محمد ، أنا رقبتي ليك . ابتسم عم محمد وربت على كتف صاحبه وشعر برغبة في البكاء ، ربما لوفاء زميله ، وربما لأنه لم يعتد أن يقترض المال ليعيش .

طه : جرى إيه يا راجل انت .. ده أنا أكتر من أخوك ..

رد عم محمد وقد ملأت الدموع عيناه : والله يا طه الواحد ما بقى عارف يعمل ايه .. لقمة العيال وتعليمهم بيقشوا اللي ورايا واللي قدامي أول باول .. وعلى عيني لما باميل عليك .

رد طه باسماً : وأنا اشتكيت لك ياراجل يا طيب .. يا سيدي ميل ولايهمك .. هو احنا ف ديك الساعة .

ثم استطرد : سيبك م الكلام الفاضي ده وقول لي .. ناوي تعمل ايه في موضوع المدير؟

كان الإثنان قد قاما إلى المطبخ الذي يستطيع الجالس في صالة المنزل رؤية كافة محتوياته وبدأ عم محمد يعد الشاي .

عم محمد : مافيهاش اختيار يا شيخ طه .. مش ح أمضي على الورق ولو على رقبتي .. الحاجة اللي طلعت من الورش والمخازن كلنا عارفين إنها راحت على بيته اللي بيبنيه في القناطر ، وده مش من حقه ، وبعدين عايزني أمضي له على أذونات الصرف علشان أشاركه في السرقة ؟ على آخر الزمن ح أأكل العيال سحت .

طه والابتسامة لم تفارق وجهه : تعرف يا عم محمد أنا باستعجب من صلابتك رغم الظروف الوحشة اللي بتمر بيها .. بس خلي بالك منه ده راجل نابه أزرق .

عم محمد : يعني ح يعمل فينا إيه ، ح يهبش له هبشة يطلع بحتة من لحم الواحد وإيه يعني .

كان عم محمد قد انتهى من إعداد الشاي فجلبه طه على الصينية ووضعه على طاولة خشبية قديمة بنية اللون تتوسط صالة المنزل ، ثم علت الجدية ملامح وجهه : اسمع يا شيخ محمد .. إنت راجل عندك عيال ، ما تحاولش تصطدم بالراجل ده ، أحسن ده مفتري وأنا عارفه .

عم محمد باستنكار : يعني إيه يا طه .. إنت عايزني أمضي له .

طه : يا سيدي ما قلناش تمضي .. على الأقل خد أجازة يومين وحد تاني يبقى يمضي له في غيابك .

عم محمد وقد هب واقفاً في عصبية : إزاي الكلام ده يا طه .. وأقابل وجه كريم ازاي .

طه وقد أمسك به ليجلسه : أنا خايف عليك يا عم محمد .

عم محمد : يا سيدي العمر واحد والرب واحد .. يعني ح يعمل فينا إيه أكتر من اللي حاصل .

طه مبتسماً : طب هدي نفسك ، واستعد لمعركة حامية الوطيس .. المهم يلزمك قد إيه (وأخرج محفظة نقوده وفتحها أمام صديقه) .

نظر إليه عم محمد والعصبية لم تفارق ملامحه : عشرة جنيه كفاية لحد أول الشهر .

سار طه مع عم محمد والصبي مسافة قصيرة ليؤنسهما ، وأصر عم محمد على أن يعود طه إلى منزله ، بينما مضى هو والصبي وحيدين على الطريق الخالي من المارة والسيارات ، عادت تسبيحات عم محمد تتراسل من جديد مع وقع أقدامه هو والصبي الصغير حتى لاحت على البعد شجرة الجميز المسنة التي تنذر باقترابهما من منتصف الطريق ، وهي الشجرة الوحيدة التي كانت تقع على هذا الطريق الموحش ، مع دنوهما من الشجرة بدأ نباح بعض الكلاب يطرق أسماعهما وأخذ يقترب شيئاً فشيئاً ونظر عم محمد خلفه فوجد مجموعة من الكلاب تعدو في أثرهما وتنبح على بعضها البعض بشراسة وتتوقف بين الفينة والفينة ليصارع بعضها بعضاً ، ثم تستأنف العدو من جديد في اتجاه الرجل والصبي ، وما إن أدرك كلاهما موضع الشجرة حتى أصبحت الكلاب على بعد أمتار قليلة منهما وقد ارتفع صوت نباحها الشرس بشكل مخيف ، وبدا واضحاً أن انتباههم قد توجه ناحية الرجل وابنه ، أطبق عم محمد على يد الإبن الذي بدأ ينظر إلى أبيه في خوف ، فطمأنه الأخير بنظرة باسمة ، تجاوزتهما الكلاب ، ثم عادت وتوقفت فجأة واستدارت واتجهت نحوهما ، توقف الرجل حين رأى أنهم تحلقوا حوله هو والصبي وأخذ يحوقل ويتلو بعض آيات الذكر ، بكى الصبي من الخوف فبدأت الكلاب تزمجر في وحشية جعلت الصبي يصرخ فزعاً فحمله الرجل بسرعة واتجه ناحية الشجرة ووضع الصبي وراء ظهره تجاه الشجرة واستدار مواجهاً الكلاب ، مد يده في سرعة البرق وانتزع بصعوبة فرعاً يابساً متدلياً من الشجرة المسنة ، وأخذ يصيح في الكلاب بالابتعاد ، وصار يلوح بفرع الشجرة ذات اليمين وذات الشمال ، والكلاب تبتعد متفادية فرع الشجرة وتعاود الكر من جديد ، التف أحد الكلاب من خلف الشجرة بغية مهاجمة الصبي من وراء ظهر أبيه فجن جنون الرجل وأخذ يضرب الكلب بعنف حتى تراجع ، فقفز أكبر الكلاب حجماً الكلاب تجاه الرجل محاولاً افتراسه في وحشية عجيبة ، تعالى صراخ الصبي ، صاح الأب: ما تخافش يا أحمد .. بينما تلقفت يداه الكلب وسقطا سوياً على الأرض في صراع دام ، التصق الصبي بجذع الشجرة وقد اتسعت حدقتاه من الخوف ، انتابت الكلاب حالة من الذهول وهي تشاهد الصراع الغريب ، فتحلقت حول الرجل والكلب في صمت عجيب إلا من بعض النباح هنا وهناك ، كان الكلب الضخم يحاول الوصول إلى جسد الرجل بأسنانه بينما أخذ الأخير يدفعه عن نفسه ، أمسك الكلب بقميص الرجل بأسنانه وانتزع الجيب العلوي وجزءاً من القميص ، ظهرت الجنيهات العشرة وقماش القميص من بين أسنان الكلب ، وهنا استطاع الرجل أن يطبق على رقبة الكلب بكلتا يديه ، وأخذ يصيح ويزأر في شراسة وعنف كالنمر الجريح ، وماتت يداه على رقبة الكلب الذي أخذ يحاول باستماتة التخلص من قبضة الرجل ، تلاقت عيناهما كما تتلاقى نصال السيوف ولمعت عينا الكلب تحت ضوء القمر الفضي ثم بدأ نورهما يخبو ، وبدأت قواه تخور ، والرجل ما يزال محكماً قبضته على رقبة الحيوان الضخم في عزم لا يلين رغم الإصابات العديدة التي أحدثتها المخالب الحديدية في جسده ووجهه ، اشتدت قوة الرجل حين رأى أن الكلب لا يستطيع التنفس وبدأ يخبط بأقدامه في يأس ، ثم فجأة سكنت حركة الكلب ، دفعه الرجل عنه بصعوبة ، قام عن الأرض في تهالك وإعياء شديدين والدم يقطر من كافة أجزاء جسده ووجهه ، الكلاب ما زالت صامتة مذهولة ، نبح أحدها على الرجل الذي انتصب واقفاً وأعطى ظهره لولده وتناول فرع الشجرة ورفعه إلى الأعلى بكلتا يديه متأهباً للدفاع في بأس عجيب ، أخذ ينظر في عيون الكلاب المحيطة به وبالصبي في صمت وأنفاسه تتلاحق وصدره يعلو ويهبط ، استدارت الكلاب وأخذت تلف وتدور حول نفسها ، ثم أخذت تجري مبتعدة ، ألقى الرجل فرع الشجرة وجلس على الأرض واحتضن صبيه في إشفاق ، بينما ارتمى الأخير في حجر أبيه وأخذ يرتعد في خوف ، قال الرجل وأنفاسه تتلاحق من شدة الإرهاق : إوعى تخاف يا احمد ، الخوف له ريحة بتعرفها الضباع وأكلة الجيف وساعتها مش ح يرحموك ، خليك جامد واوعى تخاف . أخذ يهز صبيه في حنو ويحدثه لبعض الوقت حتى استعاد الصبي رباطة جأشه ، وقام الإثنان ليكملا طريقهما إلى البيت ، ولكن عم محمد توقف فجأة ، واستدار عائداً إلى الكلب الملقى على الأرض ، نزل على ركبتيه وأمسك بفم الكلب بكلتا يديه وفتحه بصعوبة ، وأخرج الجنيهات العشرة في هدوء عجيب ، نظر إليها ، لم يصبها سوء فمسحها وأطبق عليها بكف يمناه ، قام واقفاً ، مد يده للصبي الذي وضع يده في يد أبيه في طمأنينة ودعة ، سار الركب المنتصر ، وعادت تسبيحات الرجل لتبدد وحشة الطريق المقمر .

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...