اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

خطبة الجمعة


Guest Mohd Gramoun

Recommended Posts

  • الزوار

توبك جديد لخطبتي الجمعة من المسجد الحرام و المسجد النبوي.

سيتم نشر الخطب بالتناوب كل يوم جمعة او سبت من كل أسبوع علي أن يكون أسبوع لخطبة المسجد الحرام و الأسبوع التالي لخطبة المسجد النبوي و هكذا.

عنوان الخطبة: شبابنا والإجازة.

و هي تتعلق ب... الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب

اغتنام الأوقات, الأبناء

إمام الحرم: عبد الرحمن السديس

ملخص الخطبة

1- رغبة النفوس في الاستجمام والراحة. 2- نعمة الوقت والعمر. 3- ضرورة التخطيط لحفظ الأوقات. 4- ضرورة العناية بالشباب في الإجازة الصيفية. 5- خطورة الفراغ والبطالة. 6- العناية بتحصين مدارك الشباب. 7- ضرورة تيسير سبل الزواج. 8- وجوب تعاون جميع الجهات للحفاظ على الشباب. 9- الإشادة بالشباب المستقيم. 10- التحذير من السفر إلى الأماكن الموبوءة.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بجماع الخير وملاكِ البرّ، وصيّةِ الله للأوّلين والآخرين وخير ذخرٍ للمؤمنين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [النساء:131]. ومَن كان من أهل التّقى نال الجنانَ العُلا وفاز وارتقى.

أيّها المسلمون، في زَحمة التطلُّعات المتطاولةِ للناس، وفي ظلِّ التّواصل الكونيّ السّريع الموّاجِ بألوانِ السّلوك والطّبائع، وعلى حين فُسحةٍ مِن الوقت ووفرةٍ وانعِطافِ الرّوح إلى جِبِلَّة التبسُّط المشروع تسعى النّفوس الكالّةُ من نمطيّة الأعمال اليوميّة ورتابَة المسؤوليّات الوظيفيّة إلى البَحث عن مواطن الإخلاد إلى الهَدأة والسّكون وارتيادِ مجالَي الاعتبار والادِّكار، إجمامًا للنّفوس واستبضاعًا لقوّتها ومتناهِي نشاطِها، ولئِن كانت أعلامُ الإجازة الصيفيّة قد رفرفت وبنودُها قد خفقَت وتفاوَتَ النّاس في اغتنامِ هذه الفرصةِ الذهبيّة بين ظالمٍ لنفسه وهم كثير ومقتصدٍ وسابِق بالخيرات بإذن الله، فجديرٌ أيّما جدارةٍ بالمسلم الضَّنين بدينِه الشَّحيح بعمره وهو يقابل برامجَ الحياة بين الفراغ والانشغال أن تستوقفَه هذه الدرَّة النفيسة من دُرَر جوامع كلمِه ، وأن تكونَ نصبَ عينَيه وملءَ روحه وشعوره، ألا وهي قوله : ((اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتبع السيِّئةَ الحسنة تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلُقٍ حسن)) خرّجه الترمذي وغيره بسند صحيح[1].

معاشرَ المسلمين، نِعَم الله على عباده لا تُعدُّ ولا تُحصى، وآلاؤه التي أفاضَها عليهم ـ شكرَها من شكرَها وغَفل عنها من غَفل ـ لا تُحَدّ ولا تُستقصَى، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].

ومِن أصول هذه النّعم العُظمى نعمة الوقتِ والعمُر والزّمان، وهذه الكلماتُ التي طاش ميزانها عندَ كثير من النّاس هي التي أغلى الإسلام قيمتَها وثنى الأعناقَ السّادرة إلى أهميَّتها، يقول جلّ شأنه: وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ [الإسراء:12]، وما قَسَمُه سبحانه بأجزاءٍ من الزّمن إلا للفتِ الأنظار ونَهنَهة الأفكار لما اشتملت عليه مِن المنافع والآثار، كالفجر والضّحى والليل والنّهار والعصر.

وفي ذلك كلِّه دلالة واضحةٌ على أن لا شيءَ أنفس من الأعمار، ومَن أضاع وقتَه وتركه نهبَ العوادي كان كمَن بدّد عمرَه، فأفنى دنياه وخسِر آخرتَه، فلا أملاً حقَّق ولا حياةً حفِظ، وندِم حيث لاتَ ساعةَ مندَم، وتمنّى ساعةَ احتضاره ـ وربّما كانت في إقبال عُمُره لا إدباره ـ أن يؤخَّر حتّى يصلِح ما ثَلَم ويرتُقَ ما فتق، وأنّى له ذلك؟! حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ [المؤمنون:99، 100].

ويُعظم هذا الجللَ مَن يجمع إلى ذلك السطوَ على أوقاتِ الآخرين بالتُّرَّهات والسفاسف، يقول : ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النّاس: الصّحّة والفراغ)) أخرجه البخاريّ مِن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما[2].

إخوةَ الإيمان، وممَّا يعين المسلمَ على صيانة وقتِه من الانسراب وحِفظِ عمره من البَعثرة والإهدار والخراب رسمُ خطّة عمليّةٍ تستغرق كلَّ أوقاتِه، مراعيًا الضرورات والحاجيّات والتحسينيّات، قاصدًا إلى مداراتِ الكمال، قاطعًا لنزعات النّفس اللّجوج، داحرًا لنزغات الشّيطان أن تثبّطَه، ومِن بدائع الإمام الشافعيّ التربويّة الحِكَميَّة قولُه رحمه الله: "إذا لم تشغل بفسَك بالحقّ شغلتك بالباطل".

ومَن اتَّخذ مِن حفظِ الوقت أساسًا ومِن اليقظة والاجتهاد نِبراسًا نال الرِّغاب، وولج رياضَ الحقّ والخير والصّلاح مِن أرحب باب، وقد وَرَد في مأثور الحِكم عن بعضِ السّلف رحمهم الله قوله: "مَن أمضى يومَه في غير حقّ قضّاه أو فرضٍ أدّاه أو مَجد أثَّله أو حمدٍ حصَّله أو خير أسَّسه أو علمٍ اقتبسَه فقد عقَّ يومَه وظلم نفسَه"[3].

فهذه إجازتُكم عبادَ الله، فاعمروها ولا تعبروها، اعمروها بالطّاعات، واحذَروا الغفلات المُهلكات. وها هي موارد الخير وميادينُ التّنافس مُشرَعَة كثيرة بحمد الله.

تلكم ـ يا رعاكم الله ـ شَذرة عن نفاسةِ الوقتِ وأهمّيَّته في حياة الفرد والمجتمع والأمّة، ونظرةٌ لما يمثِّله مِن مقياسٍ لارتقاء المجتمعاتِ في معارج الحضارة والعَطاء وسُلَّم الرقيِّ والمجد والنّماء. تلك المجتمعاتُ التي تتعامل مع الأحداث وتداعياتها بالدّقائق والثواني، لا بالتّهاون والتّواني.

إخوةَ العقيدة، ونعطِف بكم ـ يا رعاكم الله ـ لحديثٍ ذي صِلةٍ وثيقة بهذه الإجازة الصيفيّة، ألا وهي الحديث عن شريحة مهمّةٍ من شرائح المجتمَع، وفئة عزيزة غاليةٍ في الأمّة وهم شبابُها ونشؤها وجيلها، وضرورة العناية بتحصينِهم والاهتمام بهم، لا سيّما في أوقات الإجازات، بعدما أفرَزت الأحداث الأخيرة انخداعَ بعض شباب المجتمع بأفكار منحرفةٍ تفسد عقولَهم وتخِلّ بأمن بلادِهم، ممَّا يؤكّد ضرورةَ استثمار أوقاتِ الشّباب وملءِ وقت فراغهم بالبرامج النّافعة التي تعود عليهم وعلى مجتمعِهم بالنّفع في أمور دينهم ودنياهم، وتحذيرهم من مجالسة أصحابِ الأفكار المنحرفة أو السّفر إلى بقاع موبوءة، كما يحتِّم على أولياء أمورهم متابعةَ تحرُّكاتهم، ومراقبة تصرُّفاتِهم وما يطرأ عليها من جنوحٍ أو تغيير، بإيجاد آليّة للحوار البنَّاء معهم الممزوجِ بحدب وحنانِ الأبوّة، وفقًا للضّوابط الشرعيّة والإمكانات الاجتماعيّة والأسريّة.

أمّةَ الإسلام، إنّه نتيجةً للفراغ المستبدّ بكثير مِن أطياف المجتمَع وفئامِ الأمة وغياب الرّقابة الأسريّة ظهَرت انحرافات فكريّةٌ مقلِقة، أحدقت بالشّباب، وعصفت بكثيرٍ منهم في بيداء المسكِرات ومستنقعاتِ المخدِّرات واقتراف الجريمة، في لونٍ من ألوانِ التّغريب والتفلُّت من القيَم والثّوابت، وانسياقٍ محموم وراء شعاراتِ التقليد والتبعيّة بدعوى الحريّة والمدنيّة، واللّهث خلفَ سراب انفتاحٍ غير منضبط وعولمةٍ ثقافيّة مفضوحة. واستحوذَ على طائفةٍ أخرى الانحراف الفكريُّ الذريع، فعمدوا إلى الغلوّ والعنف والإرهاب، حتّى غدَوا كالدّاء العُياء في جسدِ الأمّة، وكالسّم الزّعاف في مطعمِها المَريء، بل وصل الإجرام ذِروتَه بتفخيخ المصاحف واستخدامِ المساجد عياذًا بالله. وممَّا زادَ الأمرَ ضغثًا على إبالَة الإرهابُ والإلحادُ في حِمى الحرمَين الشريفين حرسهما الله وأدام أمنهما. وإذا التاثت فطرةُ الشخص وبات صاحبُها مصدرَ عدوان وخلخلةٍ لأمن مجتمعه وزعزعةٍ لاستقراره الذي قابَل عدلَه بالظّلم وإصلاحَه بالفساد فلا غروَ أن يلقى جزاءَ الشّرع فيه، تحصينًا للمجتمع وأفراده مِن الجريمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولولا العقوبةُ التي فرضها الله على الجُناة والمفسدين لأهلك الناسُ بعضهم بعضًا، وهي لا تتمّ إلا بمؤلمٍ يردعهم، ويجعل الجانيَ نكالاً وعِظةً لمن يُريد أن يفعلَ مثلَ فعله".

يُساقُ ذلك ـ أيها المسلمون ـ بعد أن ضربتِ الفتنة بكلكَلِها المظلِم، فأسفرت عن الفواجع والجرائم والدواهي والعظائم التي قطّعت الأكبادَ وبخعتِ النّفوسَ وأدرّت ماءَ الشّجون، فنحورُنا منها بدموعِنا تتخضَّب. ومِن الأسَى العميق أن كان وقودها شبابًا أغرارًا، ممّا أهاج الغيورَ إلى القول بوجوب تحصين المجتمع بالأمن الفكريّ، وفي المقام الأعلى فئة الشّباب؛ لأنّهم الصّياصي الشاهقة للأمّة وحصونُها المنيعة، ولأنّ مرحلة الشباب كما أنّها من أبهى وأزهى مراحل العُمُر فهي مِن أخطرها وأمضاها كذلك.

وممَّا يجب الاهتمامُ به وإيلاؤه أوفرَ العناية في هذه الآونة العصيبة تحصينُ مدارك الشّباب وثقافاتهم بأحكامِ الحدود الشرعيّة، كتحريم قتل النفس المعصومة وحكمِ الاعتداء على المعاهدين وأهلِ الذمّة وخطورة أمرِ التّكفير وإطلاق الأحكام جُزافًا ومفاهيم الجهادِ الشرعيّ وعدم الخلطِ بينه وبين ما يُظَنّ منه من صُوَر الإفساد في الأرض وحكمِ ترويع الآمنين وانتهاك حرماتِهم وسلب أموالهم وحكمِ المخدِّرات وشربها وتعاطيها وترويجها، حمايةً لهم ولمجتمعاتِهم وأمّتهم من أَنصاف المتعلِّمين وسهام المغرضين وشِباك الخصوم الحاقدين.

وممَّا يعين على تحصين الشّباب ويُعَدّ من القضايا الاجتماعيّة المهمّة التي تُطلُّ بهامتِها في الإجازةِ الصيفيّة وتُسهِم انحراف الشّباب وزعزعة استقرارهم النّفسيّ والاجتماعيّ ما يتعلّق بموضوع الزّواج وما أُحيط به من عقباتٍ كأداء كغلاءِ المهور والتكاليف والسّهر إلى هزيعٍ مِن الليل والإسراف والتّباهي بالمظاهر البرّاقة، مع التمسُّك بالموروثات البائِدة ممّا لا يقرّه شرع ولا يقبله عقلٌ ولا منطِق، فالزّواج بلا ريب مدعاةٌ للمسؤولية والاتّزان، وكابحٌ لعنان الشّباب النَّزِق.

كذلك صيانتُهم من صُوَر التحلّل الأخلاقيّ كالدّعة والتّرف والمُيُوعة والارتماء على قارعةِ الأرصِفة والطّرقات وذرع المقاهي والشّوارع والتسكُّع في الأسواقِ كمَهَل النّعَم دونَ أزِمّة أو خُطُم، وترك الحبل على الغارب لهم في مشاهدةِ سموم وعَفَن الفضائيّات والاطّلاع على فضائح وقبائِح شبكاتِ المعلومات دون حسيبٍ ولا رقيب، سواءٌ الفتيان والفتيات، ممّا يجب تحصينُ الشّباب منه، وغيابُ الرّقابة الأسريّة عن هذا السّلوك المشين خطأٌ كبير، بل وقتّال ربَما، والله عزّ وجلّ يقول: يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، والمصطفى عليه الصلاة والسّلام يقول: ((كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) خرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما[4].

أمّةَ الإسلام، وبعد تشخيصِ الدّاء فإنّ وصفةَ الدواء والعلاج للجنوح الشبابيّ الفكريّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ تصرَف عبر مؤسّسات المجتمع العلميّة والإعلاميّة كلٌّ جَهدَ طوقِه وإخلاصِه، في ظلّ الدّعوة السلفيّة المعتدِلة، والعِبء في ذلك يقع على عاتق العلماء والدّعاة ورجال التّربية والإعلام وحملةِ الفكر والأقلام، انتشالاً للجيل من حَومَة التفسّخ والضّياع، وأخذًا بحُجَزهم عن الهُويِّ في سراديب الأفكار النّشاز، وإحباطًا لخُطَط الخصوم الذين يتّخذون الأحداثَ غَرضا وهدفًا لتحقيق مآربهم المشبوهة.

وبالتّوجيه الرفيق والتّرشيد اللطيف الرّقيق وتلاحُم أفرادِ الأسرة والمجتمع مع أبنائهم وفتح قنواتِ الحوار الهادئ الهادِف وتهيئة الفُرَص الوظيفيّة لهم حمايةً لهم مِن الفراغ والبطالة وتعاونِ الجهات المسؤولة مع ذوي اليَسار ورجال الأعمال واضطلاع وسائلِ الإعلام والقنوات الفضائيّة والشبكات المعلوماتيّة بدورها التربويّ في ذلك كلِّه يتحقَّق للمجتمع ما يصبو إليه من آمن واستقرارٍ ونماء وازدهار.

فإلى كلِّ أبٍ وأمّ ومُربٍّ وداعية ومعلِّمٍ وإعلاميٍّ، اللهَ اللهَ في تحصين الجيل واحتضان النشء وحِراسة الشباب من المؤثِّرات العقديّة واللوثات الفكريّة والتجاوزات السلوكية، نشِّئوهم على الحِفاظ على دينهم وصيانةِ عقيدتهم وسلامةِ أخلاقهم، عمِّقوا فيهم مفاهيمَ الولاء لدينهم والتّلاحم من ولاتِهم وعلمائِهم، وأن يكونوا أعيُنًا ساهرةً لحِفظ أمن بلادهم، مراعين في ذلك سلامةَ أسلوب الخِطاب وتوجيهه إلى العقول والمدارك، بكلّ منطِق وموضوعيّة ووضوحٍ وشفافيّة، في طرحٍ متَّزنٍ وفِكر نيِّر ونظرٍ ثاقب ورؤًى صادِقة، بعيدًا عن تشنّجات وعواصف العواطِف وقواصِم العواصم، رائدُ الجميع ذلك الإخلاص والصفاءُ وعُمق الولاء وصِدق الانتماء، وقبل ذلك وبعدَه عونُ الله وتوفيقه وفضله وتسديده، وحينئذ يسعَد الشباب ويُسعِدون، ويصلُحون ويصلِحون، ويحقِّقون لمجتمعِهم وأمّتهم ما إليه ترنو وإليه يصبون، وسنصِل وإيّاهم إلى موردٍ من الرِّيّ لا غُصَصَ فيه بإذن الله، وصمامٍ من الأمان لا خوفَ معه بتوفيق الله.

أيّها الأحبة الأكارم، وما كان بِدعًا أن نوليَ أحبّتنا الشبابَ هذا الحديثَ الممزوجَ بالألم والأمَل، وهم نشءُ الخير وعدّة الحاضِر وبسمة المستقبَل وشَذَاه العاطر، وإنَّ أمَّةً لا تولي قضايا شبابها جُلَّ اهتمامها فما هي في الحِرز الحريز، وأمّةً لا تسعى للحنُوّ والعطفِ على شبابها فليست في الذُّرى العزيز، وبالعمَل بهذه التّوجيهات المباركة يحصَّن الشباب في إجازاتِهم من لوثات الفِكر وتبديد الزّمان، وكان الله في عون المخلصين العاملين لخير دينهم وأمّتهم ومجتمعهم، إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشرة الناس (1987)، والدارمي في الرقاق، باب: في حسن الخلق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).

[2] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412).

[3] انظر: فيض القدير (6/288).

[4] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر... (1829).

الخطبة الثانية

الحمد لله، عالمِ السرِّ والخفيّات، وفَّق من شاء إلى اغتنام الأوقاتِ في الباقيات الصّالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتضوّع بها عبيرَ الجنان الخالدات، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خير الهداة والدّعاة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمّة الثقات، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، وليكن منكم على بالٍ أنّ سقطاتِ الشباب وعثراتِه لا تُحمَل قطعًا على العموم والشّمول، ولا تدعو إلى فَقد الثّقة والإحباط، بل يتعيّن هنا أن نذكرَ بكثير مِن الغبطة والابتهاج أنَّ الشباب المستقيم المستمسكَ بعُرى دينه السّائرَ على صراط الهدى والاعتدال هم الأكثر بحمد الله وفضلِه، ممَّا يؤكّد عدمَ الخلط بين مفاهيم الغلوّ المذموم والحرص المشروع على الالتزام بالسّنّة باطنًا وظاهرًا. وبهذا يُسَدّ الطريق أمام المرجفين والمخذِّلين ومَن يحاولون جرَّ الأحداث إلى خِدمة مآربَ مشبوهة، وقيعةً في الصالحين وسخريّة من المتديِّنين ونيلاً من مناهجنا الشرعيّة ومؤسّساتنا الاحتسابيّة، أو المساس بثوابت الأمّة وقيَم المجتمع. ولكُم في شباب هذه الدّيار المباركة وريثِي الدّعوة الإصلاحية السلفيّة المعتدلة والتفافِهم حول علمائهم وقادتهم خيرُ برهان في خير طَرَز وشامَة ومنظومة متألّقة في رغدٍ وعلوّ هامَة، منّةً من الله وفضلاً، وعند أهل الحديث: "الشاذّ يُحفَظ ولا يُقاس عليه".

أيّها المسلمون والأولياء، وجِّهوا الشبابَ إلى ميادين المجد والرّفعة، واعلموا جميعًا أنَّ الأصل في حياة المسلم الجدّ والحزم، ولا بأسَ بالترفيه المشروع والترويح المُباح في حدود الضّوابط الشرعيّة، ليعلمَ النّاس أنّ في ديننا فسحةً بحمد الله.

وممَّا يحسُن الإيصاء به تحذيرُ الأبناء من السّفر خارجَ هذه الجزيرة الفيحاء وديار الإسلام الشمَّاء التي حباها الباري جلّ في علاه بكلّ ما ترنو إليه النفوس من جمالِ الطبيعة الفتّان ومنتجعات الاصطياف العفيف، وأطرُهُم على ذلك أطرًا.

كذلك حثُّهم على تحصيل العلوم والمعارفِ والالتحاق بالدّروس العلميّة والدورات الشرعيّة والمراكز الصيفيّة التي يقوم عليها نخبةٌ وكوكبة من أهل الخير والصلاح، والاشتغال بحفظ كتابِ الله والسّنّة النبويّة العطرة، وثنيُهم إلى الانكباب على المطالعة الحرّة في كتُب السّيَر والتاريخ والآداب وغيرها، ونِعمَ الجليس والأنيس الكتاب، قيدُ الحِكَم وينبُوع المكارم، مع تشجيع ملكاتِهم وتنمية قدراتِهم وشغلِ طموحاتهم والسّعي في كلِّ ما مِن شأنه شغل أوقاتهم وإذكاء مواهبهم وطاقاتهم التي تعودُ عليهم وعلى مجتمعِهم بالنّفع والفائدة.

أيّها المسلمون، وممّا تتهلّل له سُبُحات وجوهِ المؤمنين أن يسّر الله سبحانه لكثير مِن المسلمين جعلَ زيارة الحرمَين الشريفين في أولوياتِ برامجهم الصيفيّة، وهذه منّةً عظمى، غيرَ أنّ ثمّة ملحظًا مهمًّا لزوّار المسجدِ الحرام في حثّهم على تعظيم هذا الحرَم المقدّس وهذه العرصات المباركة، والحفاظ على أمنِها واستقرارها، ولزوم السّكينة والآداب فيها، والمحافظة على طهارتها الحسيّة والمعنويّة، وتنزيهها عن كلّ المخالفات.

ونخصّ الأخواتِ المسلمات بلزوم الحجابِ الشرعيّ السابغ، واجتناب الطّيب والتبرّج بالزّينة، وامتثال الحياء والاحتشام، لتكونَ مأجورةً غير مأزورة، والله وحده وليّ التوفيق والسّداد.

هذا، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أغضَّ الكلام على التّكرار لفظًا وأنفعَه وعظًا كلامُ مَن أنزل القرآن وتولاّه من التحريف حِفظا، القائل في محكَم قيله وأصدق تنزيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمَّ صلّ وسلِّم وبارك على سيِّد الأوّلين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغرِّ الميامين وأزواجِه الطاهرات أمّهات المؤمنين، والتّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...

رابط هذا التعليق
شارك

  • الزوار

عنوان الخطبة: الدين النصيحة

الشيخ : علي عبد الرحمن الحذيفي

أمام الحرم النبوي - المدينة المنورة

18/5/1424

ملخص الخطبة

1- فضل كلام الله وكلام رسوله . 2- من جوامع كلمه . 3- منزلة النصيحة في الإسلام. 4- تعريف النصيحة. 5- النصح من صفات الأنبياء والمؤمنين. 6- معنى النصيحة لله تعالى. 7- معنى النصيحة لكتاب الله تعالى. 8- معنى النصيحة لرسول الله . 9- معنى النصيحة لأئمة المسلمين. 10- معنى النصيحة لعامة المسلمين. 11- تذكير باليوم الآخر.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتّقوا الله واخشَوه، ومن يَخْش اللّهَ وَيَتَّقه فأولئك همُ الْفائِزون.

أيّها المسلمون، إنَّ خيرَ ما وُعِظت به القلوب وهُذِّبت به النّفوس آياتٌ مِن كتاب الله تعالى أو أحاديث من كلام رسول الله ، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَـٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].

فألقوا الأسماعَ، وافتَحوا القلوب، وتفكّروا بالعقول في كلماتٍ معدودات لسيّد البشر محمّد ، جمعت الدّينَ الإسلاميّ كلَّه، واستوعبت مصالحَ الدين والدّنيا، فما مِن خير إلاّ تضمّنته هذه الكلمات، ولا شرٍّ إلا حذّرت منه؛ لأنّ نبيّنا أوتيَ جوامعَ الكلِم واختُصر له الكلامُ اختصارًا، فألفاظه القليلةُ جمعت المعانيَ النّافعة العظيمةَ الكثيرة، وقد تكون الكلمة الواحدةُ متضمِّنةً الإسلامَ بتعاليمه كلِّها، كقوله : ((الإحسان أن تعبدَ الله كأنّك تراه)) رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه[1]، وقوله : ((البرّ ما اطمأنّت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النّفس وتردّد في الصّدر وكرِهت أن يطّلعَ عليه النّاس وإن أفتاك النّاس)) رواه أحمد وروى مسلم بعضه[2].

ومِن جوامع كلِمِه النّافعة المباركة قوله : ((الدّين النصيحة، الدّين النصيحة، الدّين النصيحة))، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامَّتِهم)) رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه[3].

وهذا الكلام النبويّ المبارك فيه حصرٌ وفيه قصر، بمعنى أنّ الدين محصور ومقصور في النّصيحة، فمن اتّصف بالنّصيحة فقد أحرَز الدينَ كلَّه، ومن حُرم النصيحةَ فقد فاته من الدين بقدر ما حُرم من النصيحة.

وتفسير النّصيحة هي القيامُ بحقوق المنصوح له مع المحبّة الصادقةِ للمنصوح له، والحقوقُ تكون بالأقوال وتكون بالأفعال وإراداتِ القلب، قال الأصمعي رحمه الله: "النّاصح الخالص من الغلّ، وكلّ شيء خلُص فقد نصَح"[4]، وقال الخطابيّ: "وأصل النّصح في اللّغة الخلوص، يقال: نصحتُ العسلَ إذا خلّصه من الشّمع"[5].

والنّصح من صفاتِ الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، والغشّ والخداع والمكر وفسادُ النوايا من صفات الكفّار والمنافقين، قال الله تعالى عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام: أُبَلّغُكُمْ رِسَـٰلـٰتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:62]ومعنى الحديث أنّ هذه الخلال الثلاث تصلح القلوبَ وتطهّرها من الخيانة والغلّ والخبائث.

وصُلحاءُ هذه الأمّة هم المتّصفون بالنصيحة لله ولكتاب الله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، قال أبو بكر المزنيّ رضي الله عنه: "ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحابَ رسول الله بصوم ولا بصلاةٍ، ولكن بشيء كان في قلبِه"، قال: "الذي كان في قلبه الحبّ لله عز وجلّ والنصيحة في خلقه"[9]، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "ما أدرك عندنا مَن أدرك بكثرةِ الصّلاة والصّيام، وإنّما أدرك عندنا بسخاوةِ الأنفس وسلامةِ الصدر والنّصح للأمّة"[10]، وسئل ابن المبارك رحمه الله: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: "النّصح لله"[11]، وقال معمر: كان يقال: "أنصحُ الناس لك من خاف الله فيك"[12]، وقال بعض السلف: "من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوسِ النّاس فإنما وبّخه"[13].

ومعنى النّصيحة لله تعالى هي عبادتُه وحدَه لا شريك له بإخلاصٍ ومتابعة للهدي النبويّ مع كمال الذلّ والخضوع والمحبّة لله عز وجل، وعدمُ الإشراك به في الدعاء أو الذبح أو النّذر أو الاستعانة أو الاستعاذة أو الاستغاثة أو التّوكّل أو الرّجاء أو الرّغبة أو الرّهبة أو أيّ نوع من أنواع العبادة لقول الله تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].

والنّصيحة لله تعالى هي الإيمان بصفاتِه جلّ وعلا التي وصف بها نفسَه أو وصفه بها رسوله ، وإثباتُها كلِّها لله إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهُه عزّ وجلّ عمّا لا يليق به تنزيهًا بلا تعطيل للصفات، واعتقادُ توحُّده وتفرُّده سبحانه بالخلق والتّدبير وتصريف الكونِ في الدّنيا والآخرة، لقوله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـٰلَمِينَ [الأعراف:54]

ومِن النّصح لله تعالى محبّة ما يحبّ الله تعالى من الأقوال والأفعال، وبغضُ ما يبغضه الله تعالى من الأقوال والأفعال.

قال بعض أهل العلم: "جماعُ تفسير النّصيحة هو عنايَة القلب للمنصوح له مَن كان، وهي على وجهين: أحدهما فرض، والآخر نافلة. فالنّصيحة المفترضة لله هي شدَّة العناية من النّاصح باتباع محبّة الله في أداء ما افترض ومجانبةِ ما حرّم. وأمّا النصيحة التي هي نافلة فهي إيثار محبَّته على محبّة نفسه، وذلك أن يَعرِض أمران: أحدهما لنفسه والآخر لربّه، فيبدأ بما كان لربِّه ويؤخِّر ما كان لنفسِه"[16].

وأمّا معنى النّصيحة لكتاب الله تعالى فشدّةُ حبِّه وتعظيمُه وشدّة الرّغبة في فهمه والعنايةُ بتدبُّره والاهتمام بحفظه بقدر الاستطاعة وبقدر ما يوفِّق الله تعالى ويعين ومداومة تلاوته والتخلُّق بآدابه والتّحاكم إليه ودعوة النّاس إلى العناية به تعلُّمًا وتعليمًا.

وأمّا معنى النّصيحة لرسول الله فطاعةُ أمره واجتناب نهيِه وتصديق أخباره وعبادة الله بشرعه ونُصرة سنّته، والعناية بهديه تعلُّما وتعليمًا، وبُغض من يكرَه سنّتَه، والاقتداء به ظاهرًا وباطنًا ومحبتُه أكثرَ من النفس والمال والأهل والولد، والردُّ من العلماء على الأهواء المضلّة بالكتاب والسنّة والذبُّ عن سنّة رسول الله .

ومعنى النّصيحة لأئمّة المسلمين الدعاءُ لهم بالصّلاح وحبُّ صلاحهم وحبُّ عدلهم ورشدهم وحبُّ اجتماع الكلمة عليهم ومحبةُ نشر حسناتهم وبُغض ذكر مثالبهم وطاعتُهم في طاعة الله ومحبةُ إعزازهم وعدمُ الخروج عليهم بالأقوال أو الأفعال وبُغض من يرى الخروجَ عليهم ومناصحتُهم فيما يعود على الأمّة بالخير في دينهم ودنياهم بالرّفق والحكمة والإخلاص لله تعالى وعدمُ الدعاء عليهم.

وأمّا معنى النّصيحة لعامّة المسلمين فأن يحبَّ لهم ما يحبّ لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ويرحم الصغير منهم ويوقّر الكبير ومعاونتُهم على الحقّ وتعليمُهم وأمرُهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وأن يدفعَ عنهم الأذى والمكروهَ والأخطار التي تهدِّدهم، ومِن أعظم الأخطار الكبيرة وأكبر الشرور النازلة بالأمّة ما وقع من أعمالٍ تخريبيّة وإرهابيّة استحلّت الدمَ الحرام والمالَ الحرام وروَّعت الآمنين واستهدفت الأمنَ والاستقرار، نبعت من فكر تكفيريٍّ خارجيّ عاثَ في الأرض فسادًا، ذمَّه الرسول أشدَّ الذمّ، فمِن النصيحة لعامّة المسلمين اجتثاثُ هذا الفكر التكفيريّ وتحذيرُ المسلمين منه ورفعُ من عُلِم عنه الإعداد لهذا التخريب والإفساد للسّلطات ليلقى جزاءَه، وليكفَّ شرَّه عن الدّماء المعصومة والأموال المحرّمة، ولا يجوز التستُّر عليه بحال. والنّصحُ للمسلمين حمايتُهم من كلّ ضرر في عقيدتهم ودينهم ودنياهم، والخوارجُ يفسِدون الدّينَ والدّنيا.

بسم الله الرحمن الرحيم: يٰأَيُّهَا الذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:24، 25].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (8).

[2] أخرجه أحمد (4/227، 228)، وأبو يعلى (1586، 1587)، والطبراني في الكبير (22/147، 148) من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه بنحوه، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/351)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1734): "حسن لغيره". ويشهد له حديث مسلم في البر (2553) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بنحوه.

[3] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (55).

[4] انظر: تفسير القرطبي (7/234).

[5] انظر: جامع العلوم والحكم (ص79).

[6] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).

[7] صحيح مسلم: كتاب السلام (2162).

[8] أخرجه أحمد (4/80، 82)، وابن ماجه في المناسك (3056)، والبزار (3417)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني في الكبير (2/126، 127)، وصححه الحاكم (294، 295، 296)، وقال الهيثمي في المجمع (1/139): "في إسناده ابن إسحق عن الزهري وهو مدلس، وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري ورجالها موثقون". وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2480). وصححه ابن حبان (67، 680) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال الحاكم: "وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم وغيرهم عدة"، ومنهم: أبو سعيد الخدري وأبو الدرداء والنعمان بن بشير وأبوه بشير وأبو قرصافة وجابر رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (1/137-140). وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة.

[9] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81).

[10] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/103)، والبيهقي في الشعب (7/439).

[11] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81).

[12] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81-82).

[13] انظر: جامع العلوم والحكم (ص82).

[14] عزاه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص78) لابن أبي الدنيا.

[15] مسند أحمد (5/254)، وأخرجه أيضا الروياني (1193)، والطبراني في الكبير (8/206)، وأبو نعيم في الحلية (8/175)، والبيهقي في الزهد الكبير (702)، وأشار المنذري في الترغيب (2/362) إلى ضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (1/87): "فيه عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد وكلاهما ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4032).

[16] انظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/691).

الخطبة الثانية

الحمد لله ربّ العالمين، القويّ المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقّ المبين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، واخشوا يَومًا تُرجعُون فيهِ إِلى اللَّه ثمَّ توَفَّى كلُّ نفسٍ ما كسَبت وهم لا يُظلمون.

وتمسكوا بوصيّة سيٍِّد البشر لمعاذ رضي الله عنه لمّا قال له: ((اتَّق الله حيثما كنت، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالق النّاس بخلقٍ حسن))[1].

فإنّ لكلّ حسنةٍ ثوابًا، ولكلّ سيّئة عقابًا، فربّكم قائمٌ على كلّ نفس بما عمِلت، يُحصي على الخلقِ أعمالَهم، ثمّ يدينهم عليها، ويقول في الحديث القدسي: ((يا عبادِي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفِّيكم إيّاها، فمن وجدَ خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه))[2].

وكلّ إنسانٍ يلقى كتابَه، فآخذٌ بيمينه، وآخذٌ بشماله، قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَـٰمَةِ كِتَابًا يَلْقَـٰهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، فأعدُّوا لهذا اليوم، وقدِّموا لأنفسِكم أفضلَ ما تقدرون عليه من العمل.

عبادَ الله، إنّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]

فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

اللهمَّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).

[2] جزء من حديث أبي ذر القدسي الطويل في تحريم الظلم، أخرجه مسلم في البر (2577).

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 5 أسابيع...
  • الزوار

عنوان الخطبة: حقيقة العطاء من الله تعالى

فضيلة الشيخ: أسامة خياط إمام المسجد الحرام في مكة المكرمة

24/6/1424

ملخص الخطبة

1- كثير من الخلق يخطئون في معرفة حقيقة العطاء. 2- العطاء من الله تعالى لخلقه قد يكون عطاء بذل وقد يكون عطاء منع وحجب. 3- لكل عطاء من الله تعالى حكمة قد يعلمها المُعطَى وقد تخفى عليه. 4- بيان المراد بالدنيا التي جاءت النصوص بذمها.

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه فإنه سبحانه يعلم السرَّ وأخفى، ولا تغرنكم الحياة الدنيا, ولا يغرنكم بالله الغرور.

أيها المسلمون، في غمرة السعي إلى إدراك المنى وبلوغ الآمال والظفر بالرغائب يغفل أو يتغافل فريق من الناس أن عاقبة هذا السعي لن تكون وفق ما يأمُل على الدوام، ولذا فإنه حين يقع له بعض حرمانٍ مما يحب، وحين يُحال بينه وبين ما يشتهي تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه, ويُزايله رشده فيُفضي به ذلك إلى التردي في وهدة الجحود لنعم الله السابغة ومننه السالفة، فيصبح ويمسي مثقلاً بالهموم, مضطرب النفس, لا يهنأ له عيش ولا تطيب له حال.

وإن الباعث على هذا ـ أيها الإخوة ـ هو الخطأ في معرفة حقيقة العطاء وحقيقة المنع, وتصور أنهما ضدان لا يجتمعان, ونقيضان لا يلتقيان.

من أجل ذلك كان للسلف رضوان الله عليهم في هذا الباب وقفات محكمات لبيان الحق والدلالة على الرشد والهداية إلى الصواب، فقد نقل الإمام سفيان الثوري رحمه الله عن بعض السلف قوله: "إن منع الله عبده من بعض محبوباته هو عطاءُ منه له؛ لأن الله تعالى لم يمنعه منها بخلا، وإنما منعه لطفاً"، يريد بذلك أن ما يمن الله به على عبده من عطاء لا يكون في صورةٍ واحدةٍ دائمةٍ لا تتبدل, وهي صورة الإنعام بألوان النعم التي يُحبها ويدأبُ في طلبها، وإنما يكون عطاؤه سبحانه إلى جانب ذلك أيضاً في صورة المنع والحجب لهذه المحبوبات؛ لأنه وهو الكريم الذي لا غاية لكرمه ولا منتهى لجوده وإحسانه, وهو الذي لا تعدل الدنيا عنده جناح بعوضة كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه بإسناد صحيح عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء))[1].

إنه سبحانه لم يكن ليمنع أحداً من خلقه شيئاً من الدنيا إلا لحكمةٍ بالغة وتقديرٍ عليم ومصالح قد تخفى على أكثر الناس، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله إذا أحبَّ عبداً حماه عن الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء))[2].

ويشهد لهذا أيضاً كما قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله: "أن الله عز وجل حرَّم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه, وادَّخره لهم عنده في الآخرة، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) أخرجه الشيخان في صحيحهما[4].

وفي الصحيحين أيضاً من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة, ولا تأكلوا في صحافها, فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة))[5].

وأخرج الشيخان في صحيحهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة))[6]. هذا مع أنه شتان بين خمرٍ لذةٍ للشاربين, لا يُصدعون عنها ولا يُنزفون, وتلك هي خمر الآخرة، وبين خمرةٍ هي ضغث من عمل الشيطان يريد أن يوقع بها العداوة والبغضاء بين المؤمنين, ويصدهم بها عن ذكر الله وعن الصلاة, وتلك هي خمر الدنيا.

وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لو لا أن تنقص حسناتي لخالطتكم في ليِّن عيشكم, لكني سمعت الله عيَّر قوماً فقال: أذهبتم طَيّبَـٰتِكُمْ فِى حَيَـٰتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا).

وإن الواقع الذي يعيشه كل امرئٍ في حياته ليقيم الأدلة البينة والبراهين الواضحة على صحة وصدق هذا الذي نقله سفيان رحمه الله، فكم من مأملٍ ما لو بلغ أمله لكانت عاقبة أمره خُسرا, ونهاية سعيه حَسْرةً وندماً، وكم من حريصٍ على ما لو ظفِرَ بما أراد لأعقبه ظَفَرُه هزيمةٍ يجر أذيالها, ويتجرع مرارتها, ولذا وجه سبحانه الأنظار إلى حقيقة أن المرء كثيراً ما يُحب من حضوض الدنيا ما هو شرٌ له ووبال عليه, ويكره منها ما هو خيرٌ له وأجدرُ به فقال عز اسمه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

ونهى سبحانه نبيه صلوات الله وسلامه عليه عن النظر إلى ما مُتع به المترفون ونظراؤهم من النعيم مبيناً له أنه زهرة ذابلة, ومتعة ذاوية, امتحنهم بها وقليل منهم الشكور, فقال تبارك وتعالى: وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوٰجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ [طه:131].

وإذن فليس بدعاً ـ أيها الإخوة ـ أن يكون منعُ الله الإنسان من بعض محبوباته عطاءً منه له؛ لأنه منع حفظٍ وصيانةٍ وحماية, وليس منعَ حجب أو بُخلٍ أو حرمان.

وصدق الله إذ يقول: اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الأَمْوٰلِ وَالأَوْلْـٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللَّهِ وَرِضْوٰنٌ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] في الزهد, باب ما جاء في هوان الدنيا على الله (2320).

[2] أخرجه الترمذي في الطب, باب ما جاء في الحمية (2036), وابن حبان في صحيحه (الإحسان:2/443).

[3] المستدرك (4/231) وصحح إسناده.

[4] أخرجه البخاري في اللباس, باب لبس الحرير... (5832), ومسلم في اللباس والزينة, باب تحريم استعمال إناء الذهب...(2073) من حديث أنس بن مالك.

[5] أخرجه البخاري في الأطعمة, باب الأكل في إناء مفضض (5426), ومسلم في اللباس والزينة, باب تحريم استعمال إناء الذهب...(2067).

[6] أخرجه البخاري في الأشربة, باب قوله تعالى: إنما الخمر والميسر... (5575), ومسلم في الأشربة, باب عقوبة من شرب الخمر (2003).

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا عباد الله، لقد بين أهل العلم أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى تمامها الذي هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله جعلهما خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.

وعن عيسى عليه السلام أنه قال: ((إن هذا الليل والنهار خِزانتان فانظروا ما تضعون فيهما))[1].

وليس الذم أيضاً راجعاً إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مِهاداً وسكنا, ولا إلى ما أودعه الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن, ولا إلى ما أنبته فيها من الزُّروع والأشجار, ولا إلى ما بث فيها من الحيوان وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما جعل لهم فيه من المنافع وما لهم به من اعتبار واستدلالٍ على وحدانية خالقه وقدرته وعظمته.

وإنما الذم الوارد لها راجع إلى أفعال بني آدم فيها؛ لأن غالب هذه الأفعال واقع على غير الوجه الذي تُحمد عاقبته, وتؤمن مغبته, وترجى منفعته.

فاتقوا الله عباد الله, وابتغوا فيما آتاكم الله الدار الآخرة, ولا تنسوا نصيبكم من الدنيا.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (2/295).

رابط هذا التعليق
شارك

  • الزوار

عنوان الخطبة: عظم الإخلاص وخطر الرياء

الإمام: عبد المحسن القاسم

24/6/1424

المسجد النبوي

ملخص الخطبة

1- أهمية الإخلاص. 2- فوائد الإخلاص ومنافعه. 3- فضل النية الصالحة. 4- خطر الرياء وعاقبته. 5- تصحيح بعض المفاهيم في باب الإخلاص. 6- أسباب حفظ العمل من الرياء والعجب. 7- من علامات الإخلاص وإماراته.

الخطبة الأولى

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فالعز في طاعة المولى، والذل في اتباع الهوى.

أيها المسلمون، القلوب لا تطمئن إلا بالله، وغنى العبد بطاعة ربه والإقبال عليه، ودين الحق هو تحقيق العبودية لله، وكثيراً ما يخالف النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد تحقيق عبوديتها لله، وإخلاص الأعمال لله أصل الدين، وبذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في قوله: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينِ [الزمر: 2].

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن عبادته قائمة على الإخلاص فقال له: قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ [الزمر:11].

وبذلك أمرت جميع الأمم قال جل وعلا: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوٰةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ [البينة:5].

وأحق الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة من كان أخلصهم لله, قال أبو هريرة رضي الله عنه : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: ((من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) رواه البخاري[1].

والإخلاص مانع بإذن الله من تسلط الشيطان على العبد, قال سبحانه عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83].

والمخلص محفوظ بحفظ الله من العصيان والمكاره، قال سبحانه عن يوسف عليه السلام: كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

به رفعة الدرجات وطرق أبواب الخيرات يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تُخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة)) متفق عليه[2].

وإذا قوي الإخلاص لله علت منزلة العبد عند ربه، يقول بكر المزني: "ما سبقنا أبو بكر الصديق بكثير صلاةٍ ولا صيام, ولكنه الإيمان وقر في قلبه والنصح لخلقه".

وهو سببٌ لتفريج الكروب, ولم ينجّ ذا النون سوى إخلاصه لمعبوده: لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّـٰلِمِينَ [الأنبياء:87].

المخلص لربه مجاب الدعوة, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((انطلق ثلاثة نفر مما كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه, فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال كل واحد منهم متوسلاً إلى الله بصالح عمله وإخلاصه: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت فخرجوا يمشون)) متفق عليه[3].

بتجريد الإخلاص تزول أحقاد القلوب وضغائن الصدور، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين)) رواه أحمد[4].

والإخلاص شرطٌ في قبول توبة المنافق، قال عز وجل: إِنَّ الْمُنَـٰفِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:145، 146].

في الإخلاص طمأنينة القلب وشعورٌ بالسعادة وراحة من ذل الخلق، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "من عرف الناس استراح" أي: أنهم لا ينفعونه ولا يضرونه.

وكل عمل لم يقصد به وجه الله طاقة مهدرة وسراب يضمحل، وصاحبه لا للدنيا جمع ولا للآخرة ارتفع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً, وابتغي به وجهه)) رواه النسائي[5].

وإخلاص العمل لله وخلوص النية له وصوابه أصل في قبول الطاعات يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قولٌ وعملٌ ونية إلا بما وافق السنة)[6].

والإخلاص أن تكون نيتك لله لا تريد غير الله، لا سمعة ولا رياء ولا رفعة عند أحد ولا تزلفاً ولا تترقب من الناس مدحًا ولا تخشى منهم قدحا، والله سبحانه غني حميد لا يرضى أن يشرك العبد معه غيره، فإن أبى العبد إلا ذلك رد الله عليه عمله، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي، قال الله عز وجل: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) رواه مسلم[7].

أيها المسلمون، العمل الصالح وإن كان كثيراً مع فساد النية يورد صاحبه المهالك، فقد أخبر الله عز وجل عن المنافقين أنهم يصلون وينفقون ويقاتلون، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم يتلون كتاب الله في قوله: ((ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر)) متفق عليه[8].

ولفِقد صدقهم في إخلاصهم قال الله عنهم: إِنَّ الْمُنَـٰفِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]

والعمل وإن كان يسيراً يتضاعف بحسن النية والصدق والإخلاص، ويكون سبباً في دخول الجنات, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين, لا يؤذيهم فأدخل الجنة)) رواه مسلم.

((وامرأة بغي رأت كلباً يطيف ببئر كاد يقتله العطش، فسقته بموقها ماءً فغفر الله لها)) متفق عليه[10].

يقول عبد الله بن المبارك: "رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، ورب عملٍ كبيرٍ تصغره النية"، قال ابن كثير رحمه الله في قوله: اللَّهُ يُضَـٰعِفُ لِمَن يَشَاء [البقرة:261] "أي: بحسب إخلاصه في عمله".

والواجب على العبد كثرة الصالحات مع إخلاص النيات، فكن سبّاقاً لكل عمل صالح، ولا تحقرن أي عملٍ تخلص نيتك فيه، فلا تعلم أي عملٍ يكون سبباً لدخولك الجنات، ولا تستخفن بأي معصية فقد تكون سبباً في دخولك النار، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((دخلت امرأة النار في هرةٍ حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) متفق عليه[11].

والله جل وعلا متصف بالحمد والكرم، وإذا أحسن العبد القصد ولم تتهيأ له أسباب العمل فإنه يؤجر على تلك النية وإن لم يعمل, كرماً من الله وفضلاً،

بل إن الهمّ بعمل صالح يؤجر عليه العبد وإن تخلف العمل، قال عليه الصلاة والسلام: ((من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)) متفق عليه[14].

والمسلم يجعل نيته صادقة في كل خير، يقول عمر رضي الله عنه: (أفضل الأعمال صدق النية فيما عند الله, فإن صدق العمل النية فذاك، وإن حيل بين العمل والنية فلك ما نويت، ومن سرّه أن يكمل له عمله فليحسن النية, فإن الله يؤجر العبد إذا حسنت نيته حتى بإطعام زوجته).

أيها المسلمون، إذا قوي الإخلاص وعظمت النية وأخفي العمل الصالح مما يشرع فيه الإخفاء قرب العبد من ربه وأظله تحت ظل عرشه، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ وذكر منها ـ: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) رواه مسلم[15].

وكلما أخفي العمل كان أقرب إلى الإخلاص، قال جل وعلا: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَـٰتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:271].

يقول بشر بن الحارث: "لا تعمل لتُذكر، أكتم الحسنة كما تكتم السيئة".

وفُضّلت نافلة الليل على نافلة النهار واستغفار السحر على غيره لأن ذلك أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص.

وعلى العبد الصبر عن نقل الطاعة من ديوان السر إلى ديوان العلانية, وإذا أخلصت في العمل ثم أثنى عليك الخلق وأنت غير متطلع إلى مدحهم فليس هذا من الرياء، إنما الرياء أن تزين عملك من أجلهم. سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) رواه مسلم[16].

ومن كان يعمل صالحاً ثم اطلع الخلق على عمله فأحجم عن الاستمرار في تلك الطاعة ظناً منه أن فعله بحضرتهم رياء فذلك من حبائل الشيطان، فامضٍ على فعلك, يقول الفضيل ابن عياض: "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما".

وبعض الناس يظن أن الإخلاص مقصور على الصلاة والصدقة والحج دون غيرها من الأوامر، ومن رحمة الله ورأفته بعباده أن الإخلاص يستصحب في جميع العبادات والمعاملات، ليُثاب العبد على جميع حركاته وسكناته, فزيارة الجار وصلة الرحم وبر الوالدين هي مع الإخلاص عبادة، وفي جانب المعاملات من الصدق في البيع والشراء وحسن عشرة الزوجة والاحتساب في إحسان تربية الأبناء كل ذلك مع الإخلاص يُجازى عليه بالإحسان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك)) متفق عليه[17]، قال: شيخ الإسلام: "من عبد الله وأحسن إلى الناس فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله في إخلاص الدين له، ومن طلب من العباد العوض ثناءً أو دعاءً أو غير ذلك لم يكن محسناً إليهم لله".

أيها المسلمون، الإخلاص عزيز والناس يتفاضلون فيه تفاضلاً كبيراً، ولدفع عوارضه من آفة الرياء والعجب بالعمل إلجأ إلى الله دوماً بالدعاء أن تكون من عباده المخلصين، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وكأن أكثر دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا).

وأكثر من مطالعة أخبار أهل الصدق والإخلاص، واقرأ سير الصالحين الأسلاف، واحتقر كل عمل صالحًا تقدمه، وكن خائفًا من عدم قبوله أو حبوطه، فليس الشأن الإتيان بالطاعات فحسب, إنما الشأن في حفظها مما يبطلها.

ومن حفظ العمل عدم العجب وعدم الفخر به, فازهد في المدح والثناء فليس أحد ينفع مدحه وضر ذمه إلا الله, والموفق من لا يتأثر بثناء الناس وإذا سمع ثناءً لم يزده ذلك إلا تواضعًا وخشية من الله، وأيقن أن مدح الناس لك فتنة، فادع ربك أن ينجيك من تلك الفتنة، واستشعر عظمة الله وضعف المخلوقين وعجزهم وفقرهم، واستصحب دومًا أن الناس لا يملكون جنة ولا نارًا، وأنزل الناس منزلة أصحاب القبور في عدم جلب النفع لك ودفع الضر عنك، والنفوس تصلح بتذكر مصيرها، ومن أيقن أنه يوسد في اللحد فريدًا أدرك أنه لن ينفعه سوى إخلاصه مع ربه, وكان من دعاء السلف: "اللهم إنا نسألك العمل الصالح وحفظه".

أيها المسلمون، ثوب الرياء يشف ما تحته, يفسد الطاعة ويحبط الثواب، وهو من أقبح صفات أهل النفاق يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142], وهو من أشد الأبواب خفاءً, وصفه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل). قال الطيبي رحمه الله: "وهو من أضر غوائل النفس وبواطن مكائدها, يبتلى به المشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة".

والنبي خافه على أمته وحذرهم منه قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال)) .

قال في تيسير العزيز الحميد: "الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال".

المرائي مضطرب القلب مزعزع الفكر، لا يُخلص في عبوديته ومعاملته, يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة ولطلب الرفعة والمنزلة عند الخلق تارة، المرائي يفضحه الله ويهتك ستره ويظهر خباياه، ضاعت آماله وخاب سعيه, وعومل بنقيض قصده, يقول النبي : ((من يسمّع يسمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)) رواه مسلم[19].

وإن أخفى المرائي كوامن نفسه وخفايا صدره أظهرها الله، يقول النبي : ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) متفق عليه[20].فاخشى على أعمالك من الخسران، فالميزان يوم الحشر بمثاقيل الذر، المن والأذى يبطل البذل، والرياء يحبط العمل، وإرادة الدنيا وثناء الخلق متوعد فاعله بدخول النار.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] في العلم باب الحرص على الحديث (99).

[2] أخرجه البخاري في الجنائز باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص (1296)، ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث (1628).

[3] أخرجه البخاري في الإجارة باب: من استأجر أجيرًا فترك الأجير أجره... (2272)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب قصة أصحاب الغار الثلاثة (2743).

[4] أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 183)، وصححه ابن حبان (الإحسان 1/ 270) من حديث زيد بن ثابت.

[5] في الجهاد باب من غزا يلتمس الأجر والذكر (3140)، وجود إسناده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 16).

[6] أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد ضعيف، انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 13) لابن رجب.

[7] في الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله (2985) من حديث أبي هريرة.

[8] أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به (5059)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب فضيلة حفظ القرآن (797) من حديث أبي موسى الأشعري.

[9] في الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905) من حديث أبي هريرة.

[10] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب حديث الغار (3467)، ومسلم في السلام باب فضل سقي البهائم (2245) من حديث أبي هريرة.

[11] أخرجه البخاري في بدء الخلق باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3318)، ومسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان (2619)، من حديث أبي هريرة.

[12] في الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (1909) من حديث سهل بن حنيف.

[13] في الزهد باب: ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325) وقال: حسن صحيح، من حديث أبي كبشة الأنصاري.

[14] أخرجه البخاري في الرقاق باب: من هم بحسنة أو بسيئة (6491)، ومسلم في الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت ، وإذا هم بسيئة (131) من حديث ابن عباس.

[15] أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة باليمين (1423)، ومسلم في الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة (1031) من حديث أبي هريرة.

[16] في البر والصلة والآداب، باب إذا أثنى على الصالح... (2642) من حديث أبي ذر.

[17] أخرجه البخاري في الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء.... (2742) ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص.

[18] أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 30)، وابن ماجه في الزهد باب الرياء والسمعة (4204) واللفظ له، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 237) من حديث أبي سعيد الخدري.

[19] في الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله (2987) من حديث جندب العلقي.

[20] أخرجه البخاري في النكاح، باب المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار (5219)، ومسلم في اللباس والزينة باب النهي عن التزوير في اللباس... (2129) من حديث عائشة.

الخطبة الثانية

أيها المسلمون، لا أنفع للقلب من تجريد الإخلاص ولا أضر عليه من عدمه، وكلما قوي إخلاص الدين لله كملت العبودية، ومن عرف الناس أنزلهم منازلهم, ومن عرف الله أخلص له أعماله، وكلما صحت العزيمة وعظمت الهمة طلب الإنسان معالي الأمور, ولم يلتفت إلى غير الله, ولم ينظر إلى ما سواه، وليس من الرشد طلب الآخرة بالرياء, وإياك أن تطلب بعملك محمدة الناس أو الطمع بما في أيديهم.

والإخلاص يحتاج إلى مجاهدة قبل العمل وأثناءه وبعده، وآفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه بعين الرضا فقد أهلكها، وأمارة الإخلاص استواء المدح والذم، والله يحب من عبده أن يجعل لسانه ناطقًا بالصدق وقلبه مملوء بالإخلاص وجوارحه مشغولة بالعبادة.

رابط هذا التعليق
شارك

  • الزوار

عنوان الخطبة: وصايا للشباب

الإمام: صالح آل طالب

1/7/1424

المسجد الحرام

ملخص الخطبة

ملخص الخطبة

1- جاءت الصحوة الإسلامية بعد فتور الأمة وغفلتها.

2- كما يرزأ الإسلام بأعدائه فإنه قد يرزأ أحياناً بأتباعه.

3- الفصل في قضايا الأمم المصيرية يكون بيد علمائها ومحنّكيها.

4- كما جاءت الشريعة بالقتال جاءت بالرفق والتسامح والصبر.

5- دعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.

6- أهمية العلم الشرعي في زمن الفتن.

الخطبة الأولى

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].

اتقوا الله واقصدوا مرضاته، وسارعوا إلى مغفرته وجناته, ولا تغرنكم الدنيا، ولا يلهينكم زخرفها، حلالها حساب, وحرامها عقاب، ومصيرها إلى الخراب، فكم من ذاهب بلا إياب من الأهل والأحباب في رحلات متتابعة إلى الدار الآخرة.

وبعد: أيها المسلمون، في الأعصار المتأخرة من تاريخ أمتنا، وقبل بضعة عقود كانت الأمة في مجملها تعيش غفوة في دينها وإعراضاً عن قرآنها وسنة نبيها وانقطاعاً من تاريخها.

لقد كان المسلم المستقيم على دينه في أكثر ديار المسلمين يعيش غربة في وطنه ووحشة بين أبناء جلدته في غربة الدين، وذلك في ظل الهزيمة الشاملة للمسلمين أمام الاستعمار، والذي لم يكن الاحتلال العسكري أخطر أسلحته، بل الفكري والثقافي، ومحاولة إقناع المسلمين بأن الإسلام قد انتهى عصره، وأن التغريب هو حتمية التاريخ، وانخدع بذلك بعض أبناء المسلمين، فيمموا فكرهم ومنهجهم جهة الشرق والغرب, حتى تطبعت بعض ديار المسلمين وانطبع أهلها على نظام حياة بعيد عن الإسلام.

ولقد كان المأزق الحقيقي للأمة أن صار الإسلام بين عجز علمائه وجهل أبنائه، وهذه سنة الله في الأمم إذا ابتعدت عن كتاب ربها ومنهاجه، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

حتى إذا احلولك الظلام وأرخى سدوله على الأرض أو كاد أذن الله حينها بانفراج, ولعتمات الليل بنفس وانبلاج، فشهدت الأمة عودة صادقة لجموعها وانعطافة جادة لشبابها، فوصلوا من حبال دينهم مارث، وأحيوا في نفوسهم ما درس، فعمرت المساجد وأحييت السنن، وأقبل الشباب أفواجاً لطلب العلم، وقامت فريضة الجهاد بعدما كانت غائبة أو مغيبة، وظهرت عودة حميدة للدين في صفوف الأمة رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، في كل أنحاء العالم, بحمد الله تعالى.

وبقدر ما استبشر الصالحون والأخيار بهذه العودة العامة للدين، والتمسك بحبل الله المتين بقدر ما أغاضت الصحوة قلوب الكافرين والمنافقين، فقالوا: نزوة عما قليل تزول، أو تيار سيذهب ويحول، وسعوا في تثبيط شبابها ولمز شيوخها، وتشويه سيرتها ومسيرها، وأصبح انتشار ركاب الإيمان غصة في حلوق الشانئين، ومشكلة تؤرق الظالمين, إلا أن الله غالب على أمره, ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فقامت على سوقها واجتازت الحدود وتخطت السدود، وأصبحت هماً حقيقياً وخصماً صعب المراس لأعاديها، ولا خوف عليها فلديها من الأصالة والوعد الإلهي بالتمكين ما يؤهلها للبقاء بل للغلبة، وإنما الخطر المحدق، والهم المقلق والخوف منها عليها, ومن شمالها على يمينها.

أيها المسلمون، إن الإسلام كما يرزأ بأعدائه وشانئيه فإنه يرزأ أحياناً بأبنائه ومحبيه، وذلك إذا جفوا الصراط الأقوم، وحادوا عن السبيل الأهدى، فإليكم يا شباب الإسلام ممن انتظرتهم الأمة عقوداً في غفوتها، فطلعوا نجوماً زهراً في صحوتها، إليكم همسات مصحوبة بدعوات، وكلمات بالحب مقرنات, من فؤاد أقضه ما يرى من تجاوزات ومخالفات مما يمكن أن يعيق الخطا ويفرح العدا، ويجعل بأس المسلمين بينهم.

نقف مع الشباب وقفة أثارها وأجاشها وهيج شجونها ما أفرزته الأزمان المتأخرة من اختلاف في المناهج والرؤى واجتهاد من غير أهله وأحكام ورؤى غير واضحة، يذكي ذلك تقصير في الاستمداد من العلم الشرعي والعلماء وسعار من المستفزين لهم بفكرهم أوعملهم أو تسلطهم في ميدان الفسق أو الفكر المنحرف, إضافة إلى تسلط الأعداء واحتلال الأراضي ونهب الثروات, مما أفرز ردة فعل لم تضبط في بعض الأحيان بميزان العلم والعقل.

شباب الإسلام، إننا نرى أن الفصل في قضايا الشعوب ومعالجة الشؤون المصيرية للأمم عند أهل الأرض قاطبة تكون من اختصاص علمائها وشأن كهولها, ممن عركتهم الحياة وحنكتهم التجارب.

وفي غزوة بدر قال النبي لأصحابه: ((أشيروا علي أيها الناس)) . مع أن في الصحابة شباباً يدكون الجبال بعلمهم وفروسيتهم وفضلهم.

لكن ذلك توارى لدينا في واقعنا المعاصر فأصبح الحديث عن تلك القضايا ومعالجة تلك الشؤون كلأً مباحاً للشبان والشيب والعالم والجاهل, بل تجد من يتقحم في مسائل لو عرضت للفاروق لجمع لها أهل بدر, وأصبح الحديث عن القضايا الشرعية ومصائر الأمة ميداناً للعوام في الشريعة والصحافيين, وقد قال النبي في الاصطفاف للصلاة: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى))[2].

فالقضايا الكبرى كاستعداء بعض الأمم وجر الأمة إلى مواجهات غير متكافئة وتحديد ساح المعارك كل ذلك مما يجب أن تقف عنده جرأة الشباب وإقدامهم, وينتهي دونها بحثهم واجتهادهم, ويكلوا الأمر فيها للعلماء الربانيين الذين شابت لحاهم في الإسلام, وهم بعد ذلك معذورون أمام الله كما يعذرون في التاريخ.

نعم التاريخ الذي نقل إلينا أن إيقاف زحف التتر كان بتوجيه وحكمة العلماء الربانيين وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, فاقرؤوا التاريخ.

لقد آن للأمة أن تقتنع أن الحديث في المصائب والبث في القضايا الكبرى ليس كل أحد, فليس بالضرورة لمن برع في فن الوعظ والتأثير مثلاً أن يحسن الخوض في تلك الشؤون, وليس لمن أكرمه الله في البلاء في دروب الجهاد أن يحتكر توجيه الأمة في هذه القضايا.

إننا كما نذود عن تلك القضايا الجاهلين بالدين الكاشحين عنه والشانئين أهله فإننا أيضاً نذود المحبين له الراغبين في نصرته إذا توارى العلم والحلم خلف حجب من العواطف وقلة التجارب إذا نأت عن الموقف الشرعي الصحيح, وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الاْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]. وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].

شباب الإسلام، أبناءه ومحبيه، إن شريعة الإسلام كما جاءت بالسيف والرمح فقد جاءت بالرفق والنصح، وكما جاءت بمنازلة العدو فقد جاءت بالصبر على بلائه والكف عن إيذاءه ليس لذاته ولا كرامة، بل لمصلحة الإسلام والمسلمين في مواطن تعمل فيها الأدلة ويعرفها الراسخون في العلم.

ولقد اقتيد أبو جندل رضي الله عنه يرسف في قيوده يسوقه مشرك من أمام النبي وهو يصيح: أأرد أفتن. وأطيب الخلق يرى ويصبر؛ لأنه يعلم أن العاقبة خير, وهو ما حصل كما في صحيح البخاري.

وقبل ذلك كان الإسلام في فترته الأولى حين بدأ يشب ويترعرع بين الحجر ودار ابن الأرقم كان أتباعه القلة يتعرضون للأذى والبطش ولم يأمر أحد منهم بالرد, وإنما بالصبر فكانت الخيرة في اتباع هذا الأمر حتى حمد الصحابة عاقبتهم وقويت شوكتهم.

إن مراعاة حال المسلمين قوة وضعفاً قدرة وعجزاً ظهوراً وانحساراً معتبرة في جريان الأحكام أو النهي والإلزام والتأثيم وعدمه, ونحن بحاجة إلى إعداد وبناء, وصبر ودعاء, ودعوة أقوى والتجاء.

وأمام الشباب كثير من الواجبات والمسؤوليات في تسلسل تقتضيه السنن الربانية وتوجيه النصوص الشرعية, حتى تستعيد الأمة صدارتها, وتأخذ مكانها الريادي.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر:77].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب: غزوة بدر (1779).

[2] أخرجه مسلم في الصلاة (432).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي من اعتصم بحبله وفقه وهداه, ومن اعتمد عليه حفظه ووقاه, أحمده سبحانه وأشكره وأثنى عليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ومصطفاه, صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, ومن سار على نهجه وهداه, وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: أيها المسلمون، دعوة إلى شباب الأمة وعماد مستقبلها, ياغرة في جبين الدهر, ويادرة في جبين الأمة, دعوة صادقة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح, دعوة إلى العلم الشرعي وإلى العلماء الربانيين.

إن وجود المثيرات واستفزاز الظالمين مع الحمية والغيرة للدين ليست عذراً لمخالفة الشريعة أو الخروج عن السنة في معالجة الأحداث والقضايا, إن الله تعالى تعبدنا باتباع شريعته وسنته لا باتباع الهوى والاجتهاد المخالف للنص، وفي صلح الحديبية كما في البخاري لما عاهد النبي كفار مكة على أمور منها: أن يخرج من غير عمرة إلا في العام القابل, وأن يرد من أتاه مسلماً من مكة إلى أهل مكة, وأن لا يردوا من أتاهم مرتداً, فلم يعجب ذلك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقال للنبي : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! فلم نعطِ الدنية في ديننا, وجادل في ذلك, ثم ذهب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال له مثل ذلك, حتى قال له أبو بكر: إنه لرسول الله وليس يعصي ربه, وهو ناصره, فاستمسك بغرزه فو الله إنه على الحق، إلى أن تبينت العاقبة أن الخير كله كان فيما أمضاه النبي قال عمر بعد ذلك: فعملت لذلك أعمالا، أي: من الصالحات[1]، لعل الله أن يكفر عن مجادلته تلك.

إذن لا مجال للاجتهاد مع النص ولو كان في ذلك خذل في الظاهر أو ألمٌ في الباطل، فإن الخير كل الخير في اتباع الدليل واطراح هوى النفوس.

أيها المسلمون، وإذا غاب العلم الشرعي أو غيِّب تحولت الطاقات إلى كوارث, ولست مدعياً أن ما ذكرته السبب الوحيد فيما ذكر, ولكن الإيراد للتنبيه على عظم وأهمية مرتبة العلم الشرعي في التأثير في المواقف.

ولما جادل ابن عباس رضي الله عنهما الخوارج بالعلم رجع منهم ثلاثة آلاف في موقف واحد.

وهاكم رعاكم الله قصة يتجلى فيها موقف العلم إزاء العاطفة رواها البخاري رحمه الله, وذلك عندما توفي النبي وماج الناس بين مصدق ومكذب, والعاطفة تقتضي الرغبة في عدم التصديق حتى قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد يهدد ويتوعد من يقول إن الرسول قد مات, وذلك لهول الفاجعة وعظم المصيبة، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمد فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّـٰكِرِينَ [آل عمران:144].

قال ابن حجر: "في الحديث قوة جأش أبي بكر وكثرة علمه، وانظر كيف سارع عمر بالرجوع وتخلى عن تلك العاطفة عندما بلغه النص الشرعي الفاصل".

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه البخاري في الشروط، باب: الشروط في الجهاد ... (2734)، ومسلم في الجهاد والسير (1785).

[2] أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: مرض النبي ووفاته (4454).

رابط هذا التعليق
شارك

  • الزوار

عنوان الخطبة: محبة الله عز وجل

الإمام: حسين آل الشيخ

تاريخ الخطبة :8/7/1424

المسجد النبوي

ملخص الخطبة

1- أن الإنسان مع من أحب في الآخرة.

2- تدبر كتاب الله وفهم معانيه، والتقرب إلى الله بالنوافل، وذكر الله عز وجل من أعظم أسباب نيل محبة الله تعالى.

3- تقديم رضى الله رسوله ولو سخط الناس.

4- أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.

5- إدراك العبد محبة الله له منزلة عظيمة ومنَّة جسيمة.

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فلا سعادة إلا في تقواه ولا فلاح ولا فوز ولا نجاة إلا في اتباع هديه وشريعته.

معاشر المسلمين، جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال رسول الله : ((ما أعددت لها)) فكأن الرجل استكان ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها من كثير صلاةٍ ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال : ((فأنت مع من أحببت))[1].

وفي رواية قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي : ((فإنك مع من أحببت))[2].

وفي صحيح مسلم عن أنس أنه قال: ((فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم))[3].

قال الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذه المحبة العظيمة: "هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص الآملون, وإلى أملها شمّر السابقون, وعليها تفان المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو بحار الظلمات، والشفاءُ الذي من عدمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معرفة محبوبهم أوفر نصيبٍ" انتهى من كلامه رحمه الله.

معاشر المسلمين، ولنيل منزلة هذه المحبة, وللفوز بهذه السعادة ذكر العلماء أسباباً لتحصيلها وطرقاً كثيرة للفوز بها.

أصول هذه الأسباب وقوائد هذه الطرق مردها ما تتشنف أسماعنا به وما تصغي آذاننا إليه، أول هذه الأصول:

قراءة القرآن بتدبرٍ مع الفهم لمعانيه والتعقل لأسراره وحكمه، ولهذا فإن رجلاً من أصحاب نبينا استجلب محبة الله بتلاوة صورة الإخلاص, فظلّ يرددها في صلواته، فلما سُئل عن ذلك قال: إنها صفة الرحمن, وأنا أحبُ أن أقرأها، فقال النبي : ((فأخبروه أن الله يحبه)) رواه البخاري[4].

الأصل الثاني عباد الله، التقرب إلى الله جل وعلا بالنوافل, بعد الحرص العظيم على الالتزام بالواجبات والوقوف الجازم عند الحدود والفرائض, فرسولنا يحكي عن رب العزة جل وعلا أنه قال: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه, ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري[5].

وثالث هذه الأصول معاشر المؤمنين، دوام ذكر الله جل وعلا على كل حالٍ ذكرٌ باللسان والقلب والعمل, فربنا جل وعلا يقول: فَإذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]،

ونبينا يقول: ((إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت به شفتاه)) رواه ابن ماجه بسند صحيح[6].

ويقول المصطفي وهو سيد الذاكرين: ((سبق المفردون))، قالوا: يا رسول الله, ومن المفردون؟ قال: ((الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) رواه مسلم[7].

ورابع هذه الأصول إيثار محاب الله جل وعلا ومحاب رسوله على محاب النفس عند غلبات الهوى, والتسنم إلى محافه عز وجل وإن صعب المرتقى, فيؤثر العبد رضا الرحمن عز وجل على رضا غيره, وإن عظمت فيه المحن, وثقلت فيه المؤن, وضعف عنه الطول والبدن، يقول ابن القيم رحمه الله: "إيثار رضا الله جل وعلا على غيره هو عن أن يريد العبد ويفعل فيه مرضاته, ولو أغضب الخلق, وهي درجة الإيثار, وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه, وأعلاها لأولي العزم منهم, وأعلاها لسيد الخلق محمد " انتهى.

وذلك يا عباد الله لا يكون ولا يتحقق إلا بثلاثة أمور:

أولها: قهر هوى النفس، وثانيها: مخالفة الهوى، وثالثها: مجاهدة الشيطان وأوليائه.

وخامس هذه الأصول أيها المسلمون، أن يطالع القلب أسماء الله وصفاته, وأن يشاهدها ويعرفها, ويتقلب في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله التي أثبتها الوحيان كما اعتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان اعتقاداً كما جاءت في النصوص من غير تحريف ولا تعطيلٍ ولا تمثيلٍ ولا تكييفٍ ولا تأويل أحبه الله جل وعلا وأكرمه وأرضاه, فربنا جل وعلا يقول مرغباً منادياً عباده: وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]

سادس هذه الأصول إخوة الإسلام، مشاهدة بر الله جل وعلا بعباده, وإحسانه عليهم, والتعرف على آلائه ونعمه الظاهرة والباطنة, فإنها داعية إلى محبته سبحانه.

فالإنعام والبر واللطف معاني تسترق مشاعر الإنسان, وتستولي على أحاسيسه, وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة, ويوصل إليه المعروف, ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله, هذه دلالة العقل الصريح والنقل الصحيح.

فالمحبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر هو الله جل وعلا, والمستحق للمحبة كلها هو سبحانه وبحمده, وغيره فمحبوب فيه عز وجل, والإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه ولاطفه وواساه وأعانه على جميع أغراضه وأهدافه, إذا عرف الإنسان هذا حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله جل وعلا, وأن أنواع الإحسان لا يحيط بها حصرٌ: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [الأنعام:34].

وحينئذ إذا انطلق المسلم من هذا المنطلق فإنه حري بالتوفيق للقيام بواجب الشكر لله جل وعلا باللسان والقلب والعمل, ويفوز حينئذ بكل خير, ويسعد بكل عاقبة حميدة, فربنا جل وعلا وعد بالمزيد لمن شكره: لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]،

سابع هذه الأصول, وهو من أعجبها وأعظمها: انكسار القلب بكليته بين يدي الله عز وجل, والتذلل له سبحانه, والخشوع لعظمته بالقول والبدن: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]

ثامن هذه الأصول، تحين وقف النزول الإلهي لمناجاته جل وعلا وتلاوة كلامه والتأدب بآداب العبودية بين يديه, ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة النصوح إليه سبحانه, فربنا جل وعلا يقول عن صفوة الخلق: تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].

يقول الحسن البصري: لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل, فقيل له: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. نسأل الله من فضله.

وتاسع هذه الأصول: محبة الصالحين والسعي من القرب منهم ومجالستهم، فرسول الله يقول في الحديث الصحيح: ((قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيّ, ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ, ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ)) [12]. وفي حديث صحيح عن النبي : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) [13].

عباد الله، وآخر هذه الأصول البعد عن كل سبب وطريق يحول بين القلب وبين الله جل وعلا, وذلك لا يتحقق ولا يكون إلا ببعد المسلمين والمؤمنين وبعد مجتمعاتهم عن أنواع السيئات وألوان المحرمات وصور الموبقات، فالقلوب إذا فسدت فلن تجد فائدة فيما يصلحها من شؤون دنياها, ولن تجد نفعاً أو كسباً في أخراها يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما سمعنا، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه البخاري في الآداب، باب علامة حب الله عز وجل (3688). ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).

[2] أخرجه البخاري في المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب (3688). ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).

[3] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).

[4] أخرجه البخاري في التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (7375). ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة قل هو الله أحد (813). كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.

[5] أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع (6502).

[6] أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى لا تحرك به لسانك، و ابن ماجة في الأدب، باب فضل الذكر (3792). وأحمد (10585).

[7] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى (2676).

[8] أخرجه البخاري في التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا (7392). ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677). كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (2999). عن صهيب رضي الله عنه.

[10] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734). عن أنس بن مالك.

[11] رواه الطبراني في الأوسط(4 / 306 )، والحاكم في المستدرك (4/360)، وصححه . وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (1/243).

[12] أخرجه أحمد (21525)، ومالك في الموطأ، في كتاب الجامع، باب ما جاء في المتحابين في الله (1779). وابن حبان في صحيحه (2/335). والضياء في المختارة(8/306).

[13] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/87)، والطيالسي في مسنده (1/101).

الخطبة الثانية

أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي وصية ربنا جل وعلا في الأولين والآخرين.

معاشر المسلمين، إدراك محبة الله للعبد منزلة عظيمة ومنة جسيمة وسعادة أبدية وحياة طيبة زكية, فعلى العبد الموفق السعي لنيلها بكل طريقٍ محمدي ونهج نبوي من سيرة وسنة المصطفى , صحة في الاعتقاد وسلامة في التعبد وإحساناً في الأخلاق، وجملة ذلك في تحقيق الإيمان الصحيح، ومزاولة التقوى لله جل وعلا سراً وجهراً: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63].

ألا وإن من مقتضيات محبة الله جل وعلا الإكثار من الصلاة والتسليم على النبي المصطفى، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن جميع الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

رابط هذا التعليق
شارك

  • الزوار

عنوان الخطبة: شيّبتني هود

الإمام: سعود الشريم

تاريخ الخطبة :15/7/1424

المسجد الحرام

ملخص الخطبة

1- هجر كثير من المسلمين لكتاب الله.

2- فقْد العلم.

3- سبب مشيب النبي .

4- ضرورة تدبّر سورة هود.

5- تاريخ نزول السورة.

6- صبر الأنبياء ومصابرتهم.

7- تقرير التوحيد.

8- سنة الاحتقار لأتباع الرسل.

9- خلُق النصرة والمؤازرة.

10- أهمية القدوة الصالحة.

11- إشفاق النبي على أمته.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فإنّ الوصيّةَ المطروقةَ لي ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوى الله سبحانه التي هي العزّ يومَ الذلّ، وهي النّجاة يومَ الهلاك، ما خاب من تمسّك بها، وما أفلحَ من ودّعها وقلاها، فَاتَّقُواْ اللَّهَ يٰأُوْلِى الألْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].

أيّها النّاس، النّاظر في واقع كثير من المسلمين اليوم بعين بصيرته ليوقِنُ أنّه واقعٌ مؤرِّق، إذ أنّ صلتَهم بكتاب ربّهم يكتنِفها الهَجر والعقوق، بل ولربّما وصلَ الأمر إلى أبعدَ من ذلك، حتّى إنّ أحدَنا قد لا يُبعِد النّجعة لو قال: إنّ عِلل الأمم السّابقة قد تسلّلت إلى أمّة الإسلام لِواذا مِن حيث تشعر هِي أو لا تشعر، ألا تقرؤون ـ يا رعاكم الله ـ قولَ الباري جلّ شأنه: وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَـٰبَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة:78]، أي: لا يعلمون الكتابَ إلاّ تلاوةً وترتيلاً، بحيث لا يجاوز حناجرَهم وتراقيَهم، وذلك ـ عبادَ الله ـ بسبب الغياب القلبيّ والعجز عن تدبّر القرآن، وهم على قلوبٍ أقفالها إلاّ من رحم الله، وبسبَب البُعد عن اكتشافِ سننِ الله في الأنفسِ والآفاق وحُسن تسخيرها والنفاذِ من منطوق النصّ وظاهره إلى مقصدِه ومرماه والتحرير غيرِ المبعَّض من تقديس الأفهام المغلوطةِ والتأويلات المآربيّة، والتي انحدرت إلى كثيرٍ من أوساط المسلمين على كافّة طبقاتهم من لوثاتِ عللٍ وأفهام يغذِّيها شعورٌ طاغٍ من حبّ الدّنيا وكراهيّة الموت.

كلّ ذلك ـ أيّها المسلمون ـ سببٌ ولا شكّ لذهاب العلمِ وهو موجود، ولفَقدنا الماءَ في البيداء وهو على ظهورنا محمول، على الرّغم من التقدّم الملحوظ في فنون الطّباعةِ ووسائل النّشر وتقنيات التسجيل الصوتيّ والمرئيّ. روى الإمام أحمد والترمذيّ وابن ماجه عن زياد بن لبيد الأنصاريّ رضي الله عنه قال: ذكر النبيّ شيئًا فقال: ((وذاك عند ذهاب العلم))، قلنا: يا رسول الله، كيف يذهب العلمُ ونحن قرأنا القرآنَ ونقرِئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرِئونه أبناءهم؟! فقال: ((ثكلتكَ أمّك يا ابنَ لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقهِ رجلٍ في المدينة، أوليس هذه اليهود والنّصارى بأيديهم التّوراة والإنجيل ولا ينتفعون ممّا فيهما بشيء؟!))[1].

إذًا الأمّة المنتميَة إلى القرآن لا ينبغي أن تكونَ مجهولةً مستوحِشة، مبعثرةَ الحواس وكأنّها تُنادَى مِن مكان بعيد، وكتابُ الله سبحانه ما شانَه نقصٌ ولا شابَته زيادة، فيه الخلاصة الكافيَة لأحوال النبوّات الأولى وأنباء ما قد سبق، إِنَّ هَـٰذَا لَفِى الصُّحُفِ الأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرٰهِيمَ وَمُوسَىٰ [الأعلى:18، 19].

أيّها النّاس، لقد عاش رسول الله ثلاثةً وستّين عامًا، أسفر له بعدَها صُبح المشيب، ألمّ الشيبُ بلُمتِه، وهو سمة عفّته وتُقاه، ترى فيه هيبتَه ووقارَه، وتشاهد منه حنكتَه وعنوان تجربتِه، يسأله أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه فيقول: يا رسول الله، ما شيّبك؟ قال: ((شيّبتني هود والواقعة وعمّ يتساءلون وإذا الشّمس كوِّرت)) رواه الترمذي والحاكم وأبو يعلى[2].

فيا لله أيّها المسلمون، إنّنا لنسمع كثيرًا أنّ السنّ سبب في الشّيب، وأنّ صروف الحياة ومهامِهَهَا المتقلّبة تشيب منها المفارق، فما ظنّكم بمن تمرّ به هذه كلّها واحدةٌ تلوَ الأخرى ثمّ هو ينسب المشيبَ إلى آياتٍ من كتاب ربِّه يردّدها ومعانٍ يتأوّلها ويتدبّرها.

لماذا سورةُ هودٍ أيّها المسلمون؟ ما الذي تحويه هذه السّورة كي تُحدِثَ تغيّرًا في النفس والحال؟ بلهَ التغيّر الذي يكون على البدن والأعضاء؟

إنّ هذا الحديث برمّته ليستحثّنا إلى أن نكشفَ اللثام ونذوّب الرَّان الذي يغشى القلوبَ حينما تمرّ بنا هذه السّورة وأخواتُها دون أن تستوقفَنا مليًّا لنعلم بوضوح وجلاءٍ كيف شيَّبت مفارقَ إمامنا وقدوتِنا ، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: دخلتُ على امرأةٍ وأنا أقرأ سورةَ هود، فقالت: يا عبد الرحمن، هكذا تقرأ سورة هود؟! واللهِ إني فيها منذ ستّة أشهر وما فرغتُ من قراءتها[3].

ولا غروَ ـ أيها المسلمون ـ أن تقول المرأة مثلَ هذا، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه قبلها: (لا تهذُّوا القرآنَ هذّ الشّعر، ولا تنثروه نثرَ الدّقل، وقِفوا عند عجائبِه، وحرّكوا به القلوبَ، ولا يكن همُّ أحدِكم آخرَ السورة)[4].

لقد نزلت سورةُ هود بجملتها بعدَ سورة يونس وسورة الإسراء، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من المفسّرين. وهذه الفترةُ التي نزلت بها هذه السورة تُعَدُّ من أحرجِ الفترات وأشدّها كمدًا على نبيّنا ؛ لأنّها مسبوقة بأعظم حَدَثين له، فقد تُوفّيت زوجُه خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها، وكانت له وزيرَ صدقٍ على الإسلام، يشكو إليها، وهي معه في المِحنة قلبًا مع قلبِه، بمالِها تواسيه، وبكلامِها تسلّيه، وتُوفِّي عمّه أبو طالب، وكان له عضُدًا ومنَعَة وناصرًا على قومِه، حتى تتابعت على رسول الله المصائب، فسُمِّي ذلك العام عامَ الحزن، فكان نزول سورة هود في مثل هذه الفترة تسليةً وتثبيتًا له ولمَن معه مِن المؤمنين، وتسريةً عنه وعنهم ممّا يساوِر قلوبَهم من الوحشة والضّيق والغربَة، في مجتمعاتٍ تكاد تجمِع على تكذيبهم والبَطش بهم، ومن ثمّ يكون وقعُ مثلِ هذه السورة منصبًّا على القصَصَ والأمثال؛ لأنّ فيها من التّسلية والعبرة وشدِّ العزم والحضّ على الصبر والمجاهدة ما ليس في غيرها، وَكُـلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].

فيرى رسول الله السورةَ برمّتها تتحدّث عن نوح وقومِه وهودٍ وقومه وصالح وقومِه وإبراهيمَ وقومِه ولوط وقومِه وشعيبٍ وقومه ثمّ موسى مع فرعونَ وملئه، جملةٌ من الأنبياء، ثلاثة منهم من أولي العزمِ من الرّسل، يواجه اللاحقُ منهم مع قومه مواقفَ مشاكلة لما واجهه السابقُ منهم، ويصدُق في الجميع قوله جلّ وعلا في سورة يوسف: حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْـئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]. يشير سبحانه إلى أنّ مرحلةَ اليَأس إنّما تكون بعد تتابُع ضرباتِ الجهال من أقوام الرّسل والوقوع تحتَ وطأة الشّتم والتكذيب والإجماع على التآمر، ناهيكم عن اختناق أنفاسهم فتراتٍ، ثمّ يتعرّضون خِلالها للموت كرّاتٍ ومرّات، ليكُن ذلك كلُّه فإنّ سنّة الله لا تتخلّف، وخليقٌ بأنبياء الله ورسله وأتباعهم أن يصابروا ويرابطوا حتّى يأذن الله لهم بالفرج.

لقد افتتحَ الله جلّ وعلا سورةَ هود بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [هود:1، 2].

إنّ هذا الكتابَ الذي أُحكمت آياته فُسِّر مضمونُه بأنّه ينبغي أن لا يُعبَدَ إلا الله في الأرض، وأنّ هذه العبادة والدّعوة إليها لم تكن بِدعًا من الدعوات، ولا هي وليدةَ نزولها على محمّد ، إنّما هي دعوة الرّسل من أوّلهم إلى آخرهم، كلّهم يقولون لأقوامهم: اعبُدوا الله ما لكم من إله غيره؛ فلا ذبحَ إلا لله، ولا رجاءَ إلا في الله، ولا خوفَ إلا من الله، ولا استغاثة واستعانةَ إلا به، ولا توكّل إلا عليه، ولا رغبة ولا رهبة إلا له ومنه، ولا تحكيمَ إلا بشرعه الذي شرَعَه.

بعدَ هذه الآيةِ يتتابع القصَص، فيكون من حوارات نوح وقومِه أن قالوا له: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـٰذِبِينَ [هود:27]

إنّه الاحتقار والازدراءُ الذي ينبعث من النّفوس الخبيثة والمليئةِ بالضّغينة والكِبر الذي هو بطر الحقّ وغمط النّاس. إنّه احتقارٌ لصاحب الرّسالة من أولي العزم من الرّسل، يتبعه ازدراءٌ مشين للأتباع المخلِصين. إنّه ليس عارًا ألبتّةَ رذالةُ مَن اتّبعوا الحقّ، فإنّ الحقّ في نفسه صحيح، سواء اتّبعه الأشراف أو الأراذل من الناس، يقول ابن كثير رحمه الله: "بل الحقّ الذي لا شكّ فيه أنّ أتباعَ الحقّ هم الأشراف ولو كانوا فقراءَ، والذين يأبَونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء"[5]، ولمّا سأل هرقل ملكُ الرّوم أبا سفيان عن صفاتِ النبي قال له فيما قال: أشرافُ الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل[6].

لو كان الاتّباع بالشّرف ـ أيّها المسلمون ـ لما رفع الإسلامُ سلمانَ الفارسيّ، ولما وضع الشركُ الشقيَّ أبا لهب، ورسول الله يقول في الحديث الصحيح: ((رُبّ أشعثَ أغبَر ذي طمرَين مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسمَ على الله لأبرَّه))[7]

إنّ أمثالَ هؤلاء المحتقَرين من قِبل بعض أهل الزُهُوّ والأنفة وذوي النّزَق[9] لتعلو بهم المكانة في الآخرة جرَّاءَ إيمانهم بربّهم وتوكّلهم عليه، على ضعفٍ في قوّتهم وقلّة الناصرين لهم من النّاس، حتّى ألِفوا مسلكَ النّزاهة والاستقامة؛ لأنّ الرجلَ الخرِب الذمّة الساقطَ المروءة لا قوّة له ولو لبِس جلودَ السباع وتسربَل بدروع المُحارب المدجّج أو مشى في ركاب العظماء من بني الدّنيا. وهذا درسٌ جِدُّ مهمّ ضرب الله لنا مثلَه حينما قال لوط عليه السلام: لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءاوِى إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]

فلا إله إلا الله، كم يُصيب محتقِريهم من همّ وغمّ حين تتجلّى الأمور وتنكشف، ويدخل أهل النّار النّار فيقولون حينها: مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَـٰهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَـٰرُ [ص:62، 63]

وفي ثنايا سورة هود يعترضنا قصَصٌ هو من الأهمّية بمكان، يتبيّن من خلاله صدقُ المدّعي وصفاء قلبه وحبُّه المتجرّد من الغَشَش والدّخيلة تجاه إخوانه في الدّين وبني ملّته، حيث يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، يعلم خطورةَ خذلانهم وخطورةَ إعانتهم على باطلهم وعظمَ ذلك عند الباري جلّ وعلا، يعلم أثرَ قول المصطفى : ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))[11]، فهو لا يظلمه ولا يخذله في الحقّ، ولا يُسلمه لأهوائه ونزغات الشّيطان التي تميد به عن سواء الصّراط.

هذه المبادئ الرّاسخة ينبغي أن يعيَها كلّ مسلم تجاه إخوانه في الملّة. إنّه موقفُ نوح عليه السلام من أتباعه المؤمنين حينما قال لقومه: وَيٰقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ وَلَـٰكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [هود:29، 30]

إنّ المسلم الحقَّ لينأى بنفسه أن يضعَ حظوظه على الإضرار بإخوانه من خلال الحسَد أو التشفّي أو إيثار العاجل على الآجل أو الوقوع في الاجتهادات الخاطئة أو البُعد عن النّصح المشروع وتوجيه النّاس وإرشادهم من خلال الحثّ على الخير أو الحجز عن الشرّ، أو أن يبنيَ كيانه وبُلغَته على أنقاص غيره وشِقوتِه، كلا، وهيهات هيهات أن يتمخّض مثل هذا البتّ المهتزّ عن نهايةٍ صالحة. إنّه في الحقيقةِ كمسلكِ إخوةِ يوسف عندما نشدوا راحتَهم بقولهم: اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَـٰلِحِينَ [يوسف:9]

ولا يسعُنا إلاّ أن نقولَ كما قال النبيّ : ((اللهمّ إنّا نعوذ بك من الجوع فإنّه بئسَ الضجيع، ونعوذ بك من الخيانة فإنّها بئست البطانة))[15].

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيها من الآيات والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه أحمد (17473)، وابن ماجه في الفتن (4048) من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد به. وصححه الحاكم (3/590)، ووافقه الذهبي، لكن سالمًا لم يسمع من زياد فهو منقطع. وله طريق أخرى، فأخرجه الترمذي في العلم (2653)، والدارمي في مقدمة سننه (288)، ومن طريقه البيهقي في المدخل (854) من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن أبي الدرداء، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (1/179)، ووافقه الذهبي، لكن عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه ضعف، وقد خولف، فرواه أحمــد (23990)، والنسائي في الكبرى (5909) من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك، وصححه ابن حبان (4572)، والحاكم (1/98-99)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في تعليقه على المشكاة (1/81): "سنده صحيح".

[2] أخرجه الترمذي في التفسير (3297) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (2/476) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في السلسلة الصحيحة (955).

[3] أخرجه البيهقي في الشعب (2/361)، وانظر: صفة الصفوة (3/192، 4/440).

[4] أخرج بعضه البيهقي في الشعب (2/360)، وعزاه ابن كثير في تفسيره (4/235) للبغوي.

[5] تفسير القرآن العظيم (2/443).

[6] أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[7] أخرجه مسلم في البر (2622) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

[8] أخرجه أحمد (1/420)، والبزار (1827، 3309)، وأبو يعلى (5310، 5365)، والشاشي (661، 904)، والطبراني (9/78)، وأبو نعيم في الحلية (1/127)، والبغدادي في تاريخه (1/148، 7/191) من طرق، وصححه ابن حبان (7069)، وقال الهيثمي في المجمع (9/289): "أمثل طرقها فيه عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".

[9] النزق: الطيش والخفة عند الغضب.

[10] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3372، 3387)، ومسلم في الإيمان (151).

[11] أخرجه البخاري في المظالم (2443، 2444) من حديث أنس رضي الله عنه.

[12] أخرجه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وليس فيه: ((ولا يخذله)).

[13] تفسير القرآن العظيم (2/444).

[14] أخرجه أحمد (4/229)، وأبو داود في الأدب (4881)، وأبو يعلى (6858)، والطبراني في الكبير (20/309) والأوسط (697، 3572)، والبيهقي في الشعب (6717) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (934).

[15] أخرجه أبو داود في الصلاة (1547)، والنسائي في الاستعاذة (5468، 5469) وابن ماجه في الأطعمة (3354) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1029)، والنووي في رياض الصالحين (ص472)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3002).

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا يليق بجلاله وعظمتِه، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.

أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، قصصٌ آخر من قصَصِ سورة هود، يُراد من خلاله التنويهُ إلى أهمّية القدوة الصالحة وأثرِها في بناء المجتمعات ورِفعتِها، لا سيّما إذا كان أصحابها من ذوي الهيئاتِ كالسّلاطين والعلماء والأمراء وكبَراء النّاس، ويزداد الأمر قوّة في المصلحين ومَن ينتسبون إلى الصّلاح؛ إذ خطواتُهم محسوبة وأفعالهم مرقوبة، وأعين النّاس تقع على ما يظهر منهم في القول والفعل، فما أعظمَها هوّةً حين يرونَه حيث نهاهم، ينكر منكَرًا فيأتي مثلَه، أو يحذّر من بدعةٍ ويقع في أختِها؛ تسقط هيبته، ويتضاءل الاقتداءُ به، فيخلِط العامّة بين حقِّه وباطله وزينه وشينِه، ومِن ثمّ تكون حالات النّاس معهُ:

يومًا يمانٍ إذا لاقيتَ ذا يمنٍ وإن لقيت معَدّيا فعدناني

فيكثر تتبُّع الرّخص من قِبلهم والتشوّف إلى الزّلاّت والثغرات، ولقد تمثّل النّأي عن ذلك في شخص النبيّ شعيب عليه السلام حينما قال لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَـٰكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَـٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].

وبعد: أيّها النّاس، فإنّ القصص في السورة يتتابع، والنّهل منها في مثل هذه العجالة يطوّل بنا المقامَ، إلاّ أنّ ثمّة أمرًا يحسُن أن نختمَ به، وهو أنّ الرسل جميعًا قد دعوا أقوامَهم إلى الله، فلمّا لم يستجيبوا لهم تنوّع عليهم العذاب، فمنهم من أرسلَ الله عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصّيحة، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من أغرق.

وبعدَ تمام السّرد يقول الله لنبيه : ذٰلِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود:100]إنّ توفيةَ هذا النّصيب تعني هلاكَ من بلغتهم الرّسالة ثمّ هم يعاندون، فإنّهم سيطيحون كما طاحَ آباؤهم من قبل.

ألا إنّ هذا نذيرٌ مقلِق، وإنّ خوفَ النبيّ على مستقبلِ أمّته وقومِه جعل الشيبَ يتسلّل إلى رأسِه، ما يحبّ أن يكونَ لهم مثلُ هذا المصير المزهِق، ولذلك

هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة، محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحب الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال عزّ من قائل عليم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه البخاري في الاعتصام (7280) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 4 أسابيع...
  • الزوار

عنوان الخطبة: فضائل الصحابة

الإمام: عبدالباري الثبيتي

تاريخ الخطبة :7/8/1424

المسجد النبوي -طيبة المدينة المنورة

ملخص الخطبة

1- إجماع المسلمين على فضل الصحابة.

2- آيات قرآنية في فضل الصحابة. 3

- أحاديث نبوية في فضل الصحابة.

4- من مناقب الصحابة. 5

- واجبنا تجاه الصحابة.

6- فضل الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالتّقوى سبيل الفلاح وطريقُ النّجاح، عزٌّ في الدنيا ورفعة في الآخرة، قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].

عبادَ الله، أجمع المسلمون على أنّ الصحابة رأسُ الأولياء وصفوة الأتقياء، قدوةُ المؤمنين وأسوة المسلمين وخير عبادِ الله بعدَ الأنبياء والمرسلين، جمَعوا بين العلم بما جاء به رسول الله وبين الجهادِ بين يديه، شرّفهم الله بمشاهدة خاتَم أنبيائه وصُحبته في السّراء والضّرّاء وبذلِهم أنفسَهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله، حتّى صاروا خيرةَ الخِيَرة وأفضلَ القرون بشهادة المعصوم . هم خيرُ الأمَم سابقِهم ولاحقهم، أولِّهم وآخرهم. هم الذين أقاموا أعمدَة الإسلام وشادوا قصورَ الدّين، قطعوا حبائلَ الشّرك، أوصلوا دينَ الإسلام إلى أطرافِ المعمورة، فاتّسعت رقعة الإسلام، وطبَّقت الأرض شرائعَ الإيمان، فهم أدقّ النّاس فهمًا وأغزرُهم علمًا وأصدقهم إيمانًا وأحسنهم عملاً. كيف لا؟! وقد تربّوا على يدَي النبي ونهلوا من ماء معينه الصّافي وشاهدوا التنزيل، روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: (إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلبَ محمّد خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثمّ نظر في قلوب العباد بعدَ قلب محمّد فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراءَ نبيّه، يقاتلون على دينه)[1].مَن صحبَ النبيَّ أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.

وردت الآياتُ الصريحة والأحاديث الصّحيحة في فضائل الصحابة رضي الله عنهم، مِن ذلك قوله عزّ وجلّ: وَالسَّـٰبِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـٰجِرِينَ وَالأنْصَـٰرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]

إنّ الخيرَ كلّ الخير في ما كان عليه أصحاب رسول الله ، هم من حفِظ الله بهم كتابَه أمينًا عن أمين، حتّى أدّوا أمانةَ ربّهم.

تفرّغ فريق من الصّحابة لحمل أمانةِ السنّة، وذرعوا أقطارَ الأرض لينشروها، وآخرون حملوا أمانةَ الخلافة والرّعاية والجهادِ والحقوق، وعملوا على نقل الأمَم إلى الإسلام، يعرّبون ألسنتَها، ويطهِّرون نفوسَها، ويسلكونها طريقَ الله المستقيم، وقد بارك الله في أوقاتهم، وأتمّ على أيديهم في مائة سنة ما لم يتحقّق لغيرهم، كانوا سبّاقين للنّاس في كلّ خير، في ميدان الجهاد، في ميدانِ الدّعوة، في ميدان البَذل والعطاء، في ميدان النّوافل والعبادة، فرضي الله عن الصّحابة أجمعين.

نصَروا رسولَ الله في غزواته وحروبِه، بايَعوا على بذلِ أنفسهم في سبيل الله، أخرج البخاريّ عن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداةٍ باردة، فلم يكن لهم عبيدٌ يعملون ذلك لهم، فلمّا رأى ما بهم مِن النصَب والجوع قال : ((اللهمّ إنّ العيش عيش الآخرة، فاغفِر للأنصار والمهاجِرة))[5].

نال الصحابة رضي الله عنهم شرفَ لقاء النبيّ ، فكان لهم النصيب الأوفى من محبّته وتعظيمه، سُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبُّكم لرسول الله ؟ قال: كان ـ والله ـ أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمّهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.

سأل أبو سفيان بن حرب ـ وهو على الشّرك حينذاك ـ زيدَ بن الدّثِنّة رضي الله عنه حينَما أخرجه أهل مكّة من الحرم ليقتلوه وقد كان أسيرًا عندهم: أنشدك بالله يا زيد، أتحبُّ أنّ محمّدًا الآن عندنا مكانَك نضرب عنقَه وأنّك في أهلك؟ قال: والله، ما أحبّ أن محمّدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيتُ مِن النّاس أحدًا يحبّ أحدًا كحبّ أصحاب محمّد محمّدًا[6].

حكّم الصحابة رضي الله عنهم رسولَ الله في أنفسهم وأموالهم فقالوا: هذه أموالنا بين يدَيك فاحكُم فيها بما شئت، هذه نفوسنا بين يديك لو استعرضتَ بنا البحرَ لخضناه نقاتِل بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئِلت أن أصفَه ما أطقتُ، لأنّي لم أكن أملأ عيني منه[7].

نحن نحبّ أصحابَ رسول الله ، ولا نفرّط في حبّ أحدٍ منهم، ولا نتبرّأ من أحدٍ منهم، ولا نذكرهم إلا بالخير، ونشهد لجميع المهاجرين والأنصار بالجنّة والرضوان والتّوبة والرحمة من الله، ويجب أن يستقرَّ علمك وتوقِن بقلبك أنّ رجلاً رأى النبيّ وشاهده وآمن به واتّبعه ولو ساعة من نهار أفضل ممّن [لم] يرَه ولم يشاهده، ثمّ التّرحّم على جميع أصحاب رسول الله صغيرهم وكبيرهم أوّلِهم وآخرهم وذكر محاسنِهم ونشر فضائلهم والاقتداء بهديِهم والاقتفاء لآثارهم، نكفّ عمّا شجر بين أصحاب رسول الله ، فقد شهدوا المشاهدَ معه، وسبقوا النّاس بالفضل، غفر الله لهم، وأمر بالاستغفار لهم والتقرّب إليهم وبمحبّتهم، فرضَ ذلك على لسان نبيّه ، فلا يتتبّع هفواتِ أصحابِ رسول الله وزللَهم إلاّ مفتون القلبِ في دينه.

إنّ هذه الآثار المرويّة في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيدَ فيه ونقص فغيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إمّا مجتهدون مصيبون، وإمّا مجتهدون مخطِئون، ثمّ إنّ القدر الذي يُنكَر من فعلِ بعضِهم قليل ونزر مغفور في جنب فضائلِ القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهادِ في سبيله والهجرةِ والنُّصرة والعلم النافع والعمل الصالح.

لا يُسأل عن عدالة أحدٍ من الصّحابة، بل ذلك أمرٌ مفروغ منه؛ لكونِهم على الإطلاق معدّلين بنصوص الكتاب والسنّة وإجماع من يُعتَدُّ به [في] الإجماع [مِن] الأمّة، ومِن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: ((آية الإيمان حبُّ الأنصار، وآية النّفاق بغض الأنصار)) .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] مسند أحمد (1/379)، وأخرجه أيضا الطيالسي (246)، والبزار (1702) مختصرا، والطبراني في الكبير (9/112)، والبيهقي في الاعتقاد (ص322)، قال الهيثمي في المجمع (1/178): "رجاله موثقون"، وحسنه الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية (ص672).

[2] أخرجه أحمد (3/350)، وأبو داود في السنة (4653)، والترمذي في المناقب (3860)، والنسائي في الكبرى (11508) من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4802)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3889). وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2496) من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن أم مبشّر رضي الله عنها بنحوه.

[3] أخرجه البخاري في المناقب (3650) واللفظ له، ومسلم في فضائل الصحابة (2535).

[4] أخرجه البخاري في المناقب (6373)، ومسلم في فضائل الصحابة (2541) واللفظ له.

[5] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2834) واللفظ له، ومسلم في الجهاد والسير (1805).

[6] أخرجه الطبري في تاريخه (2/78-79)، وانظر: السيرة النبوية (2/172).

[7] أخرجه مسلم في الإيمان (121).

[8] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (17)، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (74).

[9] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (77).

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدَ الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصابرين، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله إمام المتّقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

إخوةَ الإسلام، أفضلُ الصّحابة الخلفاءُ الأربعة، ثمّ بقيّة العشرة المبشّرين بالجنة، قال : ((خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر ثمّ عمر))[1].

أنزل الله في فضائلِ أبي بكر رضي الله عنه آياتٍ من القرآن، قول الله عزّ وجلّ: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَـٰكِينَ [النور:22].

وفي عمر رضي الله عنه يقول النبيّ كما في صحيح البخاري: ((ما لقيَك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غيرَ فجِّك))[6].

أمّا عثمان بنُ عفّان فقد جاء إلى النبيّ بألف دينار في ثوبه ليجهّز النبيّ جيشَ العسرة، قال: فصبّح في حجر النبيّ ، فجعل النبيّ يقلّبها بيده ويقول: ((ما ضرّ ابنَ عفان ما عمل بعد اليوم)) يردّدها مرارًا.

وفي عليّ رضي الله عنه قال رسول الله في غزوة تبوك: ((لأعطينّ الراية غدًا رجلاً يفتَح الله على يدَيه، يحبّ اللهَ ورسوله، ويحبّه الله ورسولُه)).

إخوةَ الإسلام، الصحابة كلُّهم مِن أهل الجنّة، قال تعالى: لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَـٰتَلُواْ وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ [الحديد:10].

ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...

--------------------------------------------------------------------------------

[1] هذا الكلام ثابت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من طرق كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في المناقب (3671). وأما المرفوع فقد أخرج البخاري في المناقب (3655) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي فنخيّر أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم، ولفظ أبي داود في السنة (4628): كنا نقول ورسول الله حيّ: أفضل أمة النبي بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين، زاد ابن أبي عاصم في السنة (1193)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1357)، والخلال في السنة (578)، والطبراني في الكبير (12/285) وغيرهم: ويسمع ذلك النبي فلا ينكره، وصححها الألباني في ظلال الجنة (2/568).

[2] أخرجه أحمد (5/382)، والترمذي في المناقب (3662، 3663، 3799)، وابن ماجه في المقدمة (97) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن حبان (9602)، والحاكم (4451، 4452، 4453، 4455، 4456)، والحافظ في التلخيص الحبير (4/190). وله شاهد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في المناقب (3805)، وصححه الحاكم (4456)، قال ابن كثير في تحفة الطالب (ص165): "في سنده يحيى بن سلمة بن كهيل وهو ضعيف". وانظر: السلسلة الصحيحة (1233).

[3] صحيح مسلم: كتاب المساجد (681) عن أبي قتادة رضي الله عنه.

[4] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3671) بنحوه.

[5] أخرجه أحمد (2/253، 366)، والترمذي في المناقب (3661)، وابن ماجه في المقدمة (94) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (6858)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (77).

[6] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3683)، وأخرجه أيضا مسلم في فضائل الصحابة (2397) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

[7] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري في المناقب (3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[8] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (11/276).

[9] أخرجه أحمد (5/63)، والترمذي في المناقب (3701)، والطبراني في الأوسط (9226) من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (4553)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2920).

[10] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3009)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406) عن سهل بن سعد رضي الله عنه

رابط هذا التعليق
شارك

  • الزوار

عنوان الخطبة: إياكم ومحدثات الأمور

الإمام: أسامة خياط

تاريخ الخطبة :14/8/1424

المسجد الحرام -مكة المكرمة

ملخص الخطبة ملخص الخطبة

1- وجوب اتباع النبي .

2- التحذير من الابتداع في الدين.

3- بدعة الاحتفال بالنصف من شعبان.

4- المراد بالليلة المباركة.

5- كل بدعة ضلالة.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، قال الله تعالى: وَمَا ءاتَـٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .

فكلُّ ما يصدر من المسلم ـ يا عباد الله ـ يجب أن يوزَنَ بهذا المِعيار الرّبّانيّ الخالد، ألا وهو طاعة رسول الله فيما جاء به، واتّباعه فيما أمرَ به ونهى عنه. وإنّ رسولَ الرّحمة والهدى صلوات الله وسلامه عليه قد نهانا عن الإحداثِ والابتداع في دين الله بأن نعبدَ الله بما لم يشرَعه ولم يأذن به، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ النبيّ كان يقول في خطبة الجمعة: ((أمّا بعد: فإنّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة.

وفي هذا بيانٌ أنّ اللهَ تعالى قد أكمل لهذه الأمّة الدينَ وأتمَّ عليها النعمة، ولم يقبِض نبيَّه صلوات الله وسلامه عليه إلاّ بعد أن بيَّن للأمّة كلَّ ما شرعَه لها من الأقوال والأعمال، ومِن ذلك بيانُه أنّ كلَّ ما يحدِثه الناس بعده من أقوال وأعمالٍ هو مبتدَع مردود على مَن ابتدعه وأحدثه كائنًا من كان وإن نَسبه إلى الإسلام، وإن حسُن قصدُه في ذلك، فكلّ ذلك لا يغيِّر من بِدعيَّة هذا العمل المحدَث، ولا يعطيه حجّيةً ولا قبولاً.

وإنّ ممّا ابتدعه بعض النّاس في شهر شعبانَ هذا بدعةَ الاحتفال بليلة النّصف منه وتخصيصَ يومِها بالصّيام وتخصيصَ ليلها بالقيام، وكِلا الأمرين لم يقُم عليه دليلٌ صحيح ينهَض للاحتجاج، إذ إنَّ كلّ ما ورد في فضلِ هذه الليلة وفي فضل الصلاة فيها أو فضل صيامِها هو ما بَين موضوع مخترَعٍ لا أصلَ له، وبين ضعيفٍ واهن لا يُحتَجّ بمثله، وفي ذلك قال الحافظ العراقي رحمه الله: "حديثُ صلاة ليلةِ النّصف من شعبان موضوع على رسول الله وكذبٌ عليه"، وقال العلاّمة الإمام النوويّ رحمه الله: "الصّلاة المعروفةُ بصلاةِ الرغائب، وهي اثنتا عشرةَ ركعة بين المغرب والعشاء ليلةَ أوّل جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان بدعتان منكرَتان، لا يُغترّ بذكرهِما في بعض المصنّفات ولا بالحديث المذكور فيهما، فإنّ كلَّ ذلك باطلٌ" انتهى كلامه رحمه الله[4]. وكِلا الإمامين الكبيرين ـ يا عباد الله ـ هما من الأعلام المشاهير المحقّقين في مذهبِ الإمام الشافعيّ رحمه الله.

وكذا صنّف الإمام أبو محمّد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسيّ كتابًا هامًّا في إبطال هاتين الصلاتين وبيان بدعيّتهما، فأحسَن فيه حتّى لم يدَع زيادةً لمُستزيد.

وعلى تقدير أنّها ليلةٌ مفضَّلة، يعني على القولِ بأنها ليلة مفضّلة إن سلَّمنا بذلك، فإنّ هذا لا يقتضي تخصيصَها بعبادةٍ مخصوصة بها دون غيرها، فإنّ يومَ الجمعة هو خير يومٍ طلعت عليه الشّمس كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ قال: ((خيرُ يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أدخِل الجنّة، وفيه أخرِج منها، ولا تقوم السّاعة إلاّ في يومِ الجمعة، فلو كان تخصيصُ شيء من هذه الليالي بشيء من العبادة جائزًا لكانت ليلةُ الجمعة أولى بذلك من سواها.

أمّا الليلة المباركة الوارِدة في قوله عزّ اسمه: إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ، وهذه الليلةُ التي ورد الكلام عليها في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ هي في رمضان لا في شعبان كما هو معلومٌ يا عباد الله.

فاتّقوا الله عبادَ الله، واحرِصوا على العمل بالثّابت المشروع، وحذارِ من الانسياق وراءَ المبتدَع المحدَث مهما زيّنه المزيّنون وزخرفه المزخرفون؛ إذ لا عبادةَ إلاّ بما شرَع الله ورسوله ، فاتّبعوا ـ أيها المسلمون ـ ولا تبتدِعوا فقد كُفِيتم.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنّة نبيّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (867).

[2] صحيح البخاري: كتاب الصلح (2697)، صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).

[3] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).

[4] المجموع شرح المهذب (4/61).

[5] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (854).

[6] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1144).

الخطبة الثانية

إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه.

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم بإسنادٍ صحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجِلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنّها موعظة مودِّع فأوصِنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعةِ وإن تأمّر عليكم عبد، وإنّه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة))، فكلّ من أحدث شيئًا ونسبَه إلى الدّين ولم يكن له أصلٌ من هذا الدين يُرجع إليه فهو ضلالة والدّين منه بريء، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة.

ألا فاتّقوا الله عبادَ الله، وحذارِ من الابتداع فإنّه شؤمٌ منذرٌ بسوء العاقبة، واستمسكوا بالثّابت المشروع من دينكم، فإنّ العملَ بالسنّة يُمنٌ وبركة ومآل كريم ورضوانٌ من الله ربِّ العالمين.

واذكروا على الدّوام أنّ الله قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً .

اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).

تم تعديل بواسطة mgramoun
رابط هذا التعليق
شارك

  • الزوار

عنوان الخطبة: الدنيا في ميزان الشرع

الإمام: عبدالباري الثبيتي

تاريخ الخطبة :21/8/1424

المسجد النبوي -المدينة المنورة

ملخص الخطبة :1- الدنيا مزرعة.

2- قلة الدنيا في جنب الآخرة.

3- الدنيا دار ممر.

4- مثل الدنيا في القرآن الكريم.

5- تنافس الناس على الدنيا.

6- خوف النبي على أمته فتنة الدنيا.

7- المفتونون بالدنيا.

8- مفهوم خاطئ عن الزهد.

9- الدنيا التي يذمها الإسلام.

10- مغبة التفريق بين الدين والدنيا.

11- الدنيا في المفهوم الإسلامي.

12- نظرة الكفار للدنيا.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فإنّ الدّنيا دارُ اختبارٍ وبلاء، وعليه فإنّها مزرَعةٌ للآخرة، يزرع النّاس فيها اليومَ ليحصدوا غدًا في الآخرة، قال الله تعالى: الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وهي صائرةٌ إلى فناءٍ وزوال، قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].

أمرُ الدّنيا في جنب الآخرة قليل، قال الله تعالى: وَفَرِحُواْ بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَـٰعٌ [الرعد:26]، عن المستورد بن شدّاد قال: قال رسول الله : ((ما الدّنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعَه في اليمّ، فلينظر بماذا يرجع)) أخرجه الترمذي[1]، وفي حديث ابن مسعود: اضطجَع رسول الله على حصير فأثّر في جنبه، فقيل له: ألا نأتيك بشيء يقيك منه؟ فقال: ((ما لي وللدنيا؟! إنّما أنا والدّنيا كراكبٍ استظلّ تحت شجرةٍ ثمّ راح وتركها)) أخرجه البخاري[2].

الدّنيا ـ عبادَ الله ـ ليست دارَ مقرّ، بل هي دار ممرّ، منذ أن تستقرّ قدمُ العبد في هذه الدّار فهو مسافِر إلى ربّه، ومدّة سفره هي عمرُه الذي كُتِب له، ثمّ قد جُعِلت الأيّام والليالي مراحلَ لسفره، فكلّ يوم وليلةٍ مرحلة من المَراحل، فلا يزال يطويها مرحلةً بعد مرحلة حتّى ينتهي السّفر، فالكيِّس الفطِن هو الذي يجعل كلَّ مرحلةٍ نصبَ عينيه، فيهتمّ بقطعها سالمًا غانمًا، فإذا قطعهَا جعل الأخرى نصبَ عينيه.

هذه الحقائقُ عن الدّنيا تحجبُها عن تأمُّل القلب جواذبُ الأرض وفِتن الدّنيا، وفي الحديث يقول النبيّ : ((إنّ الدنيا حلوَة خضِرة)) أي: حلوة المَذاق، خضِرة المنظَر، الشيء إذا كان حلوًا ومنظره طيّبًا فإنّه يفتن الإنسان، وهكذا الدّنيا حلوَة خضِرة، ثمّ يقول : ((وإنّ الله مستخلفُكم فيها، فينظر كيف تعملون)) أخرجه مسلم[3].

وصف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهِر بنضارَتها، تسحَر الألباب، تستهوي القلوبَ، ثمّ لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُل فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هكذا مثل الدّنيا، زهرةٌ فتّانة غرّارة تغدر وتُغوي، فإذا أقبلت عليها النفوس وتعلّقت بها الألباب ذوَت أيّامها واستحالت نضرتُها إلى هشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدق الله: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـٰهُ مِنَ السَّمَاء فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَالْبَـٰاقيَاتُ الصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].

إنّ هذا التصويرَ البليغ يُجلِّي حقيقةَ الدنيا في ميزان الإسلام، كيلا يصبِح الناس عبيدًا لها، تستهويهم خضرتها، ويؤثرونها على نعيمِ الآخرة، وليس مِن سداد الرّأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرامِ وجَمع الحُطام.

وتراكض الناس في طلب الدنيا خوفًا من فواتها وطمعًا في المزيد، ويبذلون الأوقات النفيسةَ ويقاسون شدّةَ الطلب، بينما قد يفرّطون في الصّلاة ويقعدون عن الجماعة ويتساهلون في الطّاعة وتلاوة القرآن ويتثاقلون في البذل والإنفاق.

إنّ الحياةَ الدّنيا مهما بلغ شأوُ نعيمِها لا يزن ذرّةَ رملٍ من معين الدّار الآخرة، وإنّ أعظمَ ما في الدّنيا من مصائبَ وشدائد يهون أمامَ نعيم دار الآخرة ولا يعادِل مقدارَ شرارةٍ صغيرةٍ من عذاب جهنّم.

كان النبيّ يتخوّف من فتحِ الدّنيا على أمّته، يخاف عليهم الافتتانَ بها، فعن عمرو بن عوف أنّ النبيّ قال للأنصار لمّا جاءه مالٌ من البحرين: ((أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَط عليكم الدّنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلِككم كما أهلكتهم)) أخرجه البخاري[4]، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ قال: ((إذا فُتحت عليكم فارسُ والرّوم أيّ قومٍ أنتم؟)) قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله : ((أو غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون))[5].

هذه ـ عبادَ الله ـ بعضُ آثار فتحِ الدّنيا، تنافسٌ ثمّ تخالُف ثم تقاتل وسفكٌ للدّماء، ومِن آثارها الانغماس في التّرف ونسيان الله والدّار الآخرة والسّقوط في المعاصي والآثام.

روي عن الحسن البصريّ أنّه قال: "رحِم الله أقوامًا كانت الدّنيا عندهم وديعة، فأدَّوها إلى من ائتمنهم عليها، ثمّ قاموا حفافًا"[6]، وقال مالك بن دينار: "بقدرِ ما تحزن للدّنيا يخرج همّ الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج همّ الدنيا من قلبك"[7].

طغى حبّ الدنيا على قلوبِ بعضِ النّاس واستهوتهم خضرتها، يصرف لها همّه، يحرّك فيها همَّته، عبدوها من دون الله، آثروها على... الآخرة، وفيهم يقول رسول الله : ((تعِس عبدُ الدّينار وعبد الدّرهم وعبد الخميصة، إن أعطِي رضي، وإن لم يُعْط سخِط)) أخرجه البخاري[8].

وتسربَل آخرون بالفَقر والمسكَنة والذلَّة وهجر الطيّبات، يرغبون في الأجور والزّوايا بزعم التفرّغ للعبادة وإيثار عملِ الآخرة، ويصابون بعد ذلك بداءِ الكَسَل والإخلاد إلى الرّاحة وداء الطمَع بعطاءات النّاس ومِنحهم وما يبذلونه لهم من مآكلَ ومشارب، تركوا عمارةَ الأرض وأردفوا بها...، ويصوغونها ويصوغها صنّاع الضلال.

إنّ فقدَ التوازنِ بين أمورِ الدنيا والدين أضعَف الأمّةَ وقعَد بها عن أداءِ دورها في قيادة الأمَم.

الإسلام ـ عبادَ الله ـ لا يحرّم الطيباتِ ولا يذمّ المنافعَ والمآكل والمشارب والأموال، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـٰتِ مِنَ الرّزْقِ [الأعراف:32].

ولا يُفهم ممّا سبق تركُ السعي في عمران الدّنيا وبنائها الحضاريّ والانتفاع بخيراتها، بل المراد أن يأخذ المرء من الدّنيا ضمنَ الحدود التي أذن الله بها، وأن لا تكون متاعًا للهموم يَرفع متاعها فوق كلّ القِيَم، تُفقِدْ الإنسانَ وعيَه، تفسِد عليه دينَه وأخلاقه.

الدّنيا التي يذمّها الإسلامُ دنيا الشهواتِ والملهِيات، دنيا تضييعِ الحقوق والواجبات والتّساهل بالمحرَّمات، الدنيا التي تشغل عن الله وتلهي عن الآخرة، أراد الله أن تكونَ الدّنيا مُلكًا لنا، فجاء صغار الهِمم وأبَوا إلاّ أن يكونوا مُلكًا لها.

إخوة الإسلام، إنّ المرتبةَ المثلى الجمعُ بين الدّين والدّنيا، بين الصّبر والفقر، بين التّقوى والغِنى، ولذا قال رسول الله : ((نِعم المال الصّالح للمرء الصّالح)) أخرجه البخاري[9]، ويدعو رسولنا الكريم ربّه قائلاً: ((اللهمّ أصلِح لي ديني الذي هو عِصمة أمري، وأصلِح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلِح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعَل الحياة زيادةً لي في كلّ خير، واجعل الموتَ راحة لي من كلّ شرّ)) أخرجه مسلم[10].

إنّ التفريق بين شؤون الدّنيا وشؤون الآخِرة كان سببَ التّخلّف الذي أزرى بأمّتنا وأقعدها عن نشرِ رسالتِها، حين فهِم أقوامٌ مِن ذمّ الدّنيا إهمالَ الحياة الدّنيا وتركَ عمارتها والهروبَ عن إصلاحها وتنميتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولّد فيهم ذلك سلبيةً مقيتة وانهزاميّة وضعفًا وخوَرًا يأباه الدّين، قال تعالى: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

الحسنة في الدّنيا تشمَل كلَّ مطلوبٍ دنيويّ من عافية ودارٍ رحبة ورزق واسع وعلمٍ نافع وعمل صالح ومركَب هجِل وثناءٍ جميل، والحسنة في الآخرة أعلاها دخولُ الجنّة وتوابعُه من الأمنِ من الفزع الأكبر وتيسير الحساب.

والصّحابة هم القدوة والنموذجُ في فهم الإسلام، يأخذون بالأسبابِ في الكسب من تجارةٍ وزراعة، ويطلبون العلمَ ويبذلون في سبيل ذلك أوقاتهم ونفوسَهم وأموالهم، فيهم الأغنياءُ دون بطر والفقراء مع التعفُّف، ومع هذا كانوا أبعدَ النّاس عن التهالك على الدنيا، فتَحوا البلدان، وأنشؤوا المدُن، وأقاموا الدّولَ، ونشروا الإسلام.

كان بعضُ كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يدعُهم رسول الله إلى ترك المال وترك الاشتغالِ بالتّجارة، كما أنّ الدّنيا لم تكن تساوي جناحَ بعوضة في حياتهم، قال سفيان بن عيينة: "ليس من حبّ الدنيا أن تطلبَ منها ما يصلِحك"[11]، وعن سعيد بن المسيّب: "لا خيرَ فيمن لا يطلب الدّنيا يقضي به دَينَه ويصون به عرضَه، وإن مات تركهه ميراثًا لمن بعده"[12].

الدّنيا في المفهوم الإسلاميّ وسيلة وذريعةٌ لتحصيل مقاصدِ الشريعة ومطيّة للآخرة، فإنّها إذا فسدت فربّما أدّى فسادُها إلى إيقاف الدّين، فلا شكّ أنّ الدين سيضعف إذا وصل حالُ أهلها إلى قلّةِ الرزق والقتل، فلا يُقبَل أن يقول مسلم: أنا أحفظ ديني وأدَع الدنيا يُعبَث بها ويُفسد فيها؛ لأنّ من صلحت حاله مع فساد الدّنيا واختلال أمورِها لم يعدم أن يتعدّى إليه فسادُها ويقدح فيه اختلالها؛ لأنّه منها يستمدّ، ومن فسَدت حاله مع صلاح الدّنيا وانتظام أمورِها لم يجِد لصلاحها لذّةً ولاستقامتها أثرًا؛ لأنّ الإنسانَ دنيا نفسِه، قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2323) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه مسلم في كتاب الجنة (2858).

[2] أخرجه أحمد (1/391، 441)، والترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (4109)، والطيالسي (277)، والبزار (1533)، وأبو يعلى (5229، 5292)، والحاكم (7859)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (438).

[3] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء (2742) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[4] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3158).

[5] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2962).

[6] انظر: إحياء علوم الدين (3/207).

[7] أخرجه البيهقي في الزهد (2/134)، وانظر: صفة الصفوة (3/279).

[8] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2887) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (299) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/197)، والبيهقي في الشعب (2/91)، وصححه ابن حبان (3210)، والألباني في غاية المرام (454).

[10] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء (2720) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[11] أخرجه أبو نعيم في الحلية بمعناه (7/273)، وانظر: صفة الصفوة (2/232).

[12] انظر: تفسير القرطبي (3/420).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، أحمده سبحانه وأسأله الفوزَ بالباقيات الصّالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريّات، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله المبشَّر بالمكرُمات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الفائزين بالجنّات.

أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ [الروم:7]. يحكي القرآن حالَ أقوامٍ نظرتُهم إلى الحياة الدنيا نظرة ضيّقة محدودة، يعلمون ظاهرَها، وهو ملاذُّها وملاعبها وأحسابها وشؤونها وعمرانها ومساكنُها وشهواتهم وأهواؤهم، ولا يعلمون باطنَها؛ مضارَّها متاعبَها فناءها، فعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله قال: ((الدّنيا دار من لا دارَ له، ومالُ من لا مال، ولها يجمَع من لا عقلَ له)) رواه أحمد في مسنده[1].

إنّ هؤلاء الذين أخلدوا إلى الأرض لا يذكرون من دنياهم لا ينالون من دنياهم للذّتهم بطائل ولو جمعوا وملكوا كلَّ عروشِها، ويظلّ الظمأ النفسيّ واللّهَث المادّيّ في تواصُلٍ دائم، قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـٰهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [الأعراف:176].

ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الأربعة الراشدين...

--------------------------------------------------------------------------------

[1] مسند أحمد (6/71) من حديث عائشة رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي في الشعب (7/375)، وحسنه المنذري في الترغيب (4/86)، وقال الهيثمي في المجمع (10/288): "رجاله رجال الصحيح غير دويد وهو ثقة"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1933).

تم تعديل بواسطة mgramoun
رابط هذا التعليق
شارك

  • الزوار

عنوان الخطبة: نصائح لاغتنام شهر المرابح

الإمام: صلاح بن محمد البدير

تاريخ الخطبة :28/8/1424

المسجد النبوي -المدينة المنورة

ملخص الخطبة :

1- حقيقة الدنيا.

2- فضل رمضان.

3- نعمة بلوغ شهر الصيام.

4- الحثّ على اغتنام هذا الشهر الكريم والتحذير من تضييعه.

5- التحذير من دعاة الفساد.

6- العيش مع القرآن.

7- فضل الإنفاق والإحسان.

8- من أحكام الصيام وآدابه.

9- كلمات للمرأة المسلمة.

10- اسألوا أهل الذكر.

11- ظاهرة الإسراف والتبذير.

12- دعاء الصائم.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].

واعلموا أنّ الدّنيا حُلوة خضِرة جَميلة نضرة، نعيمٌ لولا أنّه عديم، ومحمودٌ لولا أنّه مفقود، وغِناء لولا أنّ مصيره الفنَاء، المستقِرُّ فيها يزول، والمقيمُ عنها منقول، والأحوال تحول، وكلُّ عبدٍ مسؤول، من تعلّق بها التاط بشغلٍ لا يفرغ عناه، وأملٍ لا يبلغ منتهَاه، وحِرصٍ لا يدرِك مداه، أيّامُها تسير في خبَب، وشهورُها تتتابع في عجَب، وزمانها انحدَر مِن صبَب، الدّنيا كلُّها قليل، وما بقي منها إلا القليل، كالسَّغب شُرِب صفوُه وبقِي كدره، مخاطرُ ومعاثِر، وفتنٌ زوائِر، صغائر وكبائِر، والنّاس يتقلبون فيها مؤمن وكافر، وتقيّ وفاجِر، وناجٍ وخاسِر، وسالمٌ وعاثر، فطوبى لمن حفِظ نفسَه وأولاده ونساءه وقِعاده، من موجبات السخط والذمّ، ووسائل الشر والهدم، وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].

أيّها المسلمون، أتاكم شهرُ المرابح بظلالِه ونوالِه وجمالِه وجلالِه، زائرٌ زاهر، وشهر عاطِر، فضلُه ظاهر، بالخيراتِ زاخر، أرفعُ من أن يُحَدَّ حسنُ ذاتِه، وأبدع من أن تُعدَّ نفحاتُه وتحصى خيراتُه وتستقصَى ثمراتُه، فحُثّوا حزمَ جزمِكم، وشدّوا لبَد عزمكم، وأروا الله خيرًا مِن أنفسكم، فبالجدّ فاز من فاز، وبالعزم جازَ مَن جاز، واعلَموا أنّ من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق فشله، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهِد في رمضانَ ما لا يجتهِد في غيره. أخرجه مسلم[1].

أيّها المسلمون، أتاكم شهرُ القبول والسّعود والعتقِ والجود والترقّي والصّعود، فيا خسارة أهلِ الرّقود والصّدود، فعن أنس رضي الله عنه قال النبيّ : ((قال الله عزّ وجلّ: إذا تقرب العبد إلي شبرًا تقرّبت إليه ذِراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة)) أخرجه البخاري[2].

أيّها المسلمون، هذا نسيم القَبول هبّ، هذا سيلُ الخير صَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا الشّيطان كبّ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إذا جاء رمضانُ فتِّحت أبوابُ الجنة، وغلقت أبواب النّار، وصفِّدت الشياطين)) متّفق عليه[3]، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا كانت أوّلُ ليلة مِن رمضان صُفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبوابُ النار فلم يفتَح منها باب، وفتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلَق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر، ولله عتقاء من النّار، وذلك كلَّ ليلة)) أخرجه ابن ماجه[4].

أيّها المسلمون، هذا زمانُ الإياب، هذا مغتسلٌ بارِد وشراب، رحمةً من الكريم الوهّاب، فأسرعوا بالمتَاب، فقد قرب الاغتراب في دار الأجداث والتّراب.

قرُب منا رمضان فكم قريب لنا فقدناه، وكم عزيز علينا دفنّاه، وكم حبيب لنا في اللحد أضجعناه. فيا من ألِف الذنوبَ وأجرمَا، يا مَن غدا على زلاّته متندِّمَا، تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحبّ أن يجود ويرحمَا، وينيلَ التّائبين فضلَه تكرُّمًا، فطوبَى لمَن غسل في رمضان درنَ الذّنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبلَ فوْت الأوبة.

يا من أوردَ نفسَه مشارعَ البوَار، وأسامَها في مسارح الخَسار، وأقامَها في مهواة المعَاصي والأوزار، وجعلها على شَفا جُرفٍ هار، كم في كتابك من زَلل، كم في عملِك من خلَل، كم ضيّعتَ واجبًا وفرضًا، كم نقضتَ عهدًا محكمًا نقضًا، كم أتيتَ حرامًا صريحًا محضًا، فبادِر التّوبة ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبل أن لا تُقال العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، وأظهِر النّدم والاستغفار، فإنّ الله يبسُط يده بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل، ويبسط يدَه باللّيل ليتوبَ مسيء النّهار.

يا أسيرَ المعاصي، يا سجينَ المخازي، هذا شهرٌ يُفَكّ فيه العاني، ويعتَق فيه الجاني، ويتجَاوَز عن العاصي، فبادِر الفرصَة، وحاذِر الفوتَة، ولا تكن ممّن أبى، وخرج رمضان ولم ينَل فيه الغفرانَ والمُنى، صعد رسول الله المنبَر فقال: ((آمينَ آمينَ آمين))، فقيل: يا رسول الله، إنّك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال : ((إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: مَن أدرك شهرَ رمضانَ فلم يُغفَر له فدخَل النار فأبعَده الله قل: آمين، قلت: آمين)) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان[5].

أيّها المسلمون، احذَروا ما أعدّه لكم أهلُ الانحلال ودعاةُ الفساد والضّلال، من برامج مضِلّة ومشاهدَ مخِلّة، قومٌ مستولِغون لا يبَالون ذمًّا، وضمِنون لا يخافون لَومًا، وآمِنون لا يعاقََبون يومًا، ومجرِمون لا يراعون فطرًا ولا صومًا عدوانًا وظلمًا، جرَّعوا الشباب مسمومَ الشّراب، وما زادوهم غيرَ تتبيب، وتهييجٍ وتشبيب، وتدميرٍ وتخريب، مآربُ كانت عِذابا فصارت عَذابًا. فيا من رضِي لنفسه سوءَ المصير، وارتكب أسبابَ التفسيق والتّحقير، أخسِر بها من صفقة، وأقبِح بها مِن رفقة.

يا مطلقي النّواظر في محرّمات المنظور، قد أقبل خيرُ الشّهور، فحذارِ حذار من انتهاكِ حرمتِه، وتدنيس شرفِه، وانتقاصِ مكانتِه، يقول رسول الهدى : ((من لم يَدَع قولَ الزّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابه)) أخرجه البخاري[6].

يا طليقًا برَأي العَين وهو أسير، يا مُسامًا حياضَ الرّدى وهو ضرير، يا مَن رضي عن الصّفا بالأكدار، وقضى الأسحار في العارِ والشّنار، وكلَّ يومٍ يقوم عن مثل جيفةِ حِمار، عجَبًا كيف تجتنب الطريقَ الواضح، وتسلك مسالكَ الرّدى والقبائِح؟! ما بالُ سمعك عليه سُتور؟! ما بال بصرِك لا يَرى النّور؟! وأنت في دبور، وغفلة وغرور، وما أنت في ذلك بمعذور. فبادِر لحظاتِ الأعمار، واحذَر رقدات الأغمار، ولا تكن ممّن يقذفون بالغيب من مكانٍ بعيد، إذا قيل لهم: توبوا سوَّفوا ولا مجيب.

فطوبى لمَن تركوا شهوةً حاضِرة لموعدِ غيبٍ في الآخرة، لم يرَوه ولكنهم صدَّقوا به، وَالَّذِى جَاء بالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَـفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِى كَـانُواْ يَعْمَلُونَ [الزمر:33-35].

أيّها المسلمون، إنّ أولى ما قُضِيت فيه الأوقات وصُرفت فيه الساعات مدارسةُ الآيات وتدبّر البيّنات والعِظات، وقد كان جبريل عليه السلام يلقى رسولَ الله في كلِّ ليلة من رمضانَ فيدارسه القرآن. متّفق عليه[7].

شفاءٌ لما في الصّدور، وحَكَم عدلٌ عند مشتبِهات الأمور، قصصٌ باهرة، ومواعظ زاجِرة، وحكَم زاهرة، وأدلّة على التوحيد ظاهرة. أندى على الأكباد من قطر النّدى، وألذّ في الأجفان من سِنة الكرى، هو الرّوح إلى حياة الأبد، ولولا الروح لمات الجسد، فأقبِلوا عليه، واستخرجوا دُرَره، واستحلِبوا دِررَه، وتعلّموا أسبابَ التنزيل، وراجِعوا كتبَ التفسير والتأويل، ولا تقنعوا من تلاوته بالقليل، وحكِّموه في كلّ صغيرٍ وجليل، فالسّعيد من صرف همّتَه إليه، ووقف فكرَه وعزمَه عليه، يرتَع منه في رِياض، ويكرَع منه في حِياض، لا يجفّ ينبوعها، ولا تنضَب فيوضها، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

فكن ـ يا عبد الله ـ كالحالِّ المرتحِل، كلّما ختمه عادَ على أوّله يقرأ ويرتِّل، يقول رسول الهدى : ((الصّيام والقرآنُ يشفعان للعبد يومَ القيامة، يقول الصّيام: أي ربّ، منعتُه الطعامَ والشهوة فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ باللّيل فشفِّعني فيه، فيشفعان)) أخرجه أحمد[8].

أيّها المسلمون، أتاكم شهرُ الإنفاق والبذل والإشفاق، فيا من يتبجَّس بالرِّئم ويتبذّخ بالجِدة ويكاد ينشقّ بالغنى، تذكّروا الأكبادَ الجائعة، أهلَ الخصاصة والخماصة، الذين أصابتم البوائق الفالقة، والقوارعُ الباقعة، ممّن يعانون عُدمًا، ويعالجون سُقمًا، أعينوهم وأغنوهم، وَأَطْعِمُواْ الْقَـٰنِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، وأغيثوا الجائعَ والمضطرّ، وأنفقوا وانفَحوا وانضِحوا، ولا توكوا فيوكي الله عليكم، ولا تحصوا فيحصي الله عليكم، ولا تُوعوا فيوعي الله عليكم. وأصيخوا السمع ـ أيها الجمع ـ لقول المصطفى : ((يا ابنَ آدم، إنّك أن تبذلَ الفضلَ خير لك، وأن تمسكَه شرٌّ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمَن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) أخرجه مسلم[9]، وقوله : ((أفضل الصّدقة صدقة في رمضان)) أخرجه الترمذي[10]، وكان رسول الله أجودَ النّاس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام[11].

أيّها المسلمون، مواسمُ الخيرات أيّامٌ معدودات، مصيرها الزوال والفوَات، فاقصُروا عن التّقصير في هذا الشّهر القصير، وقوموا بشعائره التعبّدية وواجباتِه الشرعيّة وسننِه المرويّة وآدابه المرعيّة، و((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفِطر))[12]، و((فصلُ ما بين صيامِنا وصيام أهلِ الكتاب أكلةُ السحر))[13]، فتسحَّروا ولو بجرعة ماء، وكان رسول الله يُفطِر قبل أن يصلّي على رُطبات، فإن لم تكن رطبات فتمَيرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسواتٍ من ماء[14]، وكان إذا أفطَر قال: ((ذهب الظمأ، وابتلّت العروق، وثبتَ الأجر إن شاء الله))[15]. و((من أكلَ أو شرب ناسيًا فليتمّ صومه، فإنّما أطعمه ربُّه وسقاه))[16]، ولا كفّارة عليه ولا قضاء، و((من ذرَعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاءٌ، ومن استقاء فليقض))[17]، ويفطِر من استمنى لا منِ احتلم، و((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))[18]، و((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه))[19]، و((من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة))[20]، و((مَن فطَّر صائِمًا كان له مثلُ أجره، غيرَ أنّه لا ينقُص من أجرِ الصائم شيء))[21]، ((وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم))[22]، و((عمرةٌ في رمضان تعدِل حجّة مع النبيّ ))[23].

أيّها المسلمون، احذَروا الفطرَ قبلَ تحلّة صومكم ووقتِ فطركم، واحذَروا انتهاكَ حرمة نهار شهركم بالفطرِ بلا عذرٍ شرعيّ، فعن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((بينا أنا نائمٌ أتاني رجلان، فأخذا بضبعَيّ، فأتيا بي جبلاً وعرًا، فقالا: اصعد، فقلتُ: إني لا أطيقه، فقالا: إنّا سنسهِّله لك، فصعدتُ حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصواتٍ شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عُواءُ أهلِ النار، ثمّ انطُلِق بي، فإذا أنا بقومٍ معلَّقين بعراقيبهم، مشقّقة أشداقهم، تسيل أشداقهم دمًا، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطِرون قبلَ تحلّة صومهم)) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان[24].

وعلى المرأة المسلمة إذا شهدت العشاء والتراويحَ أن تجتنبَ العطورَ والبخور، وما يثير الفتنة من ملابسِ الزّينة المزخرفة أو غيرها، والتي تستميل نفوسَ ضعافِ الإيمان، وتغري بها أهلَ الشرّ والفساد، وتبلبِل من في قلبه مرضٌ. وعليها أن تجتنبَ الخَلوة بالسّائق الأجنبي لما في ذلك من النّتائج التي لا تُحمَد عقباها، ولا يُعرَف منتهاها، فعن زينب الثقفيّة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا شهِدت إحداكنّ العشاءَ فلا تتطيّب تلك الليلة))، وفي رواية: ((إذا شهدت إحداكنّ المسجدَ فلا تمسَّ طيبًا)) رواهما مسلم[25]، وعن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أنّ رسول الله رأى ما أحدَث النساء لمنعهنّ المسجدَ كما مُنعت نساء بني إسرائيل، فقيل لعمرة: نساء بني إسرائيل مُنعن من المسجد؟ قالت: نعم. أخرجه مسلم[26].

وصلاتهنّ في قعر بيوتهنّ خيرٌ لهنّ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ قال: ((لا تمنَعوا نساءَكم المساجدَ، وبيوتهنّ خير لهنّ)) أخرجه أبو داود[27]، وعن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله أنّه قال: ((خيرُ مساجدِ النّساء قعر بيوتهنّ)) أخرجه أحمد[28]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صلاةُ المرأة في بيتها أفضل مِن صلاتِها في حجرتها، وصلاتها في مخدَعِها أفضل من صلاتها في بيتها)) أخرجه أبو داود[29].

أيّها المسلمون، شفاءُ العِيِّ السؤال، فاسألوا عما أشكل، واستفتوا عما أقفَل، فمن غدا بغير علمٍ يعملُ، أعماله مردودة لا تقبلُ.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه مسلم في الاعتكاف (1175) بلفظ: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.

[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7536).

[3] أخرجه البخاري في الصوم (1899)، ومسلم في الصيام (1079) واللفظ له.

[4] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1642)، وهو أيضا عند الترمذي في الصوم (682)، وأبي نعيم في الحلية (8/306)، والبيهقي في الكبرى (4/303)، وصححه ابن خزيمة (1883)، وابن حبان (3435)، والحاكم (1532)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1331).

[5] أخرجه ابن خزيمة (1888)، وابن حبان (907)، وكذا البخاري في الأدب المفرد (646)، والبزار، وأبو يعلى (5922)، والطبراني في الأوسط (8131، 8994)، والبيهقي (4/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (10/167): "فيه كثير بن زيد الأسلمي، وقد وثقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/291)، وصححه ابن حبان (409)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "فيه عمران بن أبان، وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد آخر من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/144)، والبيهقي في الشعب (1572)، وصححه الحاكم (7256)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "رجاله ثقات". وهذه الأحاديث الثلاثة صححها الألباني في صحيح الترغيب (995، 996، 997). وفي الباب أيضا عن عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن مسعود وأنس و عبد الله بن الحارث رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (10/164-166).

[6] أخرجه البخاري في الصوم (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[7] أخرجه البخاري في بدء الوحي (4)، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[8] أخرجه أحمد (2/174)، وصححه الحاكم (2036)، وقال المنذري في الترغيب (2/84): "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وقال الهيثمي في المجمع (10/381): "رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثق"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (984، 1429).

[9] أخرجه مسلم في الزكاة (1036) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

[10] أخرجه الترمذي في الزكاة (663) من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (618).

[11] أخرجه البخاري في الصوم (1902)، ومسلم في الفضائل (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[12] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

[13] أخرجه مسلم في الصيام (1096) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

[14] أخرجه أحمد (3/164)، وأبو داود في الصوم (2356)، والترمذي في الصوم (696)، من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الدارقطني (2/185)، والحاكم (1575)، وحسنه الألباني في الإرواء (932).

[15] أخرجه أبو داود في الصوم (2357)، والنسائي في الكبرى (3329، 10131)، والبيهقي في الكبرى (4/239) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحسن إسناده الدارقطني (2/185)، وصححه الحاكم (1536)، وحسنه الألباني في الإرواء (920).

[16] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

[17] أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1176)، قال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي إلا من حديث عيسى بن يونس، و قال محمد ـ يعني البخاري ـ: لا أراه محفوظا"، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426-427)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (930).

[18] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[19] أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[20] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).

[21] أخرجه أحمد (4/114-115)، والترمذي في الصوم (804) واللفظ له، والنسائي في الكبرى (3330)، وابن ماجه في الصيام (1746) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3429)، وهو في صحيح سنن الترمذي (647).

[22] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[23] أخرجه البخاري في الحج (1863)، ومسلم في الحج (1256) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.

[24] أخرجه ابن خزيمة كما في الترغيب (3/188)، وابن حبان (7491)، وكذا النسائي في الكبرى (3286)، والطبراني في الكبير (8/155-156)، والبيهقي في الكبرى (7796)، وصححه الحاكم (1568، 2837)، وقال الهيثمي في المجمع (1/76): "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1005).

[25] أخرجهما مسلم في الصلاة (443).

[26] أخرجه مسلم في الصلاة (445).

[27] أخرجه أبو داود في الصلاة (567)، وكذا أحمد (2/76)، والبيهقي (3/131)، وصححه ابن خزيمة (1684)، والحاكم (755)، وابن عبد البر في التمهيد (23/395)، ونقل الشوكاني في النيل (3/95) تصحيح العراقي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (530). وأصل الحديث في الصحيحين وليس فيه: ((وبيوتهن خير لهن)).

[28] أخرجه أحمد (6/297، 301)، وكذا أبو يعلى (7025)، وابن خزيمة (1683)، والطبراني في الكبير (23/313)، والحاكم (756)، والقضاعي في مسند الشهاب (1252)، والبيهقي (3/131)، قال المنذري في الترغيب (1/141): "رواه أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم من طريق دراج أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة عنها، وقال ابن خزيمة: لا أعرف السائب مولى أم سلمة بعدالة ولا جرح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (341).

[29] أخرجه أبو داود في الصلاة (570)، والبزار (2060، 2063)، وابن خزيمة (1690)، والبيهقي في الكبرى (5144)، وابن عبد البر في التمهيد (23/298)، وتردد ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث من مورق، وصححه الحاكم (757)، وجود إسناده ابن كثير في تفسيره (3/483)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (533).

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصُوه، يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّـٰدِقِينَ [التوبة:119].

أيّها المسلمون، إنّ ممّا يؤسِف الناظرَ ويُحزن الخاطِر ظاهرةً مقيتة وعادة قبيحَة سرت في صفوف بعض المسلمين، ألا وهي ظاهرة الإسراف في المآكل والمشارب في شهر رمضان، زيادة على قدر الحاجة، وإكثار على مِقدار الكفاية، نهمٌ مُعِرّ، وشرهٌ مضرٌّ، بطنةٌ مورثة للأسقام، مفسدَة للأفهام، وبطَر وأشَر، حمل الكثيرَ إلى رمي ما زاد من الأكلِ والزاد في النّفايات والزّبالات مع المهملات والقاذورات، في حين أنّ هناك أكبادًا جائعة وأُسرًا ضائعة تبحث عمّا يسدّ جوعَها ويسكِّن ظمأها.

فاتّقوا الله عبادَ الله، فما هكذا تُشكَر النعم وتستدفَع النقم، وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ الشَّيَـٰطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27]. فتوسّطوا فالتوسُّط محمود، وأنفقوا باعتدال، ولا خيرَ في السّرف، ولا سرفَ في الخير، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء:29].

أيّها المسلمون، لكلِّ صائمٍ في كلِّ يوم وليلة دعوةٌ مستجابة، تفتَح لها أبواب الإجابة، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ لكلّ مسلمٍ في كلّ يوم وليلة دعوةً مستجابة)) أخرجه البزار[1]، وعن [عبد الله بن] عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ للصّائم عند فطرِه لدعوةً ما تردّ)) أخرجه ابن ماجه[2].

فاستكثِروا مِن الدّعوات الطيّبات في شهر النّفحات، لأنفسكم وذويكم، وتوسَّلوا إلى الله بألوانِ الطّاعة، وارفَعوا أكفَّ الضّراعة، أن ينصرَ إخوانَكم المستضعفين والمشرَّدين، والمنكوبين والمأسورين، والمضطَهدين في كلّ مكان، فالأمّة تمرّ بأعتى ظروفها وأقسى أزمانها.

اللهم أنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حولَ ولا قوة إلا بك.

اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين...

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أخرجه البزار كما في المجمع (3/143)، والطبراني في الأوسط (6401)، وأشار المنذري في الترغيب لضعفه، وقال الهيثمي: "فيه أبان بن أبي عياش وهو ضعيف"، وقال في موضع آخر (10/149): "وهو متروك". وأخرج نحوه أحمد (2/254) فقال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد، الشك من الأعمش، ورواه أبو نعيم في الحلية (8/257، 9/319)، قال الهيثمي في المجمع (10/216): "رجاله رجال الصحيح". والحديثان صححهما الألباني في صحيح الترغيب (1002) وصحيح الجامع (2169).

[2] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1753)، وكذا الحاكم (1535)، والبيهقي في الشعب (3904)، وفي سنده إسحاق بن عبد الله وقيل: ابن عبيد الله، اختلفوا فيه. وللحديث طريق آخر عند الطيالسي (2262)، والبيهقي في الشعب (3907) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث ضعفه الألباني في الإرواء (921).

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
  • الموضوعات المشابهه

    • 0
      هل تأثرت صورة الإسلام فى الغرب بعد طوفان الأقصى ولماذا تصر إسرائيل على إقحام الدين فى حربها ضد العرب والفعرض المقال كاملاً
    • 0
      خطبة عن المرافق العامة وكيفية الحفاظ عليها بعنوان “المرافق إلى الانتفاع بالمرافق” من خطب الجمعة للشيخ محمد نبيه يوضح فيها تعريف المرافق العامة وأنواعها وأمثلة لها وما هي فوائدها على المجتمع. تعريف المرافق العامة جاء في معجم المعاني: (فعل) رافقَ يرافق، مُرافَقةً، فهو مُرافِق، والمفعول مُرافَق. رافق الشَّخصَ: صار مصاحبًا له في سفره أو سيره. رَافَقَهُ مُنْذُ صِغَرِهِ: كَانَ رَفِيقاً لَهُ. رافقتك السلامة: دُعاءٌ للمغادر. وشيءٌ مُرافِقٌ لكذا: ملحقٌ به وهي مرافقةٌ. ا
    • 0
      [URL="https://aboarafat.com/%d8%ae%d8%b7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%85%d8%b9%d8%a9/%d9%81%d8%b6%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b4%d8%b1-%d9%85%d9%86-%d8%b0%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%ac%d8%a9/"][B]خطبة عن فضل العشر من ذي الحجة[/B][/URL] من خطب الجمعة للشيخ محمد نبيه يبين فيها فضل العشر الأوائل من ذي الحجة وما هي أفضل الأعمال الصالحة في هذه الأيام. # الخطبة الأولى # إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا
    • 0
      إخوتي الكرام، لقاءنا عنوانه “الوقاية خير من العلاج” وأول من قال هذه الجملة هو العالم المسلم ابن سينا عندما ألف في الطب، وكتبه في الطب كثيرة. والطب علم يبحث في أصل الداء وأسبابه وعلاجه. معنى الوقاية خير من العلاج معنى الوقاية خير من العلاج هو الحفاظ على الصحة، والشرائع السماوية كلها جاءت بالحفاظ على الصحة نظراً لأن الصحة من أعظم نعم الله تبارك وتعالى. وفي صحيح الإمام البخاري من قول النبي ï·؛: (نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ). (صحيح الب
    • 0
      دبت الحياة من جديد فى سوق التونسى الشهيرة بـ سوق الجمعة بعدما تمت إزالة مقرها العشوائى القديم ونقلها إل عرض الصفحة
×
×
  • أضف...