اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

و هكذا-قصة قصيرة


Sherief AbdelWahab

Recommended Posts

*تخيلت أن تلك القصة دارت في نوفمبر 2002 و تحديدا في إحدى الأيام الأخيرة من رمضان 1423 الهجري...

1-

ليل الرابع و العشرين من رمضان...

كانت كل عيون زملائي في الجريدة محدقة في وجههي...و الماكيير يعبث به كيفما يشاء...و يضع عليه وابلا من المساحيق الغبية...كل واحد منهم كان يحاول منع ضحكة مدوية من الانطلاق...ولهم حق...

لقد قرر رئيس التحرير اختياري لمهمة صحفية غريبة الشكل...أن أقوم بدور شحاذ لمدة نهار كامل...و لأنني معروف في أوساط المدينة ...فقد استقر رأي رئيس التحرير الموقر على استعمال الماكياج لتغيير ملامحي...و لإضفاء سمة الشحاذة على مظهري...

في الوقت الذي قارب فيه الماكيير على الانتهاء من عمله...تعالت التعليقات من الزملاء و الزميلات..."لايق في الشحاتة "..."و الله شكلك أروش بكتير!" ..."ياااي ...تري فوتوجينيك!"...

ورددت على الزميلة التي أطلقت التعليق الأخير بابتسامة شديدة الاصفرار قائلا:"يا سلام لو جربتيها... دة حتى تبقي أحلى من شاكيرا !"...

و علق آخر: "مش أحسن ما يتعمل لك عاهة بحق و حقيقي؟!"...

آثرت الصمت...و قطعت على نفسي عهدا ألا أنظر في المرآة حتى لا أرى شكلي المرعب الجديد...بل أنني "اتقمصت" من زملائي ورفضت تناول السحور معهم ...و اكتفيت بإرسال رسالة قصيرة بالمحمول إلى منزلي لأخبر أهلي بأنني سأبيت الليلة في الجريدة...

2-

ظهر الخامس و العشرين من رمضان...

بدأت التجوال في شوارع المدينة المكتظة...و كان يتابعني من بعد مصور الجريدة حسب الخطة الموضوعة...و رغم الماكياج المحكم تخوفت من أن يعرفني أحد ...فتفشل المغامرة الصحفية ...وأسمع بعض التعليقات السخيفة...

لم أكن أتصور أن الزحام سيفارق مدينتنا حتى في رمضان ...ربما لأنني كنت عادة لا أنزل من بيتي إلى الشارع في نهار رمضان إلا بعد العصر بساعة كاملة...بينما كنت أنام من الفجر إلى العصر كطفل كسول...نفس الحركة الدائبة ...و نفس العصبية...و نفس الشتائم التي يسمعها -بضم الياء و كسر الميم-سكان المدينة بعضهم البعض على سبيل المزاح...و يردد بعضهم بعدها عبارة "اللهم إني صائم"!...

و اكتشفت أيضا أنني لست "الشحاذ" الوحيد في المدينة...حتى خيل لي أنني محاصر بجيش من الشحاذين...أربعة منهم تكوموا بجوار المسجد الصغير في انتظار المصلين ...ثلاثة على رصيف المسجد ذاته...خمسة على باب المصلحة الحكومية يلاحقون الموظفين "المنشكحين" من فرط السعادة لانتهاء اليوم الوظيفي - هذا إن لم يكن معظمهم قد بادر بالتزويغ من المصلحة قبل أن تطأ قدماي الشارع! - ...و كتيبة كاملة منتشرة في عموم السوق...و شحاذين "سريحة" هنا وهناك...منهم أصحاب عاهات ، و منهم أصحاء كالثيران...سيدات متشحات بالسواد...و فتيات يحملن أطفالا صغار يشبهون أطفال المجاعات...أو روشتات بها كلام غير مفهوم...

حقيقة استشعرت صعوبة الموقف...فأنا شحاذ مبتدئ عديم الخبرة ...محاصر وسط شحاذين محترفين...يعرفون كيف يستدرون الملاليم من أهالي مدينتنا الأسخياء في مثل تلك المناسبات...وربما أكتشف أنهم قسموا المدينة فيما بينهم إلى مناطق نفوذ..وعليه فمن الصعب علي أن أرفع يدي وسط هؤلاء قائلا: لله يا محسنين لله !

3-

قررت خلال الوقت الضيق المتاح لي أن أدرس الطرق التي يحتال بها هؤلاء على الناس في نهار رمضان...مثل فتاة صغيرة في الرابعة عشر من العمر تستعطف أحد المارة بأداء تمثيلي متوسط الجودة أن يعطيها "اللي فيه القسمة" من أجل شراء دواء للسرطان...و كان جرابها مليئا بـ"الفكة" عن آخره..بمبلغ يكفي لشراء صيدلية بأكملها !..الناس يعطونها وهم يعرفون ذلك تماما...وربما يخبروك جيدا عن أصل و فصل الشحاذة الناشئة الموهوبة!

و لأنني ساذج ...لم أتوان عن تقليد نفس الشحاذة الصغيرة...أخرجت قصاصة قديمة من الورق...و تواريت بعيدا عن الأنظار...و كتبت كلمتين انجليزيتين بخط يشبه خط الأطباء الشهير...و حاولت تقليدها ...و كان الرد متوقعا...فاصل من الاستهزاء و الشتائم ...تيقنت بعده أنني غير مقنع كمتسول...

هذا لم يمنع أنني تعلمت بعضا من الحيل الأخرى...و الأدعية التي تستعطف الناس و تستثير جيوبهم ...جربتها ...و دخلت على الناس الذين أعطوني مما تبقى في جيوبهم...الفقير و الغني و النزهي و البخيل و الرجال و السيدات على السواء...و تهكمت في نفسي على حالي أنا...حيث أنني أعمل "متطوعا" في الجريدة ككل الزملاء...بدون تقاضي مليم واحد !

لم أمنع عيني من ممارسة هوايتي القديمة الجديدة عند التجوال في الشوارع..النظر إلى الناس و المحال...من صاحب الورشة العجوز وهو يقرأ آيات من الذكر الحكيم... إلى صاحب المقهى-المغلق-وهو "يدردش" مع أصدقائه حول كرة القدم و السياسة و حرب العراق المتوقعة...إلى الطلبة الذين يملأون الشوارع ذهابا و إيابا من و إلى الدروس...إلى شاشات التليفزيون في الفاترينات وهي تعرض إعلانات كعك العيد ، و إعلانات لعشرات الجمعيات التي لم تظهر إلا في أواخر رمضان لتطلب منا التبرع ولو بجنيه...كل هذا و أنا لا أتوقف عن "العمل"..."حسنة قليلة تمنع بلاوي كبيرة"...إلهي ينجح لك ولادك و يشغل لك اللي اتخرج منهم قادر يا كريم"...أتلقى جنيهات...و أرباع جنيهات...و شتائم...لا يهم...لكن كل نظرات الناس في الشوارع إلي و إلى بعضهم البعض لم تكن تعكس نفس السعادة التي كنت أشعر بها في طفولتي عندما كان يهل هلال رمضان ...قابلتني هناك نظرات تجمع بين الحزن و الإحباط و اليأس و الغضب...هل هي نظراتهم أم انطباعاتي...الله أعلم !...

لكن الانطباع الأطرف هو ما رأيته في عين إحدى الشحاذات العجائز:

"جنيه واحد...بس...الله يخرب بيوتكم بلد هم !"...

ضحكت - في نفسي طبعا ..

4-

بعد صلاة العصر...

انتهزت الفرصة لأستريح قليلا وسط الشحاذين المرصوصين على مدخل المسجد...و كان الواعظ يلقي درسه المعتاد في كل عام : علامات ليلة القدر...وأخلاقيات رمضان...و أهمية أن نكون بعد رمضان مثلما كنا في رمضان، و يسأله المصلون نفس الأسئلة التي يسألونها كل عام...ثم يحرج الجميع إلى شوارع المدينة بنفس تعاملاتهم و شتائمهم و عصبيتهم...أيضا مثل كل عام !...

ظللت أتمشى بدون شحاذة لبعض الوقت...أعاين المدينة المنهكة الملامح في ساعات ما قبل الإفطار... مايكروفونات الدورة الرمضانية في أدوارها النهائية ...تليها مايكروفونات المساجد و الزوايا تذيع تلاوة الرابعة التي تسبق الافطار...الشباب الذي انقسم لقسمين...قسم يسارع لمنزله و قسم يذهب إلى المساجد لقراءة القرآن قبل آذان المغرب...و المشاجرات التي تزداد عنفا بين الباعة و بين السائقين بعضهم البعض"مش تفتح يا أعمى؟ أنا أعمى يا ابن الـ....؟ إنت بتشتمني يا ....."...

ظهرت في الأفق سيارة بوكس زرقاء...و تحضر أصحاب موائد الرحمن لساعة الآذان...و انطلقت السيارات شيئا فشيئا مسرعة كفهود في غابة...

بدأت السماء تتلون بلون الغروب الجميل...و نظرت في تحسر إلى "البلاي ستيشن" الذي كنت أمضي فيه تلك الفترة من اليوم مع رفاق الصياعة و البطالة...فأنا في مهمة عمل بكل أسف...

و ما أن أذن للمغرب...حتى انطلقت إلى المسجد في بهجة كطفل صغير...لقد انتهى هذا اليوم الممل...جريت إلى دورة مياه المسجد لأبدل ثيابي...ثم إلى الميضأة بسرعة الصاروخ لأغسل وجهي من المساحيق التي تلطخه...وسط زحام المتوضئين الذين يعرفني بعضهم...الآن فقط استعدت شخصيتي الحقيقية...أما أمر التحقيق اللعين فنسيته تماما...

المنصورة 26 يولية 2003

خلص الكلام

Sherief El Ghandour<br /><br />a furious Egyptian

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...