shakoosh بتاريخ: 13 أغسطس 2003 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 13 أغسطس 2003 المتتبع لمقالات الأستاذ صلاح الدين حافظ فى الفترة الأخيرة يجدها تتميز بالصراحة و الجرأة النسبية (لأنه لا يسمى النظام الحاكم مباشرة) و هذا مقال له منشور بجريدة الأهرام يوم 13 أغسطس 20003 ************************* إصلاح عقولنا الفاسدة! بقلم: صلاح الدين حافظ فشلنا في تغيير أفكارنا وإصلاح عقولنا, فجاءت أمريكا الآن لتتولي الأمر بيدها, وعلي هواها, بما يحقق مصالحها.... وتغيير الأفكار وإصلاح العقول, بما يعني أيضا تغيير السياسات وإصلاح النظم السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة, أصبح شعار وعنوان استراتيجية العمل الأمريكية في المرحلة الحالية, كما هو معلن علي ألسنة كل المسئولين الأمريكيين, وليس ادعاء أو افتراء من جانبنا, إذن فالأمر جد لا هزل فيه, هذا من ناحية. أما من الناحية الأخري, فمن الواضح أن ولاة الأمور في واشنطن, قد فقدوا الثقة في المتأمركين العرب خلال المرحلة الأخيرة مرتين, مرة في العمل العسكري, وأخري في العمل السياسي الثقافي... في المرة الأولي, راهنت السياسة الأمريكية علي مدي العام الماضي خصوصا, عندما كانت تعد العدة لاجتياح العراق, علي ما كان يسمي منظمات المعارضة العراقية في الخارج, فسلحتها ومولتها ودربتها, لتكون هي رأس الرمح في تحرير العراق من نظام الرئيس المخلوع صدام حسين, ومضت في سبيل ذلك إلي آفاق بعيدة... لكن واشنطن اكتشفت أن معظم هذه المنظمات عالية الصوت, لأنها كانت تعيش في المهاجر الأوروبية والأمريكية والعربية, لكنها لا تملك التأثير في الداخل, إما لضعف روابطها بالداخل, وإما لقوة قبضة النظام البعثي علي الأقل من الناحية الأمنية, فضلا عن اكتشافها حجم الخلافات والفساد بين هذه المنظمات.. هكذا صدمت في حلفائها من المتأمركين العرب, وفشل رهانها علي أن يتولوا بأنفسهم الانقلاب من الداخل علي نظام حديدي صارم لا يرحم, فقررت, كما نعلم, أن تأخذ الأمور بيديها وأن تغزو ـ هي بجيوشها الجرارة وترسانتها العسكرية التكنولوجية ـ العراق, لتسقط النظام وتستولي علي بغداد في التاسع من ابريل الماضي كما يعلم الكافة.. وفي المرة الثانية, راهنت السياسة الأمريكية ـ مرة أخري ـ علي أصدقائها المتأمركين العرب, العاملين في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية خصوصا, ليبشرونا بالقيم الأمريكية ويروجونا للسياسات والأهداف الأمريكية التنويرية التحررية, باعتبارها أهم الرسالات الكونية, ابتداء من العولمة وانتهاء بحرية الزواج المثلي, وفيما بينهما الحرية علي الطريقة الأمريكية! وبرغم كثرة المتأمركين العرب المنتشرين في وسائل الإعلام المؤثرة, ورغم وفرة آرائهم وفتاواهم خلال السنوات الماضية, فإنهم فشلوا لأسباب عديدة, في أداء الرسالة المطلوبة, وبالتالي اكتشفت واشنطن للمرة الثانية, أن أصدقاءها غير أكفاء وغير قادرين علي تحقيق ما تريد من تأثير في شعوبنا... لذلك قررت أن تأخذ هذه الأمور بيدها مباشرة, كما فعلت في المرة الأولي, وها هي قد بدأت الهجوم الكبير عبر الصحف والاذاعات والتليفزيونات والسينما والفنون, أهم وسائل تغيير الأفكار وتشكيل المواقف وإصلاح العقول الفاسدة, التي ران عليها التخلف والانغلاق والتمسك بتراثيات تاريخية منقرضة, مثل الدين والتاريخ والثوابت الوطنية والانتماءات القومية, التي أصبحت في مزابل التاريخ, كما قال وكتب أحدهم! ومثلما غزت الجيوش الأمريكية العراق واستولت عليه, لتقيم نظاما ديمقراطيا نموجيا علي الطريقة الأمريكية, فهي الآن تغزو شعوبنا بترويج مباديء وأفكار جديدة, من خلال أكثر من وسيلة, ربما كان أهمها علي الإطلاق, الضغط علي حكوماتنا الرشيدة لتعديل مناهج التعليم وتطوير الثقافة, وتقليل التركيز علي مناهج الدين والتربية الوطنية والتاريخ الوطني, الأمر الذي أصبح معروفا للكافة... *** لكن الجديد في هذا المضمار, هو نزول السياسة الأمريكية مباشرة إلي ميادين الصحافة والإعلام والسينما والتليفزيون, باعتبارها وسائل تشكيل الوعي وصناعة العقل وتربية الوجدان, ولذلك فإن المطروح ـ المنشور ـ هو أن تتولي هيئات أمريكية إصدار صحف وإقامة محطات إذاعة وشبكات تليفزيون, تتحدث باللغة العربية, وتصدر من العواصم العربية مباشرة, وليس علي غرار اذاعة وتليفزيون سوا التي تذيع من واشنطن, أو مجلة هلا الجديدة... إنما المطلوب هو أن يشعر القاريء المصري مثلا, أن هذه الصحف تصدر من بلاده, وأن ينتشي المستمع والمشاهد العربي ببرامج تلبس العقال والغترة, وتتحدث إليه بلسان عربي مبين, حتي وإن كان مضمونها أمريكيا... ورغم أنني أعرف من قبل خطوطا عامة حول هذا التوجه الأمريكي, فإنني قرأت أخيرا, تفاصيل أكثر تحديدا, نشرتها أكثر من صحيفة, ومنها صحف عربية, تتحدث عن اتخاذ إجراءات قانونية وفنية, لإصدار صحف واقامة محطات اذاعة وتليفزيون أمريكية, في عدد من الدول العربية, منها مصر والسعودية والبحرين ولبنان, والمغرب والجزائر وتونس, تمولها هيئة المعونة الأمريكية, خصما بالطبع من قيمة المساعدات الأمريكية المعروفة, وتحت الاشراف والإدارة السياسية والفنية والمهنية لخبراء أمريكيين, مع استقطاب عناصر صحفية وإعلامية عربية.. ولابد أن القاريء النابه يبادر بالسؤال: ما هو الهدف, وهل يمكن لمثل هذه الصحافة والإعلام الأمريكي أن يكتسب ثقة القاريء ومصداقية الأداء المهني, أم أنه سيبقي في النهاية ـ كما هو في البداية ـ مجرد إعلام دعائي فج! يقول الأمريكيون, إن الهدف من مثل هذا المشروع الجريء هو إصدار صحف ووسائل إعلام حديثة, تتمتع بالحرية والمهنية والحرفية العالية, وتستفيد بأحدث وسائل تكنولوجيا الاتصال, مثلما تتمتع بالاستقلال بعيدا عن قبضة الحكومات المعروفة بعدم تسامحها مع حرية الرأي والتعبير, وبالتضييق علي حرية إصدار الصحف, وبالتشدد الصارم مع الصحفيين المحليين, وصولا إلي سجنهم في قضايا الرأي والنشر! وبهذا الشكل تساعد أمريكا دولنا وشعوبنا في تخطي القيود السياسية والحواجز القانونية المفروضة علي الصحافة والإعلام, عن طريق تقديم نموذج جديد ومختلف للصحافة والإعلام الأمريكي, مثلما تساعد ـ وهذا هو الأهم ـ في كسر حاجز الكراهية بين هذه الشعوب وأمريكا الرسمية, وفي الترويج للقيم والمباديء والسياسات الأمريكية, وفي تلميع الوجه الأمريكي المكروه, وتغيير صورة اليانكي القبيح والكاو بوي الشرير التي ترسبت في عقولنا عبر الزمن, ومن خلال الممارسات العديدة, بعد أن فشلت جحافل المتأمركين العرب في أداء الرسالة حتي الآن... *** ومثلما تساءلنا من قبل عن مدي قدرة مثل هذه الصحافة الأمريكية المزروعة في تربتنا وبيئتنا, علي اكتساب ثقة القاريء والمشاهد والمستمع العربي, نتساءل الآن عن رد فعل حكوماتنا الرشيدة, وعن موقفها من المسارعة بالموافقة علي إعطاء تصاريح لمثل هذه الصحف وشبكات التليفزيون لتنطلق من فوق أرضها, خضوعا لضغط الهجوم الأمريكي, أو المجازفة بالرفض حفاظا علي بعض ما تبقي من علامات السيادة الوطنية حتي لو كانت شكلية!! ولكيلا نخدع أنفسنا وندعي أن ما تريده السياسة الأمريكية هو مشروع جديد, نقول إن معظم بلادنا العربية, وفي طليعتها مصر, شهدت منذ الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي, مشاريع وجهودا أمريكية حثيثة للعمل في مجالات الصحافة والنشر, وليس المقصود تلك التي تصدر في الخارج وتصدر إلينا, ولكن المقصود التأثير المباشر وخصوصا عن طريق التمويل السري والاعلانات الباذخة في صحف محلية, كما شهدت إقامة دور نشر تقدم الكتب المروجة للسياسات الأمريكية والجاذبة للحلم الأمريكي بأسعار رخيصة, وهو الأمر الذي فعله أيضا الاتحاد السوفيتي السابق بهدف التأثير في صياغة الأفكار والعقول وتشكيل المواقف المؤيدة والمشجعة... ولم يكن ذلك مقصورا علي بلادنا, كما أنه لم يكن مجرد مشاريع تجارية, لكنه جاء في إطار صراع القطبين خلال الحرب الباردة لكسب الأصدقاء وربط الحلفاء, وفي هذا الإطار, تطورت أهداف ووسائل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تحديدا, في المجال الإعلامي والثقافي, وأهمها هدف الاستيلاء علي عقول البشر والسيطرة علي أفكارهم واتجاهاتهم, وتقديم النموذج الأمريكي الجذاب, باسم الحرية والديمقراطية, المبهرة بالنسبة لشعوب فقيرة تعاني الفساد والاستبداد, وقد لعبت منظمة الحرية الثقافية تحت اشراف المخابرات الأمريكية دورا بارزا في هذا الصدد[ راجع كتاب الحرب الباردة الثقافية ـ تأليف ف.س. سوندرز ـ ترجمة طلعت الشايب ـ من إصدارات المجلس الأعلي للثقافة في مصر]. *** فما الجديد إذن؟... الجديد هو ذلك الزلزال السياسي الأمني الثقافي, الذي هز أمريكا بعد هجمات سبتمبر2001, وفي ظل الحرب الأمريكية علي أفغانستان, ثم غزو واحتلال العراق... فقد اكتشفت أمريكا حجم الكراهية التي تكنها شعوب كثيرة لها, ومدي الصورة السوداوية التي تلون وجهها, والاعتوار الذي أصاب ديمقراطيتها المثالية, واكتشفت أن سياساتها غير عادلة بل منحازة ـ انظر علي سبيل المثال انحيازها الأعمي لإسرائيل والصهيونية ـ واكتشف الشعب الأمريكي أن قواته المسلحة, خاضت حروبا وتدخلت في68 دولة في العالم خلال أقل من ثلاثة عقود, علي غير ارادة الشعوب.. وجاءت الوصفة السريعة ـ بنفس طريقة إعداد الوجبات السريعة في السلوك الأمريكي ـ ممثلة في ضرورة تزامن الهجوم الإعلامي الثقافي مع الهجوم العسكري, لتكتمل منظومة التأثير في الشعوب الأخري, بالسيطرة علي العقول والتأثير علي الأفكار والمواقف, وخصوصا عن طريق أكثر وأقوي وسائل الإعلام تأثيرا, ألا وهي الصحافة والاذاعة والتليفزيون, ناهيك بالطبع عن إجبار الحكومات علي تغيير وتعديل مناهج التعليم كما ذكرنا آنفا... لقد كان لقيام19 عربيا ومسلما بالهجوم علي قدس الأقداس في قلب أمريكا يوم الحادي عشر من سبتمبر2001, أضخم الأثر, في تنبيه أمريكا, حكومة وشعبا, إلي أن التفوق العسكري والتقدم الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية والهيمنة باسم العولمة, وحدها لا تكفي لاكتساب صداقة الشعوب حتي المقهورة البائسة, واكتشفت أن تحالفاتها الوثيقة ومعاهداتها العسكرية ومساعداتها الاقتصادية لمعظم الدول العربية والإسلامية, لم تضمن أمنها الداخلي, فضلا عن مصالحها الحيوية الخارجية, ولم تمنع بذور الإرهاب من النمو ولا رياح الكراهية من أن تهب, مثلما اكتشفت أن كل جهودها في جذب الأصدقاء وتجنيد الحلفاء من كتائب المتأمركين العرب قد باءت بالفشل... الآن هي تنفذ بأيديها ما عجزت عن تنفيذه بأيدي هؤلاء, لكنها لا تدرك كما يبدو, أنها تدخل في تحديات خطيرة, بفرضها ثقافة وصحافة أجنبية في بيئة لا تقبلها حتي ولو كانت مبهرة, وبنفس المنطق, فإن حكوماتنا الرشيدة ـ وصحفها وإعلامها ـ تتعرض لتحديات خطيرة مقابلة, فهي إن قبلت بالمشروع الأمريكي لإصدار صحف واذاعات تكون قد فرطت في السيادة الوطنية, وإن رفضت تكون قد وقعت في أسر الغضب الأمريكي الذي لم يعد يرحم... رحمنا الله ورحمكم... رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
shakoosh بتاريخ: 27 أغسطس 2003 كاتب الموضوع تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 27 أغسطس 2003 هذ ا المقال منشور بجريدة الأهرام يوم الأربعاء 27 أغسطس *********************** حين يكره العرب عروبتهم! بقلم: صلاح الدين حافظ الحمد لله.. انتهي العرب من حل جميع مشاكلهم, ولم يجدوا ما يتفقون أو يختلفون عليه, فتفرغوا لصراعاتهم البينية حول هويتهم... تجاهل العرب, المذابح الدموية الوحشية, التي ترتكبها النازية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني علي مدي الساعة, وأغمض العرب عيونهم عن الأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب العراقي تحت الاحتلال... وألقي العرب وراء ظهورهم, كل مآسي حياتهم التعسة, من الفقر إلي التخلف, ومن الفساد إلي الاستبداد, وتناسي العرب حقيقة المتغيرات الجديدة التي حولتهم من دول مستقلة إلي دول محتلة, تعبث فيها الجيوش الغربية الاستعمارية, تمزيقا وترويعا, دون حتي تململ عربي من عودة الاستعمار وسقوط الاستقلال الوطني والقومي... كل ذلك لم يعد يشغل عرب اليوم لأنه ليس مهما, لكن الذي يشغلهم ويهمهم هو تأجيج حرب الكراهية الدائرة الآن, كراهية العرب لعروبتهم وخلعهم لقوميتهم, واحتقارهم لأنفسهم وثقافتهم وحتي للغتهم... لغة القرآن... والصورة السوداء هذه تبدو ناصعة واضحة, فالانقسام بين العرب, لم يعد سياسيا وإيديولوجيا فقط, لكنه للغرابة أصبح انقساما ثقافيا ومذهبيا, وعكس نفسه بالضرورة إعلاميا ودعائيا, علي نحو ما نقرأ ونسمع في بعض الصحف ووسائل الإعلام العربية... لقد كان مفهوما أن يجري الانقسام ويحدث الصراع ـ كما حدث في السابق ـ بين دول عربية ثورية وأخري محافظة, بين دول شبه ديمقراطية وأخري استبدادية, بين دول غنية وأخري فقيرة, بين دول النفط ودول القحط, لكن غير المفهوم أن يحدث الصراع ويجري الانقسام الآن, بين من يؤمن بالعروبة كمظلة قومية, وبين من يكفر بها علنا بل ويدينها عائدا إلي التمسك بأصوله المحلية, المصرية الفرعونية, الأشورية, الفينيقية, الكنعانية والبربرية الأمازيجية.. إلخ. الخطورة في الأمر أن الانقسام لم يعد كما كان بين الدول والنظم والأجهزة الرسمية, ولكنه أصبح صراعا نزل إلي الشارع, يحاولون تعميقه بين الناس البسطاء الذين كانوا بالأمس القريب يفخرون بأنهم عرب! هكذا أصبحت الموضة الشائعة الآن, وفي هذه الظروف السياسية والعسكرية المتوترة, هي اتهام القومية العربية بأنها أصل البلاء, واتهام العروبة بالتخلف والاستبداد والتعصب القومي المرذول, ومن الطبيعي أن تجد هذه الدعاوي هوي في نفوس الغرب عامة, وفي نفوس الأمريكيين خاصة, الذين كثيرا ما أعلنوا صراحة عداءهم لهذه القومية العربية, منذ صدامهم السياسي الشهير مع جمال عبدالناصر خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي, ومن الطبيعي والمنتظر أن تزيد ماكينة الإعلام والدعاية الأمريكية, الصراع العربي ـ العربي حول قوميتهم وهويتهم, حتي تنعدم فكرة التوحد العربي وتدفن في رمال الصحراء القاحلة! لكن من غير الطبيعي أن يسقط العرب في أسر هذا الصراع والانقسام, علي النحو الذي نراه ونسمعه الآن, وهو ما يثير القلق, ليس علي فكرة القومية فقط, بل علي حاضر العرب ومستقبلهم دولا ونظما وشعوبا وأفرادا وحكاما... أوليس الأمر يحتاج إلي مناقشة حرة مفتوحة إلي حوار عقلاني, إلي وقفة لمراجعة النفس والقول والفعل!! *** حين نختبر الأمر علي أرض الواقع اليوم, نلاحظ أن العراق الجديد في ظل الاحتلال الأنجلو أمريكي, الذي أزاح نظاما قمعيا سلطويا كان يدعي أنه قومي عروبي, قد أصبح ميدان الصراع ـ الانقسام حول الانتماء, أو عدم الانتماء للعروبة, إذ ترتفع من قلب بغداد عاصمة الخلافة العباسية والازدهار العربي, صرخات متشنجة من قوي سياسية ركبت سطح الأحداث في ظروف سقوط النظام الصدامي البعثي السابق, تنادي بتخليص العراق الجديد من وصمة العروبة, وتنادي بالانسحاب نهائيا من كل عمل عربي مشترك, وفي المقدمة منه الجامعة العربية, وبالعودة إلي الأصول البابلية والأشورية والسومرية والكردية والتركمانية, في ظل حملات مكثفة لإدانة كل العرب والحض علي كراهيتهم, لأنهم ناصروا في الماضي صدام حسين ديكتاتور العراق, وساندوا حروبه وأحلامه وأوهامه, وزينوا له اخطاءه ومغامراته, وصمتوا علي المذابح الجماعية والمقابر الجماعية التي دفن فيها آلاف العراقيين... والمؤكد في نظرنا أن بعض هذه الاتهامات صحيح, ونحن نعرف وغيرنا يعرف, من ناصر صدام وسانده ومول مغامراته, اتقاء لشره أو جلبا لمنفعته واستفادة من عطاياه, وصولا للصمت الفظيع علي جرائم حكمه ضد شعبه وضد جيرانه وضد حتي أصدقائه وحلفائه, الذين سبق أن أيدوه ومولوه, لكن تعميم الاتهامات لتطول كل الدول العربية, وتصيب الشعوب هو الخطر المحدق, الذي يزرع الفتنة الكبري الجديدة, بين العراقيين وباقي العرب فتباعد بين الطرفين ربما حتي القطيعة... المؤكد أيضا أن ترويج بعض الساسة العراقيين العائدين من المنفي, في معية قوات الاحتلال الأنجلوأمريكي, لمثل هذه الدعاية السوداء ذات التعميم الأعمي, مفهوم, بسبب شعورهم بأن الشعب العراقي مثل باقي العرب, يعرف أنهم عملاء للاحتلال سيزولون بزواله ويدانون مثل إدانته... لكن المفزع حقا وغير المعقول, أن يوقع500 مثقف عراقي ـ هكذا وصفوا في الأنباء ـ علي وثيقة إدانة للعروبة كقومية وثقافة وتاريخ وتراث مشترك, تطالب بقطع كل العلاقات العراقية مع الدول العربية والانسحاب نهائيا من الجامعة العربية... المفزع أكثر أن يتلقف بعض أعضاء مجلس الحكم الذي عينته سلطة الاحتلال, هذه الدعاوي, لشن هجوم أكثر عنفا علي العرب والعروبة, في وقت يرسل فيه هذا المجلس وفودا إلي العواصم العربية المختلفة, بل وإلي مقر الجامعة العربية, طالبا الحوار والتواصل, بعد أن فشلت سلطة الاحتلال في منحه الشرعية العربية أو الدولية حتي الآن... أما الأكثر إفزاعا فهو أن تستغل بعض الجماعات الدينية والمذهبية, الأمر لتعيد إنتاج الدعاوي السابقة, بأن العروبة والقومية كفر وبهتان يراد بها محاربة الإسلام, وكأن الإسلام والعروبة عدوان متصادمان, وليسا وجهين لعملة واحدة في سبيكة واحدة, هي قوام تاريخ هذه الأمة وأساسها الثقافي والتاريخي والحضاري... ليس غريبا إذن أن تجد هذه الدعاوي المتشنجة المتأثرة بفورة الدم العراقي, بعد التخلص من حكم الدم الصدامي, هوي في النفوس الغربية والأمريكية, وان تعزف ماكينة الدعاية علي ألحانها الشاذة وصولا للكريشندو, بل ليس غريبا أن توضع غدا وقسرا في مناهج الدراسة التعليمية لإعادة تأهيل الأجيال العراقية الجديدة, وفق ما تعلنه السياسة الأمريكية صباح مساء بشأن صياغة مستقبل العراق الجديد! *** وبرغم خطورة هذه الدعاوي العنصرية التقسيمية المعادية للعروبة والكارهة للقومية, باسم المصلحة الوطنية وحدها, إلا أننا نعتقد أنها مجرد فورة متشنجة, جاءت رد فعل لممارسات النظام البعثي الصدامي السابق, الذي أخفي جرائمه وراء الشعارات القومية, وهي فورة سرعان ما ستهدأ بهدوء الوضع العراقي, وعودته إلي طبيعته, وتولي أبنائه الحقيقيين أمور بلدهم... لكن الأمر لا يحتمل سياسة المهادنة والصمت والتجاهل, انتظارا لهدوء الفورة وعودة الأوضاع السياسية في العراق إلي طبيعتها, إنما الأمر يستدعي منا المواجهة بالحوار العقلاني والنصح الرشيد, والتبصير الواعي بأن القومية العربية, ليست اختيارا ولا هي ترف, بل هي تاريخ وحضارة وثقافة ولغة ودين, وفوق ذلك وتحته مصالح وضرورات مادية وسياسية وأمنية مشتركة, خصوصا في عصر العولمة وتكتلاتها الكبري, وكلها أمور لا تغيب عن وعي الشعب العراقي بكل عمقه وتضحياته وانتماءاته... ومن فضائل مثل هذا الحوار والنصح والتبصير, أن نقطع الطريق علي الذين يجتهدون الآن في زرع ألغام الفتن ومخططات التقسيم العنصري بين أمة العرب, التي كانت خير أمة أخرجت للناس... ومن فضائله, أيضا أن نتصارح بعلانية, ليعترف كل مخطئ بأخطائه, وخصوصا كل من تورط في دعم ومساندة النظام السابق, سواء من الحكومات والنظم العربية الحاكمة.. أو حتي الأفراد, لأن هذا التواطؤ هو الذي شجع علي الغي والذبح والغزو والاستبداد, فإذا به يستغل الآن ذريعة ليس لإدانة المتورطين, ولكن لإدانة العروبة وكراهية العرب... ولعل هذا كله يذكرنا الآن, بأن شعوبا عربية أخري قبل العراقيين, قد مرت بهذه الدعوات العنصرية المتشنجة, حين حاول كثيرون جرها بعيدا عن سربها العربي وخلعها من محيطها القومي, وتغذية التيارات الانعزالية داخلها... هل نذكر ماحدث لمصر وفي مصر بعد معاهدة كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل عامي1979,1978, ابتداء بتخوين مصر والمصريين حكومة وشعبا وثقافة وحضارة, وفرض العزلة عليها ومقاطعتها, وصولا لبعث التيار الانعزالي الداخلي المنادي بمصر غير العربية, التي تتطلع إلي أوروبا وأمريكا, وتقاطع العرب وتخلع العروبة, ردا علي هجمات عرب آخرين, كان في مقدمتهم النظام العراقي في العراق نفسه... وهل نذكر ماجري للكويت وفي الكويت, بعد غزو العراق له في1990, ثم تحريره بحرب عاصفة الصحراء في1991, ابتداء باتهام العرب بمساعدة صدام حسين في جريمته غير المسبوقة, وانتهاء بدعوات متشنجة تطايرت وقتها أيضا, بنفض اليد الكويتية من العرب والعروبة وهمومها ومشاكلها, والالتحاق بأمريكا التي حررت الكويت وحدها, لتحميها من أطماع العرب وحقدهم علي الثراء النفطي! *** هذان مثالان فقط وردا علي الذهن الآن, لكننا نعرف أن تاريخ العرب والعروبة مليء بالخلافات, التي تظل خلافات, ولا تتحول بالضرورة إلي انقسامات حادة, وتقسيمات مشبوهة, تحدث وتزول تطرأ وتسقط, وهو ماسيحدث أيضا للموجة العراقية المتشنجة الحالية... لكن لكي يحدث ذلك, فإن الأمر يتطلب التنبيه, كما يتطلب المراجعة... أما التنبيه, فهو ضرورة الإدراك بأن خلع العروبة وكراهية العرب, ليس في مصلحة أي عربي حاكما أو محكوما, لأن التقسيم هدف غربي قديم, يتجدد الآن بقوة علي أيدي التحالف الأنجلوأمريكي الصهيوني, الذي يسعي لفرض الهيمنة المطلقة علينا جميعا... وتبقي المراجعة, وهذه مسئولية المثقفين العرب قبل السياسيين وبعدهم, نطرحها في عجالة علي شكل أسئلة, تنتظر منا الإجابات... هل العروبة رداء نلبسه في الصباح ونخلعه في المساء, أم هو عقل وروح وجسد هذه الأمة؟! هل المنطلق النظري للقومية العربية صحيح أم هو خاطئ من الأصل؟ هل دواعي العمل العربي المشترك الآن وفي المستقبل, ضرورة سياسية استراتيجية ومادية أم لا؟, هل أخطاء ممارسة بعض نظم الحكم ـ وكم هي كثيرة ـ تبرر هدم المشروع القومي كله لمصلحة المشروع الصهيوني الغربي, هل الصمت المريب من جانب الشعوب والمثقفين علي أخطاء الممارسة, ساعد علي الاصلاح أم هو الذي أدي إلي مزيد من الأخطاء, التي تستغل الآن لهدم المعبد علي رؤوس الجميع؟, ثم هل خلع العروبة والحض علي كراهية العرب, سيجلي الوجود الأجنبي الثقيل ويعيد تحرير بلادنا من براثن الاستعمار الجديد, أم يساعد علي تقسيم العرب إلي دويلات أكثر وكانتونات أصغر ونظم أضعف وحكام أسوأ؟!! تعالوا إذن إلي كلمة سواء, الآن قبل فوات الأوان! رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان