اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

الخماسين


Cleo

Recommended Posts

أبــداً تستـرد ما تهب الدنيــا

فيـا ليت جودها كــان بخــلاً

"المتنبـى"

شعر بأن جسده الصغير كله يهتز اهتزازا عنيفا، و كأن زلزالا سوف يطيح به من فوق فراشه، تلك المرتبة القذرة المليئة بالثقوب و الملقاة فى ركن من أركان الحجرة المظلمة التى يرتعد فيها ضوء هزيل منبعث من مصباح معلق بسلك متهالك فى السقف، خوفا من ذلك الظلام الشرس الذى يكاد أن يفترسه.. تلك المرتبة التى يستلقى عليها كل ليلة محاولا أن ينعم بالنوم، و لكن شركاءه فيها من البراغيث و البق يستكثرون عليه النوم فيه حتى يتسنى لهم أن يستأثروا به وحدهم، فيبدءون فى الانتقام منه بتمزيق جسده الصغير بالعض و القرص، و يبردون نارهم منه بمص دماءه.

لا، إنه ليس زلزالا.إنها يدى أمه التى تحاول أن توقظه، و كأنها سوف تقتلعه من الفراش "قوم يا واد ناموسيتك كحلى. قوم خلينى ألحق ألبسك عشان تطلع تلم العيدية من السكان، يا واد قوم قامت قيامتك"

عندئذ دخل المسكين فى صراع مع عينيه الصغيرتين، محاولا باللين تارة و بالشدة تارة أخرى، بالإقناع و بالتهديد أن يفتحهما حتى ينجو من يدى أمه التى بدأت تنهال عليه كالسياط تكاد أن تفتك به. فبرغم صغر سنه، فهو يعرف تماما أن العيدية تعنى المال، و برغم أنه لا يعرف تماما ما هو المال إلا أنه يشعر أنه شىء مهم جدا لأمه، و لكنه لا يعلم أن أمه إنما تريد هذا المال لتضع به فى فمه كسرة خبز و حبات من الفول المدمس كل يوم. أخيرا استجابت العينان لتوسلات الصغير و قررتا أن تتفتحا على يوم جديد.

و فى سرعة و على عجل، انتزعته أمه من على الفراش انتزاعا، و أجلسته على ذراعها و هى تهرول ناحية ذلك الصنبور الذى قلما كان فيه ماء، و أخذت بسرعة تبلل يديها و تمسحهما بوجهه مرة و بشعره مرة أخرى. بعد ذلك ألبسته تلك الفانلة الملونة التى كانت (مدام نادية) التى تسكن بالدور الرابع قد أعطتها له بعد أن كانت قد سقطت عليها قطعة من تورتة الشيكولاتة فى حفل عيد ميلاد ابنها فأحدثت بها بقعة شوهت معالمها، و بدلا من أن تلقى بها فى القمامة، أعطتها (لأم عبد الله) لتضعها على ولدها بدلا من تلك الفانلة الداخلية القذرة الممزقة التى كادت أن تلتصق بجسده الذى لا تفارقه أبدا.

أخيرا انفتح باب الحجرة، فألقت الشمس من خلاله بعض أشعتها، أشعة هزيلة، و لكنها كفيلة بأن تدخل الدفء على قلبه الصغير. و خرج الصغير من الغرفة بقدميه الحافيتين، فلم الحذاء؟ إن الزمن قد روض تلك القدمين الصغيرتين و جعلهما تكفان عن التأذى من الحجارة و الحصى الذى يفترش الطريق، أكثر من الأحذية الرياضية السميكة التى يرتديها جميع الأطفال الذين يسكنون فى هذا الشارع.

_16643_mubarak-olmert-5-6-06.jpg

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

المائدة - 51

nasrallah1.jpg

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ

الأحزاب - 23

رابط هذا التعليق
شارك

"واد يا عبد الله، تعالى" قالها (محسن بيه) و هو ينظر للصغير من وراء نافذة سيارته "امسك العيدية بتاعتك" و مد يده بورقة مالية صغير الحجم زرقاء اللون، و لم يدر الصغير ماذا يفعل ليعبر عن شكره لهذا السيد، فأومأ برأسه و هو يشاهد الرجل يبتعد بسيارته.

ومع ذلك لم يشعر الصغير بالفرح بعد أن أخذ النقود فهو معتاد على أن أمه تقف وراء باب الحجرة و تنظر حتى ينصرف الرجل لكى تنقض عليه كالحدأة و تأخذ منه النقود، حتى يأتى ساكن آخر و هكذا.

ما هذه الجلبة؟ آه، إنها (مدام هند) و أولادها. كم هى جميلة تلك الملابس التى يرتديها (على) ابن (مدام هند). كم يبدو أنيقا بملابسه الملونة و شعره المنسق و تلك البندقية الصغيرة التى يحدث بها ضجيجا و جلبة تملآن الشارع كله. "خد يا على، إدى عبد الله العيدية بتاعته على ما أدور العربية". "خد" قالها الطفل الأنيق و هو و يلوح بالنقود فى وجه الصغير. قالها و كأنه يبصقها فى وجهه. مد الصغير يده بتلقائية و هو يلتقط النقود من الطفل الأنيق دون أن حتى أن ينظر إليها. لقد كان بصره مشغولا بتأمل ذلك الطفل الأنيق بشعره المنسق، و ملابسه الملونة و حذاءه الذى يبعث نورا أحمرا كلما لمس الأرض، فبدأت أصابع أقدامه العارية تحتضن الحصى فى الأرض بدون أن يشعر. وكلما نظر إليه شعر أن ذلك الطفل الأنيق يكبر و يكبر حتى صار عملاقا، أو أنه هو نفسه قد بدأ يصغر و يصغر حتى صار أصغر حجما من حشرة.

خرج السكان من العمارة الواحد تلو الآخر، منهم من يمن عليه ببعض الوريقات المالية الصغيرة، و منهم من لم يستطع أن يميز بينه و بين تلك السلة المملوءة بالقمامة التى يقف بجانبها، و بعد انصراف كل منهم، تظهر أمه و تختطف منه النقود كالصقر الذى يختطف الأفراخ للصغيرة من تحت أجنحة أمهاتها. ووقف الصغير وحيدا يتأمل المبانى الخاوية التى تملأ الشارع بعد أن غادرها سكانها ليستمتعوا بالعيد فى مكان آخر.

_16643_mubarak-olmert-5-6-06.jpg

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

المائدة - 51

nasrallah1.jpg

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ

الأحزاب - 23

رابط هذا التعليق
شارك

و بينما هو واقف لا يدرى ماذا يفعل، سمع صوتا قادما من بعيد و كأنه صوت أنغام. أخذ الصوت فى الاقتراب شيئا فشيئا، إنه مزمار. إنه يقترب و يقترب. و أخيرا ظهر فى الأفق رجل عجوز يحمل بإحدى يديه مزماراً يعزف عليه نغمات ساحرة، و فى يده الأخرى يحمل عددا كبيرا من البالونات الملونة التى تتطاير يمينا و يسارا مع تلك الريح الشديدة التى بدأت تهب. أخذ الصغير يتأمل العجوز ذو الابتسامة الباردة و الخطوات البطيئة و كأنه الشيطان، و أخذ يمشى ورائه كالمسحور حتى أوشك العجوز من الابتعاد عن الشارع الذى يسكن فيه ذلك المسكين. شعر الصغير بالتوتر فها هو العجوز أوشك على الرحيل، و إذا رحل سوف يأخذ معه كل تلك البالونات الملونة و يحرم الصغير من متعة النظر إليها. "لا. إذا رحل العجوز فلن أرى تلك البالونات مرة أخرى. لا بد أن أفعل شيئا".

اخذ الصغير يطوى الأرض تحت قدميه متجها نحو بيته يصرخ مناديا على أمه بكل ما أوتى من قوة، لا، بل أن قوته قد زادت أضعافا و هو يجرى و ينادى على أمه بفزع محاولا أن ينتزعها صوته من مكانها انتزاعا، متمنيا أن يأتى بها العفريت من مكانها قبل أن يرتد إليه طرفه كما أتى سليمان بعرش بلقيس من قبل. أخيرا خرجت أمه من تحت الأرض، من تلك الغرفة الضيقة المظلمة التى يسكنون بها أسفل إحدى العمارات الشاهقة. أخذ يروى لها بأنفاس متقطعة لاهثة، استطاعت هى بصعوبة أن تفهم منها أنه يريد شراء إحدى تلك البالونات الملونة. و أمام إصرار الصغير، و أمام دموعه التى أخذت فى التساقط كالسيول الجارفة و شدة فزعه من أن يرحل العجوز قبل أن يشترى منه بالونة، و هو ينظر لها مستعطفا إياها ثم يعاود النظر إلى العجوز محاولا أن يستوقفه بنظراته، أخرجت أمه ورقة مالية صغيرة، تلك الورقة التى كان محسن بيه قد أعطاها له، فأعطته إياها. و ما أن مست أنامله الرقيقة النقود، حتى استدار بسرعة فى اتجاه ذلك العجوز اللعين الذى كاد يغيب عن نظره صارخا "استنى يا عم، استنى و النبى". عاد الصغير يطوى الأرض مرة أخرى و هو يمد يده بالورقة المالية للعجوز و هو لا يزال فى وسط الطريق، حاسدا فى قرارة نفسه الطيور التى تمتلك أجنحة تأخذها إلى حيث تريد فى لمح البصر، و هو لا يرى شيئا أمامه إلا تلك البالونة الحمراء الطويلة ، حتى وصل أخيرا إلى العجوز، الذى اختطف منه النقود بسرعة، ثم ألقى له ببالونة زرقاء مستديرة ثم اختفى وسط هذه السحابة من الرمال التى أثارتها رياح الخماسين.

_16643_mubarak-olmert-5-6-06.jpg

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

المائدة - 51

nasrallah1.jpg

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ

الأحزاب - 23

رابط هذا التعليق
شارك

أخذ الصغير ينظر لتلك البالونة و هو لا يكاد يصدق نفسه من شدة الفرح، أهى حقا ملكه؟ نعم، سوف يظل يلعب بها طيلة النهار، و يأخذها فى حضنه الصغير عندما يذهب للفراش بالليل، حتى لا يأخذها منه أحد، فيستيقظ فى اليوم التالى و يظل يلعب بها حتى نهاية العمر. أليست ملكه؟ أخذ يلعب بالبالونة بعد أن اطمأنت نفسه لأنه ليس هناك أطفالاً آخرين فى الشارع ينازعونه عليها، و كذلك لأن أمه لن تختطفها منه، فهى تحب اللعب بالنقود فقط و ليس بالبالونات.

بدأ الهواء يشتد، و كاد التراب أن يعمى بصره "إنت يا واد ،تعالى هنا من الهوا و التراب. تعالى يا وله و خلى بالك من العربية اللى جاية دى" أخذ الصغير يمشى نحو أمه مختالا كالملك، فهو يمتلك الكون الآن، برغم الهواء الذى كاد أن يقتلع جسده الصغير من فوق الأرض. لا، إن إصراره على مقاومة الريح جعلت جسده أثقل من تلال المقطم. لن تستطيع الرياح أن تطيح به. حسن، إن جسده ثقيل، و لكن البالونة لن تكون أثقل منه، فإن فشلت الريح فى الإطاحة به، فإنها على الأقل لن تفشل من انتزاع ذلك البالون من كفيه الصغيرين.

أخذ الصغير ينشب أصابعه الرفيعة الهزيلة فى البالونة محاولا أن يضع كل قوته فى تلك الأصابع حتى يحمى البالونة من الرياح. حاول أن يخبئها فى حضنه الصغير و يعطى ظهره للريح و هو يجرى نحو أمه محاولا أن يختبئ هو و البالونة فى أحضانها، و لكنه تعثر فى قطعة حجر من تلك الآلاف من القطع الملقاة فى الشارع و كأنها الفخاخ، إن نجا من أحدها لم يفلت من الآخر. سقط الصغير على الأرض و طارت البالونة من يده، و لكنها لا تزال قريبة منه. إذا حاول الجرى خلفها فإنه حتما سوف يمسك بها، و لكن عليه أن يحذر من تلك السيارة التى تتقدم نحوه ببطىء كالوحش الذى يتقدم ببطىء لالتهام الفريسة الواقعة فى شباكه . نهض الصغير على قدميه و أخذ يجرى نحو البالونة فعليه أن يمسك بها، و إلا فأين له بالنقود مرة أخرى لكى يشترى بالونة أخرى، ثم أن العجوز قد ذهب و اختفى صوت مزماره. أخذ يجرى و يجرى بكل قوة و عزم حتى أصبحت البالونة التى تجرى فى منتصف الطريق على بعد خطوة واحدة منه، إنه سينقض عليها و يهرب بها من طريق تلك السيارة اللعينة. و مد الصغير يده لكى يمسك بتلك البالونة الشاردة، و لكنه لم يكن أسرع من تلك السيارة التى انقضت عليها و دهستها تحت عجلاتها، و أحدثت البالونة صوتا أشبه بصرخة المستغيث و هى تتمزق إربا تحت عجلات السيارة التى ينبعث منها صوت ضحكات و موسيقى صاخبة، صرخة انخلع لها قلبه الصغير.

و مضت السيارة، و تلاشى صوت الموسيقى الصاخبة و الضحكات، انقشعت سحابة الغبار و هدأت الرياح، و ظل الصغير مكانه ينظر من وراء دموعه التى أبت أن تنزل لتبرد ناره يجتر الأحداث و كأنها لا تزال تجرى…

كليو.. 20/5/1999

_16643_mubarak-olmert-5-6-06.jpg

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

المائدة - 51

nasrallah1.jpg

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ

الأحزاب - 23

رابط هذا التعليق
شارك

تصوير عظيم يجبرك علي الصمت حزنا ...

تحيه ياكليو ...لدخولك للاماكن المحرمه من نفس الطفل البريء.

الاطفال تشعر وتتالم في صمت ...وتتراكم احاسيس كثيره داخلهم ..بعضها يصرحوا بها وبعضها يحفظوها في مكان امين من العقل والقلب.

عظيمه ياكليو في تصويرك ...لاغتيال الطفوله ..

حتي الفانله // الحلوه // شحاته .....ومبقعه ...وملهاش معالم ..

للاسف.....الكعكه في يد اليتيم عجبه ..........حتي البالون ....راح.

وكان الظروف والاقدار تكاتفت....حتي يظل الصغير ....في موقعك سر.

جميل جدا تصوير التفاصيل الدقيقه...

وهذا منك ..ايضا ...جرس آخر.

سلامي.

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)

[النساء : 93]

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...