اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

العولمة وتحديات المستقبل


Recommended Posts

العولمة وتحديات المستقبل

جارالله الجارالله و ناصر الشواف

كَثُرَ الحديث في الآونة الأخيرة عن العولمة فأصبحت حديث القادة والشعوب وحديث المثقفين والأكاديميين والعامة ، وتحدثت عنها وسائل الإعلام باعتبارها حديث المنظمات العالمية وحديث الشارع المحلي . واصطف الناس أحزاباً وجماعاتٍ ودولاً – كلٌ حسب رؤيته وتقويمه - ضد هذا الوحش الجبار أو مع ذلك الغد المشرق بما يحمل من محاذير وأخطار أو من أمنيات ووعود . ونود في هذا المقال أن نعطي فكرة وصفية عن أبعاد هذا الواقع العالمي ثم نتبعه بعدد من الملاحظات.

وأول ما نود التنبيه إليه هو أن النظرة التي ينبثق منها هذا المقال تدعو الى عدم الاقتصار على ذلك النوع من صرخات الذعر والاستنكار التي أصبحت القاسم المشترك في المواضيع والأبحاث والمقالات التي تتحدث عن العولمة . وإنما التجاوز إلى رؤية تدرك إشكالية العولمة ، ولكنها تحاول استكشاف الكمون الهائل فيها.

وبدايةً نقول أن العولمة لم تكن إلا ناتجاً طبيعياً لعمليات التبادل التجاري والتنافس الصناعي والبحث العلمي التي تطورت بتطور الحضارات وارتقت برقي العلم والمعرفة . فقد أدرك الإنسان عبر القرون فوائد عمليات التبادل التجاري والتنافس التي يسّرت له تسخير موارد الطبيعة بشكل أفضل من خلال عمليات التفاضل و المقارنة والاعتماد المتبادل ، فجعلت استهلاكه لتلك الموارد أسرع وأفعل حتى في أوقات التغيرات الاقتصادية .

إضافةً إلى هذا فإن المتابع يلاحظ أيضاً أن مجموعةً من العوامل ساهمت عبر تفاعلها المتنوع والمعقد في الاتجاه نحو العولمة كمستقبلٍ للعالم من أهمها:

1. عولمة رأس المال : فالحاجة المتزايدة لأسواق مال عالمية ذات مقايييس موحدة ، والنمو المضطرد لاقتصاد الدول النامية ، وارتباط الأسواق المالية بشكل حساس أصبح فيه أي اهتزاز في أحد تلك الأسواق يؤثر تلقائياً في الأسواق المالية الأخرى ، والنمو المتزايد للشركات متعددة الجنسيات التي ما انفكّت تندمج وتنضم وتفتح أبوابها لأسواق عالمية جديدة . كل ذلك أدى إلى عولمة رأس المال الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة اعتماد الإنتاج على رأس المال أكثر من اعتماده على الأيدي العاملة والخبرات البشرية والموارد الطبيعية كما كان في السابق بحيث أصبح شراء الخبرات البشرية والموارد الطبيعية أحد وظائف رأس المال .

2. تطور التكنولوجيا وتقدم وسائل الاتصالات والمواصلات . من صناعة الكمبيوتر إلى النمو السريع لشبكة الإنترنت وزيادة سرعة نقل المعلومات باستخدام الأقمار الصناعية وغيرها من التقنيات .

3. عولمة الثقافة . فمع تزايد وسائل الاتصال ازداد غياب ثنائية الذات والآخر وأصبح مألوفاً الحديث عن هويةٍ عالمية ، وسقطت الحدود الجغرافية في أعين الباحثين ، وتزايدت الصِّلات بين المنظمات – غير الحكومية- عند الناشطين ، حتى أصبح الإغراق في الخصوصية الثقافية المحلية محدوداً ، وأصبح الكل يبحث عن مكانٍ له في ميزان ثقافات العالم المتداخلة .

4. تغييرات وأخطار مستقبلية تجعل مستقبل الإنسانية كلها مبهماً بشكلٍ يدعو جميع البشر للتعاون على تفادي تلك الأخطار ، سواء كانت أخطاراً بيئية أو نُدرةً في مصادر المياه أو تزايداً كبيراً في أعداد البشر أو أخطاراً ناتجة عن حروبٍ نووية وأسلحةٍ كيماوية وبيولوجية وما إليها .

5. هيمنة القوة الرأسمالية وصفاء الجو السياسي العالمي لها . فبعد تداعي الدول والقوى الأخرى خلت الأرض من قوة مماثلة للغرب الرأسمالي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، وصارت المنظومة الاقتصادية الرأسمالية تتغلغل في الأرض بلا منافس ظاهر لفترةٍ من الزمن . وبما أن هذا النظام يهدف إلى زيادة الأرباح بكل السبل ، فإن قادته عملوا ويعملون على دفع عجلة العولمة التي ستزيد إلى رؤوس أموالهم الطائلة الأرباحَ الكبيرة .

ولنعد قليلا إلى الوراء لنرى أهم الأحداث العالمية التي أثرت في مسيرة العولمة ، ولنبدأ من حيث انتهى العالم من الحرب العالمية الثانية عندما اجتمع الحلفاء المنتصرون في (بريتينوود) في منتصف عام 1949 ، وقرروا الاتفاق على معاهدة يصبح بموجبها التداول العالمي للعملات المحلية بقيمة تلك العملات مقارنةً بالدولار الأمريكي ، على أن تتعهد الولايات المتحدة أن يكون لديها مخزونٌ من الذهب يماثل مجموع كمية الدولارات المتداولة في العالم ، إذ كانت الولايات المتحدة تملك يومذاك ما يُقدر بثلاثة أرباع مخزون العالم من الذهب . وكانت هذه أول معاهدة جادة بين الحلفاء لتسهيل عملية التبادل التجاري ودفع العجلة الاقتصادية . ولكن ما لبثت نسبة مخزون الذهب التي تملكها أمريكا أن تغيرت بشكل سلبي بالغ مع حركة التجارة بين دول العالم ، مما دعا الرئيس نيكسون إلى إعلان توقف دولته عن العمل بإبقاء مخزون ذهب مماثل لكمية العملة المتداولة في العالم . وبذلك أصبحت قيمة كل عملة محلية تُقرر في الأسواق المالية حسب قانون العرض والطلب ، وبشكلٍ تعكس فيه حالة التبادل التجاري والوضع الاقتصادي لذلك البلد .

وفي السياق نفسه اجتمعت 23 دولة عام 1984 وأسست (منظمة الجات / الاتفاقية الدولية للتجارة والتعرفة) التي قررت إلغاء حواجز التبادل التجاري والجمارك بين دول المنظمة التي ازداد عددها ليصبح حجم تجارتها يمثل أكثر من 90% من عمليات التبادل التجاري العالمي ، وتُقرَّرُ في جلسات تلك المنظمة القوانين والمقاييس والأنظمة التي تحكم عمليات التبادل التجاري . وقد اتصف عمل هذه المنظمة بأنه كان عسيراً و متأثراً بالقوى السياسية والمصالح الاقتصادية للدول الكبرى فيها على الدوام .

ومن ثم أُنشئت ( منظمة التجارة العالمية) لتحل محل (منظمة الجات) في بداية عام 1996 ، و لتكون مجلساً مشرّعاً له نطاقٌ أوسع وقوةٌ مستقلة وصلاحيات أكبر في تقنين عمليات التبادل التجاري العالمي ومتابعة تطبيق قرارات الدول المنظمة وحل النزاعات بينها . وقد أُعطيت تلك الصلاحيات لمنظمة التجارة العالمية لتساهم بشكلٍ فعال في تطبيق الأنظمة واللوائح القانونية بين دول المنظمة ولتسرّع من حل النزاعات التي قد تؤدي إلى اهتزازات في الاقتصاد الدولي في حين كانت سابقتها (منظمة الجات) غير فعالة في تطبيق القوانين وذات نطاق أضيق وقوة أقل استقلالاً.

وبناء على ذلك وافق أعضاء المنظمة التي تتألف اليوم من 137 دولة في جلسة الأورغواي على توسيع نطاق عمل المنظمة إلى الجوانب التالية:

1. تحرير التجارة . وهو من أهم أهداف المنظمة إذ يجب أن تعمل دول المنظمة على خفض الجمارك على البضائع المستوردة وتقنين ووضع مقاييس عالمية لصلاحيات الدول في تحديد الجمارك .

2. إنهاء قوانين تحديد استيراد المنسوجات تحت (معاهدة المنسوجات) بين دول المنظمة في بداية عام 2005 .

3. العمل على الوصول إلى اتفاقيات بشأن عمليات التبادل التجاري في السلع الزراعية حيث كانت السلع الزراعية إحدى نقاط الاختلاف وتضارب المصالح بين دول المنظمة مما أدى إلى تعثر محادثات منظمة الجات .

4. العمل على الوصول إلى اتفاقيات بشأن عمليات التبادل التجاري في قطاع الخدمات سواء كانت مالية أو وسائل اتصالات أو خدمات الأيدي العاملة أو غير ذلك ، حيث أنه لم يحدث أي تقدم يذكر بهذا الصدد تحت مظلة قوانين منظمة الجات ، ولذلك أُنيط بمنظمة التجارة العالمية أن تحرم على دول المنظمة التفريق بين الدول في حالة عرض دولةٍ ما خدماتها بحيث أن أي ميزة خاصة بدولة خارجية تمنح من قبل تلك الدولة فلابد أن تمنح لغيرها من الدول.

5. عمليات التبادل التجاري المتعلقة بقوانين حقوق خصوصية المعرفة حيث قررت منظمة التجارة العالمية مدة 20 عاما لبراءة الاختراع و50 عاما لحقوق الطبع ووضعت قوانين دولية تعاقب المخالفين .

6. قوانين إلقاء النفايات حيث يسمح للدول المتضررة من تلك النفايات أن تحدد ضرائب خاصة على البضائع المستوردة التي تتضمن عملية إلقاء النفايات.

7. تسعى جميع الدول لدفع إعانات مالية لمساعدة ودعم الإنتاج المحلي للبضائع المصدرة . كي تستطيع تلك الصادرات منافسة غيرها من البضائع على الصعيد العالمي .

8. وضع مقاييس تكنولوجية ومتابعتها بحيث لا تكون تلك المقاييس عقبة في عمليات التبادل التجاري .

9. تنظيم عمليات التبادل التجاري المتعلقة بالاستثمار حيث تطمح الدول المتقدمة إلى إلغاء أي عائق بهذا الصدد في حين أن الدول النامية ترى أفضلية وضع مقاييس معينة محلية للمستثمرين في دولهم .

ولكن منظمة التجارة العالمية كسابقتها منظمة الجات لم تزل تواجه صعوبات كثيرة على مستوى الدول والمنظمات ، ولا يخفى على القارئ الكريم ما حدث خلال اجتماع المنظمة في جلسة الألفية أو ما سُمّي بمواجهات (سياتل) من صراعات داخلية بين الدول و احتجاجات ومظاهرات خارجية .

ويبقى مستقبل منظمة التجارة العالمية مرهوناً بمستقبل العولمة و ما يواجهها من تحديات . ولعلنا نلقي بعض الضوء فيما يلي على أهم تلك التحديات التي تواجه العولمة و التي سوف تحدد مسيرتها و فعاليتها ، علماً أن هذه التحديات ما هي إلا استقراءات علمية ، إذ أنه من الصعب جداً أن توضع حدودٌ نهائيةٌ محددة للعولمة ، وذلك لسعة آفاقها وكثرة متغيراتها واختلاف تأثيراتها سلباً وإيجاباً حسب طبيعة الظروف الاقتصادية والقانونية والسياسية والاجتماعية في كل زمان ومكان .

تحدي الجماعات والأحزاب المعارضة

لقد عارضت و لا تزال تعارض عملية العولمة مجموعة متنوعةٌ من الأحزاب و الجماعات ، وذلك بناءً على مصالح تلك الجماعة أو ذلك الحزب ، و تبعاً لطبيعة تأثير العولمة على مستقبلها . ونستعرض فيما يلي بعض تلك الأحزاب والجماعات:

أولاً. أحزاب ونقابات العمال

فمازالت تلك الأحزاب والنقابات القائمة في دول الغرب (أمريكا وأوروبا على وجه الخصوص) تكرس قواها لمحاربة العولمة وذلك خوفاً على مستقبل وظائف أعضائها ومنتسبيها . ذلك أن مستقبل الأيدي العاملة الباهظة الثمن في دول الغرب مهددٌ بالخطر إذا فتحت دول تلك الأحزاب والنقابات أسواقها للبضائع المستوردة واستثمرت الشركات متعددة الجنسية في دول ذات أيدي عاملة رخيصة وهو ما يُسمى بتصدير الوظائف .

قد تحتجُّ الكثير من هذه النقابات والأحزاب وتدّعي أنها تقوم بذلك لدفع الظلم عن الأيدي العاملة . ولكن الذي يجب الانتباه إليه هو أن هؤلاء يُدافعون في الحقيقة عن حقوق تلك الأيدي العاملة في ذلك النصف الآخر (الغربي) من الأرض . بمعنى أنهم لا يريدون للأيدي العاملة الأرخص أن تنافسهم ، وكأنهم نسوا أو تناسوا أن تلك الأيدي العاملة التي تعيش تحت حد الفقر لا تملك فرصة أخرى للبقاء بينما يملكون هم فرصاً أخرى كثيرة لتوفير رغد العيش لا يملكها أولئك .

ثانياً . منظمات حقوق الإنسان

وهي تدعو إلى رفع مستوى المعيشة للأيدي العاملة من خلال رفع الحد الأدنى للمرتبات و تقليل عدد ساعات العمل وإنهاء استخدام الأطفال كأيدٍ عاملة . وعلى الرغم من أن تلك الأهداف هي أهداف نبيلة إلا أنها قد لا تتناسب مع حقيقة الحاجات والضرورات في الدول النامية . إذ أن الأيدي العاملة في الدول النامية تعاني نسبيا من نسب عالية من البطالة وقلة في مستوى الدخل ولذلك فربما يكون وجود الشركات متعددة الجنسيات فرصةً لتوفير عمل لتلك الشعوب الجائعة والتي تبحث عن القليل لتسد به رمقها . شرط أن تكون المراقبة والمتابعة قائمةً على شروط وظروف وجود هذه الشركات .

وهنا أيضاً نجد أن ما تطالب به منظمات حقوق الإنسان ربما يكون جيداً في ذاته ، لكن التعامل معه يجب أن يكون دقيقاً ومتوازناً للغاية بحيث يأخذ في اعتباره مرةً أخرى صورة الواقع بكل شمولها وتعقيدها ومتغيراتها . فهؤلاء العمال يأتون طائعين غير مكرهين للعمل لدى الشركات متعددة الجنسيات والتي أثبتت الإحصائيات أن ما تقدمه من مرتبات للعاملين لديها يفوق وأحيانا بنسب كبيرة الشركات المحلية . و على سبيل المثال فإن إحدى الدراسات التي قامت بها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمويOECD أظهرت أن ما تدفعه الشركات متعددة الجنسيات لموظفيها في تركيا يتجاوز معدل المرتبات السائد هناك بنسبة 124% وأن أعداد الموظفين في تلك الشركات يزداد بنسبة 11.4 % سنويا .

ثالثاً . منظمات حماية البيئة

وهي التي تناهض استغلال الشركات متعددة الجنسيات لمسألة عدم توفر أو قلة قوانين حماية البيئة في الدول النامية . ونقف هنا أيضا لنقول أنه على الرغم من أن تلك الأهداف هي أهداف نبيلة ، إلا أنه من الأكثر توازناً وضع قوانين دولية ومقاييس عالمية تطبق بشؤون حماية البيئة . ونتساءل هنا لماذا لا تتعاون منظمات حماية البيئة تلك على إيجاد هيئة دولية تشريعية لوضع مقاييس وأنظمة وقوانين لحماية البيئة ، على أن تكون لدى تلك الهيئة القوة والاستقلالية الكافية لمعاقبة الدول والشركات المخالفة كائناً من كان . وبهذه الطريقة يواكب عملهم مسيرة العولمة ويتقدم بتقدمها بشكل أكثر فعالية مما نجد عليه أداء تلك المنظمات اليوم . الأمر الذي يخلق توازنا بين مسيرة العولمة تجارياً وبين المحافظة على موارد الطبيعة بيئياً . وهكذا تصبح مسيرة العولمة ومستقبلها مقترنان بالمحافظة على البيئة ، وعندها تكون العولمة أفضل وسيلة لتمكين تطبيق هذه القوانين وتنفيذ هذه المهمة .

ولنا هنا وقفة أخرى مع منظمات حقوق الإنسان ومنظمات حماية البيئة التي ما فتئت تعارض العولمة وتحتج عليها . حيث أن مما لاشك فيه أن إمكانية التأثير أو التغيير في طبيعة وجود الشركات العالمية في دول العالم الثالث كما يسمونها سوف يصبح أيسر وأفعل إذا فتحت تلك الدول أسواقها وانضمت في ركب مسيرة العولمة .

فعلى مستوى الأفراد والشعوب فإنه عندما يزداد اتصال أفراد وشعوب تلك الدول بالعالم الخارجي يصبح التأثير في الرأي العام لدى تلك الشعوب أكثر إمكانية . وعلى مستوى المنظمات فان قدرة المنظمات غير الحكومية على التأثير في الشركات متعددة الجنسيات ستكون أكثر مما لو سلكت تلك المنظمات طرقاً سياسية عبر الحكومات المحلية التي لا تعيرها أصلاً انتباهاً كثيراً . و يكون ذلك عن طريق استخدام المصالح الاقتصادية كاستخدام القوة الشرائية لعملاء تلك الشركات مثلاً ، وقد أثبتت تجارب كثيرة بشكل قاطع أن الضغط على تلك الشركات عن طريق مبيعاتها ومصالحها الاقتصادية هو من أفعل وأقوى أساليب التأثير . وعلى سبيل المثال ، لو قامت إحدى شركات النفط الكبرى بخرق قوانين حماية البيئة في زاوية من زوايا الأرض مستغلة الفقر والضعف في تلك البقعة ، ربما كان من الأسهل والأكثر فعالية أن تفرض منظمات حماية البيئة حصاراً اقتصادياً على تلك الشركة باستخدام القوة الشرائية لعملاء تلك الشركة بدلا من أن تُسلّمَ القضية إلى المسار السياسي الشائك المعقد .

تحديات وتناقضات مبهمة

بعد أن نظرنا إلى تحدي الجماعات المعارضة للعولمة ، ننتقل إلى الحديث في بعض التحديات والتناقضات المبهمة التي تواجه العولمة والتي سوف تحدد مسيرتها وفعاليتها . وهذه التحديات والتناقضات عموماً غامضة ومستقرأة من أرض الواقع ،لم تتطرق إلى بحثها المنظمات الدولية ولم يتوفر لها إجابات نهائية حاسمة حتى اليوم ، فهي أحياناً تحدياتٌ جبارة وأحيانا أخرى تحديات موهومة، ولكنها في أي حال تقف في مسيرة العولمة وتؤثر في اتجاهها .

علما بأن الإجابات العلمية المنهجية على ما تثيره هذه التحديات والتناقضات المبهمة من أسئلة لا يمكن الوصول إليه إلا بعد دراسات ومشاريع وأبحاث عديدة وواسعة ، وبناء على تلك الإجابات والنتائج يتغير نتاج العولمة واتجاهها تغييرا جذرياً . أما ما سنحاوله هنا فلا يعدو أن يكون إشارات عامة غير نهائية ولا قطعية .

1. تناقض الاتحاد والتجزؤ

فبينما يتجه الاقتصاد لمزيد من الوحدة على الصعيد الدولي، تخطو السياسة نحو المزيد من التفتت مع نمو الوعي العرقي والنـزاعات الإثنية . وسرعة عملية العولمة وفعاليتها تعتمد بالتالي على تأثرها بأيٍ من الظاهرتين بشكل أكبر من الأخرى . ويكون السؤال بالتالي: هل ستقف النـزعات العرقية والدعاوى الوطنية في وجه مسيرة العولمة أم سيبحر ركب العولمة غير مبالٍ بتلك الضغوط والدعوات؟

ونحن هنا لا ننفي تأثير الدعوات المحلية في مسيرة العولمة ولكننا نتساءل عن مدى تأثيـرها في تلك المسيرة. فعلى صعيد الواقع على سبيل المثال ، شاهدنا خلال العقد الأخير موجة من الاندماجات بين الشركات متعددة الجنسيات تعد الأكبر حجماً في التاريخ . وشاهدنا أيضا قيام كثير من المعاهدات كمعاهدة التبادل التجاري في أمريكا الشمالية NAFTA بين أمريكا وكندا والمكسيك في عام 1994 مما فتح أسواق تلك البلدان على بعضها البعض مما يمنح تلك الدول قوة اقتصادية أكبر .

ومن ناحية أخرى فإن تجربة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) تجربة فريدة من نوعها إذ أنها ضمت 11 دولة من دول الإتحاد الأوروبي مما شكل قوة اقتصادية جديدة ذات عملة متداولة في الأسواق المالية بشكل كبير . مع العلم أنه اعتباراً من بداية عام 2001 سوف يتم استخدام اليورو في جميع الاستخدامات المالية ، و أن نجاح تجربة اليورو يعتمد بشكل كبير على الاهتمام بالصالح العام لجميع الدول التي تستخدم هذه العملة ، وذلك عبر تجنّب الدعاوى الوطنية والنزعات العرقية بين تلك الدول .

وفي الوقت الذي تتوحد فيه قوى الشمال نرى أن قوى الجنوب تتجزأ وتتضارب ، مع العلم بأن أسواق دول الجنوب مهددة بشكل أكبر إذا ما فُتِحت أسواقها عالمياً من قوى الشمال .

2. مستقبل حوار الحضارات

لقد قلل تقدم التكنولوجيا والاتصالات إلى حد كبير من تأثير المسافات بين الدول وزاد التفاعل بين الأشخاص والثقافات . ومع زيادة التفاعل والاحتكاك بين الحضارات نشأت الكثير من المنافسة في السبق العلمي والحضاري لكي تثبت كل حضارة وجودها بل وهيمنتها . وفي عالم الحضارات اليوم هناك دعوة بارزة للاندماج بين الحضارات ، إذ لا تستطيع حضارةٌ أن تبقى منعزلةً في إحدى زوايا الأرض . فقد حان الوقت لكل حضارة أن تدافع عن نفسها وأن تتعلم من غيرها من الحضارات وأن تكون دينامية سريعة التطور والنمو وإلا فلا مكان لها لمنافسة ومضاهاة غيرها من الحضارات . وبما أن السبق الحضاري هو المؤهِّلُ إلى منصب الريادة لمسيرة العولمة ، فإن حوار الحضارات على كافة الأصعدة هو الذي يمكّن لأي حضارة من أن تمكث في الأرض ، وبذلك تتبوء قيادة العولمة والتأثير في مسيرتها .

ومن ناحية أخرى فلا زالت الهويات المحلية تتصارع مع تلك الهوية العالمية التي تهيمن عليها القوة الكبرى اقتصادياً (الأمركة) . ويبقى السؤال قائما: هل إنّ غلبة التشريعات والتنظيمات ستكون للعولمة الحقيقية التي تمثل العالم أجمع وبشكل يحفظ التوازن بين اختلافات الجميع ، أم أنها ستكون وفق هوى الغرب ومقاييسه فقط (westernization) بما له من رصيد القوة الاقتصادية والسياسية والعلمية والعسكرية؟

3. مستقبل انتقال التكنولوجيا والعلم

إن العولمة فرصة ثمينة للدول النامية سواء كانت حكومات أو شعوباً لكي تلحق بركب التقدم العلمي الذي يسير في طلب العلم والمعرفة بسرعة هائلة . ولذلك فإن عليها أن تحث الخطى في طلب العلم والمعرفة وأن تنشأ الجامعات والمعاهد والمؤسسات المؤهلة التي يمكنها الاستفادة بشكل كبير من تجارب الحضارات الأخرى أيا كانت . فلقد أثبتت الدراسات أن حصة الجنوب من براءات الإختراع في العالم لاتتجاوز الخمسة بالمائة ، مما يعني أن العقول في الجنوب لا تسهم إلا بأقل القليل في عمليات البحث العلمي . ومن جانب آخر فإن تلك الأرقام تُعبّر عن حصة الأسد التي تنالها دول الشمال من الدخل العالمي الذي تحصده من وراء تلك الاختراعات وتطبيقاتها المختلفة .

بل إن على شعوب وحكومات تلك الدول أن تدرك حجم العمل الحضاري المطلوب ، وأن تخطط له تخطيطا مناسباً راشداً قائماً على إدراك واقع تلك الدول وعلى رؤية العوامل المطلوبة لنجاح ذلك التخطيط وتحقيق الأهداف المنشودة ، دون الاستغناء عن قابلية التجديد والمراجعة والمحاسبة .

فضلاً عن هذا فإن على تلك الشعوب والحكومات أن تدرك أيضا خطورة المرحلة وحساسيتها مما يتطلب التجاوب السريع مع مقتضيات الواقع ، وإلا فإن العولمة ستكون عندها حقاً وبالاً عليهم إذا تأخرت استجابتهم طويلاً.

4. القوانين والتنظيمات المحلية

إن مستقبل النمو في الدول النامية وفعالية العولمة في ذلك النمو تعتمد على طبيعة القوانين المحلية لتلك الدول و على إتقان تنظيم الأسواق فيها . فالاحتكار القائم اليوم في تلك البلدان قلقٌ جداً من المنافسة الدولية والتي تسمح للشركات متعددة الجنسيات بمقاسمة أولئك المحتكرين حصتهم في الأسواق المحلية ، مما قد يتسبب في تخفيض الأسعار وزيادة العرض ويزيد من منفعة المستهلك . وبالمقابل فقد يؤدي ذلك إلى جعل أولئك المحتكرين عملاء لتلك الشركات الضخمة مما قد يوفر لهم مزيد من القدرة على التحكم في السوق . وهنا ، في هذه الثنائية التي يصعب الاختيار فيها ، يكمن التحدي الهائل للتعامل مع قضية العولمة في هذا الجانب .

والجدير بالذكر هنا أن الكثير من الدول النامية تحتاج إلى هيكلة أسواقها وتنظيمها قبل أن تتمكن الشركات متعددة الجنسيات من السيطرة على كثير من الفرص في تلك الدول والتحكم المطلق بالكثير من أسواقها . هذا مع العلم بأن كثيراً من الخدمات المتقدمة التي تقدمها تلك الشركات لا يوجد له ما يناسبه من قوانين وتنظيمات في الدول النامية . ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر الأسواق المالية والخدمات البنكية ، فالحكم هنا حول تأثير العولمة على الأسواق المحلية يعتمد على مدى فعالية قوانين تلك الدول ودرجة الفساد فيها ومدى تطبيق الأنظمة ووجود قوانين ومؤسسات لحماية حقوق المستهلك.

5. تضارب المصالح السياسية والإقتصادية

يعتمد مستقبل العولمة بشكل كبير على كمية ونوعية تدخل السياسة في التأثير على مسارها . وبناء على ذلك سوف يظل مستقبل العولمة مبهما إذ أن نتائج العولمة وفعاليتها وآثارها سلبية كانت أم إيجابية سوف تتأثر بالمتغيرات السياسية والمصالح الاقتصادية .

فعلى سبيل المثال أوردت دراسةٌ للأمم المتحدة عام 1991 أن حماية أسواق دول الشمال تكلف دول الجنوب ما يزيد عن 30 مليار دولار سنويا كخسائر فقط في الصادرات .

وإن مما لا يخفى على أحد استمرار الدول المتقدمة في استخدام تأثيرها السياسي كعامل فعال في خدمة مصالحها الاقتصادية ، فهناك دولٌ كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان و أوروبا مازالت تتصرف بأنانية وتحيز بالغين مما ألحق الضرر بجميع منافسيها في تلك المجالات . وفي دراسة لصندوق النقد الدولي في عام 1992 أثبت الإحصائيات أن أسواق أمريكا وأوروبا واليابان هي نسبياً من أقل الأسواق انفتاحاً على الأسواق العالمية ، وذلك بفارق كبير جداً مقارنةً بانفتاح أسواق الدول الأخرى عالمياً . وقد يدّعي البعض أن ذلك يعود للاكتفاء الذاتي العالي نسبياً لتلك البلاد عن غيرها ، ولكن ذلك لا يبرر بحال من الأحوال تلك الفجوة الهائلة بين انفتاح أسواق تلك الدول وأسواق البلدان الأخرى عالمياً.

بل إن نظرة سريعة على الأسواق العالمية تثبت حماية تلك الدول لأسواقها بشكل قاطع . فعلى سبيل المثال لا الحصر مانعت فرنسا واليابان بأي حال من الأحوال تخفيض مساعداتها المالية الطائلة لمزارعيها ، و فتح أسواقها للمنتجات الزراعية في بلدان العالم الثالث و الذي تشكل الزراعة فيه أحد أهم مصادر الدخل للملايين من الفقراء . ولا يخفى على القارىء الكريم تداعيات ما يسمى بحرب الموز بين الولايات المتحدة وأوربا أو المنازعات بين أمريكا واليابان حول أسواق صناعة الحديد .

وبناء على ذلك فإن من الواضح أن مستقبل منظمة التجارة العالمية يعتمد بشكل أساسي على مدى استقلالها من تأثير القوى السياسية على قوانينها ولوائحها . فدرجة فعاليتها في رفع مستوى المعيشة للعالم أجمع ودفع مسيرة نمو الاقتصاد الدولي تعتمد على عدل تلك القوانين بين تلك الدول بما فيه مصلحة الجميع .

وإن مما لاشك فيه أيضا أن جميع الصناعات والمنتجات التي تتطلب الأيدي عاملة بشكل أساسي كصناعة المنسوجات والزراعة سوف تنمو في الدول النامية كلما سنحت لها الفرصة للتصدير ومنافسة السلع الأخرى في الأسواق العالمية . وهو ما يسمى بتصدير الأيدي العاملة إلى الدول النامية.

6. مستقبل عملية وضع المقاييس والأنظمة

إن من أعظم التحديات التي تواجه منظمة التجارة العالمية وما يماثلها من منظمات مختصة بتنظيم شؤون العولمة أن تضع مقاييس عالمية عادلة بين الجميع . وذلك لأن اعتماد مقاييس دولة معينة يتطلب إلغاء مقاييس الدول الأخرى . والسائد حالياً أنه من الأفضل من الناحية الاقتصادية اعتماد مقاييس الدول ذات الاقتصاد والأسواق الأكبر نسبيا لأن عملية تغيير المقاييس في تلك الدول مكلفة جدا إذا ما قورنت مع تكاليف عملية التغيير في الأسواق النامية الصغيرة التي مازالت في مرحلة مبكرة من التنظيم قابلة للتغيير بسهولة . وانطلاقا من هذه النظرة فإن مقاييس الدول الغربية ستكون مهيمنة على مستقبل عملية وضع المقاييس والأنظمة ، الأمر الذي سيصب في مصلحة شركات تلك الدول التي شكلت المقاييس على حساب الشركات الأصغر في الدول النامية . وعلى سبيل المثال نذكر قطاع الخدمات المتقدم جداً في الدول المتقدمة بالنسبة إلى مثيله في الدول النامية ، فهنا تظهر صعوبة وضع مقاييس لهذا القطاع إذ أن الشركات متعددة الجنسيات تشكل خطراً على أسواق الدول النامية إذا أتيح لها الدخول إلى أسواق الخدمات في تلك الدول سواء كانت خدمات بنكية أو إعلامية أو غير ذلك . ومرةً ثانية ، يظهر حجم التحدي المطروح أمام كل الشعوب والدول النامية للوصول إلى تعاملٍ متوازن مع قضايا العولمة الشائكة .

7. تحدي البنية التحتية وتحدي المنظمات

إن التحدي القائم اليوم لتلك الدول النامية التي تفتقد أقل متطلبات النمو من وجود المنظمات والمنشآت والمؤسسات ، حكومية كانت أو شعبية ، في مجالات التعليم والاقتصاد والقانون والاجتماع والتجارة يتمثل في منافسة تلك المنظمات والمؤسسات المتقدمة في دول الغرب. ولذلك فإن الدول النامية تواجه تحدياً كبيراً وغير عادل بما لديها من البنية التحتية المهترئه ، ومن عدم وجود أي كيان مؤسسي متخصص لدفع العجلة في كثير من المجالات .

ومن جانب آخر ، وحيث أن توفر كيانات مؤسسية بيد الشركات متعددة الجنسيات يمكنها من تحصيل الدراسات التي تحتاج إليها لكي تستطيع اكتساح الأسواق المحلية في كثير من الدول النامية ، فإن مما لاشك فيه أنه يجب على الدول النامية أن تجاهد بكل ما تملك لئلا تعتمد كثيرا على الغرب و ألا تهمل بنيتها التحتية ، وأن تعمل على تطوير الكيانات المؤسسية المتخصصة فيها، والتي تقوم بالتركيز على الدراسات والأبحاث الشاملة ، وبعمليات التعليم والتثقيف والتدريب الضرورية جداً .

نحن والعولمة

يغلب على المتأمل لهذا المصطلح " معسكر الشمال ومعسكر الجنوب" أن ترتسم على وجهه ابتسامة ألمٍ وحزن ، لأن في هذه التسمية تجسيداً لرؤية يفوتها تداخل الأمور على أرض الواقع . فهذا المصطلح يوحي بصورةٍ خيالية يظهر فيها جيشان في أرض المعركة ، قد جمع كل منهما عدته وصف صفوفه وتأهب للقتال . بينما الحقيقة تقول أنه بالنظر إلى عدة وعتاد صفوف "معسكر الشمال" فإن المرء يجده مدججاً بالسلاح والعتاد القوي الحقيقي ، في حين أن النظر إلى "معسكر الجنوب" تظهر أنه لا يحمل سلاحاً ولا يملك عتاداً ، فلا قائدَ للجيش ولا عدةً ولا عتاداً بل لا جيش هناك على الإطلاق . ولئن كان إطلاق وصف معسكر على الجنوب مما يحتمله المجاز ، إلا أن الذي لا يسوغ في المجاز ولا في مبالغات الاستعارة أن يزعم الجنوب أن مجرد إطلاق لفظ المعسكر عليه قد أوجد فيه العدة والعتاد والقادة والجنود .

وعوداً إلى أرض الواقع نجد أن بعض الدول النامية يجب أن تتحفظ وتفكر ملياً قبل الدخول إلى الأسواق العالمية كونها تفقد أقل متطلبات وأساسيات النمو والتنمية . ولذلك فإن على منظمة التجارة العالمية أن تدرك ذلك وعلى تلك الدول أن تقرر كل دولة على حدة إن كانت مؤهلة لفتح أسواقها عالميا أم أنها بحاجة إلى مزيد من البنية التحتية والقوانين والمؤسسات وغير ذلك مما قد تحتاج إليه قبل أن تفتح أسواقها للشركات متعددة الجنسيات وتبدأ صادراتها المنافسة عالمياً .

وفي خضم هذه الأمواج المتضاربة وهذه التيارات المتدافعة يقف العالم الإسلامي وهو يحاول إدراك حجم التحدي وطبيعة المرحلة ومتطلباتها وأهداف المستقبل. فهل يمكن أن يكون في العولمة فرصة للعالم الإسلامي لكي ينمو ويتقدم ويقدم دوره المنوط في الحضارة العالمية المشتركة ، وذلك عبر عملية التدافع بين الأمم ، أم أن العالم الإسلامي يعيش فترة غياب حضاري لا يقدم فيه تدافعا ولا سجالا ؟

وفي الجدول التالي نحاول بشكل مبسط توضيح كيفية تفاعل العولمة وظواهرها مع معطيات وواقع الدول والشعوب والمجتمعات . علماً بأن المقصود من استخدامنا لمصطلح العولمة هنا هو الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي والتنافس الحضاري والتجاري الشمولي الذي يوحي به المصطلح ، ولا نقصد به حصراً عولمة الثقافة الغربية في العالم . ونعني بالمجتمع المهيء اقتصادياً ذلك

جدول يبين تفاعل العولمة مع معطيات المجتمعات

انغلاق عن العولمة انفتاح وتفاعل مع العولمة

نمو اقتصادي بطيئ وانفصال حضاري نهضة اقتصادية وذوبان حضاري مجتمع مهيئ اقتصاديا فقط

تهافت اقتصادي وعور ثقافي انفتاح اقتصادي وتكامل حضاري مجتمع مهيئ اجتماعيا فقط

تهافت اقتصادي وانهزام حضاري تهاوي اقتصادي وخضوع حضاري مجتمع غير مهيئ بتاتا

نمو اقتصادي بطيئ وانعزال حضاري نهضة اقتصادية وتكامل حضاري مجتمع مهيئ اقتصاديا واجتماعيا

المجتمع الذي يملك البنية التحتية الملائمة للنمو وتتوفر لديه المؤسسات والمنظمات القانونية والعلمية المتقدمة بشكلٍ يمكن له معه المنافسة في الأسواق العالمية ، وأما المجتمع المهيء اجتماعياً فهو ذلك المجتمع المتأصل في ثقافته والمتمسك بقيمه وتراثه والذي يملـك مقدمات التفاعل والاختلاط مع غيره من المجتمعات .

ليست (العولمة) إلا "فكرةً" انسجمت من حيث نشأتها - وما زالت تنسجم حتى الآن - مع أرضية المعطيات التي وُلِدت فيها تلك الفكرة ، وهي معطيات غربية محضة ، تتناسب مع منطق تلك الحضارة ومع ما تدعو إليه . وهذا أمر طبيعي ، لكن التحدي القائم اليوم هو في التأثير في مسيرة (العولمة). ولن تؤثر حضارة ما في مسيرة العولمة ما لم تتميز تلك الحضارة عن الحضارات الأخرى على صعيد الواقع .

وإن الواقع ليحمل مؤشراتٍ من خلال حياة المجتمع المسلم في الغرب أن هناك فرصة لتحقيق ذلك ، فحيث أن التكوين الثقافي للمجتمع المسلم في الغرب في غاية التنوع ، فإنه يمهد الطريق لتكوين ثقافة إسلامية عالمية مصغّرة في قلب الغرب الذي يمكن أن تساهم في تيار العولمة . وبعبارة أخرى نقول بأن تجارب المسلمين المتنوعة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب تقف منارات على طريق بناء حضارة عالمية تقوم على ساقين ، عالم الغيب وعالم الشهادة ليتعانق عالم الأرض بعالم السماء .

إن من الأمور الأساسية جداً في هذا المقام أن نتجاوز عملية الانحصار في النقد السلبي ، واستفراغ القوى والطاقات لمناقشة وإثبات أن أمريكا تريد الهيمنة على العالم! نعم ، إن أمريكا تريد الهيمنة على العالم ، وهذه حقيقةٌ لا يوجد أحدٌ من السذاجة بحيث تخفى عليه . ولكن المشكلة تكمن في ما يحاول البعض حفره وزرعه في نفوسنا من أن الهيمنة الأمريكية قدرٌ لا مفرّ منه ، ومن أن العولمة التي تذيب الشخصية وتقصي التقاليد آتية لا ريب فيها .

إن الصراع صراع إرادات ، والإرادات المتكاتفة يمكنها أن تؤثر في مجريات الأمور وتحافظ على المصالح المشتركة . وإن الموافقة أو الاعتراض على مشاريع الآخرين ما عادت تكفي للتعامل مع هذه المسألة ، فهذا وجه واحد للقضية ، إذ لابد أن يكون هناك مشروعٌ ذاتي ليصبح الوجود عند الموافقة وجود شراكة يشكل رقماً يدخل في الحسابات ، ويصبح للاعتراض عند عدم الموافقة قوته وتأثيره .

من هنا فإن من الطبيعي للدول الصناعية أن يكون لها مشروع ، ولكن من غير الطبيعي أن لا يكون لنا مشروع . وإن من الطبيعي تماما أن تتحد تلك الدول للسيطرة على الأرض بل وعلى الكون ، ولكن غير الطبيعي هو اختلافنا وتضاربنا وتفرقنا . وليس معنى هذا طبعاً أننا ندعو إلى تكتل تصادمي ، لكن ما ندعو إليه هو أن يكون لنا فكرنا ومشروعنا وإرادتنا.

يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...