محمد عبده العباسي بتاريخ: 9 نوفمبر 2009 تقديم بلاغ مشاركة بتاريخ: 9 نوفمبر 2009 العين الحمراء .. قصة قصيرة =-=-=-=-= منذ الصباح وأنا أعمل دونما توقف ، ضايقتني وجوه الناس بجهامتها ، أحدهم قرر معاقبتي بالثرثرة دون مراعاة لصمتي ، اليوم هو إنذار أولي بموعد مطاردات الفواتير الشهرية ، كهرباء ، غاز ، مياه ، تليفون ، أقساط لا تنتهي .. أشعر بجيبي يعاني الخواء ، غداً صرف الراتب وربما بعد غد ، لا يهم ، الله وحده هو مدبر كل الأمور ، أما التي في البيت فلم تعد سوي ماكينة تفرز طلبات البيت التي لا تنتهي علي ورقة " التيكرز" التي تضعها في تحدٍ بالغ علي " طاولة " أستخدمها كمكتب .. دب في نفسي يأس شديد ، فأنا موظف " دقة قديمة " هكذا يقول زملائي الذين يتميزون بـ " الفهلوة " و" تفتيح المخ" أما أنا فكما يصفونني مثل " قطار الدلتا" الذي انمحت قضبانه بسبب البطء الشديد ، وأصبح من ذكريات أيام مضت وانقضت بعد أن دهسها قطار " التقدم " ولم أعد أساوي في نظر هؤلاء الذين تهدلت " كروشهم " بعد طول نحول سوي " طلقة الراحة " التي تصبح من نصيب " خيل الحكومة " التي انتهي عمرها الوظيفي، زاد ضيق نفسي وشعرت بإختناق شديد كاد أن يزهق روحي علي أثر ذلك قررت لأول مرة بعد خدمة الوظيفة أكثر من ربع قرن الخروج من العمل دون إذن ، قلت في نفسي: ـ ليكن مايكون ، هل سيسخطونك ياقرد؟ منحت نفسي الحرية ، رفرفت بجناحين كطائر فك إساره بعد ضجر وتأفف ، ابتلعت مزيداً من الهواء النقي ، وسرعان تفصد العرق علي جبيني ، كانت الشمس قاسية وغير رحيمة بأمثالي من الذين أصابهم الصلع مبكراً .. * ** محطة القطار في المبني المقابل تعج بالقادمين للمدينة مثل جيش من النمل تشعب في طرقات المدينة وقد زاغت النظرات تبحث عن حلمها المأمول ، طلاب وباعة وعمال ومتسولين ، الكل يبحث عن سبيل ضائعة للحاق بأسواق المدينة ، فالعيد علي الأبواب .. زحام وصخب وشوارع ضاقت بعربات الباعة الجائلين بعد أن ضربوا عرض الحائط بالقانون .. لم أفكر كثيراً ، ضجيج ورش تصنيع " الكريتال " امتزج بصوت مذياع محل عصير القصب الذي يمج أغنيات صارخة لمغن اشتهر بتمثيل أفلام البلاهة والعبط ، قال رجل : ـ ارزاق و" مقسمها الخلاق".. مررت بين الجموع الحاشدة كالغريب الذي يبحث عن ملاذ .. في مثل هذه الأماكن يولد لصوص مهرة تخرجوا في أكاديميات النشل بتقدير امتياز ، أخشي أن أقع بين يدي لص سرق حافظة نقودي في العام الماضي ، الآن لا بأس ، فجيبي به جنيهات قليلة ، فجأة خرج عن الحال سائق أرعن كاد أن يصدمني بسيارته .. *** سأشتري اليوم سمكاً ، أنا أحب السمك زوجتي كثيراً ما توصيني : ـ يجب أن يكون طازجاً ، إياك والبائع الذي يغش.. دهس قدمي حمال غليظ الملامح ، جعل كل الوحل يغطي الحذاء فضاع رونقه واتسخ البنطال بطين لونه يميل إلي الزرقة: ـ أقسم بالله ، سمك طازج سيروق لك.. ـ كيلو واحد.. والتقم الثمن ودسه في جيبه ، ورفع عقيرته ينادي : ـ دينيس "القنال ".. ألقي به " الفران" في نصف الشمس اللاهبة من خلفه ، وأشعل سيجارة نفث دخانها ومط شفته السفلي ممتعضاً من فاتورة الكهرباء التي سددها في الصباح بعد أن هدد الموظف برفع العداد في حالة الإعتراض ، خاطب زميله : ـ حد الله مابيني وبينك غير حب الوطن ياحكومة ، علي رأي سي السيد.. ـ سيد مين ؟ ـ سيد درويش ، أنا هويت وانتهيت .. وفرك إصبعيه في الهواء ، قال له : ـ سيجارة .. منحه واحدة بعد أن سمم بدنه بكلمات : ـ من المؤكد أنك تخاصم باعة الدخان.. اشتعل أوار النار ، خرج السمك كقطع من الفحم الأسود ، لفه بسرعة وإلتقط الأجر .. ثمار الطماطم الحمراء جذبتني بشكلها الرائع وحبات المانجو " الزبدة" أنهت كل علاقتي بالنقود فنسيت شراء الجرجير ، كاد أن يشج رأسي حجر سقط من فوق بناية تحت الإنشاء : ـ الله كريم.. ووجدت من يضمني إلي صدره ويتحسس رأسي : ـ الحمد لله ، سليمة ... قالتها سيدة عجوز تشبه أمي ، ربتت علي كتفي ودعت له : ـ الله يكفيك شر " المستخبي".. *** عقارب الساعة أنشبت مخالبها في عيني قفزت نحو الثالثة بسرعة ، تربص بي سائق سيارة أجرة : ـ إلي أين؟ وأدار محرك سيارته : ـ الزهور .. تنفست الصعداء وأنا استقربجوار السائق علي مقعد متقد من تحتي كوجاق النار : ـ معذرة يا أستاذ فالمكان بعيد ، لكن لا بأس .. زحف بسيارته المتهالكة وسط أرتال من السيارات الأخري ، أنفق بعض الوقت في طرح ظروف القاسية والشكوي من غلاء المعيشة ، ومعاناة زوجته من المرض االلعين وضيق ذات اليد .. ـ كان الله في العون .. قلت مشاركاً ولم يكف عن الثرثرة : ـ هل قرأت صحف اليوم؟ ـ نعم .. ـ مارأيك في التشكيل الوزاري الجديد ؟ ـ لا بأس .. ـ وزير التموين الجديد قرر تخفيض الأسعار .. ـ جميل .. ـ ووزير البترول قرر ..... أنقطعت الحياة تماماً عن موتور السيارة ، تأفف وانطلقت من فمه كلمات : ـ اللهم اجعل كلامنا خفيف عليهم .. قلت : ـ ماالعمل ؟ ـ لقد نفد البنزين ، علينا بالإنتظار .. أشار لكل قادة السيارات المارقة في سرعة ، ولم يترفق به أحد: ـ عليهم اللعنة .. وانطلق يعدو وخشخشات صدره تعلو ، نادي : ـ ....... لم أسمع النداء ، توقفت سيارة منحه سائقها " جركن بنزين" أفرغه بقمع في بطن السيارة : ـ الحمد لله ، هل تعلم أن لا أحد عاد يهتم بأمر الآخر .. ـ توكل علي الله .. شق بالسيارة طرقاً أودت لحارات وأزقة خشية لقاء رجال المرور : ـ السيارة تحتاج لفحص ودفع المخالفات للتجديد ، لذا أهرب منهم .. انتهي مسلسل الهروب لشارع رئيسي ، ولفظت السيارة دخاناً كثيفاً غطي لافتته .. علي الرغم من حرارة الجو فقد تمنيت أن أغلق زجاج النافذة ، ذراعها معطلة ، تنهدت فى ضيق ، شعرت بحلقي مسدوداً ، بصقت في منديل من الورق وتخلص منه سريعاً برميه عبر النافذة .. ناس بلا حصر يقفون عند النواصي في انتظار مرور أية سيارة ، بدا حسدهم لي جلياً في عيونهم ، انتفخت أوداجهم ضيقاً وتبرماً ، كأنهم يشيرون إلى سراب.. اسندت ظهري علي المقعد فلم أسترح ، قال السائق الذي أشعل من جديد سيجارة : - تفضل .. وأشار إلي رجل واقف علي رصيف وهو يتصبب عرقاً تحت وهج الشمس . وأكمل : ـ الناس للناس ، كله بثوابه .. ودس شريطاً في جهاز الكاسيت ، جاء الصوت متحشرجاً ، دق عليه ، ولم يسمعني : ـ لقد تأخرت .. فتح الرجل الذي يتصبب عرقاً باب السيارة الخلفى ، ودلف منه وراح يفك رباط عنقه وقال : - " طرح البحر "من فضلك .. رد السائق : ـ لا مانع ، بالإذن يا أستاذ .. أشار لي ، أومأت برأسي موافقاً ، قلت في نفسي وشبه بهجة تعمني ، قلت : ـ فرصة للترويح عن النفس بنسمات من البحر ناعمة . عاد السائق يداعبة مؤشر الكاسيت ثم زم بين شفتيه على سيجارة ألقمها فمه الواسع وابتسم ، وصدرت من صدره حشرجة امتزجت مع شوشرة الغناء ، قال الراكب فى المقعد الخلفي بلهجة آمرة : - لو تسمح يا أسطى ، أغلق الكاسيت. نظر إليه عبر المرآة : ـ هذا مطرب جديد .. ـ اسمعه وحدك .. علت الغرابة وجهه ونظر إليه شزراً ، نفذ الأمر في عجل وكاد أن يصدم امرأة حبلى تعبر الطريق ، فكالت له ألفاظاً منتقاة بعناية من قاموس الشتائم ، رد عليها بكلمات أشد قسوة حتي تلاشت صورتها تماماً في مرآة السيارة الجانبية ، ردد : ـ زادت أعداد النساء ، مازلت أحلم بالزواج من إمرأة جميلة مثلها. امتعضت ، وارتفع صوت الراكب الآخر محذراً : ـ كفي هراء ، كفي .. كانت البنايات الجديدة تدخل الدهشة فى نفسي وأنا اتابع صور المواقع القديمة التى ذهبت بغير رجعة ،الراكب فى المقعد الخلفى هز السائق من كتفه : ـ علي اليمين من فضلك .. أنقده أجره ، فلم تعجبه القيمة : ـ هذا غير كافٍ .. دار الرجل على عقبيه وسار دون أن يعره انتباهاً ، وصمه السائق بأبشع الشتائم وأنهاها: ـ أناس لا يعرفون الحق .. قلت له : ـ لا يصح أن تغتاب الناس .. كأنما انتبه لوجودي لأول مرة ، قال : ـ لا مؤاخذة يا أستاذ ، قلت لي إلي أين ؟ قلت ضجراً : ـ الزهور ، الزهوووووووور.. قال : ـ نسيت ، عفواً .. وخبط جبهته بباطن كفه ، قال : ـ معذرة ، حكم السن .. عدل من جلسته وأحاط صدره بحزام الأمان ثم تنحنح وأشار علي بضرورة تقليده ، فجأة توقف لرجل أشار له .. ـ من فضلك ، طريقي مساكن بنك الاسكان لشراء قطع غيار سيارات مستعملة .. ـ لا مانع .. قلت ورأسي تكاد أن تنفجر من الغيظ : ـ وأنا .. ابتسم ابتسامة بلهاء وهو يرجوني أن أتمهل بعد أن نهرته بشدة وتدخل الراكب الجديد : ـ معذرة يا بك.. ـ لقد تأخرت كثيراً .. قال السائق : ـ خمس دقائق فقط ، المكان علي مرمي حجر .. انطلق يسلك السبل نحو المكان ، نزل الرجل ومن بعده السائق الذي قال يستأذنني : ـ دقيقة واحدة أشتري " فانوساً " بدلاً من المكسور .. ـ لا مانع .. قلتها وانا مستسلم تماماً لواقع ردئ أعيشه علي مضض ، وشغلت نفسي بقراءة عناوين جريدة نسيتها تحت إبطي فذابت أطرافها .. جاء كمن يمشي الهويني وهو يحمل ما اشتراه : - لا أعرف سبباً للمغالاة في الأسعار بعد أن انخفض سعر الدولار .. أدار محرك السيارة ومضي ، عند الدوران انفجر الإطار الأمامي ولولا عناية السماء لحدثت كارثة .. مال ناحية اليمين ،فحص الإطار الإحتياطى ، أشار علّى بمساعدته : ـ من فضلك .. رفع السيارة عن الأرض قليلاً ، ساعدته علي مضض ، لم يستغن عن السيجارة التى بين شفتيه ، لملم معداته وأدار المحرك فلم يعمل نظر في العداد ، قال : ـ شئ غريب ، لقد فرغ البنزين .. *** وقف على قارعة الطريق يتسول من السيارات المارقة ، بعد لأى واستعطاف توقفت سيارة أعطاه سائقها " جركن " بنزين ، راح يشكره .. أصر السائق الأخر فى الحصول على ثمن البنزين ،اعتذر له بأنه لا يملك مليماً واحداً منذ خرجت الشمس من مكمنها .. علا أذان صلاة العصر ، كدت أن أصرخ معلناً احتجاجي والسائق في برود يردد : ـ لا تتعجل ، العجلة من الشيطان.. استعطفته : ـ أرجوك ، لقد تعبت .. استخف ظله وقال مداعباً : ـ يا رجل ، أنت لا زلت في طور الشباب .. وكدت أن أقبل يده : أـ من فضلك ، أنا مريض بداء السكري الذي لا يرحم.. ـ شفاك الله وعافاك ، لاشك أن معرفة الرجال تساوي الكنوز ،أين يعمل البك ؟ تملكني الضيق ، قلت : ـ البك لا يعمل ، ارتحت .. ـ عجباً ، وكيف يعيش المرء دون أن يعمل؟ ـ لا عليك ، امض في طريقك .. ـ هل أنت بحاجة لسيجارة ؟ ومد لي سيجارة بالية كانت تتكئ علي صيوان أذنه : ـ أنا لا أدخن .. ـ هل استمعت للمطرب الجديد ؟ ـ لا .. ـ هل سمعت بآخر نكتة ؟ ـ لا .. لازالت السيارة تعيث فساداً فى أجواء البيئة ، فجأة صرخت :- ـ إلي أين أنت ماضٍ .. ـجهة القابوطى .. ـ يا إلهي ، هل نسيت الطريق .. ـ آه ، لقد نسيت .. وصدرت من صدري تنهيدة حارة ،أشرت : ـ من هنا .. استمر في سيره حتي وصلت ، خرجت من صدري زفرة ساخنة ، ناولته أجره .. تحسسه بعين فاحصة ويد خبيرة ، ثم رده لي : ـ الأجر قليل .. ـ كيف ؟ ـ لقد مضت أكثر من ساعة ، ثم تدفع لي بعدها هذا الأجر الزهيد .. - هو القيمة المستحقة .. ـ قيمة ماذا ؟ نزل من أمام مقود السيارة وراح يصرخ في الناس كي ينقذوه من بين براثن الظالم الذي لم يمنحه الأجر المستحق ، وراح يشرح خط سير السيارة.. أصبح الناس جميعاً في خندقه : ـ هذا الأجر لا يتفق مع المدة أو المسافة .. أسقط فى يدي وقد قلب السائق كل الموازين ضدي ، تدخل رجل : ـ لا عليك ، ادفع بدلاً من ...... لم أجد سبيلاً سوي الاذعان ، دس النقود في جيبه ونظر إلي مثل ثعلب ماكر فاز بفريسته : ـ هناك من الناس من لا يخشون سوي العين الحمراء .. ==-=-==-==-=-= محمد عبده العباسي بورسعيد مصر رابط هذا التعليق شارك المزيد من خيارات المشاركة
Recommended Posts
انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد
يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق
انشئ حساب جديد
سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .
سجل حساب جديدتسجيل دخول
هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.
سجل دخولك الان